وأينعت زهرتي الذابلة
((هاجر))
[ عندما نقف على مشارف الكهولة وتذبل زهرة العمر وتداس تحت أقدام قاسية ينتفض داخلنا كائن مكبوت يسترجع الربيع الذي ولى ].
استيقظت ((هاجر)) متثاقلة هذا الصباح فقد قضت ليلتها تفكر في حياتها حينما كانت تزخر بهجة وعنفوان، ربما هو الإحساس بالوحدة يجعل المرء سلبياً في تحليله للمواقف وقاسياً في حكمه على الناس، لكنها محقة فيما تفكر فزوجها ((عدنان)) متباعد في أعذار مفتعلة يهوى على رأسها بمطرقة أفقدتها التوازن ((متزوج من صديقتها المطلقة)).
لم تشأ مغادرة البيت وإثارة ضجة عاصفة تهدد أركان الأسرة وتقلق أمان الأبناء، امتصت الصدمة عبر إيحاءات ذكية بالغت في افتعالها كي تمارس حياتها بشكل طبيعي، أولادها قرّة عينها (يوسف) الأكبر و (لمياء) ثم (طارق) الأصغر، تكونوا في نسيجها وانصهروا في أنفاسها فما عادت ترى الحياة إلا بعيونهم، لن تجعل نزوة طائشة لرجل أحمق تزلزل هذا البيت الساكن.
قال لها زوجها ((عدنان)) وهو يداري خجله ويتشاغل عنها بتصفح الجريدة، بعد أن سألته هادئة ومتيقنة:
- ((متزوج أليس كذلك؟))
بانشداه وارتباك:
- ((نعم))
تركت يأسها يتسرب عبر ابتسامة متكلفة.
أطل بعينيه من وراء الجريدة:
- ((وكيف عرفت؟))
- ((منذ أن تحولت هفواتي الصغيرة إلى أخطاء جسيمة، فالمثل يقول: تكبر الأخطاء عندما تقل المحبة)).
ترك الجريدة مضطرباً لا يعرف كيف يداري موقفه أو يبرر فعلته، وانتظر ردود الفعل المتوقعة من كل زوجة مخدوعة لكنها رمته بنظرة ساخطة تقطر سخرية وازدراء.
ومنذ هذا الحديث وكيانها انقلب بشكل تلقائي، بالرغم منها فلم تخضع لمنطق أو تدبير، قلبها المجروح قد تحجّر نحوه وانغمرت في الحزن والألم وكلما حاول أن يقتحم غورها الغامض تعرض في انكفاء ونفور، يتفانى في مجاذبتها عبر الهاتف ودعابات تنكمش مجفلة، فالأنثى المرهفة الحس، الجياشة العاطفة تنضب عندما تطمر إحساسها بوحل الجهل والحماقة.
ثلاثون شمعة من شموع قلبها المتفجر حناناً قد ذوت هباءاً، وتبدد عمرها المعطاء سُدىً، لو كان بصيراً لاستقرأ الماضي بقلب المحب، واستوعب براهين عشقها الدامغة، قدمت جزءاً كبيراً من إرثها ليؤسس مشروعه، شاطرته الدهر في السرَّاء والضرَّاء وحفرت في ذاكرة السنين شاهد صبرها وفنائها، تعرض لحادث فانكسرت ساقه وكانت له العكاز الذي يستند عليه، هادئة، معطرة بنداوة الزهرة الرقيقة، متهالكة على أبنائها بمحبة موسوسة، ورعتهم رعاية خانقة، استقالت من عملها في المؤسسة التجارية التي ورثتها عن أبيها لتحمي بيتها من رياح الزمن الغادرة، مخلصة في تكوينها ولا تعرف أن تكون إلا بهذه الشاكلة، بل كانت متميزة في مثاليتها المزعجة للآخرين، وتتساءل هل يملَّ الرجل حالة التوافق الرائعة ويظنها حالة موات؟ ربما كانت تنبقصه أحاسيس صارخة وانفعالات جياشة تذكي فيه الحيوية والنشاط، فالهدوء الذي خيّم على أرجاء البيت نابع من طبعها المسالم وفتورها المهادن، وصديقتها ((تهاني)) مخلوقة صارخة، متدفقة، سريعة الاشتعال وسريعة الانطفاء، فهي ليست من ذلك النوع الذي تهذب على الصبر والوفاء، قد تكون نزوة، محطة، سرعان ما يزهدها الرجل، بدت منفتحة مع صديقتها التي استوعبت الحكاية فأتقنت اللعبة، فما أسفت ((هاجر)) إلا على قرار زوجها الطائش الذي شفَّ عن حقيقة هشة صادمة لأمانيها فيه.
عاشت وإيّاه في عزلة نفسيّة دفعتها إلى احتواء أبنائها والانشغال بهم وبمطالبهم وهمومهم إلى حد التراخي بذاتها فنسيت نفسها في لجة الحياة الصاخبة وانقلاباتها المفاجئة متهاونة بمساحة أنوثتها، أبناؤها حلم حياتها الباقي وحبها الأوحد بعد أن طلقها ((عدنان)) وهجرها إلى ((تهاني))، في مطعمهم تطهي ما يشتهي هذا ويرغب ذاك، تنساب لنزواتهم بمزاج رائق لا تعرف الضجر أو الملل، وفي ملبسهم تركت أنهار رصيدها تصب في خزائنهم لينهموا ما يرغبون من ثرواتها دون حساب، وسهرت ليالي عمرها الفتي تداوي المريض منهم لا يغفو إلا ورأسه في حجرها، وعيونها المحبة لا تغفل عن رعايتهم ورقابتهم الحنون، سافر ((يوسف)) إلى أمريكا ليدرس الهندسة وتخرّج ثم تزوج وعاش في شقة استأجرها بناء على طلب زوجته، وابنتها ((لمياء)) مخطوبة وعمَّا قريب ستغادرها إلى بيت زوجها، وصغيرها المراهق ((طارق)) ذلك الذي تعرض إلى حُمى في طفولته وكادت أن تفقده وعاشت أيام صعبة تتوسل إلى الله عز وجل وتنذر للصالحين والأولياء النذور حتى يزول عنه الخطر، ((طارق)) الذي سقته من معين فؤادها ودموع عينيها صرخ بها معنفاً ليلة أمس حينما عاتبته على عودته إلى البيت متأخراً.
انهمرت دموعها وهي ترتشف رشفة مريرة من قهوتها هذا الصباح الكئيب وانتبهت وهي ساهمة تفكر إلى الطير الحبيس في القفص المعلّق على جدار الصالون قد خفت صوته وهدأ نشاطه، إذ بدا خاملاً متكاسلاًَ على غير عادته، ماذا كان يجول في خاطره الحزين حينما استسلم إلى الفناء بهذا اليأس والقنوط؟
تنهدت ((هاجر)) وهي تشعر بانكسارها المذلّ، ووحدتها القاسية عبرت بنظراتها على المائدة الخرساء المصفوفة بإتقان وذوق تنتظر حضورها الروتيني لتناول الفطور، من منهم فكر بي؟ لوعتها المضنية وعذابها الصامت وجراحها المكبوتة تنزفها دمعاً كل ليلة على وسادتها الباردة، إنهم يهيمون في وادٍ آخر تأخذهم دروب الحياة إلى شؤونهم الخاصة، هي من تبادر بمهاتفتهم، هي من تفكر في دعوتهم إلى لقاء، من منهم تذكر أن لها قلباً يتعطش إلى حنان؟ من منهم يدرك أن لها روحاً تتلهف إلى حب؟.
قبل أيام ذهبت لمياء لتحضير لوازم الفرح، لهفت نفسها على فستان أحمر نهرتها ابنتها بقساوة ((لا يا أمي لا يليق بكِ)) وتساءلت في انكفاء خافت ((هل كبرت إلى هذه الدرجة؟!)).
ويوسف سافر مع زوجته وأمها إلى (سويسرا) للسياحة والعلاج هل بادر بدعوتها مجاملة وعرفاناً؟
وابنها المراهق الذي شاب أباه في مزاجه الغرائزي بقي يلومها باستمرار على نفورها من أبيه وتحريضه على طلاقها..
ماذا بقي لها؟ ومن بقي معها؟
غرقوا في أنانيتهم ونسوها في ذلك البيت الموحش وصرير أبوابه تشعرها بالبرد وصدى صوتها المشروخ يرتد إليها مخيفاً موغلاً في اليأس.
هل تنتظر المجهول حتى يدب فيها الانهيار كما الطير المخذول امتص الحرمان رونقه، هامت في فكر سحيق مأخوذة في تجاذبات متناقضة تأخذها إلى ذروة التمرد والانتفاض على الذات، هل أسدل الزمن ستاره فما عادت تنتظر الباقي من رحلتها المجهولة؟ ماذا ينقصها الآن وهي تهدر كل ما تملك للآخر فرهنت نفسها لأسرتها الجاحدة، إنها المحطة المفصلية التي ستأخذها إلى الضفة الأخرى لن تقف عاجزة، منهارة، تنهشها الوحدة ويمزقها الإهمال والنكران، ثمة خطوة تحتاج إلى شجاعة وإصرار، حينما ينطلق هذا الطير من سجن الوحدة والحرمان ويبحث في الفضاء الفسيح عن مرافئ وأغصان حتماً ستعود له الحيوية والنشاط، همت بالقفص لتفتح بابه وتركت الطير يهرب إلى الحرية..
تذكرت صديقاتها، عملها، ثروتها، لِمَا غفلت عنها، منهمكة في تجاهل ذاتها واحتراق كينونتها لتنشئة كيانات أنانية، ((الحمد لله أديت رسالتي في الحياة ولم أقصَّر في شأن من شؤون البيت هكذا أظن، ولا أزعم أني بلغت المثالية في العطاء)).
اتصلت بصديقتها الخاصة ((ألطاف)) وعرضت عليها فكرة السفر إلى (لندن) حيث شقة والدها المرحوم والتي تركت مهجورة سنوات.
((أحتاج إلى الراحة والاستجمام)).
رحبت الأخرى، فهي أرملة متقاعدة منذ سنوات وحجزت لهما مقعدان في الطائرة واعتذرت لأبنائها عن يوم الجمعة (يوم الملتقى العائلي).
سألتها ((ألطاف)) ماذا طرأ عليكِ؟
((أحتاج أن أستعيد ذاتي الضائعة، منحت كل ما أملك لزوجي فأنكر، وأفنيت عمري في أبنائي فجفوا، ما عدت أنتظر من أحدهم شيئاً)).
وأعادت ترميم البيت ومكثت فيه شهوراً طويلة تنفض عن جسدها المنهوك أعباء السنين وتجلي عن قلبها غبار الهمَّ والكدر، تنهال عليها مكالمات أبناؤها يومياً وهي تتجاهل أو ترد في برود وكانت تفهم مضامين أحاديثهم ((القلق من نفاذ رصيدها)) فقد استولى عليهم رعباً فاضحاً لنواياهم جعلها تذكر دائماً لهم أن أموالها قد نفذت في مشاريع خاسرة، ابنتها تتودد إليها وتطالبها بشراء ثياب من دور الأزياء الأوروبية لكنها تعتذر عن تلبية طلبها.
وعادت لتعمل مع أخيها في المؤسسة التجارية وتستثمر أموالها الباقية في مشاريع تجارية هادفة.
بينما كانت جالسة مع أخيها في مكتبه يتباحثان في مشروع جديد وأسرها أن هناك طرف ثالث سيشاركهما في (رأس مال كبير) وهي مصرَّة أن ترفض شراكة أحد خشية التورط في الخسارة، لكن أخيها يجادلها في تخابث يأخذ مأخذ الدعابة ويضيق صدرها:
((لا أدري لِمَا تصرَّ على الشريك الثالث ونحن قادران على تأسيس المشروع لوحدنا)).
- ((لو أنكِ تعرفين من هو الشريك الثالث لمَا رفضتِ كل هذا الرفض!)).
اندهشت صامتة تفكر لكن الفضول دفعها لتسأل:
((من هو؟)).
((اغمضي عينيكِ))
وفجأة..
فُتحَ الباب ودخل ((صادق)).
انبهرت وعيناها مشدودتان إلى الرجل تهتف في انشداه جعلت ذاكرة السنين تعود بها إلى الوراء:
((صادق؟!)).
تجمّدت الدماء في عروقه حينما وقع بصره عليها، أهكذا تدور بنا الأيام لنلتقي ثانية بعد فراق دام سنين طويلة كان ((صادق)) خطيبها الأول أحبته ملء فؤادها لكنهما تفارقا بسبب مكيدة مدبرة من إحدى قريباته كانت لها مطمع فيه، حاول ((صادق)) في حينها أن يشرح لها الموقف وأنه بريء من هذا الظن، لكن غرورها وكبرياؤها دفعا أشرعة قلبها نحو شاطئ آخر..
قال أخوها:
((جاء صادق ليشاركك الحياة من جديد هل توافقين؟)).
أطرقت في خجل- وفرت من طرفها دمعة فإذا بعروقها الجامدة تنتفض من جليد الوحدة وقلبها المحزون ينبض دفقاً مواراً بالحب والأمل يسقي زهرة عمرها الذابلة، هل كان ((صادق)) قدرها المرتقب وفرحتها المدخرة في == الغيب، المكافأة المستحقة لكل إنسان معطاء صبر وابتلع الغصص شاكراً لله، عادت بكراً يتضرج وجهها حُمرة وكل خلجاتها تجيب ((نعم)).
[ عندما نقف على مشارف الكهولة وتذبل زهرة العمر وتداس تحت أقدام قاسية ينتفض داخلنا كائن مكبوت يسترجع الربيع الذي ولى ].
استيقظت ((هاجر)) متثاقلة هذا الصباح فقد قضت ليلتها تفكر في حياتها حينما كانت تزخر بهجة وعنفوان، ربما هو الإحساس بالوحدة يجعل المرء سلبياً في تحليله للمواقف وقاسياً في حكمه على الناس، لكنها محقة فيما تفكر فزوجها ((عدنان)) متباعد في أعذار مفتعلة يهوى على رأسها بمطرقة أفقدتها التوازن ((متزوج من صديقتها المطلقة)).
لم تشأ مغادرة البيت وإثارة ضجة عاصفة تهدد أركان الأسرة وتقلق أمان الأبناء، امتصت الصدمة عبر إيحاءات ذكية بالغت في افتعالها كي تمارس حياتها بشكل طبيعي، أولادها قرّة عينها (يوسف) الأكبر و (لمياء) ثم (طارق) الأصغر، تكونوا في نسيجها وانصهروا في أنفاسها فما عادت ترى الحياة إلا بعيونهم، لن تجعل نزوة طائشة لرجل أحمق تزلزل هذا البيت الساكن.
قال لها زوجها ((عدنان)) وهو يداري خجله ويتشاغل عنها بتصفح الجريدة، بعد أن سألته هادئة ومتيقنة:
- ((متزوج أليس كذلك؟))
بانشداه وارتباك:
- ((نعم))
تركت يأسها يتسرب عبر ابتسامة متكلفة.
أطل بعينيه من وراء الجريدة:
- ((وكيف عرفت؟))
- ((منذ أن تحولت هفواتي الصغيرة إلى أخطاء جسيمة، فالمثل يقول: تكبر الأخطاء عندما تقل المحبة)).
ترك الجريدة مضطرباً لا يعرف كيف يداري موقفه أو يبرر فعلته، وانتظر ردود الفعل المتوقعة من كل زوجة مخدوعة لكنها رمته بنظرة ساخطة تقطر سخرية وازدراء.
ومنذ هذا الحديث وكيانها انقلب بشكل تلقائي، بالرغم منها فلم تخضع لمنطق أو تدبير، قلبها المجروح قد تحجّر نحوه وانغمرت في الحزن والألم وكلما حاول أن يقتحم غورها الغامض تعرض في انكفاء ونفور، يتفانى في مجاذبتها عبر الهاتف ودعابات تنكمش مجفلة، فالأنثى المرهفة الحس، الجياشة العاطفة تنضب عندما تطمر إحساسها بوحل الجهل والحماقة.
ثلاثون شمعة من شموع قلبها المتفجر حناناً قد ذوت هباءاً، وتبدد عمرها المعطاء سُدىً، لو كان بصيراً لاستقرأ الماضي بقلب المحب، واستوعب براهين عشقها الدامغة، قدمت جزءاً كبيراً من إرثها ليؤسس مشروعه، شاطرته الدهر في السرَّاء والضرَّاء وحفرت في ذاكرة السنين شاهد صبرها وفنائها، تعرض لحادث فانكسرت ساقه وكانت له العكاز الذي يستند عليه، هادئة، معطرة بنداوة الزهرة الرقيقة، متهالكة على أبنائها بمحبة موسوسة، ورعتهم رعاية خانقة، استقالت من عملها في المؤسسة التجارية التي ورثتها عن أبيها لتحمي بيتها من رياح الزمن الغادرة، مخلصة في تكوينها ولا تعرف أن تكون إلا بهذه الشاكلة، بل كانت متميزة في مثاليتها المزعجة للآخرين، وتتساءل هل يملَّ الرجل حالة التوافق الرائعة ويظنها حالة موات؟ ربما كانت تنبقصه أحاسيس صارخة وانفعالات جياشة تذكي فيه الحيوية والنشاط، فالهدوء الذي خيّم على أرجاء البيت نابع من طبعها المسالم وفتورها المهادن، وصديقتها ((تهاني)) مخلوقة صارخة، متدفقة، سريعة الاشتعال وسريعة الانطفاء، فهي ليست من ذلك النوع الذي تهذب على الصبر والوفاء، قد تكون نزوة، محطة، سرعان ما يزهدها الرجل، بدت منفتحة مع صديقتها التي استوعبت الحكاية فأتقنت اللعبة، فما أسفت ((هاجر)) إلا على قرار زوجها الطائش الذي شفَّ عن حقيقة هشة صادمة لأمانيها فيه.
عاشت وإيّاه في عزلة نفسيّة دفعتها إلى احتواء أبنائها والانشغال بهم وبمطالبهم وهمومهم إلى حد التراخي بذاتها فنسيت نفسها في لجة الحياة الصاخبة وانقلاباتها المفاجئة متهاونة بمساحة أنوثتها، أبناؤها حلم حياتها الباقي وحبها الأوحد بعد أن طلقها ((عدنان)) وهجرها إلى ((تهاني))، في مطعمهم تطهي ما يشتهي هذا ويرغب ذاك، تنساب لنزواتهم بمزاج رائق لا تعرف الضجر أو الملل، وفي ملبسهم تركت أنهار رصيدها تصب في خزائنهم لينهموا ما يرغبون من ثرواتها دون حساب، وسهرت ليالي عمرها الفتي تداوي المريض منهم لا يغفو إلا ورأسه في حجرها، وعيونها المحبة لا تغفل عن رعايتهم ورقابتهم الحنون، سافر ((يوسف)) إلى أمريكا ليدرس الهندسة وتخرّج ثم تزوج وعاش في شقة استأجرها بناء على طلب زوجته، وابنتها ((لمياء)) مخطوبة وعمَّا قريب ستغادرها إلى بيت زوجها، وصغيرها المراهق ((طارق)) ذلك الذي تعرض إلى حُمى في طفولته وكادت أن تفقده وعاشت أيام صعبة تتوسل إلى الله عز وجل وتنذر للصالحين والأولياء النذور حتى يزول عنه الخطر، ((طارق)) الذي سقته من معين فؤادها ودموع عينيها صرخ بها معنفاً ليلة أمس حينما عاتبته على عودته إلى البيت متأخراً.
انهمرت دموعها وهي ترتشف رشفة مريرة من قهوتها هذا الصباح الكئيب وانتبهت وهي ساهمة تفكر إلى الطير الحبيس في القفص المعلّق على جدار الصالون قد خفت صوته وهدأ نشاطه، إذ بدا خاملاً متكاسلاًَ على غير عادته، ماذا كان يجول في خاطره الحزين حينما استسلم إلى الفناء بهذا اليأس والقنوط؟
تنهدت ((هاجر)) وهي تشعر بانكسارها المذلّ، ووحدتها القاسية عبرت بنظراتها على المائدة الخرساء المصفوفة بإتقان وذوق تنتظر حضورها الروتيني لتناول الفطور، من منهم فكر بي؟ لوعتها المضنية وعذابها الصامت وجراحها المكبوتة تنزفها دمعاً كل ليلة على وسادتها الباردة، إنهم يهيمون في وادٍ آخر تأخذهم دروب الحياة إلى شؤونهم الخاصة، هي من تبادر بمهاتفتهم، هي من تفكر في دعوتهم إلى لقاء، من منهم تذكر أن لها قلباً يتعطش إلى حنان؟ من منهم يدرك أن لها روحاً تتلهف إلى حب؟.
قبل أيام ذهبت لمياء لتحضير لوازم الفرح، لهفت نفسها على فستان أحمر نهرتها ابنتها بقساوة ((لا يا أمي لا يليق بكِ)) وتساءلت في انكفاء خافت ((هل كبرت إلى هذه الدرجة؟!)).
ويوسف سافر مع زوجته وأمها إلى (سويسرا) للسياحة والعلاج هل بادر بدعوتها مجاملة وعرفاناً؟
وابنها المراهق الذي شاب أباه في مزاجه الغرائزي بقي يلومها باستمرار على نفورها من أبيه وتحريضه على طلاقها..
ماذا بقي لها؟ ومن بقي معها؟
غرقوا في أنانيتهم ونسوها في ذلك البيت الموحش وصرير أبوابه تشعرها بالبرد وصدى صوتها المشروخ يرتد إليها مخيفاً موغلاً في اليأس.
هل تنتظر المجهول حتى يدب فيها الانهيار كما الطير المخذول امتص الحرمان رونقه، هامت في فكر سحيق مأخوذة في تجاذبات متناقضة تأخذها إلى ذروة التمرد والانتفاض على الذات، هل أسدل الزمن ستاره فما عادت تنتظر الباقي من رحلتها المجهولة؟ ماذا ينقصها الآن وهي تهدر كل ما تملك للآخر فرهنت نفسها لأسرتها الجاحدة، إنها المحطة المفصلية التي ستأخذها إلى الضفة الأخرى لن تقف عاجزة، منهارة، تنهشها الوحدة ويمزقها الإهمال والنكران، ثمة خطوة تحتاج إلى شجاعة وإصرار، حينما ينطلق هذا الطير من سجن الوحدة والحرمان ويبحث في الفضاء الفسيح عن مرافئ وأغصان حتماً ستعود له الحيوية والنشاط، همت بالقفص لتفتح بابه وتركت الطير يهرب إلى الحرية..
تذكرت صديقاتها، عملها، ثروتها، لِمَا غفلت عنها، منهمكة في تجاهل ذاتها واحتراق كينونتها لتنشئة كيانات أنانية، ((الحمد لله أديت رسالتي في الحياة ولم أقصَّر في شأن من شؤون البيت هكذا أظن، ولا أزعم أني بلغت المثالية في العطاء)).
اتصلت بصديقتها الخاصة ((ألطاف)) وعرضت عليها فكرة السفر إلى (لندن) حيث شقة والدها المرحوم والتي تركت مهجورة سنوات.
((أحتاج إلى الراحة والاستجمام)).
رحبت الأخرى، فهي أرملة متقاعدة منذ سنوات وحجزت لهما مقعدان في الطائرة واعتذرت لأبنائها عن يوم الجمعة (يوم الملتقى العائلي).
سألتها ((ألطاف)) ماذا طرأ عليكِ؟
((أحتاج أن أستعيد ذاتي الضائعة، منحت كل ما أملك لزوجي فأنكر، وأفنيت عمري في أبنائي فجفوا، ما عدت أنتظر من أحدهم شيئاً)).
وأعادت ترميم البيت ومكثت فيه شهوراً طويلة تنفض عن جسدها المنهوك أعباء السنين وتجلي عن قلبها غبار الهمَّ والكدر، تنهال عليها مكالمات أبناؤها يومياً وهي تتجاهل أو ترد في برود وكانت تفهم مضامين أحاديثهم ((القلق من نفاذ رصيدها)) فقد استولى عليهم رعباً فاضحاً لنواياهم جعلها تذكر دائماً لهم أن أموالها قد نفذت في مشاريع خاسرة، ابنتها تتودد إليها وتطالبها بشراء ثياب من دور الأزياء الأوروبية لكنها تعتذر عن تلبية طلبها.
وعادت لتعمل مع أخيها في المؤسسة التجارية وتستثمر أموالها الباقية في مشاريع تجارية هادفة.
بينما كانت جالسة مع أخيها في مكتبه يتباحثان في مشروع جديد وأسرها أن هناك طرف ثالث سيشاركهما في (رأس مال كبير) وهي مصرَّة أن ترفض شراكة أحد خشية التورط في الخسارة، لكن أخيها يجادلها في تخابث يأخذ مأخذ الدعابة ويضيق صدرها:
((لا أدري لِمَا تصرَّ على الشريك الثالث ونحن قادران على تأسيس المشروع لوحدنا)).
- ((لو أنكِ تعرفين من هو الشريك الثالث لمَا رفضتِ كل هذا الرفض!)).
اندهشت صامتة تفكر لكن الفضول دفعها لتسأل:
((من هو؟)).
((اغمضي عينيكِ))
وفجأة..
فُتحَ الباب ودخل ((صادق)).
انبهرت وعيناها مشدودتان إلى الرجل تهتف في انشداه جعلت ذاكرة السنين تعود بها إلى الوراء:
((صادق؟!)).
تجمّدت الدماء في عروقه حينما وقع بصره عليها، أهكذا تدور بنا الأيام لنلتقي ثانية بعد فراق دام سنين طويلة كان ((صادق)) خطيبها الأول أحبته ملء فؤادها لكنهما تفارقا بسبب مكيدة مدبرة من إحدى قريباته كانت لها مطمع فيه، حاول ((صادق)) في حينها أن يشرح لها الموقف وأنه بريء من هذا الظن، لكن غرورها وكبرياؤها دفعا أشرعة قلبها نحو شاطئ آخر..
قال أخوها:
((جاء صادق ليشاركك الحياة من جديد هل توافقين؟)).
أطرقت في خجل- وفرت من طرفها دمعة فإذا بعروقها الجامدة تنتفض من جليد الوحدة وقلبها المحزون ينبض دفقاً مواراً بالحب والأمل يسقي زهرة عمرها الذابلة، هل كان ((صادق)) قدرها المرتقب وفرحتها المدخرة في == الغيب، المكافأة المستحقة لكل إنسان معطاء صبر وابتلع الغصص شاكراً لله، عادت بكراً يتضرج وجهها حُمرة وكل خلجاتها تجيب ((نعم)).
بقلم الكاتبة خولة القزويني (( منقول ))