سلسلة : { أحسن القصص } دروس وعبر

    • سلسلة : { أحسن القصص } دروس وعبر

      سلسلة : {أحسن القصص} دروس وعبر:

      الحمد لله الذي جعل القصص عبرة المعتبرين وفاكهة المتفكهين وسلوة المحزونين والصلاة والسلام على أصدق القاصين وسيد الأولين والآخرين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم إلى يوم الدين.. وبعد:

      أخوتي الكرام : لنبحر بنا في أمهات الكتب ونغوص في أعماق التاريخ لنبحث عما هو صالح ومفيد وشيق وعظيم ليكون لنا نبراساً ونوراً وعظة لمواجهة تحديات وصعوبات الحياة وعقبات ومشكلات المجتمع وليكون لنا دعامة وسنداً وتوجيهاً فلا تؤثر فينا الزلازل والفتن وتقلبات الحياة قال تعالى : {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} (يوسف : 111)..

      أخوتي الفضلاء : القصة الحقيقية إنما هي عبرة عامة وموعظة تتكرر في كل عصر وزمن. والغرض من فتح هذا الباب ليس من أجل التسلية أو مجرد إهدار للوقت أو من أجل الملهاة وإنما الغرض منه مع الترويح عن النفس العظة والاعتبار والاقتداء بمن سبقونا في مجال التضحيات والفداء حتى نكون خير خلف لخير سلف {وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين} (هود : 120)..

      وأعلموا أحبتي في الله: بأن الداعية إلى الله سوف يواجه في حياته كثيراً من المعضلات وتنغلق أمامه الأبواب ويكبل بالقيود التي تحد من دعوته ويصبح أمام تيار هائج يصعب عليه مقاومته أو التصدي له فإن لم يكن له دراية بمثل هذه القصص والأحاديث التي تنم عن روح الفداء والتضحيات من أشخاص بذلوا أرواحهم رخيصة في سبيل إعلاء كلمة التوحيد ونصرة دين الله؛ غرق في بحر التشتت والضياع وتلاطمته أمواج الفتن لأنه لم يتعلم الوصفة الناجعة لفك رموز المجتمع . أما إذا قرأ أمثال هذه القصص بتمعن وتدقيق وتمحيص فسوف يخالجه شعور بالقوة والإرادة وتذوب أمام هامته الصعاب والتحديات وتتفجر بين جنبيه طاقة هائلة فيصبح بركاناً ثائراً وإعصاراً هائجاً يحرق كل ما هو خبيث وفاسد ويقتلع كل ما يكون حجر عثرة في طريقه بعد أن يعرف الترياق السليم الناجع لتلك المشكلات..

      أحبتي : لقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم الكثير من قصص السابقين ليقوي عزم الرسول صلى الله عليه وسلم للقيام بمشاق ومهام الرسالة ، وفي تلك القصص العظة والعبرة التي ينتفع بها المؤمنون ، فيزدادون ارتباطاً بالإيمان وتفتح تلك القصص آفاق التوبة لجميع الناس للعودة إلى التمسك بالدين ، وإن ما أصابهم إنما ذلك كان لغفلة أصابتهم فيعودوا إلى رحاب الإيمان ولا يصروا على معاصيهم قال الله تعالى في كتابه العزيز : {وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين} (هود : 120)..

      أخوتي الكرام : إن التاريح يحدثنا عن أنواع من القصص وقد تكون أغرب من الخيال في عصرنا الحاضر بعد أن تلبدت عقولنا وخارت عزيمتنا وتهالكت أجسادنا وانغمسنا في دنيا المال والشهوة ونسينا الموت والحساب فأصبحت أمثال هذه القصص ضرباَ من ضروب الخيال التي يندر أن تتكرر في عصرنا الراهن . ولكن لو عدنا إلى ما صلح به أولنا لظهرت أمثال هذه القصص ولأصبحت واقعاً ملموساً فلأنهم تشبعوا بالإيمان وانغمسوا في عقيدة التوحيد وتساموا عن ملذات الدنيا صاروا إلى ما صاروا إليه.
      اقرؤوا التاريخ إذ فيه العبر
      ضلَّ قوم ليس يدرون الخبر
      فالتاريخ يحدثنا عن أنواع من الإبتلاءات كانت تنزل بالمؤمنين من أتباع الرسل ، حيث تنشر أجسامهم بالمناشير وتقطع أوصالهم ويصلبوا في جذوع النخل وغيرها من صنوف العذاب والتنكيل من أساليب الطغاة والجبارين ولا يصرفهم ذلك عن دينهم والإيمان بخالقهم موجد الحياة والموت .
      إن الله سبحانه وتعالى جعل هؤلاء الجبارين والطغاة المتكبرين أداة تعذيب وتنكيل لأتباع دينه والمخلصين من أبناء الإنسانية وذلك لحكمة قد تغيب عن عقولنا ، أو ليختبر صبرهم ويبلو إيمانهم حتى يتميز من يدعي الإيمان بلسانه ومن هو على الحق واليقين بقلبه قال تعالى :
      { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} (البقرة :214) وقال سبحانه : { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمعن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } (النكبوت : (2 ـ 3)..

      وأعلم أخي الكريم إن أحسن القصص وأعجبه وأبلغه أثراً في النفس هو ما كان من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم..

      أخوتي : بعد نهاية كل قصة سنقف على مواطن العظة والعبرة ونكتب لكم الدروس والعبر المستفادة منها.

      وإلى ذلك الحين أستودعكم الله حيث لا تضيع ودائعه..
    • بوركت يا فارس الكلمة
      انت فارس بالتوفيق.~!@@ad
      ان الحقائق في الأشياء ثابتة** لو بدلت صبغة الالوان والصور
      وللبيوتات من خلاقها صبغ** لا تمحى لو رماها الدهر بالغير

    • القصة الأولى : قصة أصحاب الأخدود :

      جاء في صحيح مسلم عن صهيب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : << كان ملك فيمن كان قبلكم ، وكان له ساحر، فلما كبر ـ الساحر ـ قال للملك : إني قد كبرت فابعث إلىَّ غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه ، فأعجبه ، فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب فقال له الراهب : إذا خشيت الساحر فقل : حبسني أهلي. وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر .

      فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال : اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل ؟ فأخذ حجراً فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحبّ إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، حتى يمضي الناس . فرماها فقتلها ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب : أي بني، أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى ، وإنك ستبتلي ، فإن ابتليت فلا تدلّ عليّ .

      وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ، ويداوي الناس من سائر الأدواء . فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة فقال : ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني؟ فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك : من ردّ عليك بصرك ؟ قال : ربي . قال : ولك رب غيري ؟ قال : ربي ربك الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الغلام ، فجيء بالغلام فقال له الملك : أي بني! أقد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل؟! قال : إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله .
      فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الراهب ، فجيء بالراهب ، فقيل له : ارجع عن دينك . فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه ، فشقه به حتى وقع شقاه.
      ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا ـ وهو جبل شاهق ـ فاصعدوا به الجبل ، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه ، فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال ـ الغلام ـ: " اللهم أكفنيهم بما شئت " .. فرجف بهم الجبل فسقطوا.

      وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله . فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال :اذهبوا به فاحملوه في قرقور ـ أي سفينة صغيرة ـ، فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه . فذهبوا به فقال : اللهم أكفنيهم بما شئت ، فانكفأت بهم السفينة ، فغرقوا.

      وجاء ـ الغلام ـ يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ فقال : كفانيهم الله، فقال ـ الغلام ـ للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به . قال : وما هو ؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي ـ جعبة السهام تتخذ من جلود لا خشب فيها أو من خشب لا جلود فيها ـ ثم ضع السهم في كبد القوس ، ثم قل : باسم الله رب الغلام ، ثم ارمني ، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني.

      فجمع الناس في صعيد واحد ، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته ، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال : باسم الله رب الغلام ، ثم رماه فوقع السهم في صدغه ، فوضع ـ الغلام ـ يده في صدغه ، في موضع السهم ، فمات. فقال الناس : آمنا برب الغلام! آمنا برب الغلام! آمنا برب الغلام! فأتى الملك فقيل له : أرأيت ما كنت تحذر ؟ قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس، فأمر بالأخدود في أفواه السكك ، فخدت ، وأضرم النيران ، وقال ـ الملك ـ : من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها ـ أو قيل له اقتحم ـ ففعلوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام ـ أي ابنها الصبي ـ : " يا أمّة أصبري فإنك على الحق ">>
      ..

      وإلى هذا أشار الله تعالى في قوله : { قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود * وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد * الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد} ( البروج : 4 ـ 9 ).. وفي التفاسير جاءت القصة بعدة روايات مختلفة أخترت لكم هذه الرواية حسب ما وردت في صحيح مسلم..


      أنظر : روى القصة مسلم في "الزهد والرقائق" (3005) ، الترمذي في "التفسير" (3340) ، تيسير التفسير العلامة محمد يوسف أطفيش ج15 ص 64 ـ 66) ، تفسير القرآن العظيم الإمام عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير ج8 ص 230 ـ 231 ، تفسير القرطبي لأبي عبدالله محمد الأنصاري القرطبي مجلد 10 ص401 ـ 402 ، فتح القدير للإمام محمد الشوكاني ص1916 ـ 1917 ، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ج9 ص63 ـ 64 ، تفسير الكشاف للإمام أبي القاسم الزمخشري مجلد 4 ص717 تفسير النسفي الإمام أبي البركات عبدالله بن أحمد النسفي ج4 ص 345 وغيرها من الكتب والتفاسير والسن..

    • الدروس والعبر من قصة أصحاب الأخدود


      الدروس والعبر من قصة أصحاب الأخدود :

      1ـ الدلائل والدروس المتوخاة من عرض النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصة على أصحابه:
      * الإقتداء والتأسي : يقول الإمام محمد بن أحمد القرطبي : "ذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلاقون من الأذى والآلام ، والمشقات التي كانوا عليها ، ليتأسوا بمثل هذا الغلام ، في صبره وتصلبه في الحق وتمسكه به ، وبذله نفسه في حق إظهار دعوته ودخول الناس في الدين مع صغر سنه وعظم صبره . وكذلك الراهب صبر على التمسك بالحق حتى نشر بالمنشار . وكذلك كثير من الناس لما آمنوا بالله تعالى ورسخ الإيمان في قلوبهم ، صبروا على الطرح في النار ولم يرجعوا في دينهم"(1)..

      * تهيئة النفوس وإعدادها : فهو يريد تهيئة أصحابه لما هو أعظم في مواجهة الظروف الصعبة والعسيرة التي تنتظرهم وتبقى نبراساً لباقي المسلمين ودعاتهم وممن سلك نهج النبوة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. وهذا من شأنه أن يخفف حدة الضربة إن أتت، ويخفف عن النفوس الآلام حين تعد للأمر عدته . وهذا بخلاف ما إذا كان الحدث مفاجئاً فسيكون مربكاً للنفوس ومحبطاً للهمم مما يؤدي إلى نتائج جد سلبية...فهو عليه السلام يبين من خلال العرض أهم مميزات دعوة الرسل والآثار المنسجمة منها!!

      * تبصير المسلمين بمميزات طريق الحق: رمى عليه السلام بعرض مشاهد هذه القصة لتبصرة المسلمين إلى أن طريق الدعوات الربانية واحد،والعقبات في الطريق واحدة.

      * مواساة المسلمين وشحنهم بالصبر : حين يعلم المسلم ما حدث لأتباع الرسل من التعذيب والتنكيل والعنت والإرهاق والمشقة،وأنه ليس وحده الذي يتعرض للمحن،فلن يجزع ويذهب نفسه حزنا، بل يصبر ويصابر على ما هو عليه كما صبر الذين سبقوه.

      * التثبيت على الطريق : إن الداعية حين يبشره الله سبحانه وتعالى بأن ما يلاقيه من نصب وتعب لايساوي غمسة واحدة في نار جهنم،وأن ما يلاقيه من أذى ويصبر عليه سيعوضه الله تبارك وتعالى نعيما مقيما دائما في الجنة،إذ العاقبة والمثوبة للصابرين قال تعالى : { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فأصبر إن العاقبة للمتقين} (هود:49)( 2)..

    • 2ـ كل مولود يولد على الفطرة :

      فالفطرة السليمة تؤدي إلى الإيمان واليقين وإنما تفسد يد الإنسان هذه الفطرة حين تتدخل فيها بالتضليل أو التبديل وصدق العلي الكبير إذ يقول : { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } (الروم : 30) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :<< كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يمجسانه أو يهودانه أو ينصرانه>>..
      لقد اقتضت الفطرة السليمة أن تكون مع الحق والخير دائماً وترفض الشر ، فوجهت الغلام نحو الخير حين سمع الحق من الراهب ونبذت الشر المتمثل في الساحر الكافر.


      3ـ سنة الله في الأرض ـ الإبتلاءات والمحن والفتن للمؤمنين ـ :

      إن لله سنة في خلقه لن تتبدل وقانوناً ثابتاً لا يتحول . إن الله يربي عباده بالمحن ويصقل جواهرهم بالابتلاء ويصفي نفوسهم بالاضطهاد حتى لا تعرف إلا إياه ولا ترجع إلا إياه ولا تعتمد إلا عليه ولا تفزع إلى سواه ولا تنظر إلى غيره ولا تدعو إلا إياه وحتى ترسل الزفرات الحارة والدعوات الصارخة..
      وكما قلنا في المقدمة : " فالتاريخ يحدثنا عن أنواع من الإبتلاءات كانت تنزل بالمؤمنين من أتباع الرسل ، حيث تنشر أجسادهم بالمناشير وتقطع أوصالهم ويصلبوا في جذوع النخل وغيرها من صنوف العذاب والتنكيل من أساليب الطغاة والجبارين ولا يصرفهم ذلك عن دينهم والإيمان بخالقهم موجد الحياة والموت .
      إن الله سبحانه وتعالى قد جعل هؤلاء الجبارين والطغاة أداه تعذيب وتنكيل لأتباع دينه والمخلصين من أبناء الإنسانية ـ وذلك لحكمة قد تغيب عن عقولنا ، أو ليختبر صبرهم ويبلوا إيمانهم حتى يتميز من يدعي الإيمان بلسانه ومن هو على الحق واليقين بقلبه .. قال تعالى :
      {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا متى نصر الله آلا إن نصر الله قريب} ( البقرة : 214 ) .
      وقال أيضاً : { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} ( العنكبوت : 2 ، 3 ) .
      يقول الشيخ القرضاوي : "لقد عرف عشاق المجد وخطاب المعالي وطلاب السيادة أن الرفعة في الدنيا كالفوز في الآخرة لا تنال إلا بركوب متن المشقات وتجرع غصص الآلام والصبر على كثير مما يحب وعلى كثير مما يكره وبدون هذا لا يتم عمل ولا يتحقق أمل ومن تخيل غير هذا الطريق كان كالذي قال لابن سيرين : إني رأيتني في النوم أسبح في غير ماء واطير بغير جناح !! فقال له : أنت رجل كثير الأماني والأحلام تتمنى ما لا يقع وتحلم بما لا يتحقق ، وفي شعر الحكم نقرأ قول أحدهم :
      لا تحسب المجد تمراً أنت آكله
      لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر
      (3)..


      4ـ السحر والسحرة :

      الإنسان بسبب اتباع الهوى ونفسه الأمارة بالسوء ووسواس الشيطان اللعين فيتوجه إلى غير الله تارة يطلب منه النفع وتارة أخرى ليدفع عنه الضرر واستغل الدجالون المضللون رغبة الإنسان في جلب النفع ودفع الضر من الغيب والمجهول فقاموا يدعون أنهم وسائط ومفاتيح بين الناس وبين الغيب وأوقعوا في نفوس الجهلة والعوام ـ في غياب عقيدة التوحيد ووعي الناس بدينهم ـ أنهم يحملون ألغازاً وأسراراً وان لديهم علماً يكشفون به المغيبات وألفوا في ذلك الكتب والمنشورات واستغلوا بعض الحقائق الغائبة وما خفي من أسرار المواد على العامة وعلاقتهم بالجن والشياطين وأصبح للسحر والتنجيم والضرب بالرمل والكهانة والشعوذة نصيب في حياة الناس وأيامهم..
      ولقد كان كثير من ملوك الأمم الغابرة يصطفون لممالكهم مهرة السحرة كما هو الحاصل في قصتنا هذه..
      إن السحر هو اتفاق بين ساحر وشيطان على أن يقوم الساحر بفعل بعض المحرمات أو الشركيات مقابل أن يساعده الشيطان وينفذ له بعض مطالبه إذا أذن الله ذلك إذ لا ضار ولا نافع إلا بإذن الله سبحانه وتعالى يقول تعالى : {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله } (البقرة : 102).. والساحر حتى ينفعل له السحر يضحي بدينه وآخرته كما قال تعالى : { ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} (البقرة : 102)..
      وكلما كان الساحر أشد كفراً كان الشيطان أكثر مساعدة له على أعماله فالساحر والشيطان قرينان التقيا على معصية الله تعالى..
      فبعض الناس إذا ضاقت بها الأمور تلجأ إلى الكهنة والسحرة لدفع الأذى عنهم أو لجلب النفع لهم معتقدين أن لهم مقدرة وسلطاناً وهذا ليس من الإيمان في شيء فإن إيمان المؤمن بقدر الله عز وجل يجعله لا ينسب النفع والضر إلا إلى الله تعالى فهو الضار وهو النافع وما يحدث من شيء أو يقع في الوجود إلا بأمر من الواحد المعبود.
      ولقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم السحرة بالوعيد الشديد ونهى عن تصديقهم وإتيانهم بالغ النهي في قوله :<< لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا مؤمن بسحر ولا قاطع رحم>> فالنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن اعتقاد ان السحر يؤثر بذاته وإنما يجب على المؤمن أن يعتقد أن السحر أو غيره لا يؤثر إلا بإرادة الله عز وجل وقال صلى الله عليه وسلم : <<اجتنبوا السبع الموبقات>> قالوا : يا رسول الله وما هن؟ قال: << الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا واكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات>>(4)..


      5ـ الغلام :

      ليست الحكمة والرجولة بالسن وإنما الرجولة الحقة قوة نفسية تحمل صاحبها على معالي الأمور وترفعه عن سفاسفها قوة تجعله كبيراً في صغره حكيماً رغم حداثة سنه قوياً رغم ضعف جسمه شديداً برغم ضعف عوده..
      قوة تحمله على أن يعرف حقه فيطلبه عزيزاً كريماً ويعرف واجبه فيؤديه مخلصاً أميناً واجبه نحو ربه واجبه نحو بيته واجبه نحو مجتمعه واجبه نحو دينه واجبه نحو أمته . يعينه على اداء هذه الواجبات إدراك دقيق وشعور رقيق وإيمان عميق وضمير يقظ وخلق متين..
      لهذا نجد أن بطل قصتنا هو غلام صغير لكنه لما خالط الإيمان شغاف قلبه وتشبع بنور الإيمان جعله كأنه رجل كبير وشيخ حكيم فالإيمان وحده هو الذي يصنع معاني الرجولة ويربي أخلاق البطولة ويطبع النفس على معالي الأمور ويبعدها عن سفاسفها..
      يقول الشيخ القرضاوي : "إن الرجولة ليست بالسن المتقدمة ، فكم شيخ في سن السبعين وقلبه في سن السابعة ، يفرح بالتافه، ويبكي على الحقير ، ويتطلع إلى ما ليس له، ويقبض على ما في يده ، حتى لا يشركه فيه غيره ، فهو طفل صغير ؛ ولكنه ذو لحية وشارب.
      وكم من غلام في مقتبل الصبا ، ولكنه ترى الرجولة المبكرة في قوله وعمله وخلقه وتفكيره.
      مر أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في طريق ، وثلة من الصبيان يلعبون فهرولوا هاربين إلا عبدالله بن الزبير فثبت في مكانه دون إخوانه ، فقال له عمر : لماذا وقفت يا غلام؟ ولم تعد مع أصحابك. فقال : يا أمير المؤمنين لم أقترف ذنباً فأخاف منك، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسعها لك فأعجب به عمر وأثنى عليه.
      وجاء وفد إلى أحد الخلفاء ، فقدموا فتى يافعاً يتكلم بلسانهم . فقال الخليفة : ليتقدم من هو أسن منك . فقال : يا أمير المؤمنين لو كان الأمر بالسن لكان في الأمة من هو أولى منك بالخلافة. ولكن إذا آتى الله المرء لساناً لاقطاً وقلباً حافظاً فقد استحق التقدم والكلام.
      أولئك لعمري هم الصغار الكبار ، أما اليوم فما أكثر الكبار الصغار!
      (5).


      6ـ اتباع الرخصة في أحلك الضروف:

      (( فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب فقال له الراهب : إذا خشيت الساحر فقل : حبسني أهلي. وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر)) الكذب أو إظهار الكفر باللسان من أجل دفع ظلم ورد عدوان : إن حكم الإسلام في الكذب عامة حكم واضح لا لبس فيه فقد حرمة مطلقاً ولم يبحه إلا في مواطن محددة في ثلاث حالات فقط للمصلحة التي تترتب عليه وعدم وجود وسيلة أخرى تقوم مقامه من الوسائل التي هي في الأصل مباحة.. وقد أوضحها النبي صلى الله عليه وسلم فعن أسماء بنت يزيد أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يقول : << يا أيها الذين آمنوا ما يحملكم أن تتابعوا في الكذب كما يتتابع الفراش في النار كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا في ثلاث خصال : رجل كذب على امرأته ليرضيها أو رجل كذب في خديعة حرب أو رجل كذب بين أمرأين مسلمين ليصلح بينهما >>..
      فيجوز أن يكذب الرجل في الحرب فالحرب خدعة والنيل من العدو بالكذب يجيزه الشرع إن لم يساعد الصدق في ذلك ..
      ويجوز لمن أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان أن يظهر الكفر بلسانه نجاة لروحه من الهلاك وقلبه ثابت على الإيمان مرتكن إليه مطمئن به قال تعالى : { من كفر بالله بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} (النحل : 106)..
      وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي : "وقد جاء عن الفخر الرازي قوله : الآية تدل على أن المكره على الكفر بالإهلاك العظيم الأولى به أن يصبر على ما خوف منه ، وأن إظهار كلمة الكفر كالرخصة في ذلك ، وقال: وروى الحسن أن مسيلمة أخذ رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما : تشهد أني رسول الله؟ فقال: نعم ، فتركه ، وقال للآخر مثله ، فقال : لا بل أنت كذاب، فقتله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : << أما الذي ترك فاخذ بالرخصة فلا تبعة عليه ، واما الذي قتل فأخذ بالأفضل فهنيئاً له>>(6)..


      7 ـ إجراء خوارق العادات على أيدي دعاة الخير لبيان الحق والتثبيت في الأمر:

      كما قال الغلام : ((اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل ؟)) وبرغم أن قلبه كان يميل إلى الراهب ولكن ليطمئن قلبه اكثر لأنه قال : ((اللهم إن كان أمر الراهب أحبّ إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، حتى يمضي الناس)) ولم يقل اللهم إن كان أمر الساحر لعلمه اليقيني أن عمل الساحر مما يغضب الرب.. وكما حكى الله عن سيدنا إبراهيم : { وإذا قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} (البقرة : 260) فسيدنا إبراهيم مؤمن بقدرة الله لكنه يريد أن يعرف الكيفية..


      8ـ الأعتراف بالفضل لمن هو أفضل منه:

      ((فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب : أي بني، أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى ، وإنك ستبتلي )) وهذا ما ينبغي أن يكون بين الطالب والمعلم أو العالم وتلميذه والرئيس والمرءوس..

    • 9ـ إسناد الفضل كله لله وان الله هو الشافي{ وإذا مرضت فهو يشفين} (الشعراء : 80) :

      كما فعل الغلام عندما أتاه جليس الملك، وقد ((أتاه بهدايا كثيرة فقال : ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني؟ فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله))..
      وعلى المسلم أن يعلم بأن الله هو النافع والضار فأي شيء يقع للإنسان لا يقع إلا بإذن الله وتقديره وحكمته وتدبيره فالله سبحانه وتعالى يقول : {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون} (التوبة : 51) وقوله تعالى : { ما اصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور } (الحديد : 22 ـ 23).
      إن الإيمان بهذه الحقيقة يضع المؤمن على سواء الطريقة ويجعله يتقبل قدر الله وقضاءه ويمضي في حياته وهو أحسن حالاً واهدأ بالاً يقول الله تعالى : {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} (التغابن : 11) ..
      ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يغرس في قلوب أصحابه هذه الحقائق النافعة بتوجيهاته السديدة ووصاياه الرشيدة يقول صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبدالله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ <<واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك >> ويقول صلى الله عليه وسلم : <<إن لكل شيء حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه>>..


      10ـ رفض الغلام الهدية :

      وهكذا لا ينبغي من الداعي إلى الله أخذ الأجر على عمله أو هدية {قل لا أسألكم عليه أجراً } (الأنعام : 90) لا كما نرى من كثير من الذين يدعون أنهم يعالجوا بالقرآن الكريم وأنهم لديهم ما يشفي معظم الأمراض فيستغلوا حاجة الناس وضعف إيمانهم وتعطشهم للصحة فيجنوا من وراء ذلك ثروات هائلة ومبالغ طائلة عن طريق الخداع والاحتيال واستغلال الدين..


      11ـ تحجر القلوب وموت الضمير:

      نرى ما فعله الملك للراهب من نشره بمنشار نصفين من دون رحمة أو شفقة واللجوء إلى العنف والبطش عند العجز عن الإقناع والإفهام أو أحياناً أخرى اللجوء إلى السب والتشهير والقذف والكذب وهذا إسلوب المفلس من الحجة والجهلة والجبابرة والطغاة والذين تحجرت قلوبهم وماتت ضمائرهم..


      12ـ الثبات على الحق والمبدأ:

      نرى من موقف الراهب وموقف الغلام وموقف المؤمنين الذي ألقوا في النار منتهى القوة والإرادة والثبات على المبدأ وعدم الرجوع عن الحق وهكذا كان في الأمم الأولى كقصة سحرة فرعون دليل آخر وتمعن في قصتهم في سورة طه..
      إن الله سبحانه وتعالى يثبت المؤمنين الصادقين في إيمانهم بالحجج البينات ويؤيد دينهم بالكرامات فهذا هو الرضيع ينطق (( يا أمه إصبري فإنك على الحق)) والأم تستجيب لهذا الأمر ، وتلقي بنفسها مع طفلها صابرة محتسبة يقول سبحانه وتعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } (إبراهيم : 27)..


      13ـ الدعاء.. سلاح المؤمن ومفعوله فعال:

      قول الغلام : (( اللهم أكفنيهم بما شئت)) هو سلاح نافذ للمؤمن يستخدمه في كل الظروف والأوقات فلا ملجأ ولا مفر إلا إلى الله.. فالله سبحانه وتعالى يقول : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب اجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } (البقرة : 186) ، وقال : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} (المؤمنون : 60) ، وقال تعالى : {فادعوا الله مخلصين له الدين } (المؤمنون : 14)..
      فالله سبحانه وتعالى يستجيب للذين يدعونه رغباً ورهباً وخوفاً من عذابه وطمعاً في رحمته والذين يبتهلون إليه سبحانه آناء الليل وأطراف النهار ويتضرعون إليه سبحانه في الشدة والرخاء والعسر واليسر في الصحة والمرض في الفقر والغنى في المنع والعطاء وينصرفون إليه سبحانه بقلوبهم قبل ألسنتهم وبأعمالهم قبل أقوالهم ببواطنهم قبل ظواهرهم وبأحوالهم قبل أشكالهم..
      فلا عجب بعد ذلك أن يستجيب الله إلى ما طلبوا ويعطيهم ما أرادوا ويحقق لهم ما سألوا وهو القائل في الحديث القدسي : << يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المحيط إذا أدخل البحر>>..
      والله سبحانه وتعالى لا يجيب دعوة المرائين أو يلبي طلبة الغافلين أو يسمع نداء المتكبرين الذين يظنون ويعتقدون أن الدعاء عادة من العادات لا عبادة من أشرف العبادات ويحسبون أن الدعاء أقوال جامدة وألفاظ جافة لا روح فيها ولا حياة يتحرك بها اللسان تحركاً آلياً وترفع لها الأيدي إلى السماء ارتفاعاً شكلياً ولقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يطيل السفر ـ أي في طاعة الله وعبادته ـ يمد يديه ضارعاً إلى السماء قائلاً بلسانه : يا رب يا رب!! ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له؟!!!(7)..


      14ـ{ ومن يهديه الله فما له من مضل}(الزمر : 37) :

      فمن أراد الله سعادته فهداه إلى الحق ووفقه لسلوك طريق المهتدين فلن يقدر أحد على إضلاله أو ثنيه عن إتباع الحق وهذا حال الغلام فقد حاول الملك ثني الغلام تارة بالترغيب وتارة أخرى بالترهيب لكنه لم يفلح وخاب مسعاه..

    • 15ـ {من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون} (الأعراف : 186):

      ومن يكتب الله عليه الضلالة يظل في طغيانه عن الحق وعماه عنه أبداً برغم الحجج والبراهين والآيات الساطعة يبقى متشبث بطغيانه كمثل حال الملك في هذه القصة..
      يقول الشهيد سيد قطب :"وما في تركهم في عماهم ظلم فهم أغلقوا بصائرهم وأبصارهم وهم الذين عطلوا قلوبهم وجوارحهم وهم الذين غفلوا عن بدائع الخلق وأسرار الوجود وشهادة الأشياء وحيثما امتد البصر في هذا الكون وجد عجيبة وحيثما فتحت العين وقعت على آية وحيثما التفت الإنسان إلى نفسه أو إلى ما يحيط به لمس الإعجاز في تكوينه وفيما حوله من شيء . فإذا عمه ـ أي عمي ـ عن هذا كله ترك في عماه وإذا طغى بعد هذا كله وتجاوز الحق ترك في طغيانه حتى يسلمه إلى البوار"(8)..


      16ـ أسلوب الداعي مفتاح النجاح :

      إن هذا الغلام الداعية عرف الأسلوب الطبيعي والترياق الشافي الذي به تنتشر دعوته وتصل عن طريقه ـ بإذن الله ـ إلى قلوب الناس . فأخذ يظهر آيات الله البينات التي يجريها على يديه ويطالب المجتمع الذي يعيش فيه الإيمان بها وإتباع الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه .
      ووصلت دعوة الغلام إلى مسامع الملك الذي يدّعي الألوهية وأن الناس يتابعونه فيما يدعوهم إليه ، وألقت حاشيته والمحيطون به في روع الملك أن قوائم ملكه تهتز من تحته نتيجة لهذا الذي يقول به الغلام ويبشر به ؟! فكان لابد من التنكيل به حفاظاً على الملك ـ مرة بمحاولة ترديه من فوق جبل مرتفع ، وأخرى بمحاولة إزهاق روحه عن طريق البحر ولقد باءت هذه المحاولات بالفشل ، وهكذا كل محاولة يديرها الباطل أو يوسوس بها الشيطان .
      عندما أراد الغلام أن يبلَّغ دعوته إلى الناس أجمعين ، ورأى أنه لن يتحقق ذلك إلا عن طريق الملك وجنوده ، فطلب من الملك إن كان يريد القضاء عليه وتخليص مملكته منه ، فما عليه إلا أن يجمع الناس في صعيد واحد حتى يشاهدوا قتل الغلام .
      وكان هذا الغلام الداعية يريد بذلك أن تبلغ دعوته للناس أجمعين ويشاهدوا عن قرب يد القدرة الخالقة وهي تعمل ـ حتى ولو أدى ذلك إلى إزهاق روحه وبلوغ أجله . فعلى كل داعية أن يقدم روحه وماله في سبيل فكره ومعتقده وأن لا يسأم أو يضجر بسبب الإبتلاءات التي ألمت به أو المصائب التي حلت بداره فكلها تمحيص واختبار في درب الصمود وعليه أن يعلم إن لكل أجل كتاب قال تعالى :{ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً} ( آل عمران : 145 ) .
      لقد استطاع هذا الغلام الداعية عن طريق أعداء الله وأعداء دينه أن يبلغ رسالة ربه ، ثم يموت قرير العين مطمئناً إلى عدالة ربه . وهكذا يجب أن يكون الدعاة الذين يحبون عقيدتهم ، ويريدون نشر دعوتهم ورفع كلمة الله بين عبّاد الطواغيث ، وسدنة الأصنام .


      17ـ التضحية والفداء :

      الإنسان المؤمن يضحي بنفسه وماله في سبيل إعلاء كلمة الله ونشر دعوته وهذا شأن المؤمنين المخلصين يسعون لإنقاذ أمتهم ومجتمعهم من هوة الضلال ومستنقع الخطايا ولو أدى ذلك إلى استشهادهم أو إلحاق الأذى بهم فهذا الأمر يهون لما عند الله فهم إلى الجنة ذاهبون قال تعالى : { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران : 169)..


      18ـ النهاية المرتقبة والحتمية للظالمين:

      فمصير الظالمين الذين يؤذون الضعفاء من عباد الله في الحياة الدنيا: { ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار * مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء} (إبراهيم : 42 ـ 43).
      وحالة الظالم عند غمرات الموت ونزع الروح يقول تعالى : { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون} (الأنعام : 93)..
      حالة الظالم عند الحساب : { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا} (الفرقان : 27 ـ 29)..
      المصير المحتوم للظالمين : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} (البروج : 10)..
      يقول الشهيد سيد قطب :"{إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} ومضوا في ضلالهم سادرين لم يندموا على ما فعلوا {ثم لم يتوبوا}.. {فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} .. وينص على {الحريق} وهو مفهوم من عذاب جهنم ولكنه ينطق به وينص عليه ليكون مقابلاً للحريق في الأخدود . وبنفس اللفظ الذي يدل على الحدث . ولكن أين حريق من حريق؟ في شدته أو مدته! وحريق الدنيا بنار يوقدها الخلق . وحريق الآخرة بنار يوقدها الخالق! وحريق الدنيا لحظات وتنتهي ، وحريق الآخرة آباد لا يعلمها إلا الله! ومع حريق الدنيا رضي الله عن المؤمنين وانتصار لذلك المعنى الإنساني . ومع حريق الآخرة غضب الله والارتكاس الهابط الذميم"(9)..

      19 ـ النصر والغلبة لمن في النهاية؟!

      إن هذه القصة تبين لنا قاعدة مهمة من قواعد النصر ، وهي أن الانتصار الحقيقي هو انتصار المبادئ والثبات عليها ، وأن النصر ليس مقصوراً على الغلبة الظاهرة.
      فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة ، وأن الحياة الدنيا وما فيها من المتاعب والآلام ليست هي الميزان الذي يوزن به الربح والخسارة.
      لقد انتصر هذا الغلام عدة مرات في معركة واحدة وموقف واحد ، انتصر بقوة فهمه وإدراكه لأقصر وأسلم الطرق لنصرة دينه وعقيدته ، وإخراج أمته ومجتمعه من الظلمات إلى النور ، وانتصر بقدرته على اتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب ، متخطياً جميع العقبات ، ومستعلياً على الشهوات ، ومتاع الحياة الدنيا ، وانتصر عندما تحقق ما كان يدعو إليه وما قدم نفسه من أجله ، وانتصر عندما فاز بالشهادة في سبيل الله ، وانتصر عندما خلد الله ذكره في العالمين ، وجعل له لسان صدق في الآخرين ، صحيح أن الناس كلهم يموتون ، ولكنهم لا ينتصرون جميعاً هذا الانتصار( 10).

    • قد تجد أخي القارئ في هذه القصة بعض الفوائد والإرشادات والدروس والعبر لم أتطرق إليها فلك أخي الحبيب أن تبينها وتوضحها لنا لتعم الفائدة..

      الهوامش :

      1) تفسير القرطبي مجلد العاشر ص 405.
      2) facebook.com/topic.php?ui...276&topic=5590
      3) هامش كتاب خطب الشيخ القرضاوي ، إعداد الشيخ محمد حوطر والشيخ أكرم عبدالستار ج7 ص125..
      4) بتصرف من كتاب : حصاد الخطب وزارة الأوقاف سلطنة عمان ج1 ص189 ـ 191.
      5) خطب الشيخ القرضاوي ، إعداد الشيخ محمد حوطر والشيخ أكرم عبدالستار ج7 ص39 ـ 40..
      6) تتمة أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ج 9 ص65..
      7) بتصرف من كتاب : صوت المنبر، محمد نجيب الصابوني ص30 ـ 31..
      8) في ظلال القرآن ، سيد قطب ، ج3 ص1407..
      9) في ظلال القرآن ج6 ص3874..
      10) facebook.com/topic.php?ui...276&topic=5590

    • فائدة :
      وأخترت لكم أخوتي الأعزاء من وموقع : http://www.facebook.com هذه العبر المستفادة من قصة أصحاب الأخدود :

      العبرة الأولى:
      مظاهر الظلم والطغيان للحاكم المتأله :

      يبدأ المشهد النبوي بذكر مواصفات الحاكم الطاغية وينقل لنا صوراً من الواقع المرير والقاسي لواقع فاسد قوامه الظلم ومحكوم بالهوى ومن تم كان منهج الحكم وهماً وقيادته قهراً!!
      يصور لنا المشهد لقيادة حاكمة لا تعبأ بواقع الناس ولا تفقه كنه الحياة. ومن تم فغايتها السيطرة بالحديد والنار ضد كل طرح سديد أو فكر عتيد!!
      إن المعادلة هنا: الساحر للملك والسحر للحكم وعندما يحكم السحر نعرف طبيعة الواقع الفاسد!! فهو حكم يعمل على إيهام الناس بإيحاءات وتصورات وتأثيرات غير حقيقية يسعى لتفتيت كيان الفرد وتشتيت بنيان الجماعة بذل كل مظاهر العنف والإستبداد والحكم في الناس من حديد للحفاظ على الحضوة وكرسي الحكم ولو أدى ذلك إلى الدمار!!
      وفي هذه القصة تشخيص للصراع الدائر منذ القدم بين رسالة التوحيد الحقة وقول الباطل...وما الصراع إلا ممتد وباق إلى يوم يرث الله الأرص ومن عليها!!
      فلا عجب أن يعرض الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه هذا المشهد ليستعينوا بذكره عند الشدائد ويكون نبراساً للأجيال المسلمة في طريق إرساء رسالة التوحيد الخالدة!!.


      العبرة الثانية:
      عدم تكافئ موازين القوى :

      الصراع الدائر هنا قائم بين فئتين من أصحاب الأخدود فئة فاسدة الإعتقاد متجبرة على العباد الملك والساحر ومن يتبعهما من جهة فئة مؤمنة وموحدة والممثلة من شقين:
      ـ شق الراهب والغلام من جهة..
      ـ وشق الشعب الموحد من جهة أخرى..
      فالصراع إذن بين فئة جاحدة لربها وخالقها وفئة مؤمنة بالله ربا وخالقا!!
      ولكن يزداد الأمر حيرة وتعجباً من كون عناصر القوة غير متكافئة!! أين تكمن عوامل القوة والضعف؟! توازن القوى في الصراع غير موجود.. فالفئة المؤمنة ضعيفة ضعفاً مادياً.
      والطائفة الآخرى قوية، بقوة الملك وجنده وأعوانه الظلمة، فضلا عن حيازتها سلطة الأمر والنهي والحكم بيدها، فهي بطلاميسها وجبروتها متسلطة على الفئة الضعيفة!! وهنا يكمن وجه التحدي...
      إصطدمت الفئة الطاغية المتجبرة بصخرة صلبة ألا وهي صخرة العقيدة القوية!! فالظاهر من القصة أن عقيدة الفئة المؤمنة كانت منيعة وراسخة متمكنة من القلوب وليس من السهل الميسور تحويلها عنها إلى غيرها،وخصوصا إذا كانت هذه العقيدة التي حاول هذا الطاغية صرفهم إليها عقيدة باطلة!! لا يستسيغها العقل البشري النير بنور الإيمان السليم من كل أوساخ الشهوات والأطماع، فصاحب هذه العقيدة لا يستجيب إلا لنداء الحق وصوت الفطرة ودعلء الخير والفضيلة والضمير الحي، فهي قد قبلت عذاب الدنيا ورضيت به في سبيل عقيدتها، لتلقى ربها يوم القيامة طاهرة من رجس الشرك والمعاصي ظاهرة فوق المشركين.

      العبرة الثالثة:
      أنسب سن للتعلم والإستيعاب :

      يؤخذ من قصة أصحاب الأخدود أنه وقع الإختيار والإقرار على الفتى وهو مازال غلاماً ، وذلك أنسب للتعلم وكسب التمرين والمهارة وهو سن مناسب لكسب التأهيل والتمرس في علوم عدة، سواء ما كان منها ذا طبيعة دينية أو دنيوية، ففي هذه السن يكون نشيطاً في جسمه مرناً في حركته، نشطاً في عقله متمتعاً بإستعداءات نفسية ومهيئاً بمواهب فطرية وذكائية.
      لم يختبر الساحر والملك رجلاً في سن الشيخوخة لهذه المهمة، لأنه لا يمهر ذلك مهارة الغلام، هذا الإنسان يكون في باكورة عمره العقلي والزمني ذلك أن الإنسان في مرحلة الشيخوخة له ما يشغله من مشاكل في حياته الخاصة والعامة، ولا تعود مواهبه وقدراته العقلية والفكرية عما كانت عليها في فترة الخصوبة والشباب.
      فتشغله عند الشيخوخة عوائق عدة منها جسدية ومنها قوة التحمل والإستيعاب العلمي ومنها معيشية كالسعي وراء تحصيل أعباء الإنفاق البيتي ومستلزمات البنوة والسعي للكسب لهم والتفرغ لسماع إنشغالاتهم والبحث عن كيفيات حل مشاكلهم!! وقد تأخذ من وقته كثيرا مساعي الإشتغال بالأعمال التجارية والحرفية أو الصناعية أو الوظيفية كل ذلك يتطلب وقتاً متسعاً وجهداً مضنياً وإستعداداً بدنياً وفكرياً، الأمر الذي لا يبقى معه لتهيئة كبيرة لقوة الإستيعاب والتحصيل من جهة ووقت للتعلم والتفرغ من جهة أخرى.

      العبرة الرابعة:
      قدرة الغلام على التحري والموازنة:

      يأخذ من قصة أهل الأخدود قدرة النباهة والفطنة التي كان يتمتع بها الغلام وهي الرغبة الملحة والشديدة لتعلمه العلم الشرعي عند الراهب إلى جانب تعلمه السحر.
      غير أن ماكان يتمتع به من قوة الموازنة جعلته يفرق بين السحر الذي هو عنوان الفساد والإرتواء من معين الحكمة والتشبع بالقيم الروحية والدينية.
      وترجيع أحدهما على الآخر ليس من الأمر السهل أمام نزوات الذات وحب الحظوة والمركز الإجتماعي وهي حضوض تسعى النفوس الضعيفة وراء تحقيقها وبقوة ومدى ضبط الذات على قوة التمسك بالقيم الإنسانية الأصيلة والمبادئ الشرعية المتينة.
      وهكذا حكم الغلام العقل والمنطق في عملية الموازنة لما يراه من الفارق بينهما. وأختار الجانب الحق والصواب مهما تلقى من عتو وعتاب!! وفي هذا لمسة فنية للروح الإنسانية أنه يتعين عليها عدم التسرع في الحكم على الأشياء ودون الإحجام عن إصغاء مختلف أطروحات غيرنا بل علينا أن نسمع لمجموع الآراء المختلفة والأقوال المتباينة، وأن نحكم عقولنا ونستخدم معلوماتنا لدراسة وتقييم ما هو معروض علينا، منطلقين من قواعد دينية ثابتة وراسخة ، وليس الدوافع الذاتية والحضوض النفسية التي قد يكون مصدرها الهوى أو الشهوة.

    • العبرة الخامسة:
      آثار العلم النافع تتعدى للغير:

      لقد ترك الغلام مسعى الملك في أن يجعله ساحر القصر الملكي وتردد على مقر الراهب لليتزود منه بالمبادئ الدينية والقيم السماوية وحسن الآداب الإجتماعية ، فتمكن من ترسيخ الإعتقاد الحق وجوهره في أعماقه.
      فكان الغلام بما أخذه عن الراهب داعية إلى الله وإلى توحيده، فنفعه الله بعلمه، فكانت ثمرات إخلاصه في ترسيخ الإعتقاد الصحيح والعلم النافع أن أمتدت آثاره من النفع الذاتي إلى بث التوحيد الخالص في أمته ومجتمعه، وترك الدنيا وزخرفها من وراءه، وهذه منافع العلم الحق وإخلاص الطلب.

      العبرة السادسة:
      قدرة الراهب على الإقناع والتأثير:

      ونستفيد من القصة قدرة الراهب على قوة الإقناع والتأثير ، وهذا نأخذه من حرص الغلام الشديد على اللقاء بالراهب والتعلم على يديه، والتعلق به، وهذا يدل على حسن أسلوب الراهب في التربية التي ساس بها الغلام وأزاح بها السقام.
      فلا شك أن العمل الدعوي المأثر وأسلوب الداعية الناجح له أثر كبير في إقناع الناس، والإلتفاف حوله والأخذ عنه فضلاً عن إحتلال قلوبهم. وهذا لا يكون إلا إذا أحسن مخاطبتهم ، وطرق تمثين المعاني الودية معهم ، وأشعرهم بحبه لهم وخوفه عليهم، وأنه يريد الخير لهم والعمل على إسعادهم.
      إن على الدعاة اليوم وفي كل يوم، بل وعلى مر الأحقاب وتعاقب السنون والأزمان وفي كل منطقة ومكان، أن يطلعوا على الأساليب الناجعة والمأثرة والطرق الدعوية الهادفة والناجحة في مخاطبة الجماهير، وعليهم أن يستفيدوا من حصيلة تجارب الآخرين الذين سبقوهم في هذا الميدان، وأن يكون دورهم العمل الجاد المثمر وأن يضيفوا إضافات راقية ومميرة إلى حصيلة التجارب السابقة تعد بمثابة رصيد تجربي دعوي يدرج ضمن قائمة التجارب الناجعة ذات العبرة المأثرة والعظة النافعة.

      العبرة السابعة:
      تسليم الراية والغيرة على الرسالة:

      يستشف من إستقراء القصة أن بطانة السوء إقترحت على الملك بضرورة المحافظة على عنصر الإستمرارية ولا يتأتى ذلك إلا بإيجاد غلام نبيه لتلقينة وتعليمه مبادئ السحر.
      فقد كان الحاكم يستعين بالساحر للمحافظة على الحكم وتثبيت دعائمه. فلا شك فحكم كهذا محكوم عليه بالفساد، فهو يتخذ من الوسائل غير المشروعة للحفاظ على الوضع السائد.
      جاء في الحديث : (( فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ)) ومن هذا القول نجد نموذجاً لبطانة السوء التى يهمها أن تبقى الأوضاع التي يستفيدون منها، وينعمون فيها، ومثلهم الواضح سحرة فرعون الذين جاءوا إلى المدائن لمواجهة موسى، فكان أول ما قالوا : { وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ* قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (الأعراف : 113 ـ 114) فلم يسألوا عمن سيواجهون، وما هي قضيته.. فهذا لا يهم ولكن الذي يهم هو الحظوة والأجر ((فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا)) وقد جاء طلب الساحر - في رواية الترمذي - بعبارة: (( انْظُرُوا لِي غُلَامًا فَهِمًا أَوْ قَالَ فَطِنًا لَقِنًا فَأُعَلِّمَهُ عِلْمِي)) وهذا يكشف بُعداً خطيراً للخطة المدبرة الرامية إلى إفساد الفطرة، وهي التركيز على النابهين المتفوقين أصحاب المواهب والقدرات الخاصة لضمان السيطرة الكلية على الواقع الإنساني.
      وفي هذا قال أحد العقلاء: فإذا كان الساحر يفكر فيمن يحمل الراية من بعده حتى تستمر ولا تندثر وكان حريص في ذلك كل الحرص أليس من الأولى والأحرى بالقوى الدعوية الفاعلة والعاملة على نشر كلمة التوحيد وقول الحق ألا تذوق طعماً للنوم، ولاتكتحل عيونها حتى تسلم الراية وهي في طمأنينة لمن يأتي بعدها!!

      العبرة الثامنة:
      مصلحة الحكم في تجسيد إقتراح الساحر:

      سارع الملك إلى قبول إقتراح الساحر، وأختير الغلام وفقاً للمواصفات المطلوبة، وتم إرساله للساحر!! ولاريب أن الغاية المرجوة هي أن يكون الغلام خلفاً للساحر من جهة وساحر البلاط لتدعيم أركان الحكم في المستقبل من جهة أخرى.
      فكانت مصلحة بقاء الملك الطاغية في الحكم تزكية وقبول إقتراح الساحر حتى يكون السحر عوناً للملك في خداع الجماهير وتضليلها وتقديم الحقائق بوجوه مزيفة ويعمل على تخديرها لتبقى خاضعة الإرادة له!! فمعظم السحر عبارة عن تخييل وخداع وتمويه!! فالساحر أقدر من غيره في هذا الميدان على الخداع والتمويه وتخدير العقول وطلمسة العيون!!
      لذلك كان السحر محرماً في جميع الشرائع السماوية وخاتمتهم شريعة الإسلام. فقد حرم فيها تحريماً قاطعاً ، وعد الذي يتعاطى السحر مجرماً، يستحق عقوبة الإعدام ، وكافراً خالداً في النار إذا لم يتب منه ويقلع عنه ، قال تعالى : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} (البقرة : 102).

    • العبرة التاسعة:
      الحرص على الإهتمام بقيمة الوقت :

      كان الساحر يسعى مع الغلام لتلقينه جملة من القيم والمبادئ، ومن هذه المبادئ الإهتمام بالوقت، والمحافظة على المجيئ إلى المحاضرة في وقت مخصوص ومعين وفق برمجة التلقين المدروسة، ويببغي للغلام أن لا يتأخر عن هذه المواعيد، ولو حدث وتأخر الغلام عن موعد التلقين والتعليم يتعرض للعقوبة والتأديب، ولهذا كان الغلام يخضع للعقاب والتأديب كلما تأخر عن وقت الدرس!!
      كم نحن اليوم كمربين ومسؤولين بحاجة أن نعطي القدوة الحسنة في إحترام المواعيد وإعطاء الأهمية القصوى بالعناية بالوقت في إجتماعاتنا ودوراتنا العلمية وأنشطتنا المهنية وواجباتنا الأسرية والعائلية.
      وأن نلقن الجيل الناشئ من خلال القدوة العملية قيمة الوقت وأهميته للحياة والثمرة المرجوة من هذا الإهتمام وأن يجدوا فينا المعاني الحسية لهذه الأسوة الفعالة.
      إن ما نجده عند بعض المسلمين من تهاون بالوقت، وعدم المحافظة على الموعد بدقة هو مرض ينبغي أن نتخلص منه، وأن نطارده من حياتنا، فإننا سنسأل عن كل لحظة من أعمارنا أين أنفقناها. ففي الحديث : << لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع،منها عن عمره فيما أفناه >>..
      والعمر سنوات وأشهر وساعات ودقائق وثوان، أي سيسأل كل فرد عن الثواني التي عاشها، والتي تأخر فيها عن موعد دون عذر مقبول شرعاً.

      العبرة العاشرة:
      جواز تبجيل ماهو أصلح وأنفع :

      لقد تعرض الغلام للضرب من قبل الساحر بسبب تأخره، غير أن هذا التأخير لم يكن منكراً، ولم يقع بفعل كسل أو فتور همة، أو عدم إكتراث بالوقت، بل على العكس من ذلك تماماً فقد كان الغلام حريص كل الحرص على المجيئ لجلسة تعلم العلم الشرعي عند الراهب، ذلك أن مبرره كان قوياً في الغياب وهو في غاية الأهمية.
      إنه إعتنق ديناً جديداً، فكان والأمر هكذا من الواجب عليه أن يتعلم أحكام ومبادئ هذا الدين دون أن يعلم به أحد عسى أن يفتنه عن دينه قبل تمام تحصيله له.
      قد يكون الأمر في تقدير الساحر أن الفتى غير معذور، ولكنه في حقيقة الأمر معذور عند الله جل وعلا، ومأجور على ما يلاقي من عنت الساحر وضربه، فقد حاز رضا الرب تبارك وتعالى. ولله در القائل يخاطب ربه:
      فليت الذي بيني وبينك عامر
      وبيني وبين رب العالمين خراب
      فإن صح منك الود فالكل هين
      وكل الذي فوق التراب تراب
      فليتك تصفو والحياة مريرة
      وليتك ترضى والأنام عضاب

      العبرة الحادية عشر:
      جواز كتمان المعتقد قبل ترسيخه في الصدر:

      حلاوة الإيمان والملازمة المعتادة للغلام عند الراهب صيرته في وضع محرج وخاصة أنه من جهة يكتم معتقده الجديد ويسعى في تنمية معارفه الدينية.
      من جهة أخرى فهو يتحمل الكثير مع الساحر حيث يذيقه المر بما يعانيه من ضرب وإيذاء بسبب تأخره عن مواعيد الساحر.
      هذا والساحر على غير علم بما عليه الغلام من الدين الجديد الذي على غير دين الساحر والملك فكيف لو علم بهذا التحول لدى الغلام؟!
      لقد كان الغلام بفطرته على سعة من الذكاء وآخذاً بسقط وافر من توجيهات الراهب. فكان يتحمل الكثير من المعانات وذلك سعياً وراء تحقبق:
      ـ تقوية معارفه العقدية والدينية وترسيخها جيداً في الصدر.
      ـ التأهب والإستعداد التام للنضج وذلك بالتروي من دروس معلمه الراهب لإمكانية نشر تعاليم الدين الجديد في أوساط الناس.
      فبتبليغ دعوته يكون له أنصار وأتباع يذودون على هذه الدعوة ويعملون على نشرها ويتعاضد معهم على بث القيم الفريدة من العقيدة الجديدة. ويحملون معاً لواء الدعوة والتبشير لها.
      ولا شك أن أي تسرع من الغلام لنشر خبر الدين الجديد قبل الأوان من شأنه أن يعيق تحقيق ما خطط له الراهب والغلام.
      إن الاحتكاك اليومي للغلام مع الراهب يعطي انطباعاً نستشفه من سطور هذه القصة أن هنالك اتفاقاً تاماً بينهما على مسيرة هذه الدعوة وخاصة فيما يتعلق بهذه المسألة.

      الخاتمة :
      في هذه القصة لفتة لذوي البصائر من المؤمنين وأنصار الدعوة حيثما كان تواجدهم مع تلاحق القرون وتعاقب الأيام أن يأخذوا العبرة من هذه القصة. وأن لا يبوحوا بعقيدتهم الدينية إن كانوا في موطن ضعف ولا يستطيعون الدفاع عنها أو لا يطيقون الابتلاء المسبق لعدم كمال نضجهم العلمي والإيماني


      المصدر :
      facebook.com/topic.php?ui...276&topic=5590


      إلى الملتقى في قصة أخرى مع {أحسن القصص} دروس وعبر مع { قصة أصحاب الكهف} فإلى ذلك الملتقى أستودعكم الله حيث لا تضيع ودائعه..

      دمتم في حب الله ورحمته ووفقكم لطاعته
    • قصة أصحاب الكهف

      القصة الثانية : قصة أصحاب الكهف :

      هم فتية آمنوا بربهم.. فقد كان هؤلاء الفتية ـ بحسب ما جاء في بعض التفاسير ـ على دين المسيح عيسى عليه السلام وشريعته وقد ربط الله على قلوبهم فملأها قوة وشجاعة ولم يهابوا الملك الجبار "دقيانوس" حيث ظهر على بلدة من بلاد الروم بعد زمن عيسى عليه السلام ، وكان يدعو الناس إلى عبادة الأصنام ويقتل كل مؤمن لا يستجيب لدعوته الضالة حتى عظمت الفتنة على أهل الإيمان..
      وقد كان عادة هذا الملك أن يقوم برحلات حول أرجاء مملكته ليشاهد أتباعه وليفتن الناس وينظر هل يعبدونه ويعبدون آلهته؟ أم هل هم على دين المسيح عليه السلام؟!
      وفي إحدى رحلاته توجه إلى مدينة "طرطوس" وكان في هذه المدينة مؤمنون على دين المسيح عليه السلام ويكتمون إيمانهم ومنهم هؤلاء الفتية الأبرار ، ولم يكن بعضهم يعلم ببعض حتى هيأ الله لهم من لطفه فرصة يتعارفون فيها ويتطلع بعضهم على حقيقة البعض الآخر ، وذلك في عيد من أعياد قومهم الدينية التي اعتادوا فيها ان يخرجوا كلهم من مدينتهم ويتقربوا إلى آلهتهم بالقرابين ويذبحون لها ويقدمون لها من طعامهم ، فخرج الناس ولم يتخلف عنهم إلا المؤمنون المستترون ، ومن هؤلاء المتثاقلين عن الخروج وراء الناس أبطال قصتنا هذه.
      لقد جلس هؤلاء الشباب كل واحد على حاله ، جلس أحدهم في ظل شجرة يتفكر أسفاً في حالة قومه الضالين، فرآه الثاني وظن أن الذي أقعده عن الخروج مع الناس هو نفس الهم والأسف الذي في قلبه فتقدم منه فتعارفا وتصافحا وبث كل منهما لأخيه ما في قلبه ، ثم جاء الثالث فالرابع إلى تمام عدتهم التي يعلمها الله، فبث كل منهم ما في نفسه فإذا هم على دين الواحد الأحد الإله الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد، فاتخذوا لأنفسهم مكاناً سرياً يخلون فيه لعبادة ربهم فكانوا بعد ذلك يجتمعون مستخفين من قومهم..
      ولم يمض عليهم وقت طويل حتى حانت رحلة الملك الجبار "دقيانوس" ولم تسلم مدينتهم من فتنته فدخلها وأقام لهم مهرجاناً دينياً أمر جميع الناس بالخروج فخرجوا وجعلت جواسيس الملك يتعقبون المتخلفين ويفضحون أمرهم للملك فيقتل من يشاء ممن يأبى عبادة آلهته ، ويسجن ويعذب من يشاء منهم، حتى رفع إليه أمر هؤلاء الفتية فجيء بهم إليه فلما مثلوا عنده فرض عليهم أن يسجدوا لآلهته ، فأبوا ذلك وقالوا له : {لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذن شططا} (الكهف :14)..
      فغضب الملك وهددهم بالتعذيب والقتل فأصروا على الثبات على عقيدتهم فعزم على قتلهم لولا أن بهره ما رأى من هيئتهم الحسنة ونضارة شبابهم ونضارة وجوههم فأشفق على هذه الغصون الطرية أن تصهر في صباها فأمهلهم أياماً ليتفكروا في أمرهم وظن أنهم سيرجعون عن دينهم الجديد إلى وثنية أجدادهم الموروثة ، وما درى الجاهل أن بشاشة الإيمان إذا خالطت القلوب لن تزايلها وأنها لن يثنيها عن دينها تهديد بالقتل والصلب أو التعذيب ، فسلموا أمرهم لله الذي ربط على قلوبهم وزادهم الله هدى وثبتوا على إيمانهم ولم يرهبوا من تهديده إياهم..
      فتركهم وخرج إلى مدينة أخرى على أن يرجع إليهم بعد أيام ، وقد جردوا من ثيابهم ونزعت منهم خواتمهم الذهبية وزينتهم إهانةً لهم ، ومن لطف الله بهم أنه لم يقيدهم ولم يسجنهم وتركهم أحراراً وأمهلهم ليتفكروا في أمرهم .
      فجلسوا يتفكرون في طريقة تنجيهم من هذا الجبار الذي لا يرحم ، فاهتدوا أن يفروا في وقت يغفل فيه الناس إلى غار في جبل من الجبال القريبة من مدينتهم ، ففعلوا ذلك بعدما جمعوا لهم شيئاً من المؤونة لا يكفي إلا لأيام قليلة وقد قالوا إن قومنا هؤلاء يعبدون آلهة من دون الله خالق السماوات والأرض ما لهم من سلطان بين بل هم يفترون على الله الكذب ، ولا أحد أظلم ممن أفترى على الله الكذب ، تبرأنا منهم ومن عبادتهم ونبذنا شركهم فلنعتزلهم في سكنهم ولا نخالطهم ، ولنأو إلى الكهف لعل الله يرحمنا ويهيئ لنا من أمره مرفقاً ، فقد أحسنوا الظن حين أحسنوا العمل فكان الله عند حسن ظنهم فلم يخيبهم فنشر الله لهم رحمته وهيأ لهم من أمرهم رشداً ومرفقاً وكذلك ينجي الله المؤمنين ويجعل الله للمتقين مخرجاً من كل ضيق ويفتح بينهم وبين قومهم بالحق وهو خير الفاتحين .
      أخذ كل منهم مقداراً من الدراهم وكانوا أولاد أغنياء فذهبوا في الموعد المضروب إلى المكان المقصود خرجوا مستخفين لا يشعر بهم أحد إلا كلباً لأحدهم كان قد رباه وألفهم فتبعهم فطردوه ورموه بالحجارة فأنطقه الله فقال لهم : ما الذي يخيفكم مني؟ اتركوني اتبعكم فإني أحبكم يا أولياء الله أتركوني أحرسكم ، فتركوه.
      ومضوا سائرين وكلبهم يتبعهم حتى وصلوا إلى الكهف المقصود فأووا إليه ومكثوا فيه أياماً يعبدون الله يصلون له ويسبحون ويصومون ويفطرون على بلغة الأقوات وإذا نفذ زادهم بعثوا أحدهم إلى المدينة مستخفياً في ثياب أحد الرعاة يشتري لهم طعاماً ، ويتنطس لهم الأخبار ، وهم على ذلك حتى رجع الملك من جولته ودخل المدينة ثاني مرة واقترب الموعد المضروب لهم ، ففتش عنهم فلم يجدهم ، وأمر بإحضار آبائهم فأمر الآباء بإحضار الأبناء وتوعدهم بالعقاب إن لم يفعلوا ، فاعتذروا بأنهم لا يعلمون من أمرهم شيئاً وأنهم متحيرون على مصيرهم وأنهم آسفون غير راضين على هذا التصرف ، وقد يكون هؤلاء الآباء من الذين يكتمون إيمانهم وأنهم راضون على أبنائهم داعون لهم بالرحمة والتوفيق..
      ثم إن الملك "دقيانوس" أمر قواته بالتفتيش عنهم فسلكوا في ذلك كل سبيل وصعدوا الجبال وتتبعوا كهوفها وشعابها حتى عثروا على الكهف الذي أوو إليه ووقفوا على بابه وأبصروا وهم رقود وكلبهم باسط ذراعيه نائم بباب الغار ولكن الله إذا أدخل من يشاء من عبيده في حرزه فلن تناله الأيدي ولو كانت بطاشة وقوية ، حفظهم بحفظه وحرسهم بجند من الرعب ألقاه في قلوب من يطلع عليهم ، وما يعلم جنود ربك إلا هو ، فتولى الملك ومن معه فارين مرعوبين لا تنفعهم قوتهم ولا يغنى كيدهم شيئاً.
      كانت هيئتهم وهم نيام كهيئة الأيقاظ على هيئة حسنة لا تنكشف لهم سوءة ولا يبدوا فيهم شعث وهم يتقلبون بأمر الله حتى لا تتآكل جنوبهم من هذا الرقاد الطويل ولا يضرهم حر ولا قر ولا ريح صر وحتى كلبهم شملته عناية الله ولطفه وهو الآخر آية من آيات الله ينام هذا النوم الطويل باسطاً ذراعيه على باب الغار يحفظه الله كما يحفظهم من تقلبات الأجواء الجبلية عبر الفصول المتعاقبة ، من يراه باسطاً ذراعيه يرهبه ويظنه أسداً ترتعب منه النفوس ، وترتعد منه الفرائص فيولي فاراً بنفسه خائفاً .. والشمس تميل عند طلوعها عن يمين الكهف وتقطعهم ذات الشمال عند غروبها وهم في براح واسع لا يزحم بعضهم بعضاً .
      ومن آيات الله العجيبة أن بعثهم من نومهم على هيئتهم الأولى من الصحة والنضارة والشباب بعد هذه القرون المتعددة ، لم ينل الدهر منهم شيئاً ، فذلك من آيات الله . وحكمة هذا البعث أن يشعروا بلطف الله بهم واستجابته لدعائهم وليزدادوا إيماناً على إيمانهم بعد أن يعرفوا قدرة ربهم وعنايته بهم في إنامتهم هذه المدة الطويلة ، وبعثهم منها فيزدادوا يقيناً بالبعث ، وكذلك يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، فالقصد من هذا البعث الأول هو التذكير بالبعث الآخر ، ليتساءلوا بينهم ، ثم تنكشف لهم الحقيقة بعد التساؤل .
      استيقضوا من نومهم قبيل غروب الشمس وكانوا قد ناموا في صدر النهار فشعروا بالراحة فظنوا أنهم ناموا أكثر من يوم وقال بعضهم: بعض يوم أي من الصباح إلى المساء غير أنهم لم يطمئنوا لهذا القول وبقوا حائرين في أمرهم لا يدرون الحقيقة ولن يتركهم الله في هذه الحيرة ، بل سيكشف لهم جلية أمرهم .
      فأرسلوا واحداً منهم إلى المدينة ليشتري لهم طعاماً وأوصوه أن يلتطف ولا يشعرن بهم أحداً من الناس ظناً منهم أن أهل المدينة هم الذين تركوهم في غلبة وقهر من الكفر فخافوا إن هم ظهروا عليهم _ أي كشفوا على أمرهم _ سيرجموهم أو يعيدوهم في ملة الكفر بالإكراه والفتنة ولا يأمنوا على أنفسهم الفتنه فإنهم إن يفتنوا على دينهم لن يفلحوا أبداً ، والذي خافوه من العودة إلى الكفر أعظم من الذي خافوه من الرجم والقتل ، فإنهم علقوا الخسران الدائم وعدم الفلاح على الثاني لا على الأول ، وما دروا هؤلاء الفتية أن الله قد هيأ لهم من أمرهم مرفقاً كما هيأ لهم من أمرهم رشداً.
      بعثوا أحدهم بدراهم فضية من بعض ما أحتفظوا به لقوتهم وأمروه أن يقتصد ويلتمس لهم من أزكى الطعام ومن أبركه وأرخصه وأطهره لأنهم عهدوا أن أهل مدينتهم يذبحون لأصنامهم وقد علموا أن ما ذبح عليها حرام في شريعة الله التي آمنوا بها ، أرسلوه وأوصوه أن يبالغ في التلطف.
      فذهب إلى المدينة فإذا الناس غير الناس الذين تركهم تغيرت الوجوه وتغيرت كثير من المعالم حتى ظن أنه ظل طريقه ، فسأل عن اسم المدينة فإذا هو "طرطوس" لم يتغير فأستغرب أمرهم فسأل عن الملك فإذا هو اسم جديد وسأل عن الملك "دقيانوس" فاستغرب الناس وقالوا: ذلك ملك مضى ، ومضى زمانه ، وطوته القرون فلم يبق له أثر.
      ثم قصد السوق ليشتري الطعام ولما دفع النقود للبائع جعل يقلبها في يده ويقول: من أين حصلت على هذه النقود؟ واجتمع الناس وأخذوا ينظرون إلى تلك النقود ويعجبون ، ثم قالوا: من أنت يا فتى لعلك وجدت كنزاً ؟
      فقال: لا والله ما وجدت كنزاً إنها دراهم قومي.
      قالوا له: إنها من عهد بعيد ومن زمن الملك "دقيانوس"..
      وكثر التساؤل وظنوا أنه أكتشف كنزاً قديماً فأشتد طمعهم أن يقفوا على هذا الكنز ، وبعد المحاولة ارتفع أمرة إلى أهل السلطة فأقبلوا عليه يسألونه عن جلية أمره فأخبرهم وقد إطمأن على نفسه لما وجد أكثرهم مؤمنين ويحكمهم ملك مؤمن .
      قال : والله ما يصدقني أحد بما أقوله.. لقد كنا فتية وأكرهنا الملك على عبادة الأوثان فهربنا من عشية أمس فآوينا إلى الكهف فأرسلني أصحابي اليوم لأشتري لهم طعاماً فانطلقوا معي إلى الكهف أريكم أصحابي..
      فتعجبوا من كلامه ورفعوا أمره إلى الملك _ وكان مؤمناً صالحاً _ وقد كثر الجدل في زمانه في أمر البعث فاعتزلهم الملك ولبس مسوح العبادة فرغب إلى الله أن يثبته ويعينه عليهم، فأرسل الله له هذا الشخص من أهل الكهف الذين كثر فيهم الجدل ليظهر الله له على يده أمر البعث وتظهر آية الله في نوم هؤلاء الناس قروناً عديدة ثم يبعثون على حالتهم الأولى، ليدل نومهم وبعثهم على قدرة الله .
      ثم إن الملك ورعيته رافقوا ذلك الشاب إلى الغار ولما سمع أصحابه أصوات وجلبة الخيل ظنوا أنهم رسل "دقيانوس" فقاموا إلى الصلاة فدخل الملك عليهم فرآهم يصلون فلما انتهوا عانقهم وأخبرهم أنه رجل مؤمن وأن "دقيانوس" قد هلك من زمن بعيد وسمع كلامهم وقصتهم وعرف أن الله بعثهم ليكون أمرهم آية للناس..
      ثم إن الله أعادهم إلى نوم آخر وهو النوم الذي لا بعث بعده حتى تقوم الساعة ، قبض الله أرواحهم إليه وآواهم إلى رحمته وجعلهم آية للناس. وبعد موتهم قرر الملك أن يقيم مسجداً تذكيراً واتعاضاً بقصتهم.



      المراجع :
      تفسير سورة الكهف للشيخ العلامة بيوض إبراهيم ، التفسير الموضوعي للقرآن الكريم "تفسير سورة الكهف" د. محمد البهي ، تفسير القرطبي مجلد6 ، صفوة التفاسير العلامة محمد علي الصابوني ج2 ، تفسير القرطبي لأبي عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ج6 ، معالم التنزيل في التفسير والتأويل ج3 ص316 ـ 323
    • الدروس والعبر من قصة أصحاب الكهف :

      لا ينبغي أن نمر على قصص القرآن مروراً سريعاً إنما يجب علينا أن نتفكر ونتدبّر ما فيها من العظات والعبرة وأن نستخلص الدروس والحكم لتكون نبراساً نسير على هديه ونستضيء بنوره وإلاّ كنا كمثل الحمار يحمل أسفاراً ومن الدروس والعبر والعظات والحكم المستفادة من قصة أصحاب الكهف ما يلي:


      1) * أسباب النزول :
      قد وردت قصة أهل الكهف ـ حسب ما أوردت بعض التفاسير ـ نتيجة لسؤال كفار مكة الذين أرادوا أن يحرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويروى أنهم أرسلوا رجلين منهم هما : النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أهل الكتاب في المدينة ليسألوهم عن صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وما خبره عندهم وما ورد عنه في كتبهم .
      وقد كان يهود المدينة قبل البعثة يتوعدون الأوس والخزرج عباد الأصنام ببعثة النبي الجديد يقولون : لقد أطل زمان نبي نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم لذلك رغب أهل مكة في سؤال يهود المدينة عن صدق رسول الله فلما ذهب الرجلان إلى يهود المدينة قالوا : إن أردتم معرفة صدق محمد فاسألوه عن ثلاثة أشياء فإن أجابكم فهو صادق اسألوه : ما قصة القوم الذين ذهبوا في الدهر مذاهب عجيبة؟ وما قصة الرجل الطواف الذي طاف الأرض شرقاً وغرباً ؟ وما الروح؟
      وفعلاً ذهب الرجلان إلى رسول الله وسألاه هذه الأسئلة فقال صلى الله عليه وسلم : <<أخبركم بما سألتم عنه غداً>> وجاء غد وبعد غد ومرت خمسة عشر يوماً دون أن يوحى لرسول الله شيء من أمر هذه الأسئلة فشق ذلك على رسول الله وكبر في نفسه أن يعطي وعداً ولا ينجزه.
      وقالوا : إن سبب إبطاء الوحي على رسول الله في هذه المسألة أنه قال: << أخبركم بما سألتم عنه غداً>> ولم يقل: إن شاء الله ولذلك خاطبه ربه تبارك وتعالى بقوله : {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً * إلا أن يشاء الله} (الكهف : 23 ـ 24)"1"..


      2) * عجائب صنع الله كثيرة لا تعد ولا تحصى :
      {أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً}؟(الكهف : 9).. ليس في قصة أصحاب الكهف بأعجب من آيات الله بالمقارنة بخلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار وآيات الأنفس والآفاق وعالم النبات وعالم البحار فضلا عن عالم الغيب وما فيه من حكم وأسرار ودقائق وأخبار وغير ذلك من عجائب صنع الواحد القهار والتي لا حدود لها.
      وفي هذه الآية يخبر الله سبحانه وتعالى نبيه بأنه إذا سألك كفار مكة عن مسألة أصحاب الكهف على أنها معضلة يريدون إحراجك بها فدعك من كلامهم ودعك من سوء نيتهم ولا تحسب أن أهل الكهف هي العجيبة الوحيدة لدينا فالعجائب عندنا كثيرة وقصة أصحاب الكهف واحدة منها..
      قال الرازي : (اعلم أن القوم تعجبوا من قصة أصحاب الكهف وسألوا عنها الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل الامتحان فقال تعالى : أم حسبت أنهم كانوا عجباً من آياتنا فقط ، فلا تحسبن ذلك فإن آياتنا كلها عجب ، فإنه من كان قادراً على خلق السموات والأرض وتزيين الأرض بأنواع المعادن والنبات والحيوان ثم بعد ذلك يجعلها صعيداً جرزاً خالية عن الكل كيف يستبعدون من قدرته وحفظه ورحمته حفظ طائفة مدة ثلاثمائة سنة وأكثر في النوم ، هذا هو الوجه في تقرير النظم والله أعلم)"2"..
      ويقول الشيخ محمد الأمين : (أن الله سبحانه وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : إن قصة أصحاب الكهف وإن استعظمها الناس وعجبوا منها فليست شيئاً عجيباً بالنسبة إلى قدرتنا وعظيم صنعنا فإن خلقنا السماوات والأرض وجعلنا ما على الأرض زينة لها وجعلنا إياها بعد ذلك صعيداً جرزاً ـ أعظم وأعجب مما فعلنا بأصحاب الكهف ومن كوننا أنمناهم هذا الزمن الطويل ثم بعثناهم ويدل هذا الذي ذكرنا آيات كثيرة :
      منها : أنه قال : { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها } (الكهف : 7) إلى قوله : { صعيداً جرزاً} ( الكهف : 8) ثم أتبع ذلك بقوله : { أم حسبت أن أصحاب الكهف} (الكهف : 9) فدل ذلك على أن المراد أن قصتهم لا عجب فيها بالنسبة إلى ما خلقنا مما هو أعظم منها.
      ومنها أنه يكثر في القرآن العظيم تنبيه الناس على أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق الناس ومن خلق الأعظم فهو قادر على الأصغر بلا شك كقوله تعالى : { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس...} (غافر: 57) وكقوله : { ءأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها} (النازعات : 27) إلى قوله : { متاعاً لكم ولأنعامكم} (النازعات : 33)..
      ومن خلق هذه المخلوقات العظام كالسماء والأرض وما فيهما فلا عجب في إنامته أهل الكهف هذه المدة الطويلة ثم بعثه إياهم كما هو واضح)"3"..


      3) * الأرواح جنود مجندة :
      "لقد جلس هؤلاء الشباب كل واحد على حاله ، جلس أحدهم في ظل شجرة يتفكر أسفاً في حالة قومه الضالين، فرآه الثاني وظن أن الذي أقعده عن الخروج مع الناس هو نفس الهم والأسف الذي في قلبه فتقدم منه فتعارفا وتصافحا وبث كل منهما لأخيه ما في قلبه ، ثم جاء الثالث فالرابع إلى تمام عدتهم التي يعلمها الله، فبث كل منهم ما في نفسه فإذا هم على دين الواحد الأحد الإله الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد، فاتخذوا لأنفسهم مكاناً سرياً يخلون فيه لعبادة ربهم فكانوا بعد ذلك يجتمعون مستخفين من قومهم"..
      يقول الرسول صلوات ربي وسلامه عليه: << الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف>> يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير و الشر و الصلاح و الفساد وأن الخير من الناس يحن إلى شكله و الشرير نظير ذلك يميل إلى نظيره فتعارف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جبلت عليها من خير و شر فإذا اتفقت تعارفت ، و إذا اختلفت تناكرت كما حدث لأصحاب الكهف عندما تعارفت أرواحهم فأتلفت واتحدت أفكارهم..


      4) * سنة الله في الأرض الإبتلاءات والمحن والفتن للمؤمنين :
      وكما قلنا في الدروس والعبر في القصة الماضية "إن لله سنة في خلقه لن تتبدل وقانوناً ثابتاً لا يتحول . إن الله يربي عباده بالمحن ويصقل جواهرهم بالابتلاء ويصفي نفوسهم بالاضطهاد حتى لا تعرف إلا إياه ولا ترجع إلا إياه ولا تعتمد إلا عليه ولا تفزع إلى سواه ولا تنظر إلى غيره ولا تدعو إلا إياه وحتى ترسل الزفرات الحارة والدعوات الصارخة"..
      (وإن الرضا بالقدر يذهب المحن ويخفف من حدة الإبتلاءات فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : <<الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن>> وهذا سبيل محبة الله للعبد قال تعالى : { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم} (التغابن : 11) ومما يدعو المؤمن إلى مجاوزة المحن والتغلب على الإبتلاءات تحقيق إيمانه بمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم :<<لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وليس ذلك إلا للمؤمن>> فمن وصل إلى هذه الدرجة ونال تلك المنزلة كان عيشه كله في نعيم وسرور { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } (النحل : 97) وفي الصبر على مواجهة المحن خير كثير وفضل عظيم فإن الله أمر به ووعد عليه الأجر الكبير قال تعالى : {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} (البقرة : 155 ـ 157)..
      إن المحن التي تنزل على المرء تزول بذكر الله {ألا بكر الله تطمئن القلوب} (الرعد: 28) كما أن تقوى الله خير معين على تحمل الصعاب وهي منجاة من المهالك والكروب يقول الله سبحانه وتعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل لكل شيء قدراً} (الطلاق : 2 ـ 3)"4"..
      فمن أراد أن يزول كربه ويذهب همه فعليه بذكر الله وطاعته ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بهذا الدعاء : <<اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال>>..


      5) * رحمة الله وسعت كل شيء :
      ما من نعمة أنعم الله بها على عباده إلا وهي أثر ممن آثار رحمته ، فالصحة والمال والزوجة الصالحة والأبناء الصالحون من رحمة الله والعلم والهداية وراحة الضمير من رحمة الله والتوفيق في الحياة والإهتداء إلى ما ينفع وما يضر من رحمة الله تعالى ومن رحمة الله أنه سخر جميع ما في الكون لمنافع عباده قال الله تعالى : { الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار * وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} (إبراهيم: 32 ـ 34)..
      (حينما ينجى الله قوماً من ملك ظالم يقول الناس أن "الله قد رحمهم". وحينما ينجى الله إنساناً من مصيبة تشتت عليه شمله يقولون أيضاً : "الله قد رحمه" وكذلك إذا نجى من مرض لعين أو داء وبيل. فالنجاة من الظلمة والأرزاء والمصائب صورة جميلة لطيفة من صور رحمة الله التى وسعت كل شىْ يقول تعالى : {ولوطاً آتيناه حكماً وعلماً ونجيناه من القرية التى كانت تعمل الخبائث , إنهم كانوا قوم سوء فاسقين * وأدخلنه فى رحمتنا} (الأنبياء : 74 ـ 75) .. وأيوب ينادى ربه بالرحمة لكى ينجيه من الضر .. فيقول: { وأيوب إذ نادى ربه أنى قد مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا} (الأنبياء:84).. ويقول الله عن إسماعيل وإدريس بعدها بآية : {وأدخلناهم فى رحمتنا إنهم من الصالحين} (الأنبياء: 86).. ويقول الله فى سورة يس أنه يمنع غضبه عن أولئك العاصين المكذبين الذين يرون آياته فى الكون ولا يؤمنون إلى وقت معلوم { إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين } (يس :44).. كما يقول فى سورة المؤمنون أن الناس تسىْ استعمال رحمة الله حين كشف الضر للعودة إلى الطغيان مرة أخرى { ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجو فى طغيانهم يعمهون } (المؤمنون:75}.. ونفس المعنى تجده فى سورة يونس: { وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر فى آياتنا} (يونس:21).. وكذلك فى سورة الروم : { وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون} (الروم: 33)..
      فالشاهد من هذه الاستدلالات أن رحمة الله هى النجاة والإنقاذ من الضر : والضر هذا.. قد يكون : مرضا مهلكا أو مصابا فادحا أو صديقا جاهلا , أو حاكما ظالما.. الخ)"5"..

    • 6) * الغفلة والنسيان :
      الغفلة هي "متابعة النفس على ما تشتهيه وقيل : الغفلة عن الشيء هي ألا يخطر ذلك بباله " والنسيان هو "الغفلة عن معلوم في غير حالة السنة فلا ينافي الوجوب أي نفس الوجوب ولا وجوب الأداء وقد قال تعالى في بيان هذا المرض: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُون } (التوبة: 67) كما كشف القرآن الكريم عن معالم هذا المرض حيث قال تعالى : { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } (المجادلة: 19)0 وهذا وصف من القرآن الكريم في هذه الآية لأهل الدنيا والمنكبين عليها بأن استولى عليهم فأنساهم ذكر الله حتى أنهم لا يذكرونه بقلوبهم و لا بألسنتهم فأولئك حزب الشيطان وجنوده وأتباعه { ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} (المجادلة : 19) لأنهم فوتوا على أنفسهم النعيم المؤبد وعرضوها للعذاب المخلد وقد عالج القرآن هذا المرض بعدة وسائل :
      1 ـ الذكر : قال تعالى : { إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً } (الكهف: 24). فهذا توجيه من الله عز وجل بتمرين النفس على ذكر الله عز وجل، فمتى نسي الإنسان ذكر ربه فيجب عليه بمجرد التذكر المبادرة إلى الذكر والاستغفار تلبية لنداء الله عز وجل.
      2 ـ معرفة العقاب الذي يترتب على النسيان : وذلك يورث الخوف والوجل منه والحرص على الابتعاد عنه ولا بد لنا في هذا المقام من التفريق بين النسيان الذي هو من طبيعة النفس البشرية وهذا النوع ليس محاسب عليه صاحبه وبين النسيان الذي يعود سببه لتخلي عن منهج الله القويم ولركون إلى الدنيا وشهواتها يقول تعالى { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (لأعراف: 179). فهذا تهديد من الله عز وجل غليظ لمن اتصف بالغفلة والاستغفال لأنه سيكون وقود وحطب وذرء لجهنم، وقد علل القرآن سبب ذلك لأنه لم يفقه بقلبه الهدى ولم يبصر بعينه الحق ولم يسمع بأذنه داعي الله عز وجل فكان حقاً عليه أن يكون من أصحاب النار.
      يقول أحمد محمد الشرقاوي : ( فلكم يغفل كثير من الناس عن النعم الظاهرة والآيات الباهرة لكونها مألوفة لهم بل وقد يغفلون عن شكر النعم الظاهرة كنعمة السماء والأرض والشمس والقمر والليل والنهار.
      فيا عجبا كيف يعصى الإله
      أم كيف يجحده الجاحد
      ولله في كل تحريكــة
      وتسكينة في الورى شاهد
      وفي كل شيء له آية
      تدل على أنه واحد
      )"6"..


      7) *لابد من كل حجة دليل وبرهان :
      يقول سبحانه وتعالى على لسان أصحاب الكهف: { لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّن} (الكهف : 15) فالدعاوى لا بد لها من بينات ، وينبغي على كل من جاء برأي أو قول لا أصل له ولا برهان له به أن يأتي بالدليل إثباتاً لما ادعاه وإلا فهو مُدّعٍ .
      قال الرازي : ( فثبت أن الاستدلال بعدم الدليل على عدم المدلول طريقة قوية )"7"..
      وقال صاحب روح البيان : ( وفيه دليل على أن ما لا دليل عليه من الديانات مردود ، والآية إنكار وتعجيز وتبكيت لأن الإتيان بالسلطان على عبادة الأوثان محال )"8"..
      إذن لابد لكل فكرة أو مبدأ من دليل أو برهان وإلا سقط في أول لقاء { لولا يأتون عليهم بسلطان بيّن} (الكهف : 15) وإذا لم يكن هناك حجة قوية أو دليل ساطع فهو ضعيف ، ولن تقنع أحداً بفكرتك إن لم تؤيدها بالنور الساطع الذي يكشف الغشاوة عن العيون وينير سبيل الحق . أما فرض الفكرة بالقوة والإرهاب المادي فدليل على الإفلاس وضحالة ما تدعو إليه وُيعَدّ افتئاتاً على الحق وظلماً له { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً} (الكهف : 15) فالميل عن الحق افتراء على الله وتضليل للناس..
      لقد قال الفتية بعضهم لبعض هؤلاء قومنا عبدوا الأصنام تقليداً من غير حجة هلا يأتون بحجة وأقاموا البينة على عبادتهم الصنم وعلى كونها آلهة وإذا لم يمكنهم ذلك لم يجب أن يلتفت إلى دعواهم.. فيبدوا موقف الفتية واضحاً صريحاً حاسماً لا تردد فيه ولا تلعثم إنهم فتية أشداء في أجسامهم أشداء في إيمانهم أشداء في استنكار ما عليه قومهم.


      8) * صفاء العقيدة بشكر المنعم وذكره :
      الشكر خلق كريم وهو ظهور أثر نعمة الله سبحانه وتعالى على لسان عبده ثناء ومعرفة وعلى قلبه شهوداً ومحبة وعلى جوارحه انقياداً وطاعة ومن ثم قرن الله تعالى الشكر بالإيمان ورفع بوجودهما العذاب ودفع بسببهما العقاب فقال : { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم} (النساء : 147)..
      لقد اجتمعت كلمة أصحاب الكهف وتوحدت دعوتهم فقالوا جميعاً بألسنتهم وقلوبهم { رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} (الكهف : 14) فهو تعالى المتفرد بالربوبية فلا رب غيره وهذا دليل على تفرده عز وجل بالألوهية فلا معبود سواه..
      والعجيب أن المشركين بالله تعالى يقرون له بالربوبية ومع ذلك يشركون به آلهة أخرى . فعلى الإنسان أن يذكر الله على هدايته، وأن يشكره لما أولاه من نعمه ونعمته..
      إن الجاحد لنعم الله متعرض لزوالها والشاكر للنعم ممسك بحبالها ولا شيء أذهب للنعم ولا أدعى إلى حلول النقم من عدم الشكر وقلة الذكر { وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} (إبراهيم : 7) وحقية الشكر أنه فعل ينبئ عن تعظيم الشاكر للمشكور على نعمه والثناء عليه بما أولاه من الإحسان والمعروف { ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون} (يوسف : 38) فهل يليق بمن يفهم هذا الخطاب الأعلى أن يرى نعم الله عليه لا تعد ولا تحصى ثم لا يشكره؟!
      لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله علنه : << يا معاذ إني أحبك في الله فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك>>..


      9) * الدعاء واللجوء إلى الله تعالى سمة المؤمن :
      إن الدعاء عبادة الصادقين ومناجاة الصالحين وطاعة المخلصين والله سبحانه وتعالى عون ونصير كل من يدعوه ويلجأ إليه لهذا إلتجأ الفتية إلى الله بالدعاء فقالوا بدعاء صادق من قلوب خالصة ونفوس زكية ترجو رحمة ربها وتلتمس رشده { ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً } (الكهف : 10) فلما لجؤوا إليه داعين وأسلموا قيادهم له سبحانه واعتمدوا عليه آواهم الله وحفظهم إذ دلهم على الكهف وأغدق عليهم مما طلبوا من الرحمة والهدى والرشاد { فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً } (الكهف : 16) فكان أن عمهم الله بفضله وشملهم برحمته وأحاطهم بعنايته . وهكذا العلاقة بين العبد وربه ومن لجأ إلى ربه واعتمد عليه ثبته الله وأيده.
      يقول أحمد محمد الشرقاوي : (وفي هذا درس عملي للدعاة والمصلحين أن لا يغفلوا عن سلاح الدعاء مع مراعاة الأدب مع الله وانتقاء العبارات المناسبة فلكل مقام مقال وفي القرآن الكريم والسنة النبوية أدعية مباركة لها دلالتها وخواصها وآثارها وفعاليتها فأهل الكهف التمسوا أمرين مهمين هما رحمة الله بهم وإرشاده لهم وفي طلبهم للرحمة مع الرشاد ما يدل على أنهم ماضون في طريق الحق ثابتون عليه مهما كلفهم من تضحيات.
      وتتجلى أهمية هذا الدعاء للدعاة والمصلحين حين يواجهون المحن والابتلاءات والفتن والعقبات أو تتشعب بهم الآراء أو يقفون على مفترق الطرق)"9"..
      وليتذكر الداعي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : <<من سره أن يستجيب الله تعالى له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء>> وذلك لأن إكثار الدعاء في وقت الرخاء يدل على صدقه في عبوديته لربه والتجائه إليه في جميع أحواله وشتى أموره وأنه يذكره في السعة والرخاء كما يذكره في الشدة والبلاء ويتوجه إليه دوماً ليكون عدة له أبداً وأما من يغفل عن مولاه في حالة رخائه ويلجأ إليه وقت بلائه فهو عبد نفسه وهواه وأنا يستجاب له!!..
      ونرى كيف أستجاب الله لدعاء الملك الصالح عندما أختلف قومه في البعث فمنهم من قال : يبعث الناس في أجسادهم وكان الملك من ضمنهم وهم قلة قليلة أما الأغلبية فقالوا : تبعث الأرواح بغير أجساد وقد حزن الملك حزناً شديداً لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون لا حياة إلا حياة الدنيا وإنما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد وجعلوا يكذبون بالساعة حتى كادوا أن يحولوا الناس عن الحق وملة الحواريين فلما رأى ذلك الملك الصالح دخل بيته وأغلقه عليه ولبس مسحاً وجعل تحته رماداً فجلس عليه فدأب ليله ونهاره زماناً يتضرع إلى الله تعالى ويقول : أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث إليهم آية تبين لهم بطلان ما هم عليه فبعث الله أصحاب الكهف آية ليعلمهم أن الناس يبعثون في أجسادهم. وإستجابة لدعاء عبده الصالح ويتم نعمته عليه وأن يجمع من كان تبدد من المؤمنين..


      10) * { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} (العنكبوت : 2) :
      لقد كان الملك الطاغية يعبد الأصنام ويذبح للطواغيت ويقتل كل من يخالفه وكان ينزل قرى الروم ولا يترك في قرية نزلها أحد إلا فتنه حتى يعبد الأصنام ويذبح للطواغيت فكلما نزل قرية يأمر بأن يتبع أهل الإيمان ويجمعوا له وقد اتخذ شرطاً من الكفار من أهلها بأن يتبعوا أهل الإيمان في أماكنهم ويخرجونهم إلى الملك الطاغية فيخيرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فمنهم من يرغب في الحياة ومنهم من ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيقتل..
      وهذا حال الطواغيت والطغاة في كل أمة وكل زمن ولقد جعل الله سبحانه وتعالى هؤلاء الجبارين والطغاة المتكبرين أداة تعذيب وتنكيل لأتباع دينه والمخلصين من أبناء الإنسانية وذلك لحكمة قد تغيب عن عقولنا أو ليختبر صبرهم ويبلو إيمانهم حتى يتميز من يدعي الإيمان بلسانه ومن هو على الحق واليقين بقلبه قال تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} (البقرة :214) وقال سبحانه : { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمعن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } (النعكبوت : (2 ـ 3)..

    • 11) * التضحية والبطولة والفداء:
      إن قصة أهل الكهف تمثل صور التضحية والبطولة والفداء في سبيل العقيدة

      ـ الثبات على الحق برغم المغريات والتحديات :
      ثبات هذه المجموعة من الشباب على الإيمان والحق مهما كان التحدي فيقول سيد قطب : ( إنما هم فتية تبين لهم الهدى وسط ظالم كافر ولا حياة لهم في هذا الوسط إن هم أعلنوا عقيدتهم وجاهروا بها وهم لا يطيقون كذلك أن يداروا القوم ويداوروهم ويعبدوا ما يعبدون من الآلهة على سبيل التقية ويخفوا عبادتهم لله . والأرجح أن أمرهم قد كشف فلا سبيل لهم إلا أن يفروا بدينهم إلى الله وأن يختاروا الكهف على زينة الحياة)"10"..
      إن أهل الحق في كل زمان ومكان هم أعظم الناس صبراًَ على أقوالهم ومعتقداتهم، وأعظم صبراً على فتن الدنيا وملذاتها وإن أصابهم في سبيل ذلك ما أصابهم، وهذا هو الثبات على الحق.
      ولقد كان الثبات على الحق سيما أهل الحق منذ أبينا آدم عليه السلام حتى يومنا هذا ولا ننسى بداية الدعوة الإسلامية حين جهر النبي بدعوته فاستجاب له نفر قليل، فابتلوا وعذبوا وساومهم الأعداء ليرتدوا عند دينهم فما زادهم ذلك إلا ثباتاً واستمساكاً بالحق الذي هداهم الله إليه.
      وإن الله لا بد أن يبتلي المؤمن، فإن صبر رفع درجته كما قال تعالى: { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت: 2-3). وقال تعالى: { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} (السجدة :24). وقال تعالى: { والعصر*إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} (سورة العصر : 1ـ 3). ولا شك أن الفتن التي يتعرض لها المؤمنون في هذه الأزمنة المتأخرة كثيرة متنوعة، فهناك فتن الشبهات والشهوات، وفتنة المال والجاه، وفتنة الشهرة، وهناك فتنة غلبة الظلمة والطواغيت وما يمارسونه مع المؤمنين من سجن واعتقال وتعذيب وتكذيب ووأحياناً مغريات وحوافذ ورشاوى وغير ذلك من الفتن الكثيرة حتى يرجعوا عن فكرهم ويبتعدوا عن خالقهم نسأل الله العافية.
      ولأن القلوب تتقلب فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه الثبات على الحق: <<يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك>>..

      ـ عدم الإنخداع بالدنيا وزينتها :
      لما بين الله سبحانه وتعالى أن ما على الأرض من زينة إنما هو للابتلاء والامتحان الذي يبرز معادن الناس ويجلي عن قصدهم وهمتهم نحو العمل الصالح قال تعالى { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} (الكهف : 7 ـ 8) لما بين الله تعالى ذلك ضرب أمثلة تكشف عن موقف الناس من زينة الدنيا فبدأ بقصة أصحاب الكهف الذين لم يغتروا بزينة الشباب وزينة الأهل والعشيرة وزينة الأبهة والسلطان بل تركوا كل هذه الملذات وأعرضوا عن جميع الإغراءات وهجروا الأهل والخلان في سبيل الله جل في علاه .
      وعدم الوقوع تحت إغراء الحاكم وسلطانه يقول الشهيد سيد قطب : ( فتعرض نموذجاً للإيمان في النفوس المؤمنة كيف تطمئن به وتؤثره على زينة الأرض ومتاعها وتلجأ به إلى الكهف حين يعز عليها أن تعيش به مع الناس )"11"..
      لقد أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وغيره أسوته في الأوامر والنواهي أن يصبر نفسه مع المؤمنين المنيبين {الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الكهف:28). وحذره من زهرة الدنيا والركون إلى المترفين الذين غفلوا عن ذكر الله {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (الكهف:28).
      فقد ضيّعوا مصالح دينهم ودنياهم وأعرضوا عن دين الله واتبعوا أهوائهم وضيّعوا أمر الله فويلٌ لهم من عذاب أليم ونارٍ وجحيم تحيط بهم من كل جانب فلا يستطيعون الخروج منها {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً} (الكهف:29) إنها ساءت مستقراً ومقاماً .
      أمَّا أهل الإيمان الذين أجابوا داعي الله ، وآمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات والواجبات والمستحبات فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} (الكهف:31) . وهي السرر المجملة بالثياب الفاخرة { نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} (الكهف:31))..


      12) * الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
      المعروف : يطلق المعروف على كل ما تعرفه النفس من الخير وتطمئن إليه فهو معروف بين الناس لا ينكرونه . وقيل : هو ما عرف حسنه شرعاً وعقلاً.
      المنكر: ضد المعروف وهو ما عرف قبحه شرعاً وعقلاً وسمّي منكراً لأن أهل الأيمان ينكرونه ويستعظمون فعله.
      والمعروف يدخل فيه كل ما أمر الله به ورسوله من الأمور الظاهرة والباطنة مثل: شرائع الإسلام والإيمان بالله والصلوات الخمس والزكاة والحج والإحسان في عبادة الله وإخلاص الدين لله والتوكل عليه ومحبته ورجائه وغيرها من أعمال القلوب وصدق الحديث والوفاء بالعهود وأداء الأمانات وبر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجار واليتيم ومكارم الأخلاق.‏
      والمنكر يدخل فيه كل ما نهى الله عنه ورسوله مثل: الشرك بالله صغيره وكبيره..
      وكبائر الذنوب: كالزنا والقتل والسحر وأكل أموال الناس بالباطل..
      والمعاملات المحرمة: كالربا والميسر والقمار..
      وقطيعة الرحم وعقوق الوالدين، وسائر البدع الاعتقادية والعملية، وغير ذلك مما نهى الله عنه ورسوله.
      ونرى في هذه القصة كيف واجه أصحاب الكهف أرباب الحكم من الوثنيين بنقد ما هم عليه من اعتقاد باطل فضلاً عن عدم مسايرتهم في دينهم أي عدم طاعتهم فيما أفرطوا فيه من طغيان واتباع الهوى..
      أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب من أسباب هلاك الأمم والشعوب قال الله : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود :117). فالأمة إذا كان فيها مصلحون ودعاة فإن الله لا يعذبها ولا يهلكها أما إذا لم يكن فيها دعاة أو مصلحون فإن الله يعذبها مع وجود الصالحين كما سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ : << نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ>>. فالمانع من الهلاك ليس وجود الصالحين وإنما وجود المصلحين الذين يجهرون ويبذلون لتغيير المنكر والأمر بالمعروف.
      ومثال على ذلك القرية التي كانت حاضرة البحر حيث قال الله سبحانه وتعالى : { وسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} ( الأعراف : 163). ابتلاء من الله ففي يوم السبت حيث نهوا عن العمل تأتي الحيتان شُرَّعاً تظهر طافحة على ظهر الماء فتقترب منهم { وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ} تغور الحيتان في أعماق البحار فلا يجدونها ابتلاء من الله فماذا فعل اليهود هؤلاء وهم أهل المكر والخبث والاحتيال في كل زمان ومكان؟ كيف احتالوا ؟ قيل : حفروا الحفر يوم الجمعة فوقعت فيها الحيتان يوم السبت فجاء الأحد فأكلوا أو نحو ذلك والمقصود واحد: احتالوا فأكلوا مما حرم الله عليهم إذ حرم ذلك عليهم يوم السبت فحولوه إلى يوم آخر فأكلوا ووقعوا في المعصية فما كان من قومهم غير الآكلين معهم إلا أن انقسموا إلى فئتين:
      فئة أنكرت وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فأنجاهم الله سبحانه وتعالى.
      وفئة سكتت فسكت الله تعالى عنهم واختلف العلماء في شأنهم: هل أُهلكوا أم نجوا ؟
      إن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي العلة التي من أجلها لعن بنو إسرائيل: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة : 78 ـ 79).
      فإذا وقعنا فيما وقعوا فيه فالنتيجة هي نفسها: اللعن والطرد والعقوبات والعقوبات مختلفة فمنها إذلال وقهر: بشر يسلطون على بشر فيستعبدون و يستذلون كما وقع من استذلال فرعون واستضعافه لبني إسرائيل وهذا جانب أو جزء من العقوبات..

      ـ الجهر بالدعوة :
      لا بد من الجهر بالدعوة بين الناس لتصل إليهم ، وتكون حجة عليهم . ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الواضحة البيّنة ، ولنا بهؤلاء الفتية الأطهار القدوة الحسنة ، فحين سألوا الله القوة أمدّهم بها { وربطنا على قلوبهم} (الكهف : 14) فثبتهم على الحق فقاموا يدعون إليه سبحانه فأعلنوا عقيدة التوحيد خالصة دون لبس ولا خوف .. { إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوَ من دونه إلهاً} (الكهف : 14).. فكانوا قدوة للدعاة يأتسونهم.. قالوها ،فخلّدهم الله في كتابه الكريم إلى يوم القيامة..


      13) *{ من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً } (الكهف : 17):
      يبين لنا على ضوء هذا أن الناس في كل زمان ومكان على فريقين متضادين شتان ما بينهما:
      فريقٌ يتولى الله هدايته ويدافع عنه ويحميه من مكائد الشيطان وأعداء الدين والقيم والإنسانية فيوفقه للإيمان ويرشده إلى طريق السعادة فهو المهتدي حقاً مثل ما فعل الله عز وجل مع أصحاب الكهف..
      والفريق الثاني يخذله الله ويتركه وما اختار لنفسه من تقليد الآباء والأجداد واتباع الهوى والشيطان فلا ينظر في آيات الله بالعقل الذي وهبه الله إياه بل يعمى عنها ويتصامم عن النذر كأن في أذنيه وقراً فهو في الضلال يعمه لن تجد له ولياً مرشداً ولو حرصت على هدايته { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } (القصص:56) فمن يضلله الله بسوء عمله فلن تجد له من يهديه وهذا متمثل في الملك الطاغية "دقيانوس" وأتباعه وكل من كان على شاكلته إلى يوم الدين.
      فالهداية والإضلال بيده وحده ـ جل وعلا ـ فمن هداه فلا مضل له ومن أضله فلا هادي له.. وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة جداً كقوله تعالى : {ومن يهد الله فهو المعتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً... } (الأسراء : 97) وقوله: { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون } (الأعراف : 178) وقوله : { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً } (المائدة : 41) وقوله : { إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين} (النحل: 37) وقوله تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً كأنما يصعد في السماء} (الأنعام : 125) وغيرها من الآيات..

    • 14) * اعتزال الناس في الفتن :
      يعلمنا الله تعالى بقوله : { فأووا إلى الكهف} (الكهف : 16) اعتزال الناس في الفتن وقد يكون مرة في الجبال والشعاب ومرة في السواحل والرباط ومرة في البيوت وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: << يأتي على الناس زمان يكون خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن>> . ولعل هذا يكون في آخر الزمان عند مجيء المسيخ الدجال أو عندما تشتد الفتن وتطغى .
      وقد جاء في الخبر : <<إذا كانت الفتنة فأخفِ مكانك وكُفَّ لسانك>> ولم يخص موضعاً.. ومن هذا نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم لعقبة بن عامر حين سأله : ما النجاة يا رسول الله ؟ فقال : << يا عقبة أمسك عليك لسانك ولْيسعْك بيتُك وابك على خطيئتك>>..
      وقد جعلت طائفة العلماء العزلةَ اعتزالَ الشر وأهله بقلبك وعملك إن كنت بين أظهر الناس . قال ابن المبارك رحمه الله في تفسير العزلة : أنْ تكون مع القوم فإن خاضوا في ذكر الله فخض معهم وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت .
      وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام – من مراسيل الحسن- << نعْمَ صوامع المؤمنين بيوتهم >> أي وهم في مجتمعهم يدعونهم ويتعرضون إليهم بالنصح والموعظة فإن اشتدوا عليهم أوَوْا إلى بيوتهم ثم عاودوا الكرّة . ويؤكد هذه الفكرة قول النبي صلى الله عليه وسلم :<< المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم>>"12"..
      أن من فرَّ بدينه من الفتن سَلّمه الله منها وأن من حّرِصَ على العافية عافاه الله ومن أوى إلى الله آواه الله وجعله هداية لغيره ومن تحمل في سبيله وابتغاء مرضاته كان آخرَ أمره وعاقبته العزُ العظيمُ من حيث لا يحتسب وما عند الله خير للأبرار .
      كما أعتزل الملك قومه عندما أختلفوا في البعث فمنهم من قال : يبعث الناس في أجسادهم وكان الملك من ضمنهم وهم قلة قليلة أما الأغلبية فقالوا : تبعث الأرواح بغير أجساد وقد حزن الملك حزناً شديداً لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون لا حياة إلا حياة الدنيا وإنما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد وجعلوا يكذبون بالساعة حتى كادوا أن يحولوا الناس عن الحق وملة الحواريين فلما رأى ذلك الملك الصالح دخل بيته وأغلقه عليه ولبس مسحاً وجعل تحته رماداً فجلس عليه فدأب ليله ونهاره زماناً يتضرع إلى الله تعالى ويقول : أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث إليهم آية تبين لهم بطلان ما هم عليه فبعث الله أصحاب الكهف آية ليعلمهم أن الناس يبعثون في أجسادهم.


      15) * { إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} (الكهف : 10):
      الفتية جمع فتى جمع تكسير وهو من جموع القلة ويدل لفظ الفتية على قلتهم وأنهم شباب لا شيب..
      أولئك الفتيان الذين ملأ الله قلوبهم بالإيمان وهداهم إليه بالفطرة والبرهان وزادهم هدى على هدى لما توجهوا إلى ربهم بصدق سائلين إياه أن يهيئ لهم طريق الهدى والرشاد ويوجههم إلى التوفيق والسداد.
      فأصحاب الكهف شباب عددهم قليل ألهمهم الله الرشد وآتاهم التقوى فسلكوا سواء السبيل لقد آمنوا بربهم إيماناً صادقاً ثابتاً راسخاً تميد الراسيات ولا يميد لا مكان فيه لشك من قريب أو بعيد قوى الله قلوبهم وربط عليها بما فيها من الإيمان..
      والشباب هم معقد الآمال في حمل الأعباء والنهوض بكل أمر صعب فإن لم يجدوا التوجيه الرشيد فقد يضلوا الطريق ويتوهوا بين المسالك والشعاب ومرحلة الشباب مرحلة خطيرة تثور فيها شجون وأفكار ومشاعر يحتاج معها إلى الرائد الصادق والناصح الأمين والمربي الفاضل حتى لا تتلقفهم أيدي المفسدين.
      يقول د. أحمد الشرباصي : (وشتان بين التعليم والتربية فالتعليم تلقين وحشو للمعلومات في الأذهان وحسب ولكن التربية تهذيب وتأديب وتطبيق وممارسة وتصرف وسلوك ونحن في مدارسنا مع الأسف العميق نضع لطلابنا كتباً في الدين نسوق فيها جانباً من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والحكام الدينية والمعلومات الإسلامية ونكلف الطلاب حفظ ذلك وتحصيله وندرسه لهم بطريقة إلقائية تلقينية لا حياة فيها ولا روح فلا يتأثر التلميذ ولا يقتنع ولا يستجيب وليس هناك ربط بين المعلومات الدينية والحياة الاجتماعية وليس هناك ربط بين الدروس والممارسة ولا بين التعليم الديني وأداء الشعائر الدينية)"13"..
      ويقول أحمد محمد الشرقاوي : ( فى قوله تعالى { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } (الكهف : 13) إشارة إلى حداثة سنهم وفتوتهم وطاعتهم لربهم في هذه المرحلة المهمة في حياة الإنسان مرحلة الشباب وهى مرحلة البذل والعطاء ومرحلة القوة والحماس ولقد عُنى الإسلام بإعداد الشباب وتوجيههم ورعايتهم فهم عماد الأمة وأساس نهضتها ونبراس حضارتها ومنطلق تقدمها وتحررها ومبعث عزها وصناع أمجادها. وصدق الشاعر هاشم الرفاعى رحمه الله حيث يقول :-
      ملكنا هذه الدنيا قرونــا
      وأخضعها جــدود خالدونا
      وسطرنا صحائف من ضيـاء
      فما نسى الزمان ولا نســينا
      بنينا حقبة فى الأرض ملكـا
      يدعمه شباب طامـحـونــا
      شباب ذللوا سبل المعالــى
      وما عرفوا سوى الإسلام دينـا
      تعهدهم فأنبتهم نباتــــاً
      كريما طاب في الدنيا غصونــا
      إذا شهدوا الوغى كانوا كماة
      يدكون المعاقل والحصونـــا
      شباب لم تحطمـــه الليالي
      ولم يسلم إلى الخصم العرينــا
      وإن جن المساء فلا تراهـم
      من الإشفاق إلا ساجدينـــا
      كذلك أخرج الإسلام قومي
      شبابا مخلصاً حراً أمينــــا
      إن مرحلة الشباب مرحلة حاسمة فى حياة الإنسان لها أهميتها ولها خطرها وحين ينشأ الشاب فى رحاب القرآن ويحيا تحت ظلال الإيمان فإن جزاءه يوم القيامة أن ينعم بظل الرحمن قال صلى الله عليه وسلم : << سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل وشاب نشأ في طاعة الله >> الخ الحديث.
      وهنيئاً لشاب حافظ على شبابه وصرفه في طاعه ربه سيما فى مجتمعات شاعت فيها الفتن فتن الشبهات وفتن الشهوات فترى الأديان المحرفة والرايات الزائفة وتجد من يشوه الحقائق ويزخرف الأباطيل وينشر الفساد والانحلال .
      وعجباً لمن يحفظ شبابه في هذا التيه ويصارع أمواج الفتن ويجابه أعاصير المحن فيصمد ويثبت ويعبر هذه المرحلة الحاسمة سالماً معافى؟)"14"..


      16) * {فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى} (الكهف : 13) :
      هم فتية مؤمنون آمنوا بالله بلا واسطة وقفوا يحملون راية عقيدتهم وإيمانهم أمام جبروت الكفر وطغيان الشرك فيسر لهم الله الطريق إلى العمل الصالح من الانقطاع إلى الله تعالى ومباعدة الناس والزهد في الدنيا وهذه زيادة على الإيمان..
      يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: ( ويفهم من هذه الآية أن من آمن بربه وأطاعه زاده ربه هدى لأن الطاعة سبب للمزيد من الهدى والإيمان.
      وهذا المفهوم من هذه الآية الكريمة جاء مبيناً في مواضع أخر كقوله تعالى : { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } (محمد : 17) وقوله : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} (العنكبوت : 69) وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً} (الأنفال : 29) وقوله : { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون} (التوبة : 124) وقوله تعالى: { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} (الفتح : 4) وقوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به} (الحديد : 28) إلى غير ذلك من الآيات )"15"..


      17) * {وربطنا على قلوبهم } (الكهف : 14) :
      (الربط يعني أن تربط على الشيء وتشد عليه لتحفظ ما فيه كما تربط القربة حتى لا يسيل منها الماء وتربط الدابة حتى لا تنفلت)"16"..
      ويقول الأستاذ محي الدين الدرويش : ( في قوله تعالى : {وربطنا على قلوبهم } (الكهف : 14) استعارة تصريحية تبعية تشبه {فضربنا على آذانهم} (الكهف : 11) لأن الربط هو الشد بالحبل والمراد قوينا قلوبهم بالصبر على هجر الأوطان والفرار بالدين إلى الكهوف والغيران وافتراش صعيدها وجسرناهم على قول الحق والجهر به أمام دقيانوس الجبار) "17"..
      ويقول أحمد محمد الشرقاوي : ({ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ } (الكهف : 14) أي شددنا عليها وثبتناها ليواجهوا رياح الفتن وأعاصير المحن ويجابهوا موجات الكفر العارمة وتياراته الجارفة التي تولى كبرها وحمل لواءها الملك وبطانته ودعاة الكفر وسدنته فألهم الله عز وجل أولئك الفتية بالصبر والثبات في مجابتهم لتحالف الشر .
      قال صاحب روح البيان : " {وربطنا على قلوبهم } (الكهف : 14) أي قويناهم حتى اقتحموا مضايق الصبر على هجر الأهل والأوطان والنعيم والإخوان واجترأوا على الصدع بالحق من غير خوف ولا حذر والرد على دقيانوس الجبار) "18"..
      ويفهم من هذه الآية الكريمة أن من كان في طاعة ربه جل وعلا أنه تعالى يقوي قلبه ويثبته على تحمل الشدائد والصبر الجميل وليظل بداخله العقيدة والإيمان بالله لا يتزعزع ولا تخرجه الأحداث والشدائد والملمات..
      وقد وردة مادة (ربط ) في القرآن إلى وقائع من هذا المعنى في مواضيع أخر كقوله في أهل بدر مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه : { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام * إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا} (الأنفال : 11 ـ 12).
      وكقوله في أم موسى : { وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين} (القصص : 10) أي ربط على ما في قلبها من الإيمان بالله الذي أوحى إليها أن تلقي بولدها في الماء ولولا أن ربط الله على قلبها وثبتها لانطلقت خلف ولدها تصرخ وتنتحب وتلفت إليه الأنظار..

    • 18) * الأخذ بالأسباب بعد التوكل على الله :
      (كان أول تساؤل لأصحاب الكهف حين قاموا من نومهم بأن قال بعضهم { كَمْ لَبِثْتُمْ } فأجاب آخرون { لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} وغاب عنهم أنهم ناموا مئات السنين ، فرد عليهم آخرون { قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا } أي أشهى وأطيب ، وقيل هو الحلال الطيب ، { فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} (الكهف : 19) أي فوضوا أمر ذلك إلى الله تعالى وانشغلوا بما يصلحكم وهو إحضار الطعام .
      أقول: وفي هذا دليل على أنهم لم ينووا طول البقاء في الكهف وإلا لتزودوا بما يكفيهم من الطعام والشراب مدة لبثهم فيه .
      وفيه أيضا إشارة إلى وجوب تفويض العلم إلى الله عز وجل وعدم القطع في المسائل بدون أدلة قطعية .
      وفيه أيضا من آداب الصحبة : إسداء النصح وتقبله وحسن الحوار وترك الجدال .
      ومراعاة الحذر والحيطة وأن التوكل على الله عز وجل واليقين به لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب..
      وفيه جواز الوكالة في البيع والشراء والشركة في المطعم والمشرب .
      وفيها أيضاً جواز التمتع بالطيبات كالماء البارد واللحم والفاكهة وغير ذلك ،مع القصد والاعتدال ولا يتنافى ذلك مع الزهد والورع قال سبحانه وتعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف : 32 ـ 33)..
      وفي حملهم النقود مع صدق توكلهم على الله رد على من يتواكل بحجة التوكل فربما خرج بدون أخذ بالأسباب أو حمل للمال بدعوى التوكل .
      قال النسفي :" وفي هذا دليل على أن حمل النفقة وما يصلح للمسافر هو رأي المتوكلين على الله دون المتكلين على الاتفاقات وعلى ما في أوعية القوم من النفقات" [مدارك التنزيل ج 3 ص6 ، 7])"19"..

      ـ الحيطة والحذر :
      الحذر في كل حالات الحياة – حلوها ومرها ، أمنها وخوفها – مطلوب ، فالتخفي والكتمان والتلميح من أنواع الحذر . فماذا فعل الفتيان حين أحياهم الله تعالى ؟ شعروا بالجوع .. فقد استيقظوا بعد ساعات طويلة استغرقت يوماً أو بعض يوم – كما ظنوا – والطعام والشراب وسيلة الحياة . والعدو الذي هربوا منه يطلبهم ويرسل العيون والجند بحثاً عنهم . فينبغي الحذر في التحرك ماذا يفعلون ؟
      1 ـ أرسلوا واحداً فقط يشتري لهم طعاماً فالواحد أقدر على التخفي ولا ينتبه له أحد . وهروبه أسهل إذا شعرت به عيون العدو وإذا وقع في أيدي الظلمة فهو فدائي واحد ولن تسقط المجموعة كلها.
      2 ـ وأمروه باللطف في الشراء واللين في الطلب وليتكلم المختصر المفيد أي يبالغ في الحذر والحيطة والتخفي أو يتلطف في الشراء فلا يتعنت مع البائع أو يبخسه حقه أو يتلطف مع البائع فلا يغبنه.
      3 ـ وليكن تصرفه حكيماً وحركاته بعيدة عن الريبة لكي لا ينطبق عليه المثل القائل
      " كاد المريب أن يقول خذوني".
      4 ـ وليختر أطيب الطعام وأزكاه فالطعام الطيب الحلال أنفع للجسم وأرفع للروح.
      صحيح أن الحذر لا ينجي من القدر لكن على الإنسان أن يأخذ بالأسباب ويعد للأمر عدته كي لا يُؤْخذ على غرة فالعدو الذي لا يخاف الله تعالى لا يرحم { إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أويعيدوكم في ملتهم} (الكهف 20) ألم يعلن كبير المجرمين فرعون رغبته في قتل النبي موسى عليه السلام؟ { ذروني أقتلْ موسى} (غافر : 26) مدعياً أنه بذلك يقضي على الفتنة ويحفظ الناس من الفساد؟! { إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد}؟َ!(غافر : 26) . وقد دمغهم الله تعالى بالعدوان وكره المؤمنين ونقض العهود { لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة وأولئك هم المعتدون} (التوبة : 10) وإذا قتل المسلم في سبيل الله فقد نال الشهادة أما إذا كان إيمانه ضعيفاً فلم يحتمل العذاب وكفر بدينه لينجو منه فقد خاب وخسر.. { أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذاً أبدا} (الكهف : 20)..


      19) * عاقبة الجلوس في بلاد الظلمة :
      يقول أحمد محمد الشرقاوي : ({إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} (الكهف : 20) أي لو عرفوا مكانكم وتمكنوا منكم فلن تسلموا منهم وفي هذا ما يدل على أنهم كانوا مهددين مطاردين بعد أن أمهلهم الملك بالعودة إلى دينه ففروا بدينهم وقد أرخى الليل سدوله ثم وصلوا إلى الكهف .
      { يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ } بناء على ما توعدكم به إن لم ترجعوا إلى دينهم فإما الرجم حتى الموت وإما البقاء مع العود إلى ملتهم وفي هذا من الخسران ما فيه .
      {وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} قال البقاعي رحمه الله : "أي إذا عدتم فيها مطمئنين بها لأنكم وإن أكرهتم ربما استدرجكم الشيطان بذلك إلى الإجابة حقيقة "[ نظم الدرر ج4 ص458]..
      وقال الرازي رحمه الله :"فإن قيل أليس أنهم لو أكرهوا على الكفر لم يكن عليهم مضرة فكيف قالوا {وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} قلنا يحتمل أن يكون المراد أنهم لو ردوا هؤلاء المسلمين إلى الكفر على سبيل الإكراه بقوا مظهرين لهذا الكفر مدة فإنه يميل قلبهم إلى ذلك الكفر ويصيرون كافرين في الحقيقة فهذا الاحتمال قائم فكان خوفهم منه والله أعلم "[ التفسير الكبير ج21 ص 102 ، 103]..
      أقول لقد تذكرت والذكرى مؤرقة إخواننا في الأندلس لما تمكن النصارى الأسبان منهم أجبروا من لم يتمكن من الفرار على ترك الإسلام ونسيان لغة القرآن ففر من فر بدينه وبقي من بقي على دينه خفية لا يستطيع أن يجهر به وإلا فإن محاكم التفتيش حيث العذاب صنوف وألوان وأجبروا على دخول الكنائس وممارسة شعائر النصرانية حتى ولد من أصلابهم من يقول بمقولة النصارى الكاذبة ويعتقد دينهم الباطل بل وربما كان من بين ذرياتهم من يناصب الإسلام والمسلمين العداء ويتعصبون للصليب وينتمون لليمين المتطرف الناشط في هذه الأيام في أسبانيا والذي يطالبون الآن بطرد العرب المقيمين فيها وقد خفي عليهم وغاب عنهم أن هذا الدين الذي يبارزونه العدوان هو دين أسلافهم أجبروا على التخلي عنه بالحديد والنيران)"20"..
      ولنتذكر الحديث الذي رواه مسلم ‏عن ‏أبي سعيد الخدري ‏أن نبي الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قال :‏ << ‏كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة فقال لا فقتله فكمل به مائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة فقال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيرا قط فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة>>
      فِي هَذَا اِسْتِحْبَاب مُفَارَقَة التَّائِب الْمَوَاضِع الَّتِي أَصَابَ بِهَا الذُّنُوب وَالْأَخْدَان الْمُسَاعِدِينَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَمُقَاطَعَتهمْ مَا دَامُوا عَلَى حَالهمْ وَأَنْ يَسْتَبْدِل بِهِمْ صُحْبَة أَهْل الْخَيْر وَالصَّلَاح وَالْعُلَمَاء وَالْمُتَعَبِّدِينَ الْوَرِعِينَ وَمَنْ يَقْتَدِي بِهِمْ وَيَنْتَفِع بِصُحْبَتِهِمْ وَتَتَأَكَّد بِذَلِكَ تَوْبَته . ‏
      ولنتذكر الحديث الذي سألت فيه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ : << نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ>>. فإذا كثر في البلاد الفساد وعم الظلم وكثر الخبث وندر المصلحون فلا ينتظر الناس بعد ذلك إلا العقاب { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود : 117) فالبلد التي ليس بها مصلحون فإن الله يعذبها مع وجود الصالحين والبلد التي فيها مصلحون فإن الله لا يعذبها ولا يهلكها. لهذا لا ينبغي الجلوس في البلد التي ليس فيها مصلحون حتى لا يشملهم العذاب والهلاك..


      20) * صحبة الصالحين فوائد ومنافع:
      لقد حث الإسلام على حسن اختيار الصديق وانتقائه ضماناً لصفاء الحب ونقائه واستمراره وبقائه وقد قيل :"قل لي من تصاحب؟ أقل لك من أنت!" وقد جاء الأمر بحسن اختيار الأصدقاء لأن طبع الإنسان يجعل يتأثر بطبع صديقه وجليسه ومن ثم كان من الواجب على المرء أن ينتقي أصدقاءه ويبلو حقائقهم قبل أن ينخرط معهم ويغشى مجتمعهم فإن أثر الصديق في صديقه عميق فالصديق حقاً هو الذي يأخذ بيد صديقه إلى طريق الخير والسداد والهدى والرشاد ورب صديق جلس مع صديقه ساعة أنجاه لأنه سلك به طريق النجاة ورب آخر أهلكه وأرداه ففي الأول يقول الله تعالى : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين * يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون} ( الزخرف : 67 ـ 68) وفي الصديق الآخر يقول الله تعالى : {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً * يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً} (الفرقان : 27 ـ 29)..
      لقد ذكر الله ـ عز وجل ـ في كتابه الكريم هذا الكلب وكونه باسطاً ذراعيه بوصيد كهفهم في معرض التنويه بشأنهم يدل على أن صحبة الأخيار عظيمة الفائدة. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة : "وشملت كلبهم بركتهم ، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، وهذا فائدة صحبة الأخيار ، فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن)"21"..
      وإذا كان هذا الكلب قد نال هذه الدرجة العليا بصحبته ومخالطته الصلحاء والأولياء حتى أخبر الله تعالى بذلك في كتابه جل وعلا فما ظنك بالمؤمنين الموحدين المخالطين المحبين للأولياء والصالحين؟ بل في هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكمال المحبين للنبي صلى الله عليه وسلم وآله خير آل.
      روى الصحيح عن أنس بن مالك قال: بينما أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجان من المسجد فلقينا رجل عند سدة المسجد فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال رسول الله صلى الله عليخ وسلم : <<ما أعددت لها>> قال: فكأن الرجل استكان ثم قال: يا رسول الله ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله. قال : << أنت مع من أحببت>>. وفي رواية قال أنس بن مالك : فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم : << أنت مع من أحببت>> قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم )"22"..
      وفي المقابل يفهم من ذلك أن صحبة الأشرار فيها ضرر عظيم كما بينه الله تعالى في سورة الصافات في قوله : { قال قائل منهم إني لي قرين } (الصافات : 51) إلى قوله : {قال تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين} (الصافات : 56 ـ 57)..
      ( لقد أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنظر والفحص والتدقيق في اختيار الخليل والصديق يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :<< المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل>> إن من أحسن اختيار صديقه كأنما أحسن اختيار حياته وعندما يكون الاختيار في الصداقة على أساس من الأخلاق القويمة فإن الصداقة ستثمر حتماً ثماراً يانعة ونتائج نافعة فالعاقل هو الذي يختار صديقه على أساس من ثراء روحه وخصاله لا على أساس من مظهره وثراء ماله.
      إن الصديق مرآة صديقه : إن رأى فيه خيراً أبقاه وإن رأى به عيباً أماطه عنه وألقاه. إن الصداقة من الصدق فلا يكون صديقاً إلا من صدق في صداقته وأخلص في محبته وبرهن على مودته هذا الذي إن مددت يدك بخير مدها وإن رأى منك حسنة عدها وإن رأى سيئة عذرك فسدها إن سألته أعطاك وإن سكت ابتداك وإن نزلت بك نازلة واساك وقد قيل : "لا تصحب من لا يسرك حاله ولا يدلك على الله مقاله" يقول الله تعالى : { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً} (الكهف : 28)"23"..

    • 21) * الإيمان يؤدي إلى الحفظ والرعاية من قبل الله سبحانه وتعالى:
      لقد جعل الله عز وجل من أصحاب الكهف آية دالة على قدرته وعظيم حكمته فقد آووا إلى الكهف فدخلوه فألقى الله عليهم النوم فناموا نوماً طويلاً حيث تعاقب الأيام ومضى عام إثر عام وانقضت عقود بل قرون وهم في الكهف راقدون النوم على آذانهم مضروب وبأجفانهم معقود لا يشعرون بالريح وإن زمجرت ولا بالأمطار وإن غزرت ولا بالحر وإن اشتد ولا بالبرد مهما قوي واحتد تقصف حولهم الرعود وهم نيام ورقود وقد حفظ الله أجسامهم من البلى بما وضع من أسباب الحماية والحفظ والرعاية كانت الشمس تطلع فتأخذ أشعتها الطريق إلى الكهف من فتحة فيه فتمنحه الضوء والحرارة دون أن تصل أشعتها إليهم وبعد ثلاثمائة وتسع من السنين استيقظوا من رقادهم الطويل يقول الله تعالى : { ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً } (الكهف : 25) إن الله سبحانه وتعالى هو الذي أنامهم هذه المدة الطويلة ثم أيقظهم ليكونوا آية دالة على صحة وقوع البعث وليعلم الناس أن الساعة آتية لا ريب فيها يقول الله تعالى : { وكذلك اعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها} (الكهف : 21)"24"..
      وعن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : " كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً ، فقال: <<يا غلام إني أُعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سأَلت فاسأَل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأُمة لو اجتمعت على أَن ينفعـوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف>> وفي رواية : <<احفظ الله تجده أَمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك فـي الشدة واعلم أَن ما أَخطأَك لم يكن ليصيبك وما أَصابك لم يكن ليخطئك واعلم أَن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسرِ يسرا>>..
      لقد اصطفى الله تعالى هذه الأمة من بين سائر الأمم ليكتب لها التمكين في الأرض وهذا المستوى الرفيع لا يتحقق إلا بوجود تربية إيمانية جادة تؤهلها لمواجهة الصعوبات التي قد تعتريها والأعاصير التي قد تحيق بها في سبيل نشر هذا الدين وإقامة شرع الله في الأرض .
      ومن هذا المنطلق حرص النبي صلى الله عليه وسلم على غرس العقيدة في النفوس المؤمنة وأولى اهتماماً خاصاً للشباب ولا عجب في ذلك! فهم اللبنات القوية والسواعد الفتية التي يعوّل عليها نصرة هذا الدين وتحمّل أعباء الدعوة.
      وفي الحديث الذي نتناوله مثال حيّ على هذه التنشئة الإسلامية الفريدة للأجيال المؤمنة في عهد النبوة بما يحتويه هذا المثال على وصايا عظيمة وقواعد مهمة لا غنى للمسلم عنها.
      وأولى الوصايا التي احتواها هذا الحديث ، قوله صلى الله عليه وسلم <<احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك>> إنها وصية جامعة ترشد المؤمن بأن يراعي حقوق الله تعالى ويلتزم بأوامره ويقف عند حدود الشرع فلا يتعداه ويمنع جوارحه من استخدامها في غير ما خلقت له فإذا قام بذلك كان الجزاء من جنس العمل مصداقا لما أخبرنا الله تعالى في كتابه حيث قال : { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } (البقرة : 40 ) وقال أيضاً : { فاذكروني أذكركم } (البقرة : 152) وهذا الحفظ الذي وعد الله به من اتقاه يقع على نوعين:
      الأول : حفظ الله سبحانه وتعالى لعبده في دنياه فيحفظه في بدنه وماله وأهله ويوكّل له من الملائكة من يتولون حفظه ورعايته ، كما قال تعالى : { له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } (الرعد : 11 ) أي : بأمره وهو عين ما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم كل صباح ومساء : <<اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وآخرتي وأهلي ومالي اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي>> وبهذا الحفظ أنقذ الله سبحانه وتعالى إبراهيم عليه السلام من النار وأخرج يوسف عليه السلام من الجبّ وحمى موسى عليه السلام من الغرق وهو رضيع وتتسع حدود هذا الحفظ لتشمل حفظ المرء في ذريّته بعد موته كما قال سعيد بن المسيب لولده : " لأزيدن في صلاتي من أجلك رجاء أن أُحفظ فيك " ، وتلا قوله تعالى : {وكان أبوهما صالحا } (الكهف : 82)..
      الثاني : حفظ الله للعبد في دينه فيحميه من مضلات الفتن وأمواج الشهوات ولعل خير ما نستحضره في هذا المقام : حفظ الله تعالى لدين يوسف عليه السلام على الرغم من الفتنة العظيمة التي أحاطت به وكادت له يقول الله تعالى في ذلك {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} (يوسف : 24 ) ، وتستمر هذه الرعاية للعبد حتى يلقى ربّه مؤمنا موحداً.
      ولكن الفوز بهذا الموعود العظيم يتطلب من المسلم إقبالا حقيقيا على الدين واجتهادا في التقرب إلى الله عزوجل ودوام الاتصال به في الخلوات وهذا هو المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثانية لهذا الحديث << تعرّف إلى الله في الرخاء ، يعرِفك فـي الشدة >> فمن اتقى ربه حال الرخاء وقاه الله حال الشدّة والبلاء..


      22) * الراحة والطمأنينة في إتباع الحق برغم شظف الحياة ونصبها:
      إن الإيمان بالله عز وجل يجعل الإنسان يعيش في أمان واطمأنينة لا يكدر حياته خوف ولا حزن فقد قال الله تعالى : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} (الأنعام : 82). فالذين آمنوا وأخلصوا أنفسهم لله ولا يخلطون بهذا الإيمان شركاً في عبادة أو طاعة أو اتجاه هؤلاء لهم الأمن وهؤلاء هم المهتدون.
      وقد وعد الله تعالى المؤمن حق الإيمان بأن يحييه حياة طيبة حياة السعادة والراحة حياة التفاؤل والأمل فالله سبحانه وتعالى يقول : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (النحل : 97) فالمؤمن في أمن وراحة وطمأنينة ينعم بالحياة الطيبة ويسعد ببركة الإيمان وثمراته..
      وفي قول الله سبحانه وتعالى : {وإذا اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيء لكم من أمركم مرفقاً} (الكهف : 16) يقول سيد قطب : ( وهنا ينكشف العجب في شأن القلوب المؤمنة . فهؤلاء الفتية الذين يعتزلون قومهم ويهجرون ديارهم ويفارقون أهلهم ويتجردون من زينة الأرض ومتاع الحياة . هؤلاء الذين يأوون إلى الكهف الضيق الخشن المظلم . هؤلاء يستروحون رحمة الله. ويحسون هذه الرحمة ظليلة فسيحة ممتدة . {ينشر لكم ربكم من رحمته} ولفظة {ينشر} تلقي ظلال السعة والبحبوحة والانفساح . فإذا الكهف فضاء فسيح رحيب وسيع تنتشر فيه الرحمة وتتسع خيوطها وتمتد ظلالها وتشملهم بالرفق واللين والرخاء.. إن الحدود الضيقة لتنزاح وإن الجدران الصلدة لترق وإن الوحشة الموغلة لتشف فإذا الرحمة والرفق والراحة والارتفاق. إنه الإيمان..
      وما قيمة الظواهر؟ وما قيمة القيم والأوضاع والمدلولات التي تعارف عليها الناس في حياتهم الأرضية؟ إن هنالك عالماً آخر في جنبات القلب المغمور بالإيمان المأنوس بالرحمن. عالماً تظلله الرحمة والرفق والاطمئنان والرضوان) "25".. وقصة الصحابي الجليل مصعب بن عمير خير دليل..


      23) * حقيقة البعث والنشور :
      يقول الله سبحانه وتعالى : { وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها} (الكهف : 21) قال المفسرون : إن الملك الذي هرب الفتيان من ظلمه وبطشه مات ومات الكفر معه. وانتشر الإسلام في البلاد واختلف المؤمنون في طريقة البعث والنشور . ( فقال قائلون : يبعث الروح والجسد معاً. وقال قائلون : تبعث الأرواح أما الأجساد فتأكلها الأرض فلا تكون شيئاً.
      فشق على ملكهم اختلافهم فانطلق فلبس المسوح وقعد على الرماد . ثم دعا الله فقال: إنك ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبين لهم بها. فبعث الله لهم أصحاب الكهف) "26"..
      فكان عثورهم على الفتية دليلاً على حشر الناس بأجسادهم وأرواحهم كما كانوا في الدنيا ، فالله قادر على كل شيء . هذا من ناحية . ومن ناحية أخرى كان بعث هؤلاء الفتية دليلاً باهراً على أن يوم القيامة حقيقة لا شك فيها { وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها} (الكهف : 21)..
      فكما قدر الله على إبقاء أهل الكهف مدة طويلة بلا أكل ولا شرب نائمين أو موتى ثم بعثهم من بعد ذلك أليس بقادر على إحياء غيرهم من الموتى؟..


      24) * التقول على الله بغير علم :
      يقول سبحانه وتعالى : { قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل} (الكهف : 22) وقال أيضاً : { قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحداً} (الكهف : 26) (إن التقول على الله بغير علم كبيرة من كبائر الذنوب التي لو أسقط الإنسان فيها نفسه فقد هلك وأهلك إذ يقول سبحانه { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} (النحل: 116) وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : <<إن كذباً علي ليس ككذب على غيري فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار>> ومما جاء في تفسير قوله تعالى { ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة} (الزمر : 60) قال أهل العلم : لا ريب أن الكذب على الله وعلى رسوله في تحليل حرام وتحريم حلال كفر.
      ولقد وقع بنو إسرائيل في هذا الشر العظيم حيث قالوا ما لا يعلمون فكانت عاقبتهم سوءاً فذكرهم الله لنا عظة واعتباراً وادكاراً وتحذيراً فقال: { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} (آل عمران : 66) ومما يدلنا على عظيم إثم التقول على الله بغير علم قوله تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل يه سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (الأعراف : 33) فنجد أن الله قرن التقول على الله بغير علم بالشرك الذي ليس بعده جريمة ولا فوقه إثم ومعصية)"27"..


      25) * إياك والمراء فيما لا طائل منه :
      يقول الله سبحانه وتعالى : {فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً } (الكهف : 22) المراء في أمر لا فائدة فيه لا حاجة إليه . وقتك أيها المسلم ثمين ، وحديثك موزون ، ولن يزيدك علماُ وفهماً أن تخوض فيما لاطائل له ، والرسول صلوات ربي عليه يقول :<< من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت>>..
      إن عادة الناس أنهم يتناقلون الروايات والأخبار ويزيدون فيها وينقصون ويضيفون إليها من خيالهم جيلاً بعد جيل حتى تتضخم وتتحول وتكثر الأقاويل حول الخبر الواحد أو الحادث الواحد كلما مرت القرون.. فهذا الجدل حول الفتية لا طائل وراءه فماذا يزيدك لو عرفت عدد الفتية ؟ أو أسماءهم أو أعمارهم ؟ أو أعمالهم؟ الفائدة المرجوة تجدها في أفعالهم وثباتهم على المبدأ وفرارهم بدينهم يحافظون عليه . وحذرهم في تصرفاتهم وأخوّتهم في الله تعالى لهذا يوجه القرآن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ترك الجدل في هذه القضية وإلى عدم استفتاء أحد من المتجادلين في شأنهم تمشياً مع منهج الإسلام في صيانة الطاقة العقلية أن تبدد في غير ما يفيد. وفي ألا يقفو المسلم ما ليس له به علم وثيق . وهذا الحادث الذي طواه الزمن هو من الغيب الموكول إلى علم الله فليترك إلى علم الله.
      يقول الشيخ الشعراوي : ( ثم يأتي الفصل في هذه المسألة : { قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل..} (الكهف : 22) فلم يبين لنا الحق سبحانه عددهم الحقيقي وأمرنا أن نترك هذا لعلمه سبحانه ولا نبحث في أمر لا طائل منه ولا فائدة من ورائه فالمهم أن يثبت أصل القصة وهو: الفتية الأشداء في دينهم والذين فروا به وضحوا في سبيله حتى لا يفتنهم أهل الكفر والطغيان وقد لجأوا إلى الكهف ففعل الله بهم ما فعل وجعلهم آية وعبرة ومثلاً وقدوة.
      أما فرعيات القصة فهي أمور ثانوية لا تقدم ولا تؤخر لذلك قال تعالى بعدها : {فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً } (الكهف : 22) أي : لا تجادل في أمرهم )"28"..

    • 26) * الحكمة من إبهام أبطال القصة من حيث الأسماء والعدد والمكان :
      هل من حكمة في إبهام شخصيات أصحاب الكهف وعددهم ومكانهم؟ يقول الشيخ الشعراوي : ( ثم يأتي فضول الناس ليسألوا عن زمن القصة ومكانها وعن أشخاصها وعددهم وأسمائهم حتى كلبهم تكلموا في اسمه . وهذا كلها أمور ثانوية لا تنفع في القصة ولا تضر ويجب هنا أن نعلم أن القصص القرآني حين يبهم أبطاله يبهم لحكمة فلو تأملت إبهام الأشخاص في قصة أهل الكهف لوجدته عين البيان لأصل القصة لأن القرآن لو أخبرنا مثلاً عن مكان هؤلاء الفتية لقال البعض: إن هذا الحدث من الفتية خاص بهذا المكان لأنه كان فيه قدر من حرية الرأي.
      ولو حدد زمانهم لقال البعض : لقد حدث ما حدث منهم لأن زمانهم كان من الممكن أن يتأتى فيه بمثل هذا العمل ولو حدد الأشخاص وعينهم لقالوا : هؤلاء أشخاص لا يتكررون مرة أخرى.
      لذلك أبهمهم الله لتتحقق الفائدة المرجوة من القصة أبهمهم زماناً وأبهمهم مكاناً وأبهمهم عدداً وأبهمهم أشخاصاً ليشيع خبرهم بهذا الوصف في الدنيا كلها لا يرتبط بزمان ولا مكان ولا أشخاص فحمل راية الحق والقيام به أمر واجب وشائع في الزمان والمكان والأشخاص وهذا هو عين البيان للقصة وهذا هو المغزى من هذه القصة .
      وانظر إلى قوله تبارك وتعالى : { قال رجل مؤمن من آل فرعون.. } (غافر : 28) هكذا {رجل مؤمن} دون أن يذكر عنه شيئاً فالمهم أن الرجولة في الإيمان أياً كان هذا المؤمن في أي زمان وفي أي مكان وبأي اسم وبأي صفة.
      كذلك في قوله تعالى : { ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط} (التحريم : 10) ولم يذكر عنهما شيئاً ولم يشخصهما لأن التشخيص هنا لا يفيد فالمهم والمراد من الآية بيان أن الهداية بيد الله وحده وان النبي المرسل من الله لم يستطع هداية زوجته وأقرب الناس إليه وأن للمرأة حرية عقدية مطلقة.
      وكذلك في قوله : {ضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأت فرعون..} (التحريم : 11) ولم يذكر لنا من هي ولم يشخصها لأن تعينها لا يقدم ولا يؤخر المهم أن نعلم أن فرعون الذي ادعى الألوهية وبكل جبروته وسلطانه لم يستطع أن يحمل امرأته على الإيمان به.
      إذن : العقيدة والإيمان أمر شخصي قلبي لا يجبر عليه الإنسان وها هي امرأة فرعون تؤمن بالله وتقول: { رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين} (التحريم : 11).
      أما في قصة مريم فيقول تعالى : { ومريم ابنت عمران..} (التحريم : 12) فشخصها باسمها بل واسم أبيها لماذا؟ قالوا: لأن الحدث الذي ستتعرض له حدث فريد وشيء خاص بها لن يتكرر في غيرها لذلك عينها الله وعرَّفها أما الأمر العام الذي يتكرر فمن الحكمة أن يظل مبهماً غير مرتبط بشخص أو زمان أو مكان كما في قصة أهل الكهف فقد أبهمها الحق سبحانه لتكون مثالاً وقدوة لكل مؤمن في كل زمان ومكان)"29"..


      27) * تعليق الأمر بمشيئة الله :
      يقول سيد قطب : ( يرد النهي عن الحكم على غيب المستقبل وما يقع فيه فالإنسان لا يدري ما يكون في المستقبل حتى يقطع برأي فيه { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً * إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً} (الكهف : 23 ـ 24).
      إن كل حركة وكل نأمة بل كل نفس من أنفاس الحي مرهون بإرادة الله وسجف الغيب مسبل يحجب ما وراء اللحظة الحاضرة وعين الإنسان لا تمتد إلى وراء الستر المسدل وعقله مهما علم قاصر كليل. فلا يقل إنسان : إني فاعل ذلك غداً . وغداً في غيب الله وأستار غيب الله دون العواقب.
      وليس معنى هذا أن يقعد الإنسان لا يفكر في أمر المستقبل ولا يدبر له وأن يعيش يوماً بيوم لحظة بلحظة وألا يصل ماضي حياته بحاضره وقابله.. كلا. ولكن معناه أن يحسب حساب الغيب وحساب المشيئة التي تدبره وأن يعزم ما يعزم ويستعين بمشيئة الله على ما يعزم ويستشعر أن يد الله فوق يده فلا يستبعد أن يكون لله تدبير غير تدبيره . فإن وفقه الله إلى ما اعتزم فبها. وإن جرت مشيئة الله بغير ما دبر لم يحزن ولم ييأس لأن الأمر لله أولاً وأخيراً.
      فليفكر الإنسان وليدبر ولكن ليشعر أنه إنما يفكر بتيسير الله ويدبر بتوفيق الله وأنه لا يملك إلا ما يمده الله به من تفكير وتدبير. ولن يدعو هذا إلى الكسل أو التراخ أو ضعف أو فتور بل على العكس يمده بالثقة والقوة والاطمئنان والعزيمة. فإذا انكشف ستر الغيب عن تدبير لله غير تدبيره فليتقبل قضاء الله بالرضى والطمأنينة والاستسلام . لأنه الأصل الذي كان مجهولاً له فكشف عنه الستار.
      هذا هو المنهج الذي يأخذ به الإسلام قلب المسلم . فلا يشعر بالوحدة والوحشة وهو يفكر ويدبر. ولا يحس بالغرور والتبطر وهو يفلح وينجح . ولا يستشعر القنوط واليأس وهو يفشل ويخفق . بل يبقى في كل أحواله متصلاً بالله قوياً بالاعتماد عليه شاكراً لتوفيقه إياه مسلماً بقضائه وقدره . غير متبطر ولا قنوط)"30"..

      ـ في حالة نسيان تعليق الأمر بمشيئة الله :
      في حالة نسى الإنسان تعليق المشيئة بالله ساعة البدء في العمل فعليه أن يعيدها ثانية ليتدارك ما حدث منه من نسيان في تعليق الأمر بمشيئة الله في بداية الأمر وليقل بعد ذلك عسى أن يهديني ويعينني ربي فلا أنسى أبداً وأن أجعل ذكره لازمة من لوازمي في كل عمل من أعمالي فلا أبدأ عملاً إلا بقل : إن شاء الله يقول سبحانه: {واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً} (الكهف : 24)..




      الهوامش :

      1 ـ هذه الحادثة ذكرها الشيخ محمد متولي الشعراوي في تفسيره مجلد 14 ص 8842 ـ 8843 ورواها ابن إسحاق كما في السيرة النبوية لابن هشام ج1 ص 321 وأوردها ابن كثير في تفسيره ج5 ص 82 ـ 83 ويراجع جامع البيان للطبري ج15 ص 127ـ 128 ودلائل النبوة للبهقي ج2 ص 269 والقرطبي في تفسيره ج6 ص288 ـ 289 ، والأستاذ محي الدين الدرويش في إعراب القرآن الكريم وبيانه مجلد4 ص474 وهي مع أنها لم ترو بسند صحيح إلا أنها تتناسب مع السياق
      2 ـ بتصرف من : التفسير الكبير للرازي ج21 ص81 ـ 82
      3 ـ أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ، الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ج4 ص16..
      4 ـ بتصرف من : حصاد الخطب ج2 ص465 ـ 467
      5 ـ estethmare.com/showthread.php?t=26596
      6 ـ تأملات في قصة أصحاب الكهف، أحمد محمد الشرقاوي ص10
      7 ـ التفسير الكبير للرازي ص21 ج 98
      8 ـ روح البيان للبروسوي ص5 ج 223
      9 ـ تأملات في قصة أصحاب الكهف ص13
      10 ـ في ظلال القرآن ج4 ص 2262
      11 ـ في ظلال القرآن ج4 ص 2260
      12 ـ بتصرف تفسير القرطبي ج6 ص298 ـ 299
      13 ـ الموسوعة الشرباصية في الخطب المنبرية ج5 ص 222
      14 ـ تأملات في قصة أصحاب الكهف ص14 ـ 15
      15 ـ أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ج4 ص23
      16 ـ تفسير الشعراوي ج14 ص8853
      17 ـ إعراب القرآن الكريم وبيانه مجلد4 ص450
      18 ـ تأملات في قصة أصحاب الكهف ص16 ـ 17
      19 ـ تأملات في قصة أصحاب الكهف ، أحمد محمد الشرقاوي ص28 ـ 29
      20 ـ تأملات في قصة أصحاب الكهف ص29 ـ 30
      21 ـ أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ج4 ص33
      22 ـ بتصرف تفسير القرطبي ج6 ص306
      23 ـ حصاد الخطب ج2 ص620
      24 ـ حصاد الخطب ج3 ص352
      25 ـ في ظلال القرآن ج4 ص 2262
      26 ـ تفسير كتاب الله العزيز ، الشيخ هود بن محكم الهواري ج2 ص450
      27 ـ حصاد الخطب ج1 ص221
      28 ـ تفسير الشعراوي ج14 ص8866 ـ 8867
      29 ـ تفسير الشعراوي ج14 ص8867 ـ 8868
      30 ـ في ظلال القرآن ج4 ص2265
    • فائدة :
      بقلم أ.د محمد جميل الحبال
      الإشارات العلمية والطبية في قصة (أصحاب الكهف)

      المقدمة والهدف من القصة :
      القرآن الكريم كتاب عقيدة ومنهاج حياة لإقامة وتكوين الإنسان الصالح والمجتمع الفاضل على هُدىً من الإيمان بالله سبحانه وتعالى وباليوم الآخر وبقية أركان الإيمان الأخرى قال تعالى : {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء/9] .
      ومن هذا المنطلق فإن ذكر القرآن الكريم لقصة أهل الكهف تهدف في جوهرها إلى :

      1. توضيح عقيدة التوحيد (الربوبية والألوهية) بقوله تعالى على لسان الفتية المؤمنين: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف/14] .

      2. إظهار وإثبات عقيدة البعث والنشور والإيمان باليوم الآخر في قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف/21] .

      أما الإشارات العلمية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها الواردة ضمن سياق هذه القصة المهمة فهي تابعة للحقيقتين أعلاه ودالة عليهما .
      ونحن في هذا البحث سنذكر أهم الإشارات العلمية والطبية المستنبطة من قصتهم إظهاراً للإعجاز والسبق العلمي في القرآن الكريم في عصر العلم والمعرفة ، فقد بدأت حقائق العلم ونواميس الكون المكتشفة تفسر لنا كثيراً من إشارات القرآن الكونية وتكشف لنا عن كنوزه ، وتخدمنا في فهم معانيه وبيان صدقه وأنه كلام الله عز وجل الذي أحاط بكل شيء علماً ، قال تعالى {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان/6] .
      يقول الدكتور إبراهيم الخولي الأستاذ بكلية اللغة العربية في جامعة الأزهر عن قصة أهل الكهف : ( إن القرآن الكريم حريص بصفة عامة في قصصه على عدم النص على الأشخاص أو الأماكن أو الأعداد وغيرها من التفاصيل التي لا ضرورة لها فيما يتصل بالمغزى والسباق لما يريده ومع هذا يشير إلى قرائن يستطيع المدقق أن يكتشف من خلالها حقائق كثيرة كأنما يقصد القرآن بذلك تحميل نصوصه كنوزاً خفية من آيات يجليها للناس حيناً بعد حين) <1>.

      أما تفاصيل قصة هؤلاء الفتية الذين آمنوا بالله وآثروا الهرب بدينهم واللجوء إلى كهف موحش ، فيمكن الرجوع إليها في كتب التفاسير لشيوعها . وسنذكر أدناه أهم الإشارات الطبية والعلمية في بيان هذه المعجزة القرآنية المتجددة .

      أولاً : الإشارات العلمية العامة .

      1. الأسلوب العلمي البليغ في بيان ملخص القصة أولاً ثم التفاصيل ثانياً :
      إن الآيات الأربع الأولى من السورة (9ـ12) التي تبدأ بها القصة ذكرت مجمل وخلاصة الأحداث (الموجز) ثم ذكرت التفاصيل في الآيات الأربع عشر التالية (13ـ26) بدليل ذكر مدة رقودهم في الموجز بقوله تعالى : {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف/11] . ثم بين هذه المدة بعد ذلك في التفصيل في آخر آية من قصتهم بقوله تعالى : {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف/25].

      2. إظهار آيات الله وعجائبه في مخلوقاته :
      فالله تعالى أمر بالتفكر بها حيث أنها لا تقل عجباً عن آية أصحاب الكهف والرقيم بالرغم من كونها خارقة لقوله تعالى {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف/9] فإن في صفحات هذا الكون من العجائب ما يفوق قصتهم . وقد ذكر أبن كثير في تفسيره لهذه الآية ما نصه : ( أي ليس أمرهم عجيباً في قدرتنا وسلطاننا فإن خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار وتسخير والقمر والكواكب وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى وأنه على ما يشاء قادر ولا يعجزه شيء ، أعجب من أخبار أصحاب الكهف)<2> .
      ويقول صاحب تفسير الظلال ضمن هذا السياق : ( وإن قصتهم على غرابتها ليست بأعجب آيات الله ، وفي صفحات هذا الكون من العجائب وفي ثناياه من الغرائب ما يفوق قصتهم) <3>.

      3. المطالبة بالدليل العلمي :
      القرآن الكريم زاخر بالأدلة العلمية والبراهين العقلية على وجود الخالق والإيمان به وحده لا شريك له وببقية أركان الإيمان في حين أن المشركين والملحدين ليس لهم الأدلة العلمية الواضحة على صدق دعواهم . قال تعالى { هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف/15] . والسلطان البين هو الدليل والبرهان الواضحان .

      4. الاهتمام في المناقشات والأبحاث على الأمور الأساسية والمفيدة :
      يوجهنا القرآن الكريم دائماً إلى التركيز على الأمور العملية النافعة ويوصي بالابتعاد عن الأمور النظرية والتي لا تنفع ولا يترتب عليها عمل مفيد كعدد أصحاب الكهف أو أسمائهم في قوله تعالى { فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف/22] .

      ثانياً : الإشارات الطبية :
      كي ينام أصحاب الكهف بصورة هادئة وصحية هذه المدة الطويلة من دون تعرضهم للأذى والضرر وكي لا يكون هذا المكان موحشاً ويصبح مناسباً لمعيشتهم ، فقد وفّر لهم الباري عز وجل من الأسباب ما يحقق لهم ذلك ، قال تعالى { فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً} [الكهف/17] . يقول سيد قطب في تفسيره لهذه الآية:
      (وهنا ينكشف العجب في شأن القلوب المؤمنة فهؤلاء الفتية الذين يعتزلون قومهم ويهجرون ديارهم ، ويفارقون أهلهم ويتجردون من زينة الأرض ومتاع الحياة . هؤلاء الذين يأوون إلى الكهف الضيق الخشن المظلم هؤلاء يستروحون رحمة الله ويحسون هذه الرحمة ظليلة فسيحة ممتدة { ينشر لكم من رحمته} ولفظة {ينشر} تلقي ظلال السعة والبحبوحة والانفساح فإذا الكهف فضاء فسيح رحيب وسيع تنتشر فيه الرحمة وتتسع خيوطها وتمتد ظلالها وتشملهم بالرفق واللين والرخاء.. إن الحدود الضيقة لتنزاح وإن الجدران الصلدة لترق وإن الوحشة الموغلة لتشف فإذا الرحمة والرفق والراحة والارتفاق) <4>.
      وسنذكر أدناه بعضاً من هذه الأسباب التي وفرها لهم الله سبحانه وتعالى للمحافظة عليهم مدة رقودهم الطويل ومنها :

      1. تعطيل حاسة السمع :
      حيث أن الصوت الخارجي يوقظ النائم وذلك في قوله تعالى : {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف/11] . والضرب هنا بمعنى التعطيل والمنع أي عطلنا حاسة السمع عندهم مؤقتاً والموجودة في الأذن والمرتبطة بالعصب القحفي الثامن . ذلك أن حاسة السمع في الأذن هي الحاسة الوحيدة من بين الحواس الأخرى التي تعمل بصورة مستمرة في كافة الأحوال وتربط الإنسان بمحيطه الخارجي .
      2. تعطيل الجهاز المنشط الشبكي (Ascending Reticular Activating System) :
      الموجود في جذع الدماغ والذي يرتبط بالعصب القحفي الثامن أيضاً (فرع التوازن) ذلك أن هذا العصب له قسمان :

      الأول : مسؤول عن السمع..
      والثاني : مسؤول عن التوازن في الجسم داخلياً وخارجياً..
      ولذلك قال الباري عز وجل : { فضربنا على آذانهم} ولم يقل : (فضربنا على سمعهم) ! أي أن التعطيل حصل للقسمين معاً وهذا الجهاز المهم مسؤول أيضاً عن حالة اليقظة والوعي وتنشيط فعاليات أجهزة الجسم المختلفة والإحساس بالمحفزات جميعاً وفي حالة تعطيله أو تخديره يدخل الإنسان في النوم العميق وتقل جميع فعالياته الحيوية وحرارة جسمه كما في حالة السبات والانقطاع عن العالم الخارجي قال تعالى : { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ/8] والسبات هو النوم والراحة و(المسبوت) هو الميت أو المغشي عليه (راجع مختار الصحاح ،ص214). فنتج عن ذلك ما يأتي :

      أ. المحافظة على أجهزتهم حية تعمل في الحد الأدنى من استهلاك الطاقة فتوقفت حركة عقارب الزمن بالنسبة لهم داخل كهفهم إلا أنها بقيت دائرة خارجه (كالخلايا والأنسجة التي تحفظ في درجات حرارة واطئة فتتوقف عن النمو وهي حية) . فتوقف النمو الجسدي والتقادم بالعمر بالنسبة لهم (Aging process) .
      ويرى بعض المفسرين في قوله تعالى : {وأزدادوا تسعاً} ، أن في هذه العبارة إضماراً يمكن تفسيره بوجهين أو أكثر فمن المشهور أن المضمر هو لفظ يدل على الزمن الذي مكثوا فيه في الكهف أي أن المعنى المقدر : (وإزدادوا لبث تسع سنين) ويحتمل أيضاً أن تكون هذه الزيادة بالشهور أو الأسابيع أو الساعات . علماً أن جمهور المفسرين قالوا أن المراد بذلك (كما سيأتي لاحقاً) : ثلاثمائة سنة شمسية وثلاثمائة وتسع سنين قمرية . (ويجوز أن يكون المضمر هو لفظ يدل على مقدار ما ازدادوا في العمر لأن عمر أجسادهم حصل فيه توقف فلم يطابق الزمن الذي لبثوا فيه نائمين ويكون تقدير المضمر في هذه الحالة والله أعلم : (وازدادوا تسعاً في أعمارهم) وهي تسع ساعات وربما أيام بدليل قوله تعالى : { قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم} [الكهف/19] . معنى ذلك أنه لم يكن لتقدم العمر عندهم أثر ظاهر عليهم وهذا التقدير أقرب إلى ظاهر الآية لأن الازدياد هنا مسند إليهم كما هو في نص الآية وأما في التقدير الأول فإن الازدياد مسند إلى مضمر آخر تقديره : (وازدادوا لبث تسع سنين) في حساب من يحسب بالسنين القمرية)<5> .

      ب. تعطيل المحفزات الداخلية والتي توقظ النائم عادة بوساطة الجهاز المذكور أعلاه كالشعور بالألم أو الجوع أو العطش أو الأحلام المزعجة (الكوابيس) .

    • 3. المحافظة على أجسامهم سليمة طبياً وصحياً وحمايتها داخلياً وخارجياً والتي منها :

      أ. التقليب المستمر لهم أثناء نومهم كما في قوله تعالى {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف/18] ، لئلا تأكل الأرض أجسادهم بحدوث تقرحات الفراش في جلودهم والجلطات في الأوعية الدموية والرئتين وهذا ما يوصي به الطب التأهيلي حديثاً في معالجة المرضى فاقدي الوعي أو الذين لا يستطيعون الحركة بسبب الشلل وغيره .

      ب. تعرض أجسامهم وفناء الكهف لضياء الشمس بصورة متوازنة ومعتدلة في (أول النهار وآخره) للمحافظة عليها ومنعاً من حصول الرطوبة والتعفن داخل الكهف في حالة كونه معتماً وذلك في قوله تعالى : {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَتَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف/17] . والشمس ضرورية كما هو معلوم طبياً للتطهير أولاً ولتقوية عظام الإنسان وأنسجته بتكوين فيتامين د (vitamin D) عن طريق الجلد ثانياً وغيرها من الفوائد الكثيرة الأخرى .
      يقول القرطبي في تفسيره (وقيل { إذا غربت تقرضهم} أي يصيبهم يسير منها ، مأخوذ من قراضة الذهب والفضة أي تعطيهم الشمس اليسير من شعاعها… إصلاحاً لأجسادهم… فالآية في ذلك أن الله تعالى آواهم إلى كهف هذه صفته لا إلى كهف آخر يتأذون فيه بانبساط الشمس عليهم في معظم النهار والمقصود بيان حفظهم عن تطرق البلاء وتغير الأبدان والألوان إليهم والتأذي بحر أو برد)<6>.

      ج. وجود فتحة في سقف الكهف تصل فناءه بالخارج تساعد على تعريض الكهف إلى جو مثالي من التهوية وتبديل هواءه بصورة مستمرة والإضاءة عن طريق تلك الفتحة مع وجود الفجوة (وهي المتسع من المكان) في الكهف التي ذكرها القرآن في قوله تعالى: { وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف/17] . مما جعل هذا المكان مناسباً لهم .

      د. الحماية الخارجية : بإلقاء الرهبة عليهم وجعلهم في حالة غريبة جداً وغير مألوفة لا هم بالموتى ولا بالأحياء (إذ يراهم الناظر كالأيقاظ يتقلبون ولا يستيقظون كما سيأتي لاحقاً) بحيث أن من يطلع عليهم يهرب هلعاً من مشهدهم وكان لوجود الكلب في باب فناء الكهف دور في حمايتهم (كأنه يحرسهم) في قوله تعالى : {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف/18] . إضافة إلى تعطيل حاسة السمع لديهم كما ذكرنا أعلاه كحماية من الأصوات الخارجية .

      هـ. حمايته تعالى لأعينهم وإلقاء الرهبة منها : ففي قوله تعالى {وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود} [الكهف/18] . فيه إشارات علمية دقيقة جداً فقد ثبت طبياً :

      1. أن العين في حالة كونها منفتحة على الدوام ولأسباب مرضية متعددة تتعرض للمؤثرات الخارجية فتدخلها الجراثيم والأجسام الغريبة مما يؤدي إلى حدوث تقرحات القرنية (مقدمة العين) وعتمتها (Corneal Opacity) وبالتالي فقدان حاسة البصر .

      2. وكذلك فإن العين في حالة كونها منغلقة على الدوام يؤدي ذلك إلى ضمور العصب البصري بعدم تعرضه للضوء الذي يمنع العين من قيامها بوظيفتها إذ أنه من المعروف في علم وظائف الأعضاء (علم الفسلجة) أن أي عضو كان من أعضاء الإنسان أو أجهزته يصاب بالضمور والموت التدريجي إن لم تهيأ له الأسباب للقيام بوظيفته (Disuse Atrophy) . ودليل ذلك أن المسجونين لفترات طويلة في الأماكن المظلمة يصابون بالعمى .

      3. أما في الحالة الطبيعية (اليقظة) فإن أجفان الإنسان ترمش وتتحرك بصورة دورية لا إرادية على مقلة العين تعينها الغدد الدمعية التي تفرز السائل الدمعي النقي الذي يغسل العين ويحافظ عليها من المؤثرات الخارجية الضارة ، فهذه العملية المركبة تحافظ على سلامة العين. فالله سبحانه وتعالى الذي حافظ على أجسادهم وجلودهم من التلف بالتقلب المستمر مع التعرض المناسب لضوء الشمس كما ذكرنا سابقاً هو نفسه الذي حفظ عيونهم بهذه الطريقة العلمية من العمى فقد قال في محكم كتابه : {وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود} ولم يقل: (وتحسبهم أمواتاً وهم رقود) لأن أحد علامات اليقظة حركة رمش أجفانهم وقد يكون في هذا أيضاً (والله أعلم) السر في إلقاء الرهبة من منظرهم في قوله :
      { لو أطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً} [الكهف/18] فهذا الوضع الغريب وغير المألوف حيال كونهم ليسوا بموتى ولا بمستيقظين ولا بنائمين نومة طبيعية (لأن النائم لا ترمش عينه) ، هذه الهيئة (والله أعلم) هي التي جعلت الناظر إليهم يهرب فزعاً ويمتلئ قلبه رعباً من منظرهم وليس الفرار منهم بسبب طول شعورهم وأظافيرهم وتغير شكلهم وهذا بعيد كما يقول القرطبي في تفسيره ما نصه : (لأنهم لما استيقظوا قال بعضهم لبعض {لبثنا يوماً أو بعض يوم} ودل هذا على أن شعورهم وأظفارهم كانت بحالها.. والصحيح في أمرهم أن الله عز وجل حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها لتكون لهم ولغيرهم فيهم آية . فلم يبل لهم ثوب ولم تغير صفة... وأيقظهم الله من نومهم على ما كانوا عليه من هيئاتهم في ثيابهم وأحوالهم)<7>.

      وخلاصة القول فإن الله تعالى هيأ لأهل الكهف كل أسباب الحماية الطبيعية والطبية فقد جعل الشمس تدخل كهفهم بصورة متوازنة وكأنها حانية عليهم ترعاهم في الصباح والمساء وقلب أجسادهم فحفظها من التلف وعطل حواسهم عن التأثر بالمحفزات الداخلية والخارجية وجعل أعينهم ترمش فحافظ عليها من العمى وجعل فوق الكهف فتحة لتغيير هواء الكهف بصورة متواصلة وحماهم كذلك من دخول أحد عليهم وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى وقد يكشف عنه العلم مستقبلاً .

      4. الكلب حيوان تجريبي :
      جرت على الكلب نفس أحوال أصحاب الكهف وفي ذلك إشارة احتمالية إلى أنه يصلح لإجراء التجارب العلمية عليه كنموذج تجريبي في حالة القيام بأبحاث طبية مستقبلاً (كالتجارب على الجهاز المنشط الشبكي في الدماغ مثلاً) . علما أن ذكر الكلب لم يرد في الأخبار التي وردت قبل الإسلام بخصوص قصة أصحاب الكهف وقد تفرد القرآن الكريم بذكره .

      ثالثاً : الإشارات الفلكية والجغرافية :

      1. الموقع الجغرافي : يقع الكهف في الأردن جنوب مدينة عمان (قرية الرقيم) بنحو 7 كم على خط عرض حوالي 32 درجة شمالاً وخط طول نحو 36 شرقاً ، وفتحة بابه متجهة إلى الجنوب وهو الموقع الجغرافي والمناخي المثالي في ذلك المكان بالنسبة لأحوال الجو ودرجة الحرارة وكمية التعرض للشمس خلال الفصول الأربعة وغيرها من العوامل الأخرى بحيث أصبح هذا المكان مرفقاً مناسباً من جميع النواحي الصحية والطبيعية لقوله تعالى { فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف/16] .

      2. السنة الشمسية والقمرية : كانت مدة رقودهم في الكهف (300) سنة شمسية وتعادل (309) سنة قمرية إذ أن الفرق بينهما هو (11) يوماً للسنة الواحدة ولمدة (300) سنة شمسية يتراكم الفرق ليكون (9) سنوات فتصبح (309) سنة قمرية وذلك في قوله تعالى { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف/25] وفي هذا إشارة إلى التقويمين الشمسي والقمري (الميلادي والهجري) كما ذكره معظم المفسرين قديماً وحديثاً<8>.

    • رابعاً : الإشارات الحسابية (الإعجاز العددي)

      1. بيان عددهم الحقيقي :
      استنبط العلماء وأولهم أبن عباس (رضي الله عنهما) أن عددهم هو (7) ، حيث قال : (أنا من القليل الذين استثناهم الله وكانوا سبعة)<9> وذلك من قوله تعالى { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ} [الكهف/22] . وقد تم هذا الاستنباط من خلال :

      أ‌. لوجود حرف (واو) الابتداء في قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} كما قرره الزمخشري في تفسيره الكشاف<10>. وتوضيح هذا التفسير هو أن الواو في قوله تعالى {وثامنهم} يجوز أن تكون للابتداء وهو كثير جداً في كلام العرب ، ومعنى ذلك أنه يجوز أن تنوي الوقفة في القراءة على قوله تعالى : {ويقولون سبعة} ، وهذه حكاية لقولهم . ثم تقرأ {وثامنهم كلبهم} على أنه قول الله عز وجل . فلما أقر الله عز وجل أن ثامنهم كلبهم عُلِمَ بذلك تصديق بكونهم سبعة .

      ب‌. المحاورة التي جرت بين أصحاب الكهف بعد استيقاظهم في قوله تعالى {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف/19] . حيث أن كلمة {قالوا} وردت مرتين وإن أقل الجمع هو ثلاثة في أحد قولي الأصوليين والقائل الأول هو واحد في قوله تعالى : {قال قائل منهم} . فأصبح المجموع سبعة .

      2. عدد كلمات الآيات الثلاث الأولى من القصة :
      وهي الآيات (9 ، 10 ، 11) وإلى قوله تعالى {سنين عدداً} هو (33) كلمة وتعادل عدد سنين الدورة الفلكية الشمسية والتي هي (33) سنة ، علماً أن كلمة (الشمس) تكررت في القرآن الكريم في (33) موضعا<11> .

      3. عدد الآيات والكلمات المتعلقة بقصتهم :
      إن سورة الكهف هي السورة رقم (18) في ترتيب المصحف واللافت للانتباه أن عدد آيات القصة هو (18) آية أيضاً وعدد كلماتها جميعاً هو (336) كلمة الذي هو من مضاعفات العدد (7) فإن (7×48=336) علماً أن الآيات الأربع الأولى من قصتهم والتي تمثل الموجز (خلاصة القصة) كما ذكرنا سابقاً هو (42) كلمة وهو من مضاعفات العدد (7) أيضاً حيث أن (7×6=42) وهذا العدد يمثل سُبُع عدد كلمات تفصيل القصة والبالغ (294) كلمة إذ أن (294÷42=7) . وقد يكون في ذلك إشارة إلى عددهم السباعي كما جاء أعلاه في بيان عددهم الحقيقي .
      والعدد (336) الذي يمثل مجموع كلمات القصة هو حاصل ضرب الأعداد (12×7×4) والتي تمثل عدد أشهر السنة (12) ، وعدد فصولها (4) وعدد أيام الأسبوع (7) والله أعلم بمراده .

      4. عدد الكلمات في قصتهم من بدايتها إلى قوله تعالى {ولبثوا في كهفهم} :
      حيث يبلغ عددها (308) كلمة وذلك من قوله تعالى {أم حسبت…} إلى قوله {…كهفهم} ثم تأتي بعدها عبارة { ثلاث مائة سنين وأزدادوا تسعا} بياناً وهي تعادل (309) رقماً ! فسنجد أن الكلمة (ثلاث) هي الكلمة (309) في القصة<12>.

      خامساً : الإشارات الآثارية :
      يقول الله تعالى { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف/21] . وكلمة {أعثرنا} تعني (أطلعنا) فقد عثر وأطلع الناس عليهم أولاً في عهد الملك الصالح (ثيودوسيس الثاني) وهم أحياء وتجدد العثور عليهم وعلى كهفهم مرة أخرى عام 1963 من قبل هيئة الآثار الأردنية قرب قرية (الرقيم) على بعد (7) كم جنوبي عمان ليتجدد ظهور هذه المعجزة القرآنية الكبرى<13>.
      (حيث كانت نتائج الحفريات والتنقيب كما يلي :

      1. تم العثور داخل الكهف على نقوش وحلي ونقود فضية بيزنطية ترجع إلى القرن الثالث الميلادي مصداقاً لقوله تعالى { فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف/19] والورق هو (العملة الفضية) التي كانوا يحملونها .

      2. تم العثور على سبعة قبور وعلى قبر كلب مع جماجمهم . قال تعالى { وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف/22] .

      3. تم العثور على المسجد (المعبد) فوق كهفهم ولا تزال اعمدته باقية وماثلة للعيان الذي ذكره القرآن في قوله تعالى { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف/21] .

      4. تم العثور على الفجوة التي بداخل الكهف التي يعتقد أن الفتية ناموا فيها وتبلغ مساحتها تقريباً 4×3 أمتار وترتبط بالخارج من خلال سقفه بفتحة (نفق) من الجهة الشرقية منه للتهوية والإنارة ، قال تعالى {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف/17] .
      فالآيات القرآنية الكريمة وما ورد فيها من أوصاف تنطبق تماماً على هذا المكان دون غيره)<14>. وهذا تأكيد لقوله تعالى { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف/21] أي أطلعنا الناس عليهم فاكتشفوا موقعهم ليستدلوا بذلك على صحة البعث والنشور وأن يوم القيامة حق . فكما حفظ الله سبحانه وتعالى القدير أجساد هؤلاء الفتية من البلى وأعاد إليها الروح بعد رقود طويل فإنه قادر على أن يجمع شتات الأبدان ورميمها ويعيد إليها الروح يوم الحساب<15>.
      وهذا هو المغزى الأساس من ذكر القرآن الكريم لهذه القصة المهمة وما الإشارات الطبية والعلمية المختلفة التي ذكرناها إلا تعزيزاً وبرهاناً لهذا الركن المهم من أركان الإيمان قال تعالى : { ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير * وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور} [الحج/6ـ7] .
      والحمد لله رب العالمين.
    • الهوامش :


      1) محمد تيسير ظبيان ـ أهل الكهف وظهور المعجزة القرآنية الكبرى ـ ص130 .
      2) أبن كثير ـ تفسير القرآن العظيم ـ 3/71ـ72 .
      3) سيد قطب ـ في ظلال القرآن ـ 5/85 .
      4) سيد قطب ـ في ظلال القرآن ـ 5/86 .
      5) الدكتور وميض رمزي العمري ـ اتصال شخصي .
      6) القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، 10/369 .
      7) القرطبي ـ الجامع لأحكام القرآن ـ 1/373ـ374 .
      8) محمد جميل الحبال ـ العلوم المعاصرة في خدمة الداعية الإسلامي (مطابقة الحقائق العلمية للآيات القرآنية) ، ص32 .
      9) وهبة الزحيلي ـ التفسير المنير ، 15/227 .
      10) المصدر نفسه .
      11) محمد جميل الحبال ـ العلوم المعاصرة في خدمة الداعية الإسلامي (مطابقة الحقائق العلمية للآيات القرآنية) ، ص33 .
      12) بسام جرار ـ ولتعلموا عدد السنين والحساب ، ص75 .
      13) محمد تيسير ظبيان ، أعظم اكتشاف تاريخي وأثري في القرن العشرين (أهل الكهف) ورفيق رجا الدجاني ، اكتشاف كهف أهل الكهف .
      14) عبد الله العمراني ـ النيام السبعة ـ مجلة العربي ـ العدد (216) ـ ص 35.
      15) مصطفى مسلم ـ مباحث في التفسير الموضوعي ـ ص207 . ونرى أن عبارة (أعادها إلى اليقظة) أولى من عبارة (أعاد إليها الروح) وذلك لدفع توهم أنهم ماتوا .



      المصادر والمراجع :


      1. ابن كثير ـ تفسير القرآن العظيم ـ الطبعة الأولى ـ دار الجيل ـ بيروت ـ 1988.
      2. القرطبي ـ الجامع لأحكام القرآن ـ الطبعة الأولى ـ دار الكاتب العربي ـ القاهرة ـ 1967 .
      3. بسام جرار ـ ولتعلموا عدد السنين والحساب ـ مركز نون للدراسات القرآنية ـ الطبعة الأولى ـ مطبعة الأمل ـ القدس ـ 1999 .
      4. حيدر المؤمن ـ كهف الرجيب في عمان ـ مجلة منار الإسلام ـ العدد 6 ـ ص38ـ43 ـ 1999.
      5. سيد قطب ـ في ظلال القرآن ـ الطبعة الرابعة ـ الدار العربية للطباعة والنشر والتوزيع ـ بيروت ـ 1968 .
      6. عبد الله العمراني ـ النيام السبعة وأصحاب الكهف ـ مجلة العربي ـ العدد 216 ـ ص33ـ35 ـ نوفمبر 1976 .
      7. محمد تيسير ظبيان ـ أهل الكهف وظهور المعجزة القرآنية الكبرى ـ الطبعة الأولى ـ دار الاعتصام ـ القاهرة ـ 1978 .
      8. محمد تيسير ظبيان ـ هل هذا هو الكهف الذي تحدث عنه القرآن ـ مجلة الوعي الإسلامي ـ العدد 47 ـ السنة الرابعة ـ ص52ـ57 ـ 1996 .
      9. محمد جميل الحبال ووميض العمري ـ الطب في القرآن ـ الطبعة الأولى ـ دار النفائس للطباعة والنشر ـ بيروت ـ 1997 .
      10. محمد جميل الحبال ومقداد الجواري ـ العلوم في القرآن ـ الطبعة الأولى ـ دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع ـ بيروت ـ 1992 .
      11. محمد جميل الحبال ـ العلوم المعاصرة في خدمة الداعية الإسلامي (مطابقة الحقائق العلمية للآيات القرآنية ـ مطبعة الموصل ـ الموصل ـ 2000 .
      12. محمود العبادي ـ الآثار الإسلامية في فلسطين والأردن ـ الطبعة الأولى ـ المطبعة التعاونية ـ عمان ـ 1973 .
      13. محمود شلبي ـ حياة أصحاب الكهف ـ الطبعة الأولى ـ دار الجيل ـ بيروت ـ 1985 .
      14. مصطفى مسلم ـ مباحث في التفسير الموضوعي ـ الطبعة الثانية ـ دار القلم ـ 1997.
      15. وهبة الزحيلي ـ التفسير المنير ـ الطبعة الأولى ـ دار الفكر ـ دمشق ـ 1991 .



      الدكتور محمد جميل الحبال
      طبيب استشاري وباحث في الاعجاز الطبي والعلمي في القرآن والسنة
      الموصل –العراق
      E-MAIL:ALHABBAL45@YAHOO.COM

      المصدر : alhabbal.info/dr.mjamil/
    • إلى الملتقى في قصة أخرى مع {أحسن القصص} دروس وعبر مع { قصة صاحب الجنتين} فإلى ذلك الملتقى أستودعكم الله حيث لا تضيع ودائعه..
      دمتم في حب الله ورحمته ووفقكم لطاعته