المكتبة الإسلامية

    • دعوة إلى الجنة








      هل تريدا بيتاً في الجنة ؟
      قال r : من بنى مسجداً لله بنى الله له في الجنة مثله .

      مسلم
      هل تريد أجر حجة ؟
      قال r : العمرة في رمضان تعدل حجة أو حجة معي .

      متفق عليه
      هل تريد أن تكون قريبا من الله ؟
      قال r : أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء.

      مسلم

      هل تريد أن يكتب لك أجر صيام سنة كاملة؟
      قال r : صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله .

      متفق عليه


      هل تريد أن يستجاب دعائك؟
      قال r: الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة.

      أبو داود
      هل تريد أن تنال رضى الله سبحانه وتعالى؟


      قال r: إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكل فيحمده عليها ويشرب الشرب فيحمده عليها.

      مسلم

      هل تريد أجر مجاهد في سبيل الله أو صائم أو قائم؟
      قال r : الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله, وأحسبه قال : وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر.

      متفق عليه
      هل تريد مرافقة النبي r في الجنة ؟


      قال r : أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابةوالوسطى.

      البخاري
      هل تريد حسنات كالجبال؟
      قال r: من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان قيل , وما القيراطان قال : مثل الجبلين العظيمين.

      متفق عليه

      هل تريد كنزاً من كنوز الجنة ؟


      قال r : لا حول ولا قوة إلا بالله.

      متفق عليه
      هل تريد أن لا ينقطع عملك بعد موتك ؟
      قال r: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له.

      مسلم
      هل تريد أن يضمن لك النبي الجنة بنفسه ؟
      قال r : من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة .

      متفق عليه

      هل تريد أن يثقل ميزان حسناتك؟
      قال r: كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان ( سبحان الله وبحمده . سبحان الله العظيم )

      البخاري
      هل تريد أن تقرأ ثلث القرآن في دقيقة ؟


      قال r: قل هو الله أحد , تعدل ثلث القرآن.

      مسلم
      هل تريد أجر قيام ليلة كاملة؟
      قال r: من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل , ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله.

      مسلم
      كـــــــــــــــــــــــــــــــن مــ الله ــع ولا تبــــــــالي
      :):)
    • الرسالة الأصلية كتبت بواسطة:ورد المنى

      دعوة إلى الجنة








      هل تريدا بيتاً في الجنة ؟
      قال الرسول صلى الله علية وسلم : من بنى مسجداً لله بنى الله له في الجنة مثله .

      مسلم
      هل تريد أجر حجة ؟
      قال الرسول صلى الله علية وسلم: العمرة في رمضان تعدل حجة أو حجة معي .

      متفق عليه
      هل تريد أن تكون قريبا من الله ؟
      قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء.

      مسلم

      هل تريد أن يكتب لك أجر صيام سنة كاملة؟
      قال الرسول صلى الله علية وسلم: صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله .

      متفق عليه


      هل تريد أن يستجاب دعائك؟
      قال الرسول صلى الله علية وسلم: الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة.

      أبو داود
      هل تريد أن تنال رضى الله سبحانه وتعالى؟


      قال الرسول صلى الله علية وسلم : إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكل فيحمده عليها ويشرب الشرب فيحمده عليها.

      مسلم

      هل تريد أجر مجاهد في سبيل الله أو صائم أو قائم؟
      قال الرسول صلى الله علية وسلم : الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله, وأحسبه قال : وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر.

      متفق عليه
      هل تريد مرافقة النبي r في الجنة ؟


      قال الرسول صلى الله علية وسلم : أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابةوالوسطى.

      البخاري
      هل تريد حسنات كالجبال؟
      قال الرسول صلى الله علية وسلم: من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان قيل , وما القيراطان قال : مثل الجبلين العظيمين.

      متفق عليه

      هل تريد كنزاً من كنوز الجنة ؟


      قال الرسول صلى الله علية وسلم : لا حول ولا قوة إلا بالله.

      متفق عليه
      هل تريد أن لا ينقطع عملك بعد موتك ؟
      قال الرسول صلى الله علية وسلم: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له.

      مسلم
      هل تريد أن يضمن لك النبي الجنة بنفسه ؟
      قال الرسول صلى الله علية وسلم : من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة .

      متفق عليه

      هل تريد أن يثقل ميزان حسناتك؟
      قال الرسول صلى الله علية وسلم كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان ( سبحان الله وبحمده . سبحان الله العظيم )

      البخاري
      هل تريد أن تقرأ ثلث القرآن في دقيقة ؟


      قال الرسول صلى الله علية وسلم: قل هو الله أحد , تعدل ثلث القرآن.

      مسلم
      هل تريد أجر قيام ليلة كاملة؟
      قال الرسول صلى الله علية وسلم من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل , ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله.

      مسلم

      عذرا على كتابةr بدلاً من الرسول صلى الله علية وسلم
      كـــــــــــــــــــــــــــــــن مــ الله ــع ولا تبــــــــالي
      :):)
    • نور الدين السالمي

      نسبه ومولده وتعلمة

      هو العلامة المحقق الشيخ نور الدين عبدالله بن حميد ابن سلوم ابن عبيد بن خلفان بن خميس السالمي أما والده فهو الشيخ حمد - رحمه الله - كان ذا فضل وعلم وتقوى ، فقد ولد شيخنا عبدالله بن حميد ببلدة الحوقين من ولاية الرستاق العمانية عام 1286هـ في هذه البلدة الطيبة العمانية ، تخلق بالأخلاق القرآنية وتعلم أصل اللغة العربية، وحفظ القرآن الكريم على والده الشيخ حميد رحمه الله. ولما بلغ الابن الثانية عشرة ( 12 ) من عمره كف بصره إلا أن الله عز وجل قد وهب له بصيرة مفعمة بالإيمان الراسخ ، والعلم الصالح ، وذكاء حادا وفظة قوية ، مع فهم عميق وإدراك شامل وأخلاق عالية. إن هذه المواهب الحسنة التي أنعمها الله عليه جعلته يهاجر إلى مدينة الرستاق التي كانت تعج بالعلماء الصالحين الذين رصدوا أنفسهم لخدمة الإسلام الحنيف ، في هذه المدينة المباركة التقى بشيخ جليل وهو العلامة راشد بن سيف اللمكي فنهل من مناهله العذبة ، ولم يمض وقت طويل حتى أصبح الشيخ السالمي عالما فذا ، له قدم راسخ في العلوم الشرعية والعلوم العقلية. إن شيخنا السالمي ، لم يكتف بهذا العلم الغزير ، بل كانت نفسه راغبة كل الرغبة في العلم في كل لحظة ، وهو يردد قول الله عز وجل: ( وقل رب زدني علماً ) ( طه : 114 ) وعملا بهذه الآية الكريمة فان شيخنا قصد العلامة الشيخ صالح بن علي ابن ناصر بن عيسى الحارثي بالمنطقة الشرقية فرحل إليها سنة 1308هـ. يقول الشيخ السالمي واصفا أستاذه: (( لقد كان رضي الله عنه أعلم أهل زمانه في الحلال والحرام وأشدهم حرصا على قوام الإسلام وأكثرهم خصالا في صفات الكرام)). إن هذا الأستاذ قد أدرك عمق شخصية تلميذه ، الشيخ السالمي، من حيث ورعه وأخلاقه وعلمه وذكائه ، فتمكن من فهم وحل المسائل المستعصية عن حلها معتمدا في ذلك على الأدلة القرآنية والسنة النبوية والاجتهاد، وشاءت الأقدار أن يستوطن الشيخ صالح بن علي الحارثي مدينة القابل ثم التحق تلميذه السالمي معه ، بهذه المدينة الكريمة ، إذ اصبح الشيخ صالح بن علي الحارثي المنهل الغزير الذي يقصده العلماء والناس والطلبة ليهلوا من علمه وأخلاقه وفتاويه وكيف لا ؟؟ وقد درس وألف في جل العلوم الشرعية والعقلية ، إذ لازم أستاذه إلى أن توفاه الله سنة 1314هـ . ثم لازم بعد ذلك ابنه عيسى بن صالح الحارثي وقدم له يد المساعدة والمشورة الحكيمة في سير شؤون الأمة العمانية وأظهر في ذلك قدرة فعالة وحنكة بالغة في تحقيق وحدة الأمة العمانية إلى أن توفاه الله عام 1332هـ فرثاه أعظم شعراء عمان وقال فيه الشاعر الكبير أبو مسلم ناصر بن سالم الرواحي في قصيده المشهور

      نكسي الأعلام يا خير الملل --------رزئ الإسلام بالخطب الجلل

      هذا هو العالم الكبير الشيخ السالمي رحمه الله ، إذ كان يعيش آمرا بالمعروف ، ناهيا عن المنكر إلى أن التحقت روحه المستبشرة بالرفيق الأعلى راضية مرضية، والآن سوف نحدثك عن أخلاقه وآثاره الفكرية، حتى تكتمل شخصيته أمامنا.


      أثار الشيخ السالمي الفكرية

      إن الشيخ السالمي رحمه الله ، يمثل البحر الزاخر بالمعرفة الخالصة والعلم العميق هذه الحقيقة تظهر جلية في آثاره المتميزة بغزارة المادة وعمقها الفكري- ولا أدل على ذلك من مصنفاته التي تزيد على عشرين عنوانا بين كتاب كبير وصغير، وعلى ضوء هذا يمكننا أن نقول بكل يقين: إن الشيخ السالمي رحمه الله يمثل بكل جدارة دائرة العلوم الدينية والتاريخية، والعلوم العقلية، ويحسن بنا أن نشير إلى هذه المصنفات. (1) شرح طلعة الشمس على الألفية في علم أصول الفقه- فهذا الكتاب يقع في مجلدين كبيرين وهو يعالج أصول الفقه- من حيث القرآن الكريم وعلومه كالناسخ والمنسوخ - وعلاقة القرآن الكريم بالسنة ومباحثها وأقسام الوحي ثم ختم الجزء الثاني بالاجتهاد (2) بهجة الأنوار- شرح أنوار العقول في التوحيد. (3) تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان - إن هذا الكتاب يقع في جزئين وهو يعالج تاريخ عمان قديما وحديثاً ولولا هذا الكتاب لضاع تاريخ عما الحديث بل يعد هذا الكتاب العمدة الأساسية في دراسة وتحليل أهم الأطوار التي مرت بها الأمة العمانية، ولا يمكن لأي باحث معاصر أن يستغني عنه. يقول عنه الدكتور عوض محمد خليفات الذي كتب عن نشأة الحركة الإباضية: (( ويعتبر نور الدين السالمي أشهر مؤرخي عمان في العصر الحديث ويعد كتابه تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان أشهر هذه الكتب وأنفعها للباحثين ويعتمد السالمي في كتابه هذا على كثير من المصادر القديمة التي يذكرها في ثنايا كتابه مثل كتاب أنساب العرب للعوتبي وسيرة أبي المؤثر وأبي سفيان محبوب بن الرحيل بالإضافة إلى مصادر أخرى غير إباضية مثل المسعودي وابن الأثير وابن خلدون وغيرها. ويذكر المستشرق ولكنسون بعد مقابلته لما جاء في تحفة الأعيان بما ورد في المصادر التي نقل عنها أن السالمي كان أمينا ودقيقا جداً في اقتباساته.وفي ظل هذه الحقيقة الأخلاقية والعلمية نقول أن الشيخ السالمي له باع طويل في التاريخ والسير، وأضاف إلى المكتبة الإسلامية هذه اللبنة الجوهرية في تاريخ أمتنا الإسلامية التي تفتقر إليها. (4)كتاب الحجج المقنعة في أحكام صلاة الجمعة، حيث بين في هذا الكتاب أن صلاة الجمعة واجبة على الأمة الإسلامية لتثبيت قلوب المسلمين وتوحيد صفوفهم. (5)شرح بلوغ الأمل في المفردات والجمل،إن هذا الكتاب قد كتبه السالمي في بداية حياته العلمية وهو يعالج قواعد الإعراب ويقول فيه: (( ليعلم المبتدئ أن العلم إنما ينمو قليلا قليلا وليتبين الفرق بين درجة المبتدئ والمنتهي. (6)جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام يقع هذا الكتاب في أربعة أجزاء وهذا الكتاب يعالج فيه فقه العبادات وفقه المعاملات والأحكام، وفيه جانب من الأخلاق والآداب العامة. (7)شرح الجامع الصحيح - مسند الإمام الربيع بن حبيب الفراهدي العماني يقع في ثلاثة أجزاء يقول رحمه الله ، اعلم أن هذا المسند الشريف أصح كتب الحديث رواية وأعلاها سندا وجميع رجاله مشهورون بالعلم والورع والضبط والأمانة والعدالة والصيانة كلهم أئمة في الدين وقادة للمهتدين. أما بالنسبة إلى الربيع بن حبيب فأصله من عمان من غضفان، قصد البصرة وأدرك جابراً وأخذ نه وعن ضمام بن السائب وأبي عبيدة مسلم ، وأبي نوح صالح بن نوح الدهان، وبعد وفاة أبي عبيدة أمسى زعيما للمدرسة الإباضية وفي آخر عمره رحل إلى عمان وتوفي فيها وذلك سنة 170هـ. (8)مشارق أنوار العقول ويقع في جزئين كبيرين وهذا الكتاب قد سلط الأضواء على علم أصول الدين، إذ يبين فيه معنى التوحيد ونفي الأضداد والأنداد والتجسيم عن الله والأبواب الأخرى قد عالجت مفهوم الإيمان والإسلام القضاء والقدر والعدالة الالهية واخيرا التوبة وأحكامها ، إن هذا الكتاب جدير بالدراسة والتـأمل وهو لا يقل ولن قل عن أمهات الكتب في العقيدة وأصول الدين ككتاب العقيدة النظامية لإمام الحرمين الجويني. وهناك كتب أخرى يمكننا أن نشر إليها دون تحليل مخافة من الوقوع في الإطالة فهذه الكتب هي: العقد الثمين لأجوبة نور الدين، تلقين الصبيان فيما يلزم الإنسان ، غاية المراد، قصيدة لامية في الاعتقاد، المنهل الصافي في العروض والقوافي، معارج الآمال على مدارج الكمال. وله كذلك ديوان شعري في غاية البلاغة والفصاحة، وشعره يتميز بصدق العاطفة فهي نابعة من إيمان عميق بما يقوله فامتزج شعره بالعقيدة الإسلامية امتزاجا كليا متأثرا بالقرآن الكريم أسلوبا ومعنى وأخلاقا وقال رحمه الله يرثي أبا عيسى ونجله وحميد سيف ابن سعيد البوسعيدي وسعيد الراشدي ووالده حميد بن سلوم:

      صبرا على مضض المصارع-------- فالدهر للأعمار قاطع

      هون فإن العمر في الإ -----------نسان من بعض الودائع

      كف المدامع أن تسيل---------- فما عسى تجدي المدامع

      فاصبر وإن مضت الأفا -----------ضل في التراب وفي البلاقع

      وقال رحمه الله في إحياء الدين الإسلامي:

      هو المجد فاطلبه وإن عز طالبه----- وجد وإن ضاقت عليك مذاهبه

      وسارع إلى تشييد أركانه فلا---------- فرار لنا والعدل هدت جوانبه

      أليس الهدى إيثار سنة أحمد أما---- بزغت في المجد شمسا مناقبه

      أليس سبيل العز أولى بذي النهى-------- وإن كدرت للوالدين مشاربه

      هذه هي عينه صغيرة جدا من شعره استعرضناها بحيث أن الشعر في نظره وسيله لغية إسلامية رفيعة التزم بها ولم يحيد عنها وكان الصدق والالتزام بالأخلاق القرآنية مبدأ وسلوكا في آن واحد لا فصل بينهما ، فقد غرس رحمه الله هذه الأخلاق في طلابه الذين تتلمذوا عليه فهم كثيرون، إذ أن الذين حملوا لواء النهضة العمانية الحديثة قد تخرجوا من مدرسته
      .

      تلاميذه

      إن الذين كتبوا عن الشيخ السالمي رحمه الله قد أكدوا أن مدرسته تميزت بالطابع الإسلامي الأصيل القائم أساسا على القرآن الكريم والسنة الشريفة، ففكره كان بعيدا عن الجمود الفكري، ولا أدل على ذلك من أخذ ببعض الآراء المجتهدين في فتاويه من غير الإباضية، معتمدا على العقل والنقل في تعليلاته فالعقل كما يقل يرى الأشياء كما هي، فهو المعيار الذي لا يمكن أن يخطئ في التمييز بين الخطأ والصواب وبين الحق والباطل إذا تجرد عن غشاوة الوهم ، لأن هدف الشيخ السالمي هو تكوين روح النقد والعلم عند طلابه دون الخروج عن القرآن والسنة. وهكذا فإن هناك مجموعة كبيرة من الأعلام العظام قد تخرجت من مدرسته يقول الشيخ أبو إسحاق إبراهيم أطفيش رحمه الله: (( تلاميذه كثيرون لا نبالغ إذا قلنا إن رجال العلم اليوم بعمان جلهم من تلاميذه ولقد نبغ كثيرون وفي مقدمتهم الإمام العلامة الأفخم المؤيد أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن سعيد بن خلفان الخليلي الخروصي، وحسبك أن صفوة الأمة هناك والذين قامت عليهم الإمامة والملك هم تلاميذه ، وهذه الروح التي نفخها فيهم حتى كانوا حمى للدين وللأمة من أكبر الشواهد على إخلاصه وعلو شأنه ومكانته ، ولا بأس أن نشير إلى بعض هؤلاء الرجال العظام: 1-الإمام العادل، سالم بن راشد الخروصي. 2-العلامة الجليل، رئيس القضاة: أبو مالك عامر بن خميس بن مسعود، كان معا ضدا لشيخه في حلو الزمان ومره وله التآليف الضخمة. 3-العلامة الأمير عيسى بن صالح الحارثي. وعلى هذا يمكننا القول بأن التربية الإسلامية الصالحة التي أثرت في رجال نهضة عمان والتي نهجها الشيخ السالمي كانت كلها سلوك عمل خير، فرض أثره الفعال على طلابه وهو يرى ويؤمن بأن لا قيمة للقول ما لم يجد سنده في الحياة العامة التي يعيشها الإنسان يقول رحمه الله:

      والعلماء إن فسدوا اشر-------- من غيرهم وفعلهم أضر


      أخلاقه ودعوته إلى الوحدة الإسلامية

      يقول أحمد شوقي:

      وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت------ فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا

      نقول هنا، إن الأخلاق الفاضلة كالتقوى والعدالة والإحسان والرحمة هي عناصر أساسية في بناء الأمة القوية.وبدون هذه الأخلاق تكون الأمة عرضة للزوال والزلازل في مسيرتها اليومية بحيث أن هناك عدة حضارات قديمة وحديثة انهارت بسبب انغماس شعبها في الأخلاق الرذيلة، كالشرك بالله، وعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والرشوة والنفاق. إن الشعوب اليوم في أشد حاجة إلى الأخلاق الفاضلة المتمثلة ف القدوة الحسنة والمثابرة على فعل الخير، هذه الحقيقة قد جسمها شيخنا السالمي رحمه الله إذ يقول فيه نجله: أبو بشير محمد شيبة بن نور الدين عبدالله بن حميد السالمي: (( كان رضي الله عنه شديد الغيرة على محارم الله تعالى ، يقول الحق وينطق بالصدق مشهوراً بالبسالة والصلابة،كثير الرد على من خالف ملة الإسلام، مشغول البال بأمته يفرح بما ينفعها، ويحزن لما يضرها وإنه ليكتئب إذا أصيب أحد من الأمة بحدث ولو بالصين وهو في ذلك ممثل بآداب الرسول صلى الله عليه وسلم وهي آداب القرآن الكريم. ويقول أيضا كان جوادا سخيا قل ما أكل طعاما وحده لازدحام الضيوف بناديه وكثرة ملازميه المغترفين من فيض أياديه، يقدم للضيف ما حضره بلا تكلف ولا بطر ، كثير التفقد والتعرف على حاجة إخوانه وتلاميذه ليواسيهم. إن أخلاق الشيخ السالمي رحمه الله لم تكن نظريه صوريه بعيدة عن الواقع الذي يعيشه الإنسان، بل إن أخلاقه كانت خيرة خالصة مرتبطة بالحياة التي يعيشها هذه هي الأخلاق القرآنية التي يجب أن تسود كل تصرفاتنا، بحيث تكون بعيدة كل البعد عن مظاهر الرياء والسمعة بين الناس، وإلا كانت تلك الأعمال عند الله هباء منثورا عبارة عن ذرات ترابية لا ترى إلا تحت أشعة الشمس بصعوبة، يقول الله عز وجل: ( وقدمنا إلى ماعملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) ( الفرقان 230 ) وفوق هذا فإن الشيخ السالمي رحمة الله كان من دعاة الوحدة الإسلامية ما دام الإسلام دينها، ومحمد رسولها، والقرآن إمامها ونهجها في الحياة وأن الإختلاف الحاصل اليوم بين أبناء الأمة الإسلامية يعود أساسا إلى المطامع السياسية التي أثرها السلبي في الإسلام. لقد بعث إليه الشيخ سليمان بن عبدالله الباروني رسالة منه أن يضع الحلول الجذرية لوحدة الأمة الإسلامية مبينا طبيعة المرض وإعطاء الدواء الشافي. يقول الشيخ السالمي رحمه الله (( قد نظرنا في الجامعة الإسلامية فإذا فيها كشف الغطاء من حقيقة الواقع فلله ذلك الفكر المهدي لتلك الحقائق، نعم نوافق على أن منشأ التشتيت هو اختلاف المذاهب وتشعب الآراء وهو السبب الأعظم في افتراق الأمة كما اقتضاه نظرك الواسع في بيان الجامعة الإسلامية منها: التحاسد، والتباغض والتكالب على الحظوظ العاجلة ومنها: طلب الرئاسة والاستبداد بالأمر، وهذا هو السبب الذي نشأ عنه افتراق الصحابة في أول الأمر في أيام علي ومعاوية. ثم نشأ عنه الاختلاف في المذاهب وجمع الأمة بعد تشعب الخلاف ممكن عقلا مستحيل عادة والساعي في الجمع مصلح لا محالة، وأقرب الطرق له أن يدعو الناس إلى ترك الألقاب المذهبية ويحثهم على التسمي بالإسلام ( إن الدين عند الله الإسلام ) ( آل عمران : 19) فإذا استجاب الناس إلى هذه الخصلة العظيمة ذهبت عنهم العصبية المذهبية، فيبقى المرء يلتمس الحق لنفسه، ويكون الحق أولا عند آحاد من الرجال ثم يظهر شيئا فيصير الناس إخوانا. وهكذا تدرك كل الإدراك أن الشيخ السالمي رحمه الله كان مثالا لحب الخير والدفع عن مصير الأمة الإسلامية ووحدتها الجوهرية المقدسة يقول الله عز وجل ( وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ) ( المؤمنون: 52) فهذه الوحدة قائمة على وحدة العقيدة والعبادة ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) ( الأنبياء: 92) 0 ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ( الذاريات). ومن هنا يتضح لنا أن الاختلاف الموجود بين هذه المذاهب يعود أساسا إلى المصالح الدنيوية، حب الزعامة التحاسد التباغض، وكل فرقة تدعي أنها على حق وصواب وغيرها في ضلال، فهذا الاختلاف هو النتيجة للفتنة الكبرى التي وقعت بين علي ومعاوية ثم الانقسامات التي وقعت بعد ذلك بين المسلمين إلى يومنا هذا. وكثيرا ما يتأوه قائلا- ذهب الدين ، ذهبت المروءة ، ذهبت الغيرة ذهبت الحمية طمع فينا الخصم - طلبنا بالمكائد ، نصب لنا الحبائل وكان رحمه الله يقول:

      حرب النصارى اليوم بالدواهي -------والكل منا غافل ولا هي

      فيأخذون الدار بالخدائع---------------- وإنها أقوى من المدافع

      إن هذه الحقيقة قد تجسمت في تاريخ أمتنا الإسلامية بسبب الاختلاف وعدم احترام رؤية الآخرين، فاستغل الخصم هذه الحالة فاستغلها وترك المسلمون الأصول الواضحة في القرآن الكريم، واستمسكوا بعض الجزئيات وأدى بهم الأمر إلى تكفير بعضهم وهذا هو بعينه الخروج عن جادة الإسلام الصحيح. وهكذا ندرك أن الدعوة المذهبية لا قيمة لها دون عمل إسلامي صالح كأن يقول المسلم: أنا إباضي ،وأنا مالكي ، وأنا حنبلي ، وأنا شافعي وأنا شيعي. إن الانتساب إلى هذه المذاهب كما يرى الشيخ السالمي ، لا قيمة له مادام الإنسان لم يكن مسلما ، ورعا تقيا، صالحا، لأن كل المذاهب الإسلامية تفقد قيمتها بدون أن تتمسك بالأصل الثابت وهو القرآن الكريم ، والسنة الشريفة، وهذا الأصل لا يجيز الفصل بأية حال من الأحوال بين القول والعمل ، نحن لا نستطيع أن نقول لأي إنسان بأنك كريم جواد حتى يخرج ما يلزمه من المال الذي يملكه وبدون هذا فإن صفة الكرم ستفقد دلالتها ومعناها الحقيقي. إن هذه الحقيقة تدرك بداهة ومن هنا نجد شيخنا الجليل الشيخ السالمي قد ركز في آثاره الفكرية على الربط بين القول والعمل الصالح يقول رحمه الله في كتابه القيم - جوهر النظام -:

      وإنما الإيمان قول وعمل---------- ونية فهو على هذا استقل
      كـــــــــــــــــــــــــــــــن مــ الله ــع ولا تبــــــــالي
      :):)
    • [TABLE='width:70%;'][CELL='filter: glow(color=burlywood,strength=5);']
      بارك الله في امراة مثلك أبت الا ان تبلغ رسالتها وتنشر العلم والمعرفة الاسلامية في المجتمع وشكرا لك على تواصلك المستمر والى الامام دائما .
      [/CELL][/TABLE]
    • قراءات في الفكر الإباضي

      الحلقة الأولى



      قال الشيخ الأستاذ علي يحيى معمر رحمه الله تعالى:

      " والمذهب الإباضي ليس مذهباً سرياً ، وليست أصوله التي ينبني عليها خافية أو مجهولة ، وليس أتباعه ممن يستترون أو يختفون ، فهم لا يقيمون لغير الله وزناً في هذا الوجود ، ولا ينتظرون عن أعمالهم جزاء من غير الله ، ولا يتبعون في تصرفاتهم غير الحق.

      إنه مذهب ملأ الدنيا حقاً وعدلاً واستقامة ، وضرب المثل الأعلى في النزاهة والإنصاف في أدوار من التاريخ ، وسيملأ الدنيا بذلك عندما يأذن الله . ولست أقصد بذلك مثل خرافة الإمامة عند الشيعة ، ولا قصة المهدي المنتظر ، وإنما أقصد أن أقول : إن المذهب الإباضي يستمد قوته من الإسلام، الذي اختاره الخالق ليكون دين البشرية جمعاء ، كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، لم ينحرف به عن صراط الله السوي غلو ولا تفريط ، ولم تنتشر فيه الخرافة التي يبثها مشائخ طرق يتصيدون بها الدنيا عن طريق الدين ، ولم يتجمد بتحكم فقهاء على العقول والمدارك فيمنعون الاجتهاد ، ويقصرونه على عصر أوناس لا يحق لغيرهم أن يصلوا إليه ، وتُعَطل العلوم والأفهام، فلا تعطى حق الحرية في البحث والتنقيب وإعطاء الأحكام. بدعوى أن الاجتهاد أغلقت أبوابه ، واحتفظ الفقهاء الجامدون بالمفاتيح في مخبأ سري لا يهتدي إليه الباحثون.

      إن المذهب الإباضي ، يستمد قوته من الإسلام نفسه ، لأنه يحتفظ بصفاء النبع الذي يصدر منه ، وعندما يثوب المسلمون إلى رشدهم ، ويعودون إلى دين ربهم ، نظيفاً من البدعة ، نظيفاً من الخرافة ، نظيفاً من الغلو ، نظيفاً من الجمود ، ونظيفاً من الأباطيل التي ألصقها جهل الإنسان بدين الله القويم. عند ذلك يجد المسلمون أنفسهم على الإسلام الحق، الذي ملأ الدنيا رحمة وعدلاً ، واستقامة ونزاهة وحقاً . وعلى ذلك الإسلام الحق لا تزال هذه الطائفة التي سماها التاريخ فرقة الإباضية ، وأصر أن يجعل لهم إماماً كما لغيرهم من الفرق أئمة ، ولو أن إمامهم الحق الذي لا يهتدون بغير هديه ، ولا يقلدون سواه ، إنما هو محمد بن عبد الله ، صلى الله عليه وسلم ، ليس لغيره حق الإمامة إلا بالأسوة الحسنة ، والتتبع للسنة الحميدة القوية ، والإيمان المطلق بأن هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم في القول والعمل ، هو الهدى الذي أمر الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يكونوا عليه

      وإذا جارى الإباضية المؤرخين ، وانتسبوا إلى عبد الله بن إباض ، واتخذوا لهم اسماً كما لسائر الفرق أسماء ، فلا يعني ذلك أنهم يقلدون الرجال ، ويقدسون أقوالهم ، ويتبعونهم اتباعاً أعمى ، ويرفعون أولئك الرجال إلى مراتب الكمال ، التي لا يصلها إلا أنبياء الله المصطفون ، وإنما يحرصون أن لا يأخذوا دينهم إلا عن من توفرت لهم فيه الثقة والأمانة في دين الله : الأمانة في القول ، والأمانة في العمل.

      والإباضية لا يقدسون الرجال ، ولا يجعلونهم علامة على الحق ، ولا يوجبون تقليد غير المعصوم ، ولا يتبعونهم ما لم يثبت الدليل الشرعي صواب مسلكهم ، أو يرد النص بأنهم على هدى محمد عليه السلام، كما شهد الحديث الشريف لعمار رضي الله عنه ، ولبعض الصحابة رضوان الله عليهم.

      قال فخر المجتهدين قطب الأئمة ، رحمه الله تعالى في رده على العقبي : " وإن أردت أنهم مهملون لا إمام لهم ، فقد سهوت ، فإن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم "

      ولن يعظم في نظر الإباضية إلا المؤمن الذي يستمسك بسنة النبي عليه السلام ويسلك المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها ، ومهما بلغ الرجل من العلم والعمل فإن في مقاله مأخوذاً ومتروكاً غير من قال فيه الكتاب الكريم : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى )

      ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة )

      بهذه النظرة الواقعية ينظر الإباضية إلى أئمتهم ، فهم بشر غير معصومين ، تحتمل أقوالهم وأعمالهم الخطأ والغفلة والنسيان ، ولذلك فما يصح تقليدهم لأفعالهم أو لأقوالهم ، وإنما تؤخذ عنهم تلك الأقوال ، ويقتدى بهاتيك الأفعال ، حين يقيمون على صحتها وصوابها الدليل ، الذي لا يقبل التأويل ، فاتباعهم في قول ليس تقليداً لهم ، ولا اتباعاً لرأيهم ، وإنما هو اتباع لمن يتبعون ، وتقليد لمن به يقتدون ، وبهديه يهتدون ، وإلى حكمه يرجعون " .

      ( الإباضية في موكب التاريخ المجلد الأول الحلقة الأولى ص 5 –7 )










      الحلقة الثانية



      قال الأستاذ الشيخ علي يحيى معمر رحمه الله :

      " ليس من الدعوى أو التبجح أن أقول إن الإباضية من أولى الفرق الإسلامية التي تحرص أن لا يتخطى أفرادها الحدود التي رسمها لهم الدين ، وأن يكون المسلم منها صورة صحيحة حقيقية لما رسمه الإسلام ، وأوضحته سيرة السلف الصالحين ، وليس معنى هذا أنه لا تقع معصية من إباضي ، فإن هذا ليس من طبع البشر ، وإنما المقصود أنه عندما يرتكب أحدهم معصية ، فإما أن تكون مما يعلمه الناس ، أو مما يلم به الفرد مستتراً حين يغلبه الشيطان . فإذا كان الخطأ من النوع الأول ، بادر المسلمون إلى إعلان البراءة منه ، وقطع التعامل معه ، والجفوة عليه حتى من أقاربه وأهله ، حتى يعترف بما ارتكب على الأشهاد ، ويعلن توبته إلى ربه ورجوعه إليه ، ويعاهد الله ألا يعود ، وهكذا يرجع العاصي إلى حظيرة الأمة ، وتطهر من أرجاس المعصية ، ليعاود الكفاح في سبيل الله ، وعمل الخير وقد تطهر والدعوة إليه ويحيا حياة نظيفة في مجتمع نظيف.

      أما إذا كان من القسم الثاني أي من الأخطاء التي يلم بها الإنسان مستتراً . فإن ذلك يجعله يسير مع الركب في الظاهر ، على أن ضميره لا يكف عن التوبيخ وهو يعتقد أنه ليس فيما يعصى الله به صغير كما قال ترجمان القرآن رضي الله عنه ، وأن من ورد على ربه بهذه الحالة سيكون من أصحاب النار خالداً فيها أبداً ، وفي ذلك زجر له عما ارتكب ، وداع إلى الإقلاع عما ألم به من وساوس الشيطان ، والذي يدعو أتباع هذا المذهب إلى هذا التمسك الحريص ، أفراداً وجماعات ، إنما هو بعض القواعد التي يمتاز بها هذا المذهب عن غيره من المذاهب ، كوجوب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، على الفرد المسلم ، والمجتمع الإسلامي، وتطبيق ذلك في مسألة في الولاية ، والبراءة ، والوقوف ، وكالقاعدة الأخرى الهامة التي تجعل الإيمان لا يتم إلا بالعمل ، فلا يجد العاصي مستنداً يستند عليه بينه وبين نفسه ، أو بينه وبين الناس ، ولا يحق له أن يطمع في دخول الجنة بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله ، دون أن يقرن ذلك بالعمل الصالح. كما لا يحق له أن يأمل في الخروج من العذاب الأليم وقد قدم على ربه ، مرتكساً في عمله ، مرتهناً بذنبه:

      ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )

      ( لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد . ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد )

      وبناء على هذه الأسس التي يراها الإباضية من قواعد الدين ، كانت أعمالهم صوراً حقيقية لمبادئهم وعقائدهم.

      وقد اشتهروا بذلك على مدى التاريخ ، وعرفوا به . فكانوا في مجتمعهم وأفرادهم أمثلة للمؤمنين الذين يحافظون على دين الله في واجباته وآدابه، وجميع الأخلاق التي دعا إليها ، ويبتعدون عن كل ما نهى الإسلام عنه ، أو كرهه؛ من قول وعمل ، يسارعون إلى الخيرات ويبتعدون عن المحرمات ، ويقفون عند الشبهات ، مصداقاً لقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في الحرام ) "

      ( الإباضية في موكب التاريخ ، المجلد الأول ، الحلقة الأولى ، ص 125 –126 )










      الحلقة الثالثة



      قال الأستاذ الشيخ علي يحيى معمر رحمه الله :

      " إن المجتمع الإباضي - بناء على قواعد مذهبه كوجوب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ووجوب الولاية ، والبراءة ؛ للأفراد ، والجماعات ؛ وعدم تمام الإيمان إلا بالعمل الصالح ، الذي يدعو إليه الإسلام ، وأنه لا أمل للعاصي - الذي يموت على معصيته – في رحمة الله .

      إن المجتمع الإباضي بناء على هذه القواعد ، كان صورة صحيحة للمجتمع المسلم النظيف ؛ طهارة في العقيدة من الزيغ والبدعة ، وطهارة في العمل من أدران المعصية ، وطهارة في الخلق بالتحلي بما تحلى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وندب إليه وتخلق به المؤمنون الصادقون في كل زمان. وقد ظلمت الطوائف الإسلامية الإباضية مرتين ، ظلمتهم حين حشرهم بعض المؤرخين المغرضين في الخوارج – وهم أبعد الناس عن الخوارج – فصدقت تلك الطوائف هذه الدعوى من المؤرخين المغرضين .

      وظلمتهم مرة أخرى ، حين رضيت بهذا الحكم على طائفة من أصدق المؤمنين ، دون أن ترجع إلى التحقيق في قواعد هذا المذهب ومستنداتها من الكتاب والسنة ، والتحقيق في مدى تطبيق اتباع هذا المذهب لقواعد الإسلام وأخلاق الإسلام ، ودعوة الإسلام ….

      وكما أن الفرد العادي من الإباضية صورة صحيحة للمسلم الذي يدعو إليه الإسلام ، وكان المجتمع الإباضي صورة صحيحة للمجتمع المسلم الذي يقيم شعائر الله ، ويحافظ على دين الله ، ويعمل جاهداً لتطبيق أحكام الله ، حتى في حالة الكتمان ، كذلك كان من تقلد أمر المسلمين من الإباضية صورة للمسلم المخلص ، الذي وثق به المسلمون ، فأسندوا إليه أمور دينهم ودنياهم ، فأكبر هذه الثقة من الأمة ، وحافظ على هذه الأمانة من الله ".

      ( الإباضية في موكب التاريخ ، المجلد الأول ، الحلقة الأولى ، ص 133 - 135 )

      الكاتب: المنصور





      قراءات في الفكر الإباضي

      الحلقة الرابعة

      للأعلى

      قال الأستاذ الشيخ علي يحيى معمر رحمه الله :

      " قلت إن الإباضية انتشروا في أكثر بلاد الإسلام قبل أن تتكون كثير من الطوائف الإسلامية الأخرى ، كفرق الأشاعرة والمعتزلة وغيرها ، وبقطع النظر عن المدة القصيرة التي قام فيها الإمام عبد الله بن إباض بأعمال عسكرية ، لمحاربة طغيان الأمويين ، وبقطع النظر عن المدة التي بويع فيها الإمام عبد الله بن يحيى طالب الحق ، فطهر الحرمين الشريفين ، من عبث العابثين ، أقول إنه بقطع النظر عن هذه الحركات ، فقد قامت للإباضية دول مستقلة في عمان . وتعاقبت على الحكم فيها إلى العصر الحاضر ، وقد بلغت من القوة في بعض عصور التاريخ أن كونت أسطولا يسيطر على البحار ، ويتحدى أقوى دولتين في العالم : أسبانيا والبرتغال في ذلك الحين . ..

      وأما في المغرب الإسلامي وأقصد بالمغرب الإسلامي البلاد الواقعة بين الحدود المصرية والمحيط الأطلسي ، فقد قامت فيه أيضاً دول للإباضية كانت أمثلة رائعة لما يجب أن تكون عليه دولة مسلمة تحكم بكتاب الله ، وتتبع هدى رسول الله ، وقد بدأت حركة مكافحة الظلم ، ظلم الولاة العباسيين في ليبيا عندما كان هؤلاء الولاة ينحرفون عن أحكام القرآن ، وتغرهم الحياة الدنيا فيتجبرون ويظلمون ، وتغرهم سطوة الجاه وسلطة الحكومة فلا يحسبون للشعوب قيمة ، ولا يقيمون للعدل حساباً ، ولا يذعنون لما يفرضه الحق على الحاكم والمحكوم. فثار الإباضية على الظلم … …..

      راجعت ما وصلت إليه يدي من كتب التاريخ ، سواء كانت من كتب أهل المذهب أنفسهم ، أو من غيرهم من الفرق الإسلامية فما وجدت في سيرتهم إلا ما يشرف في جميع أدوار التاريخ .

      إنك لتطالع حروباً طاحنة ومعارك حامية . وانتصاراً أو انهزاماً ، وإنك لتجد في كل ذلك عفة كالتي تعرفها عند الخلفاء الراشدين ، احترام لأفراد الشعوب المسالمين ؛ في دمائهم وأموالهم وأعراضهم ، وعدل في الجنود المحاربين : قتل عند ساحات الوغى ، ولكن لا اتباع لمدبر ، ولا إجهاز على جريح ، ولا تعدى على أعراض ، ولا استحلال لأموال الموحدين مهما كانت مذاهبهم . وسماح وعفو وعدل عند نهاية الحرب ، لم يعرفوا الانتقام بعد الانتصار ، فلا مثلة ولا قطع رؤوس لترسل من بلد إلى بلد للتشفي والانتقام ، وإظهار البطش والجبروت . حرصوا على أن يقفوا حيث وقف بهم الإسلام ، وأن يجعلوا حكم الله وسيرة نبيه ووصايا الخلفاء الراشدين ، مناراً به يهتدون ، وإليه يرجعون ".

      ( الإباضية في موكب التاريخ ، المجلد الأول ، الحلقة الأولى ، ص 136 –139 )

      الكاتب: المنصور


      قراءات في الفكر الإباضي

      الحلقة الخامسة

      للأعلى

      بسم الله الرحمن الرحيم

      الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين. قال سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي حفظه الله تعالى في ندوة الفقه الإسلامي :

      " بسم الله الرحمن الرحيم ،

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

      من فضل الله تعالى علينا أن من علينا بالاجتماع هنا في ظل الإسلام الحنيف وعلى مائدة فقهه العظيم ، النابع من كتابه الكريم، وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه ، وآثار السلف الصالح ، وعلى رأسهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، الذين هم خير القرون. بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أثنى الله عليهم ذلك الثناء العاطر في قوله عز من قائل: (( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ، تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود ، ذلك مثلهم في التوراة ، ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجر عظيماً )) .

      وأثنى الله عليهم في كثير من الآيات الكتاب العزيز .

      فهم أولى الناس بالإتباع وأحق الناس بالتعظيم ، وقد شهد علماء السلف الصالح بأن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أعظم الناس منزلة ، وأرفعهم قدراً وأجلهم شأناً بعد الأنبياء والرسل. ففي كلام للإمام نور الدين السالمي يقول ما معناه: ( ولا ريب أن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ، هم أكرم الخلق على الله بعد الأنبياء والرسل ) .

      روى أحد علمائنا في القرن الثالث عشر الهجري ، وهو الشيخ ناصر بن أبي نبهان عن الإمام أبي يعقوب يوسف بن إبراهيم الوارجلاني . صاحب العدل والإنصاف أنه قال: ( ما جاء عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على العين والرأس ، وما جاء عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم فهم أولى بالإتباع لعهدهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما التابعون فهم رجال ونحن رجال ). هذا طبعاً مع احترام التابعين لأنهم أيضاً لهم قدر ولهم شأن لأهم صحبوا الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن للرأي مجال واسع فيما جاء عن التابعين ، وطبعاً اختلف العلماء في تقليد الصحابة وعدم تقليدهم ، منهم من رأى وجوب تقليد الصحابي ومن هؤلاء الإمام ابن بركة وهو من علماء القرن الرابع الهجري عندنا هنا في عمان. قال: ( لا بد للمجتهد أن يوافق قوله قول صحابي من قبل ). إن كان في المسألة قول على المجتهد ألا يأتي بقول يخرج عن أقوال الصحابة رضي الله عنهم ، بل عليه أن يأتي بقول يوافق قول صحابي…..

      فالاعتماد كل الاعتماد على ما جاء عن الله ، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم. وصحابته رضي الله عنهم هم أعلم الناس بمقاصد التنزيل ومقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغه عن الله تعالى، سواء كان هذا التبليغ إيضاحاً لمبهم الكتاب ، وتفصيلاً لمجمله ، أو كان هذا التبليغ أيضاً أحكاماً جديدة لم يصرح بها الكتاب العزيز "

      ( ندوة الفقه الإسلامي ، ص 249- 250 ).

      منقول
      كـــــــــــــــــــــــــــــــن مــ الله ــع ولا تبــــــــالي
      :):)
    • المرأة الإباضية

      (آمنة زوج الإمام جابر بن زيد)



      هي دعوة الإمام التابعي الشهير جابر بن زيد، ذلك أن الإمام جابر قال: (سألت ربي ثلاثاً فأعطانيهن، سألت زوجة مؤمنة، وراحلة صالحة، ورزقا حلالاً كفافا يوماً بيوم) فكانت دعوة مستجابة، وكانت اختيار الله عز وجل له هذه المرأة فالطيبات للطيبين.

      عاشت آمنة في كنف الإمام ترتوي من معين علمه الدفاق، كيف لا وهو الذي شهد له أكابر علماء عصره بسبق العلم، فقال عنه الصحابي الجليل ابن عباس: (اسألوا جابر بن زيد فلو سأله أهل المشرق والمغرب لوسعهم علمه) وقال عنه الصحابي الجليل أنس بن مالك عندما بلغه موته: (مات أعلم من على ظهر الأرض) وإذا كان الالتحاق بطبقة التابعين شرفاً عظيماً، تلك الطبقة التي وإن فاتها شرف الالتقاء بخير خلق الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يفتها شرف الالتقاء بصحابته صلى الله عليه وسلم، فقد نالت آمنة ذلك الشرف ودخلت في هذه الفئة بل وكانت تستشير وتتلمذ على يد أوسعهم علماً وفضلاً البحر عبد الله بن عباس، تروي السير أن آمنة اكتوت لعلة أصابتها، فغضب عليها الإمام جابر بن زيد وهجرها؛ فشكته لأستاذه عبد الله بن العباس رضي الله عنه؛ فطلب منه شيخه علة الغضب والهجران، فقال جابر: (إنها لم تتوكل على الله) وتلا قوله تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه). فقد أراد الإمام جابر أن يختار لزوجته أعلى الدرجات فأراد لها الأخذ بالعزائم وأن تعتقد أن الشافي هو الله تعالى وأن تتوكل عليه غاية التوكل وأن تتخلى عن الدواء، ولكن الزوجة كان لها رأي آخر، وهو أن تأتي بالأسباب المشروعة للعلاج، ومع ذلك تتوكل على الله فهو الشافي وتأخذ بالرخصة، استنادا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصية)، وكان موقف ابن عباس مؤيداً لموقفها واحتج لرأيه بأن طلب من الإمام جابر أن يتم الآية: (إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا) –الطلاق:3-.

      وكما أنها كانت تتلقى العلوم النظرية منه، فقد كان في سلوكه معها أعظم موجه ومعلم؛ فقد خرجت آمنة ذات مرة إلى الحج ولم يخرج معها تلك السنة، فلما رجعت سألها عن كريها، فذكرت سوء الصحبة ولم تثن عليه بخير، فخرج إليه جابر وأدخله داراً، واشترى لإبله علفا وعولج له طعام، واشترى له ثوين كساه بهما، ودفع له ما كان مع آمنة من قربة وأداة وغير ذلك، فقالت آمنة لزوجها جابر: (أخبرتك بسوء الصحبة ففعلت ما أرى) فقال لها: (أفنكافئه بمثل فعله فنكون مثله، لا بل نكافيه بالإساءة إحساناً وبالسوء خيراً) وفي هذا درس بالغ لها بدفع الإساءة بالإحسان تحقيقاً لقول الله عز وجل: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة) – المؤمنون:96-.

      ** ** **



      (الشعثاء بنت الإمام جابر)

      هذه سيدة أخرى نشأت في ذلك البيت المبارك بيت الإمام التابعي جابر بن زيد رضي الله عنه، وهي أيضا من طبقة التابعين، وقد اشتهرت بلقبها الشعثاء حتى نسي اسمها فما عاد يعرف لها اسم غيره، وهي ابنة الإمام جابر، وإنما سميت بالشعثاء لشعوثة رأسها وكني أبوها به فأبوها (أبو الشعثاء جابر بن زيد) ، وقد كانت تسأل أباها دهناً تلين به شعرها، ويعتذر لها بقلة ما في يده، وأن ما عنده من الدهن أولى أن يستعمله للسراج ويقول لها: (استعملي الماء الساخن بدل الدهن)، وروي أن جابر بن زيد سرج سبعين دبة حل؛ فطلبته ابنته شيئا يسيرا لرأسها، وقالت له: (إن رأسي شعث من قلة الحل)، فقال لها: (عليك بالماء فما تأخذينه أنت يكفي مسألة نؤلفها فينتفع بها المسلمون).

      لم يأت في المصادر ذكر مكان ولادتها ونشأتها، ولكن أغلب الظن أنها ولدت ونشأت في البصرة، ذلك لأن الإمام جابر إنما قضى أكثر عمره في البصرة، أو متنقلاً بين مكة والمدينة، ورجع إلى عمان عندما نفاه الحجاج بن يوسف الثقفي، ثم ما لبث أن عاد فتوفي بها ولعل أسرته استقرت في عمان.

      وهل هي ابنة آمنة أشهر أزواج الإمام أم أن لها أماً غيرها؟، كل ذلك ما لا يمكن معرفته ولا يوجد دليل عليه، لكن يكفي أن نعلم أنها أخذت العلم من ذلك المعين الصافي وارتوت منه ثم قامت بدورها في تبليغ العلم ونشره، حيث كانت مقصد النساء فيما يهمهن في أمور دينهن وخاصة في مجال الفتوى والشورى، وعاشت حياة الصالحات المؤمنات حتى لقيت ربها راضية مرضية، وقبرها معروف إلى اليوم في فرق من أعمال نزوى بعمان.

      ** ** **



      (عاتكة بنت أبي صفرة)

      نشأت هذه الفاضلة الكريمة وترعرعت في بيت شرف وعظمة، فقد عاشت في بيئة عربية إسلامية في آخر القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني الهجري.

      ولما ازدادت الكراهية بين الأزد والحجاج بن يوسف الثقفي بسبب جوره وتعسفه، انضم كثير منهم إلى جماعة المسلمين (الإباضية) وعلى رأسهم أفراد من آل مهلب، وكان منهم عاتكة بنت أبي صفرة وهي من عائلة المهلب بن أبي صفرة القائد الشهير ولعلها أخته.

      كانت عاتكة من أشد الناس حماساً للمذهب تنفق مالها في سبيل نشر مبادئ أهل الدعوة وللمحتاجين منهم، لم يكن إنفاقها طلباً للدنيا الفانية أو متاعها الزائل بل كان ابتغاء الثواب من الله تعالى يوم القيامة، قال أبو سفيان محبوب بن الرحيل: (أرسلت عاتكة بجزورٍ إلى جابر فأمر رجلاً أن ينحرها ويجزئها بين الجيران، فأكثر جزء جابر فقال له جابر: (أجميع جيراننا أخذ مثل هذا) قال له الرجل: ((لا))، فقال له جابر: (ساو بيننا وبين جيراننا)، ونهاه عن عدم التسوية.

      وقد علمت عاتكة أن علم الحلال والحرام والتفقه في أمور الدين من أهم ما يجب أن يحرص عليه المسلم، حتى يعبد الله على بصيرة من أمره فلا يقع في الشبهات فضلاً عن المحرمات، فكانت حريصة على اقتناص الفوائد تسأل العلماء في كل ما يشكل عليها من أمر دينها ودنياها، فعن أبي سفيان محبوب بن الرحيل قال: (دخل أبو نوح صالح الدهان على عاتكة بنت أبي صفرة فوجدها في البيت، فقال: (كأني أرى مجلس رجل) قالت: (نعم، الآن خرج من عندي الإمام جابر بن زيد) قال: (فهل ظفرت منه بشيء؟) قالت: (نعم سألته عن ثلاثة أشياء كن في نفسي:-

      1- سألته عن لباس الخفين، قال إن كنت تلبسينها من حر الأرض وبردها وخشونتها فلا بأس فلا تبالين وإن انكشفا، وإن لبستهما لغير ذلك فلا تبديهما.

      2- وسألته عن حلي عندي ليتيمة يقوم بمال، فيستعار مني، قال إن أعرته فإنك ضامنة.

      3- وعن عبد كان من أنفس مال عندي، وأوثقت في نفسي أن أعتقه لوجه الله، ثم استخلفته على ضيعتي، قال أخرجيه ولا تدخليه في شيء من منافعك).

      ** ** **



      (هند بنت المهلب بن أبي صفرة)

      هذه المرأة ارتوت علومها الدينية من بحر العلم ومؤسس المذهب الأول الإمام جابر، وبذلت جهدها في ذلك، حتى أشرقن أنواره في قلبها فتجلى ذلك تقوى لله في سلوكها وخشيةً له وشكراً لفضله وآلائه، وفاضت ينابيع الحكمة من لسانها دررا، ولم تبخل بعلمها على بنات جنسها فكانت لهن الأخت الداعية الناصحة.

      وقد كانت معروفة بولائها للمذهب الإباضي مع أخيها عبد الملك بن المهلب بن أبي صفرة، وهند هذه هي التي تزوجها الحجاج بن يوسف الثقفي، وطلقها عندما ساءت علاقته بآل المهلب والإباضية.

      روت عن جابر بن زيد فقالت: (إن جابر بن زيد كان أشد الناس انقطاعاً إليّ وإلى أمي، وكان لا يعلم شيئا يقربني إلى الله عز وجل إلا أمرني به، ولا شيئاً يباعدني عنه إلا نهاني عنه، وكان ليأمرني أين أضع الخمار من جبهة المرأة).

      وروت أيضاً عن جابر بن زيد فقالت: (خرجنا من الطاعون فراراً إلى العراق وكان جابر بن زيد يأتينا على حمار فكان يقول: (ما أقربكم ممن أرادكم).

      وروي عنها بعض الحكم المأثورة فمن ذلك قولها: (إذا رأيتم النعمة مستدبرة فبادروها بالشكر حلول الزوال).

      وكانت تقول: (النساء ما زُيِّن بشيء كأدب بارع تحته لب طاهر).

      وتشير الأخبار أن هنداً كانت ذات مال، وإنها بعثت إلى جابر بن زيد جزوراً في رمضان، فنحرها وعالج بها طعاما لأصحابه.

      ** ** **



      (البلجاء الخزامية)

      كانت البلجاء امرأة من بني يربوع عاشت بين البصرة والأهواز، ومن مجتهدات الإباضية على مذهب أبي بلال اشتهرت بالورع والزهد والنسك، وكانت تحرض على ابن زياد وتذكر تجبره وسوء سيرته، وكان زياد وابنه قد اتبعا أسلوباً قاسياً مرعباً تجاه من يدعو إلى الحق والعدل شأنه في ذلك شأن عمال بني أمية الظالمين.

      ومما جاء عن البلجاء الخزامية أن غيلان بن خرشة الضبي لقي أبا مرداس بن حدير، فقال له: (إني سمعت البارحة الأمير عبيد الله بن زياد يذكر البلجاء، وأحسبها ستؤخذ) فمضى إليها أبو بلال، فقال لها: (إن الله قد وسّع على المؤمنين في التقية فتغيبي واستتري؛ فإن هذا المسرف على نفسه الجبار العنيد قد ذكرك) فقالت: (إن يأخذني فهو أشقى بي، فأما أنا فأخشى أن يلقى أحد بسببي مكروها). فوجّه إليها عبيد الله بن زياد، فأوتي بها، فقال لها: (إنك حرورية محلوقة الرأس) فقالت له: (ما أنا كذلك) قال لأصحابه: (لأرينكم منها عجباً اكشفوا رأسها) فمنعتهم فقال: ( لأكشفن أحسن بضعة منك) قال: (لقد سترته حيث لم تستره أمك) قال: (إيه، ما تشهدين علي؟) قالت: (شهد الله عليك ثلاث شهادات بقوله: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) و (الظالمون) و (الفاسقون)، وشهدت على نفسك لأن أولك لزنية وآخرك لدعوى). فعض لحيته وأمر بقطع يديها ورجليها ورمى بها في السوق، فنالت رضي الله عنها شرف الشهادة وكان ذلك قبل عام 61هـ في البصرة.

      كأني بها وقد ابتسمت للموت لحظة استشهادها كأنها قادمة إلى مهرجان حافل في السماء يتلقاها بالحبور والبهجة، وفاحت من دمائها رائحة المسك وهي تتناثر قطرات كحبات العقيق فيها من عبق الأبرار وعبير الصديقين، ووقف التاريخ يدون أروع مواقف العزة والشموخ، وعندما مر بها أبو بلال في السوق عض على لحيته وقال: (لهذه أطيب نفساً بالموت منك يا أبا مرداس، ما من ميتة أموتها أحب إلي من ميتة البلجاء)، وروى العلامة الشماخي فقال: (فخرج أبو بلال في جنازتها، وقال لو أعلم أني أبعث على ما تبعث عليه لعلمت أني أبعث سوياً على صراط مستقيم).

      إنه ليحق للمرء أن يقف إجلالاً وإكباراً لمثل هذه المرأة، فقد أوتيت من ثبات الجنان وفصاحة اللسان وصدع بالحق في وجوه الطغاة الفاجرين، ما حق لها أن يسطر اسمها بأحرف من نور، ولقد قامت بما يعجز عنه كثير من فحول الأبطال، والمتأمل لحوارها مع الطاغية عبيد الله بن زياد يلاحظ عليها رباطة جأشها ورغبتها في تحقيق أعظم الجهاد امتثالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر)، كان هدفها هو نيل وسام الشهادة، الشهادة التي ليس لها جزاء إلا الجنة وتحقق الهدف، وكان لها ذكر عند أهل السماء، ودون التاريخ موقفها في أروح صفحاته وظل ذكراها عند أهل الأرض، وكأنها صورة واحدة تتكرر فبالأمس القريب كانت أختها على درب الجهاد أم عمار سمية بنت خياط تفيض روحها إلى بارئها على يد فرعون هذه الأمة أبي جهل لعنه الله حينما طعنها بحربة في فرجها، وهذه وتلك سارتا على شغاف قلبها، فضحت في سبيله بما يراه الناس جاهاً ونعيماً وسعادة؛ فما كان من فرعون حين يأس منها أن ترجع عن إسلامها وتتخلى عما آمنت به إلا أن نصب لها الأوتاد وأذاقها صنوف العذاب فما تراجعت لحظة عن إيمانها، وما شكت في سلامة معتقدها، حتى لقيت الله عز وجل وهو راضٍ عنها، فكان لها الثواب الأكبر في الآخرة والثناء العظيم في الدنيا حين أثنى الله عز وجل في كتابه الذي يتلى آناء الليل وأطراف النهار وكفى بالله ذاكرا، فما أشبه هذه بتلك، وما أشبه اليوم بالبارحة، وهذا شأن الطواغيت والجبابرة في كل عصر، لكن الصورة هنا أكثر قتامة وأشد قبحا ذلك أن الطاغوت هنا يلبس لبوس الإسلام وينصب نفسه حاكماً للمسلمين وفي نفس الوقت هو أكثر الناس انحرافا وتضييعا لتعاليم الإسلام ومبادئه العظيمة، وإنه لمما يثير الأسى في النفس أن يوصف أولئك الطغاة بأنهم خلفاء الله في أرضه، وبأن طاعتهم واجبة، وأن هلا يجوز الخروج عليهم، ويرمى كل من يدعو للخروج عليهم وجهادهم بشتى أنواع التهم، والله عند لسان كل قائل، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

      ** ** **



      (عبيدة بنت أبي عبيدة

      مسلم بن أبي كريمة)

      هذه المرأة وابنتها قبس من ذلك النور المضيء الإمام التابعي العظيم أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي بالولاء رحمه الله وسيرته أعظم من أن نحيط بها، كني الإمام أبو عبيدة بابنته التي أخذت العلم عنه، ولعل المثل السائر الذي يقول: (الولد سر أبيه) ينطبق على هذه المرأة وابنتها جمانة. رُويت عن عبيدة وابنتها آثار في كتب الفقه الإباضي سواء فيما يتعلق بأخبار النساء أو غير ذلك، فمثال ذلك ما رواه العلامة السالمي في المعارج عن الأثر أن جمانة بنت عبيدة حدثت عن أمها عبيدة أنها كانت تقعد في ولادة بنيها الذكور خمسين يوما وفي ولاة بناتها ثلاثة أشهر فقالت عبيدة: (فسألت والدي أبا عبيدة، فقال: ذلك جائز فاقعدي ثلاثة أشهر).

      ومما روي عنها ما حفظ عنها العلامة محمد بن محبوب عن جمانة أيضا أن والدتها عبيدة بنت أبي عبيدة نذرت إن قدم ابنها محمد لتعتكفن في كل جمعة في المسجد فلما رجع ابنها أرادت الوفاء بنذرها، فاستفتت أباها فأمرها أبوها أن تعتكف في مسجد الحي.

      ** ** **



      (سعيدة المهلبية)

      هذه المرأة العابدة المخبتة سيرتها دعوة إلى الله وشجاعة في نصرة الحق من أجل سطوع ضياء الاستقامة، كان موقفها النبيل مع طلاب العلم كفيل بأن يعرضها للتنكيل والعذاب والتمثيل والقتل، ولكن قلبها امتلأ بالخوف من الله فلم تعد تخاف سواه.

      كانت سعيدة المهلبية زوج عبد الله بن الربيع، وكان زوجها عبد الله خال المهدي الملك العباسي ووزيراً عند أبي جعفر المنصور، وقد كان زوجها من المتعصبين والمتحمسين للدولة العباسية، لقد اقتنعت سعيدة بمبادئ وآراء أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة وأصحابه؛ فاعتنقت مذهبه بعدها اتجهت إلى تحصيل العلم، وأخذت تنهل منه من خلال مجالس العلم التي يقيمها المشايخ سراً، اتصفت سعيدة بدينها وصلاحها وأصبحت من أتباع أبي عبيدة، تألقت سعيدة حتى أصبحت داعية إلى مذهب أهل الدعوة، وأخذت تنشر مبادئهم على نساء أهل بيتها وعلى زميلاتها والجواري اللاتي يعشن في منزل زوجها الوزير، وتشير المصادر إلى أنه كان لزوج سعيدة ابن من غير سعيدة، وكان لهذا الابن جاريتان قد تسرى بهما، ولقد اقتنعت هاتان الجاريتان بأفكار ومبادئ أهل الدعوة فدخلتا في الإباضية، ومن أهل بيت سعيدة ما يذكر أن جدة سعيدة أو عمتها ذهبت مع أبي عبيدة – إمام الإباضية في تلك الآونة- إلى الحج فلما فرغا من حجهما قال له: (أريد المقام بمكة) قال لها: (الخروج أفضل)، لما رأى من بعد مكة عن أهلها الذين كانوا بالبصرة. وكان كثير من أنصار أبي عبيدة والشخصيات البارزة المنضمة إلى مذهب أهل الدعوة يبحث عنهم الحجاج والولاة الأمويون والعباسيون الظلمة ليقبضوا عليهم فيسجنوهم أو يقتلوهم، وبالنسبة للنساء كن يتعرضن للتعرية والتمثيل والقتل، وبالرغم من كل ذلك لم تتوقف سعيدة عن الدعوة بل رأت أن الدعوة لا تقتصر على أهل بيتها وبنات جنسها فقط بل تتعداه إلى مشاركة الرجل في الدعوة إلى كل فرد من أفراد الأمة.

      فآزرت أبا عبيدة وصحبه، واتخذت سعيدة للإباضية سردابا لهم في دارها يجتمعون فيه لتلقي الدروس، وللاستماع للخطب الوعظية والدينية التي كان يلقيها المشايخ والعلماء بصوت منخفض؛ حتى لا يسمعهم الجيران أو المارة فينكشف أمرهم.

      وكان أحد أولاد ابن الربيع كما ذكرناه سابقا من غير سعيدة قد دعاه أصحاب أبي عبيدة وأثرت عليه جاريتاه الإباضيتان؛ فدخل المذهب ودخل مجالس الدعوة، وعرف المشايخ ووجوههم ومنازلهم وأسماءهم، فأراد هذا الرجل أن يعتق الجاريتين ليتزوجهما، ولكن الجاريتين رفضتا الزواج به بعد أن أعتقهن، فاشتد به غضبه واستولى عليه هواه، فكتب إلى أبي جعفر المنصور بأسماء المشائخ الإباضية ومجالسهم، وكتب بأن سعيدة يجتمع عندها الإباضية في سرداب لها في دارها، فلما علم أبو جعفر بذلك، أخبر وزيره عبد الله بن الربيع – زوج سعيدة- بذلك، فقال له عبد الله: (إن ابني قد ذهب عقله وأصبح يهذي بما لا يعرف أو صار إلى ما ترى)، وقال لأبي جعفر: (أو مثل سعيدة يقال فيها هذا؟؟)، ونصحه أبو جعفر أن يعالجه ببعض الأدوية ويحبسه فاستجاب عبد الله لذلك، ولم يسع عبد الله لما علم بما يقع في داره إلا هذه الحيلة، وتَبَالَهَ المنصور الداهية وتظاهر بتصديق دعواه. إن زوج سعيدة من آل البيت وأنصاره الكبار فلا يجوز الانتقام من زوجته، ولو علم الناس أن سعيدة زوجة الوزير إباضية، وأن الإباضية يجتمعون في دار زوجها الوزير لأدى إلى فضيحة ودلّ على ضعف الدولة العباسية، وعلى قوة الإباضية وانتشار نفوذهم فيميل إليهم الناس، ولو كان ما نسب لغير عبد الله ما نسب لكانت شرطة أبي جعفر وسيوفه أسرع إلى عنقه وعنق زوجته، فهذه المرأة المجاهدة لم يمنعها ما قد تتعرض إليه المرأة من أصحاب أهل الدعوة في ذلك الوقت من التمثيل والتعرية والقتل، ولم تمنعها وزارة زوجها أن تؤدي دورها الواجب عليها، ولم يقف حجابها وحياؤها حاجزا عن المشاركة مع الرجل في الدعوة فكان سردابها ببيتها ملاذاً ومخبأً لعلماء ومشايخ أهل الدعوة.
      كـــــــــــــــــــــــــــــــن مــ الله ــع ولا تبــــــــالي
      :):)

    • (نـانـا مـارن)

      عاشت هذه المرأة في قرية "الجماري" بليبيا، ودرست على يد كثير من العلماء الأعلام، واشتهرت بالعلم والصلاح، والرأي السديد، ارتفعت بإيمانها وسلامة فطرتها وصدقها مع الله فوق زينة الدنيا وزخرفها، فكانت لا تأنس إلا بالله وحده ولا تصغي إلا لنداء العقيدة الخالصة، وقد كانت في صحوها ومنامها لا تتذوق جوارحها إلا حلاوة الإيمان ولذة الطاعة ونشوة العبادة، وتحتجب في مسجدها عن كل ما يشغلها عن الحق جل وعلا، ولا يزال مسجدها إلى اليوم مشرفاً فوق ربوة عالية يصارع الزمن ويطاول التاريخ.

      عندما أراد الإمام عبد الوهاب بن عبد الرحمن رحمه الله أن يختار والياً على ليبيا، وقع الاختيار على أبي عبيدة الجناوني، وعزز هذا الاختيار اتفاق المشايخ عليه، ولكن الشيخ أبا عبيدة تردد في الموافقة وذهب لاستشارة هذه الجدة فقالت له: (إن تقدمت وأنت تعلم أنه يوجد من هو أكفأ منك فأنت في النار)، ففكر الشيخ في كلام الجدة نانا، وأخيراً رجع إلى المشايخ، وأعلن إليهم قبول لذلك المنصب، وكان لهذا الموقف الحازم من الجدة أثر في التاريخ لا يزال إلى اليوم يذكر بالفخر والاعتزاز، فهذه الجدة كانت واعية وعارفة بمجرى الأحداث والتيارات السياسية المعارضة، وكانت تسعى لتوجيه الأمة إلى الوجهة الصالحة.

      ** ** **



      (أم أبي ميمون الجيطالي)

      كان بجيطال امرأتان، ولكل واحدة منهما ابن صغير، فسألت كل واحدة منهما الأخرى: (ما ظنك بابنك وما ترين فيه؟) فقالت إحداهما: (أراه أن يكون عالماً)، وقالت الأخرى: (أراه أن يكون عابداً) فسألت كل واحدة منهما صاحبتها: (بماذا استدلت على ما قالت؟) فقالت أم العابد: (أرى ذلك لأني إذا كنت في الصلاة سكت وترك البكاء والتنعض) وقالت الأخرى: (أرى ذلك لأني إذا شهدت مجلس الذكر والعلم سكن واطمأن قلبه لذلك ولم يتحرك وإذا كنت في غيره أكثر البكاء والقلق) فصدقت فراسة كل واحدة منهما، فكان العالم منهما هو أبو ميمون الجيطالي، لقد كانت أم أبو ميمون حريصة على حضور مجالس العلم بالرغم من مشاغل الحياة الزوجية وتربية الأبناء، وتفرغت لتربية ابنها، وبذلت جهدها في تنشئته النشأة الإيمانية الحقة، فنشأ أبو ميمون محباً للعلم والدراسة، حريصاً عليها حتى حقق أمنية أمه فصار بعدئذ عالم عصره يقصده العام والخاص لتلقي العلم على يديه، وبلغ درجة من العلم والحكمة والعبقرية جذبت إليه القلوب وحفته بهالة من الإعجاب وأحاطته بحفاوة من التقدير؛ وهنا أيقنت أمه أن فراستها صدقت وأن بذرتها التي تعاهدتها تلك الليالي والأيام ها هي مورقة تؤتي أكلها الطيب وتنشر الخير والهدى فكانت المرأة الراضية الشاكرة.

      ** ** **



      (أم يحيى

      زوج أبي ميمون الجيطالي)

      كانت حياتها الارتواء من مناهل العلوم والدين والاستغراق في عبادة الله ونشر النور الإلهي بين بنات جنسها، جمعت بين العلم والعمل وبين التحصيل والعبادة وبين العكوف على التأمل والأخذ بيد الحيارى إلى الطريق المستقيم، إنها أم يحيى العالمة الفاضلة والمربية القديرة، سكنت مدينة (أمسيسن" بليبيا، درست على يد كثير من فحول العلماء منهم أبو ميمون الجيطالي، تزوجت أم يحيى من أبي ميمون العالم الذي صدقت فيه فراسة أمه، فلما نزل من الجبل ونظرت إليه من القبة فوق الجبل استصغرت شأنه لما رأته أقصر تلامذته قامة، فلما حلقوا عليه، وأقبل كل واحد منهم يسأل والشيخ يجيب، رأت حينئذ أن الشيخ أطولهم وأعظمهم، فما طلعوا إلى الجبل إلا وهو أعظم الناس في عينيها.

      كانت معينة لزوجها على شدائد الحياة ومتطلباتها تقول: (وجدت على أبي ميمون أربعين ديناراً ديناً فقضاها الله عنه بعمل يدي).

      وقد آتاها الله ذاكرة حافظة واعية لا تكاد تسمع شيئاً إلا بقي في ذاكرتها ومن ذلك أنها سمعت وهي في طريقها للحج رجلا ينشد قصيدة من ثمانين بيتا فحفظتها كلها، وما ذلك إلا دلالة على قوة حفظها وعمق تركيزها، وكانت آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر لا تبالي في نصيحة المسلمين وقول الحق لا تخاف في الله لومة لائم ومن ذلك ما ذكر عنها أنها ذهبت يوماً إلى المسجد لحضور صلاة الجماعة، وكان المسجد مكتظاً بالمصلين، وعندما بدؤوا للصلاة انطلق صوتها (أم يحيى) يأمر الإمام بالتأخر لأنه ليس أهلاً لأن يصلي بالمسلمين، واستجاب الإمام لصوت الحق فتأخر وتقدم من هو أولى، وتقضي الظروف أن تلتقي أم يحيى في مضيق من الطريق بهذا الرجل الذي آذته في الله فتوجست في نفسها خيفة وخشيت أن تلقى منه بعض ما تكره، ويحس الرجل ما في نفسها، فيقول لها: (امضي راشدة، لولاك لهلكنا، يسر الله لك سبل الجنة).

      اشتهرت أم يحيى بالعلم والفضل، وكانت ترى أن الفتاة لا تتم دراستها في مدارس مختلطة يدرس بها الطلبة الذكور، فأنشأت مدرسة خاصة للفتيات، وفتحت بها شبه ما يسمى اليوم بالأقسام الداخلية حتى يتسنى للبعيدات منهن الإقامة في المدرسة، وسرعان ما اجتذبت الفتيات إلى مدرستها وعلمها وحكمتها كما تجتذب الرائحة الطيبة في الروض كرائم الطير، وكانت أم يحيى تقدم لهن الأكل، وتشرف على تعليمهن، فكانت كلماتها تخرج من قلبها صادقة مبرورة تنتقل إلى القلوب وتسكن في الصدور، وتفعل فعلها في الجوارح، واهتمت أم يحيى شخصيا بالإشراف على تربيتهن في بيئة إسلامية صالحة وتطمئن على فهمهن لواجباتهن الدينية والاجتماعية وأنه اكتمل لديهن مقومات المرأة الفاضلة، فطوبى لهذه المرأة التي بذلت نفسها ومالها من أجل طالبات العلم والدين، فما أجمله من موقف عندما أعلنت رأيا لحل مشكلة تعليم المرأة ثم نفذته، وهذا الرأي هو نفسه ما اقتبسه علماء النفس والتربية والتعليم في الوقت الراهن، حين علموا أن الاختلاط في التعليم أحد أهم أسباب الفشل لدى الطلبة والطالبات، ولم يعلموا أن ذلك كان رأي أم يحيى منذ عشرة قرون في قضية تعليم المرأة.

      وإلى جانب ذلك لم تنس أم يحيى واجباتها تجاه الحياة الزوجية فكانت نعم الزوجة والمربية، وعندما خرج أبو ميمون للحرب شيّعته، وقالت له: (ادع الله أن يكتب لك السلامة) قال: (ذلك عقد فرغ منه، ولكن ادع الله أن يجعلك زوجة لي في الجنة) فلما استشهد بقيت بعده أم يحيى كهفاً للإسلام ومأوى للأخيار، فكان يجتمع عندها العزابة في ليلة الجمعة يقضون ليلتهم في العبادة.

      ** ** **



      (أم زعرور

      زوج أبي محمد التغرميني)

      إذا نظرت إلى أي جانب من جوانب حياة هذه المرأة تجده مشرقاً وضّاءً، طيب الذكر، وسيم الملامح، فهيا بنا نبحر في أعماق هذه الشخصية الفذة.

      نشأت هذه الفتاة في "جيطال" بليبيا بين أسرة فقيرة، وفي سنة من سنوات القحط والجفاف ارتحل أهلها إلى "أمسيين" بليبيا طلباً للمرعى، وهناك سمعت بمدرسة أم يحيى فتاقت نفسها إلى العلم والتعلم فالتحقت بهذه المدرسة، تتلمذت هذه الفتاة على يد العالمة الجليلة أم يحيى، وأخذت هذه العالمة تشجعها على التبحر في فنون العلم والاستمرار في الدراسة، ومما ساعدها على ذلك ما وهبها الله به من ذكاء حاذق وفهم عميق فتوفقت على زميلاتها، وكانت إلى ذلك ذات جمال بارع، وكان لنبوغها المبكر وذكائها اللماح موضع إعجاب وتقدير معلمتها أم يحيى.

      هذه الفتاة شدت انتباه أستاذتها أم يحيى فوصفتها إلى العالم الجليل أبي محمد التغرميني؛ فرغب العالم من أم يحيى أن تتيح له فرصة التعرف على هذه الفتاة التي قد تكون زوجة له إن شاء الله.

      فأمرت أم يحيى أن تأتي هذه الفتاة لها بجرة ماء من صهريج بجانب المدرسة، فذهبت الفتاة إلى الصهريج تحمل جرتين أحدهما لها، والثانية لأستاذتها أم يحيى، فلما وصلت إلى الصهريج وجدت بجانبه أبا محمد، فأرسل إليها تحية الإسلام وطلب منها أن تملأ له جرة كانت في يده، فردت السلام عليه ولم تضطرب بهذا الطلب من رجل غريب واستمرت وكأن شيئا لم يحدث، فملأت جرة أستاذتها أولاً ثم ملأت جرتها ثم أخذت جرة الغريب، أعجب أبو محمد بهذا الخلق وهذه الرزانة وهذا الثبات، وقال لها: (هل لله مزرعة يا جارية؟) فقالت: (نعم) فقال: (وهل لها من يحرثها؟) قالت: (نعم) قال: (وهل له مخازن؟) قالت: (نعم) ثم أخذت تشرح له في فصاحة وبيان، فقالت: (المزرعة هي الدنيا والحراثون الناس والحاصد الموت والمخازن الجنة والنار).

      وهكذا علم أبو محمد أن هذه الفتاة قد جمعت بين الجمال وكمال العقل والأدب والعلم والذكاء وهي صفات قلما تجتمع في شخص واحد، فخطبها أبو محمد من عمها، فلم يوافق أقارب الفتاة، ولكنها أخبرتهم إنها لن تتزوج إلا من يرضى عنه عمها، وكان عمها إلى جانبها ورضيت بأبي محمد زوجاً لها؛ فتزوجها أبو محمد، وعاشت معه حياة مليئة بالسعادة والحب والتفاهم المشترك، وهكذا ظفر أبو محمد بزوجة محبة وزميلة عالمة ومربية قديرة، وكان من خلقهما أنهما ما نزلا عن فراشهما إلا وتحاللا، حتى لا يبقى على أحدهما من حقوق الزوجية شيء.

      وبعد فترة وجيزة رزقهما الله ولداً أسموه زعروراً، وتفانت أم زعرور في تربية ولدها حتى أصبح رجلاً صالحا، وهكذا قضت أم زعرور حياتها مجاهدة بين العلم ورعاية زوجها وتربية أولادها حتى توفاها الله، فهذه المرأة لم يعقها الفقر عن الدراسة ونيل أعلى مراتب العلم.

      ** ** **



      (أم جلدين)

      لا أدري لم كنيت بأم جلدين؟ هل لشدة جلدها وصبرها وهو أبرز معالم سيرتها وحياتها ؟ أم أن لها فعلا ابنا يسمى بذلك ؟ وعلى كل حال فهي امرأة صالحة نشأت في "يفرن", وتزوجت هناك من أحد أشياخ العلم وكان لهذا الشيخ بنات من غير أم جلدين وكن يؤذينها, فيأخذن الدقيق ويخلطن فيه تربة بيضاء, ويأخذن اللبن ويسكبن الماء فيه, وكانت صابرة لا تضجر من تلك التصرفات فكانت تأخذ الدقيق فتجعله في آنية وتصب عليه الماء فترسب التربة وتأخذ الدقيق من فوق, وكان ذلك دأبها حتى ضعفت واصفرت من إيذائهن لها, ولم تخبر أباهن بشي من ذلك ثم متن جميعا فأراحها الله منهن, وبقيت من غير ولد واستحى أن يتزوج عليها, واستحيت منه أن يبقى بغير ولد, فرغبت إلى ربها فأجيب دعاؤها فسمعت هاتفا يبشرها, فولدت أربعة ذكور متتابعين متعها الله بهم زماناً ثم ماتوا جميعا فاحتسبتهم عند الله تعالى.

      لقد كانت أم جلدين حليمة هادئة الطباع تعفو عمن أساء لها وتصفح عمن ظلمها ولا تضمر لإنسان شرا ولا تخفي بين جوانحها غدرا, بل إنها كانت تقابل الإساءة بالإحسان والتطاول عليها بالعفو والمغفرة, ومع كل هذه الشمائل العطرة المستمدة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فإن أبرز علامات هذه العابدة القانتة المخبتة كانت تتمثل في الصبر والرضا في أشد المحن زلزلة للنفس.

      وكانت أم جلدين ذات مكانة ومنزلة لدى المشايخ, وتحرص في كل لقاء أن تستفيد منهم, وكانوا يزورونها.

      سألتهم يوما عن دواء للذنوب, فقال لها الزواغي: (حب المسلمين يخرج العبد من الذنوب كما تكشط الشاة من جلدها, وكما ينزع الشعر من الزيت).

      ولا عجب بعد ذلك أن يكون لها عند ربها المكانة العظمى بحيث يجيب دعاءها ويوفقها لطاعته فمن كراماتها أنها سألت ربها أن لا تموت حتى ترى أم زعرور وزيتون تغرمين, وأن يصلي عليها أبو محمد إذا ماتت, فكتب الله أن ارتحلت مع أهلها طلبا للمرعى والخضرة حتى بلغوا تغرمين, فمضت ابنتا ابنها إلى تغرمين يطحنان فصادفتا بيت أم زعرور, فأخذتا في الطحن والعجوز _ أم زعرور_ مشغولة بالعبادة, فقالتا فيما بينهما:(إن هذه العجوز مثل جدتنا ) فسمعتها أم زعرور فسألتها فأخبرتاها عن أم جلدين فخرجت أم زعرور إليها زائرة, والتقت المرأة الصالحة بالمرأة الصالحة وتواصتا بما فيه الخير, ثم قالت أم زعرور لأم جلدين (ادعي الله) فقالت: (بل ادعي أنت, فإني استحيت من ربي, سألته ثلاثا) تعني أن ترى أم زعرور وترى زيتون تغرمين وأن يصلي عليها أبو محمد, فدعت أم زعرور ورجعت إلى منزلها, فأخبرت أبا محمد _زوج أم زعرور _ فذهب هو الآخر ليزور العجوز الصالحة أم جلدين, ولكنه وجدها قد توفيت فصلى عليها ورجع ينقل الخبر إلى صديقتها الوفية.

      وهكذا تحققت دعوات أم جلدين, هذه العابدة القانتة التي كانت عابدة كأخلص ما تكون العبادة حتى أجاب الله دعاءها, وكانت متوهجة الوجدان حبا لله وشوقا إليه كتألق الشهاب الساطع, عاشت حياتها على مائدة القرآن وعلومه وفي ذكر دائم لله في مصلاها الذي لا يزال معروفا إلى اليوم في يفرن.

      ** ** **



      (ابنة أبي مسور يصلتين

      النفوسي الأدوناطي)

      نشأت هذه الفتاة النجيبة الذكية في كنف والدها أبي مسور في "أدوناط" بليبيا، وأخذت العلم عنه وعن غيره من العلماء حتى بلغت رتبة سامقة فيه، وكانت قوية الحجة حاضرة البرهان. وفيما يلي نماذج من مواقفها مع أبيها التي تشف عن ذكاء متقد وفهم عميق لمقاصد الشرع مع فصاحة اللسان وحلاوة المنطق:-

      1- جاءت إلى أبيها يوما تسأله عن مسائل الحيض، وتصف له بعض ما أصابها، فقال لها العالم الكبير: (ألا تستحين؟) فقالت: (أخشى إن استحيت منك اليوم أن يمقتني الله يوم القيامة) فألزمت أباها الحجة ولم يجد لها رداً وأجابها عن أسئلتها.

      2- تدللت على أبيها يوما فغاظته فقال لها: (لأزوجنك بمن له عليك سبعون حقا) فأجابته بكياسة: (إذن أردهن إلى ثلاث: إن دعا أجبت، وإن أمر امتثلت، وإن نهى اجتنبت).

      3- جلست ذات يوم إلى أبيها بعد أن فرغت من غسل ثيابها ونشرها، ونظر الأب إلى الثياب النظيفة البيضاء فقال: (تمنيت أن الله يطهر قلبي مثل هذه الثياب) فقالت: (أتمنى لو جعل الله تطهير قلبي إلى يدي فأغسله مثل هذه الثياب وأبعثه إلى خالقه نظيفاً) فقال الشيخ معجبا بابنته الذكية: (إنك أبلغ مني حتى في الأماني).

      4- قال أبو مسور يوما: (المسلمون أفضل من أقوالهم) قالت: (أقوالهم أفضل لأن المسلمين يفنون وتبقى أقوالهم والعلم أفضل).

      هذه الفتاة لم يمنعها حياؤها من التفقه في دينها، وما أروعه من شرف أن تكون هذه الفتاة أبلغ من أبيها الشيخ العالم.

      ** ** **



      (أم الخطاب

      زوج أبي يحيى الأزدالي)

      كان أبو يحيى من العلماء العاملين، تزوج بعد أن تقدم به العمر من ابنة نصراني، وسبب تزوجه بها أنه أراد جمع العنب، فأرسل إلى نصراني كان يقضي له حوائجه ليأكل العنب، فأتاه مع عياله وبناته وكن بدور الخدور، فأبصرهن الشيخ: فقال: (أعندكم هذا الجمال؟) قال: (نعم، وإن جاز في دينك زوجتك واحدة منهن) قال: (نعم) قال: (اختر)، فاختار الشيخ أم الخطاب، فلما آوى إليها في الليل حدثها عن الإسلام وشرح لها قواعده وأصوله، وكانت كاملة العقل فشرح الله صدرها للإسلام.

      أقبلت أم الخطاب بفطرتها النقية على دراسة الإسلام وأصوله، كما ازداد شغفها بتفسير القرآن وتفهم آياته، وساعدها على حفظ الآيات وفهمها واستيعاب أمور دينها ذكاء لماح ينير ذهنها وبصيرة صافية تستوعب كل ما تلقى فيها من رصيد المعرفة، فحفظت الزهراوين: سورة البقرة وآل عمران، فعرضتهما على زوجها الشيخ أبي يحيى فاستحسنها، فقال: هذه ليست بقراءة أهل الأرض، ثم تعمقت في فهم أسرار الشرع ومقاصده حتى بلغت درجة عظيمة من العلم، وأصبحت مقصداً للعلماء الأعلام، وعندما تقدم بها العمر شغلها الخوف من الله عن كل ما تحفل به الدنيا من متع ومسرات، وما يخبئه القدر بين طياته من فواجع وأحداث، فقد كانت تعيش بحسها بين الناس وبفكرها ووجدانها مع الملأ الأعلى فأحيت نفسها لله بذكره فإنما تحيا القلوب بذكر الله تعالى، قصرت نفسها في مصلاها الذي ما يزال في "تغرمين" بليبيا يطاول التاريخ واسمه "أغرم إيمان"، وزارها يوما الشيخان أبو مرداس، وأبو الحسن الأبدلاني بعد أن أصبحت عجوزاً ففرحت بزيارتهما، وذبحت لهما شاة لضيافتهما، وأخذت تناقشهما في مسائل العلم ومعاني العبادة، وهكذا قضت ذلك العمر المبارك في ذكر وطهر وصلة بالله دائمة، حتى اختارها الله بقربه.

      ** ** **



      (بـهلولـة

      زوج أبان بن وسيم)

      كانت بهلولة امرأة صالحة عالمة، وكان أبو ذر أبان بن وسيم مثلها علماً وصلاحاً، فأعجب بها فخطبها إلى وليها، فلما عقد عليها نكاحها ذهب فرحاً مستبشراً إلى بيتها ورام إرخاء الستر عليها هنالك، فلما وصل بيتها استأذن عليها ففتحت الباب، فقالت: (من هذا؟) فقال: (أنا إبان قد زوجنيك وليك) قالت: (إن أتيت ببينة رضينا بك زوجاً وإلا فانصرف) ثم قالت: (إنك وإن كنت أميناً لمحتاج إلى أمناء)، واضطر العالم الشيخ إبان أن يثبت دعواه بشهادة الشهود وإقرار الولي حتى رضيت به بهلولة زوجا، وكانت له نعم الزوجة وكان لها نعم الزوج، فما عرف أن زوجين تشابها خلقاً وعلماً وديناً كما تشابه هذان الزوجان.

      وقد دلت الحادثة السابقة إنها أملك منه لزمام نفسها وأكبح لعاطفتها وأرسخ قدماً في الوقوف عند حدود الشرع وتطبيقه، فلما استخفه العزم بموافقة الولي على خطبته لها لم يجعل لشيء آخر حساب، أما هي فقد طبقت عليه أحكام الشريعة السمحة تطبيق العالمة المؤمنة التي تراعي الدقة والحق في الأحكام فلم تعتمد على معرفتها الشخصية لأبان فلم تستجب لثقتها به، وإنما رجعت في تلك القضية إلى حكم الله.

      ** ** **
      كـــــــــــــــــــــــــــــــن مــ الله ــع ولا تبــــــــالي
      :):)
    • (ابنة أبان بن وسيم النفوسي

      وتكفا بنت أبي عثمان)

      ذكر أن ابنة لأبان جاءته زائرة فصب مطر غزير يمنع من الخروج، فقال لابنته: (بيتي الليلة عندنا) فقالت: (لم يأذن لي زوجي في المبيت وإنما أذن لي في الزيارة فقط) فظل المطر يهطل وأقبل الليل، فعلم الشيخ أبان أن الذي قالته ابنته هو الصواب، فقال لها: (إذن فسيري في حفظ الله وستره) ودعا لها، فمضت إلى زوجها ومنزله بعيد، فوصلت المنزل والمطر ما زال يهطل، فجعل أهل البيت يتعجبون ويذكرون الله عز وجل ولطفه بعباده الصالحين وكيف أن الله تعالى حفظها بدعوة والدها وبطاعتها لزوجها.



      وما أشبه هذه القصة بما حدث لـ (تكفا) بنت أبي عثمان (باثمان) حين زفت إلى زوجها في ليلة مطيرة فخشيت الهلكة من كثرة المطر، وكان والدها باثمان معها، فقالت له: (يا والدي إني أخاف على ثيابي البلل، وأنت تعلم حال العروس واحتياجها إلى الثياب الجديدة وما ينبغي لمثلها من النظافة والنقاء، فما الحيلة؟) قيل فدعا الله أن يحوطها ويسترها فحفظها الله سبحانه وتعالى.

      ** ** **



      (منزو بنت أبي عثمان المزاتي)

      تعالوا بنا نصحب هذه المرأة العاملة الزاهدة ساعة نتأمل سيرتها في روعة صبرها وتقواها وتحملها لمشاق الحياة الزوجية، والصبر على الزوج الفظ الغليظ القلب، لتكون المثل والقدوة والنموذج لكل امرأة صالحة ترجو ثواب الله ورضوانه.

      إنها منزو بنت أبي عثمان المزاتي أخت تكفا، زوجها أبوها رجلاً من قومه فركب على جمل له ومضى حتى مر بنساء على ماء، فقال: (إن كانت منزو فيكن فإني لا آذن لها في المقام بعدي) وكانت فيهن فقامت فأخذت رداءها فارتدته، وسارت في إثر بعلها حافية راجلة فمشت حتى رقت قدمها وآذاها المشي، فصارت إذا رفعت قدماً إذا الدم في موضع القدم إلى أن ينزلا، فإذا نزلا قامت فابتدرته بردائها فوسدته، ثم عالجت طعاماً لعشائه، ثم تقوم تصلي بقية الليل إلى أن يطلع الفجر، فكان ذلك حاله وحالها حتى وصلا وطنه، فبنى لها بيتاً بعيداً عن الناس، وكان يسيء إليها وهي تحسن إليه، ثم تزوج عليها امرأة أخرى فلاقت المزيد من سوء العشرة وهي تزيد من الإحسان والصبر، ومرت بها قافلة ذات يوم، وسمعوها تنشد شعراً بالبربرية ما معناه: (ألا أحد من يزورني في الله فيذهب غم النفوس ويزيل الوحشة) فلما وصلوا وطن منزو تذاكروا كلامها، فسمعه بعض المشايخ فذهبوا لزيارتها، ووجدوها في حالة يرثى لها خارج خيمتها؛ فقال لها أحد المشايخ: (إني لأختار أن أجد جنازتك خارجاً ولا أراك على هذا الحال) ومكثوا عندها ثلاثة أيام، وقبل أن ينصرفوا نصحوها بالصبر والتحمل والإحسان ودعوا الله عز وجل لها بالفرج، فما مضت أيام قليلة إلا ومات زوجها ففرّج الله عنها ما تجده من التعب والعناء.

      ** ** **



      (زورغ الأرجانية)

      نشأت هذه الفاضلة في كثر فيه أهل العلم والصلاح في جبل نفوسة في قرية "أرجاجن" بليبيا، فليس بغريب أن تشملها نفحات أولئك الأبرار، وأن تتشبه بأولئك الصالحين فكانت شديدة الورع، كثيرة العبادة، قريبة من فعل كل ما أمر الله به، بعيدة عن كل ما نهى الله عنه، ضربت أروع المثل في اجتهاد المرأة الصالحة للسعي لتنال رضى الله، ولم يكن زوجها من تلك الفئة التي لا تقدر الأعمال أو يتلقى ذلك الاجتهاد ببرود وفتور، بل كانت تأخذه الأريحية وهو يراها ذاهبة راجعة في طاعته، فكان دائما ما يدعو لها بالجنة وأي دعوة خير من تلك، وكان لزوجها امرأة أخرى، ومن مواقفها الرائعة مع زوجها أن أختا له مرضت، فأراد الزوج الرحيل إلى الربيع طلباً للمرعى، وما أمكنه أن يقول لإحدى زوجتيه اقعدي لتمرضي أختي وأرتحل أنا بالأخرى، ولكنه ارتجى الخير عند زورغ، فقال لها: (لي عندك حاجة) قالت: (كل حاجة لك مقضية إلا تركي تمريض أختك فلا أرتحل وأتركها) فقال: (تلك أعظم حاجتي ورزقك الله تعالى الأجر والجنة) وظلت تخدم أخت زوجها حتى أتت هذه الأخت، لقد نالت بهذا الموقف الرائع الأجر العظيم فقد أطاعت زوجها وساعدت أخته في محنتها.

      لم تكن زورغ مثالا للنساء الصالحات في طاعة الزوج فحسب بل قدوة أيضاً في مساندة زوجها في أمور دينه ودنياه، فكانت نعم المعينة له في ذلك، فكانت تعين زوجها على العدل بينها وبين ضرتها أخذاً بالحديث النبوي: (وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما)، فعندما أعجب زوجها بنوع من الطيب اختاره لزورغ، وأتى به إليها ذكرته بالعدل بين نسائه وأبت أن تستأثر به.

      كانت هذه المرأة الورعة ساعية في توفير الراحة الجسدية والنفسية لزوجها ليس فقط في البيت وإنما تعداه إلى خارجه، فعندما أراد زوجها نقل شيء من التراب أخبر زوجته زورغ بالمشقة والتعب الذي سيلاقيه إزاء ذلك ففاجأته حين قالت له: (قد نقلته بالبقرة) فما كان من زوجها إلا أن دعا الله لها بأن يرزقها الجنة، وهل يريد الإنسان بعد هذه الدنيا الفانية إلا رضى الله ودخول الجنة، فما أروعه من موقف وما أفضله من دعاء.

      وكانت زورغ تسعى جاهدة إلى طلب العلم وإتقانه برغم ما تعاني من صعوبات، فقد زارها العلامة أبان بن وسيم مرة وأخذ يلقنها القرآن الكريم، ولم تطق تقويم لسانها، فرخص لها بعد أن تحيرت في تقويم لسانها أثناء قراءة القرآن.

      وكان لهذه المرأة الصالحة التقية الورعة كرامات عديدة ذكرها العلامة الشماخي في سيره، ونحن وإن كنا نؤمن بالكرامات ونعتقد بأنها فضل يختص الله عز وجل به بعض عباده، فإننا برغم ذلك لا نعول عليها كثيراً، وكل نعم الله عز وجل هي محض فضل لعباده بلا استحقاق منهم بذلك، وأعظم كرامة هي أن يعيش الإنسان على الاستقامة ويرزق حسن الخاتمة.

      ** ** **



      (زوج مهدي الويغري)

      ما أعظمه من موقف وقفته هذه المرأة الصالحة مع زوجها العالم الورع الزاهد، لقد تركت زخارف الدنيا ومباهجها من أجل أن تتزوج بهذا الرجل الصالح الذي يعينها على أمور دينها ودنياها، فما أجدر فتيات عصرنا أن يقتدين بها في اختيار الزوج الصالح.

      لقد علمت هذه المرأة الورعة أن المال لا يخلق السعادة الزوجية فلم يغرها الزوج الطالح الممتلئ بالكنوز والأموال، فإنه إذا وجدت سعادة فستكون زائفة زائلة، وإن الإسلام كان ولا يزال يحلّق بالزوجين إلى سعادة الدنيا والآخرة، فهيا بنا نستشف من مواقف هذه المرأة ما يعطينا النموذج الأمثل لكل فتاة في اختيار الزوج.

      خطب العالم مهدي الويغري امرأة بجبل نفوسة، فاستشارت هذه المرأة في أمره شيخاً من المشايخ، فقال لها: (إن مهدياً رجل له رغبةً في الآخرة، وزهد في الدنيا واجتهاد في الصلاح، وله أرض محثوث لها سدود فانهدمت سدودها وخربت جسورها، وأراد أن يصلحها، وأراد أن يتزوجك فلا تصلح جسوره إلا بتراب تنقليه على رأسك) فزادها ذلك رغبة فيه وفي صلاحه.

      وتزوجها مهدي، وبعد سنتين زارها فلم يجدها في بيتها، فأعلم بمكانها فوجدها في الحرث مع مهدي وهي تنقل التراب على رأسها لإصلاح الجسور، فذكرها الشيخ فيما أعلمها من قبل به، فحمدت الله على ما أعطاها من خدمة ولي من أوليائه، لقد ضربت هذه المرأة النموذج للمرأة المؤمنة ليس فقط في اختيار الزوج الصالح وإنما أيضا في بذل الجهد والغالي والنفيس من أجل خدمة الزوج وتحقيق الراحة له.

      ** ** **



      (فتاة من ندباس)

      عندما ارتحل أبو معبد الجناوني إلى تيجي في ليبيا، والتحق بمدرسة سعيد بن أبي يونس الطمزيني، درس هناك حتى ظن أنه نال غايته من اعلم، وقفل راجعا إلى مدينته "أجنّاون"، فمر في طريقه بقرية "ندباس"، فوجد أمة تسقي الماء من صهريج خارج القرية، وكان قد بلغ منه الجهد والعطش ما بلغ، فاتجه إليها وطلب منها أن تسقيه، وبدلا من أن تسارع الأمة إلى إرواء هذا العطشان. نظرت إليه في استنكار، وقالت له: (أتستخدم أموال الناس يا جاهل؟)، لقد صدعه الجواب العنيف ولقنته الأمة درسا، أبعد كفاحه الطويل في طلب العلم تعيره أمة بالجهل، ورجع إلى نفسه يسائلها بأي حق يستخدم أمة الغير، وعرف حينئذ أنه ما أوتي من العلم إلا قليلا، ورجع إلى نفسه وتاب، وعرف أن دراسته كانت نظرية بحتة وإنه في حاجة إلى المزيد، ورجع إلى المعهد الذي كان يدرس به، فأقام فيه وأطال الإقامة حتى أصبح عالما بين العلماء ومرجعا، وأصبح ذلك العالم العامل الذي يقوم مقام أمة، إنه بفضل المرأة تعرف حدود الدين ومنتهى الحقوق، وكيف أن الإماء في ذلك العصر بلغن درجة من العلم فحق لهذا الموقف أن يسجله التاريخ في أروع صفحاته ويستخلص منه العبرة والفائدة.

      ** ** **



      (زوج محمد بن محبوب الرحيلي)

      هذه زهرة نبتت في دوحة الإيمان والتقى، وسقيت بماء الفضيلة والهدى، وانتقلت من روضة شيخ المسلمين حيث نمت وترعرعت إلى روضة أخرى حيث تفتحت وأثمرت، ونحن لو أردنا أن نصف الورع في أروع صوره، والصبر في أنصع معانيه، والتضحية في أعلى مواقفها لقلنا إنها تتمثل في هذه الصورة الطاهرة، لم تدرس في جامعة فلم تكن في أيامها جامعات، ولكن تولاها في طفولتها بحر العلوم الزاخر شيخ المسلمين موسى بن علي الأزكوي ورعاها في شبابها شيخ التقى والإخلاص العلامة محمد بن محبوب الرحيلي، كانت هذه الدرة المكنونة تتحرى الحلال في المأكل والمشرب والملبس، سيدة كان لها من نبل القلب وكبر العقل وثبات الجنان ما لم يكن مثله إلا في القليل من عظماء النساء، صبرت وتحملت البعد عن الوالدين والإخوان والأهل من أجل زوجها وأولادها حتى منّ الله عليها بزيارة والدها لها بعد عشر سنين من الفراق، فما هي قصة زواج هذه المرأة الطاهرة؟.

      يروى أن الإمام محمد بن محبوب الرحيلي الصحاري، زار الإمام موسى بن علي العزري في إزكي بعمان، وكانا قطبي زمانهما، فخطب الإمام محمد بن محبوب إحدى بنات الإمام موسى، وكان عنده ثلاث بنات وعندهن مربية مملوكة، فقال الشيخ موسى للمربية: (اختاري لضيفنا العزيز واحدة من هذه البنات)، فأعطت المربية كل واحدة منهن- على انفراد- شيئاً يؤكل ولم تقل لها شيئا، وفي اليوم الثاني جاءت إلى الكبرى، وسألتها عم أعطتها، فقالت: (أكلته)، والوسطى كذلك، أما الصغرى قالت: (هاهو)، قالت لها المربية: (لأي شيء لم تأكليه؟)، قالت الصغرى: (ما قلت لي كليه بل أعطيتني ومضيت، ولا أدري لماذا العطاء، وما كنت لآكل شيئا لا أعرفه)، فقالت: الخادمة حينئذ لسيدها الشيخ موسى: (ابنتك الصغرى تصلح للضيف)؛ فزوجه إياها، وسافر بها الشيخ الرحيلي إلى صحار، ومضت مدة طويلة فاشتاقت أمها إليها، فقالت لأبيها: (إما أن أسير لزيارتها أو تسير أنت)، قال: (بل أنا أسير) فسار إلى صحار، وكان لا يعرف منزل الشيخ محمد الرحيلي، فبينما هو يمشي في بعض الطرق وجد صبين يتحاوران على عود شوك سقط في الطريق، فقال أحدهما: (إن هذا الشوك سقط من هذا الجدار وهذا أثر موضعه من الجدار فينبغي أن نرده فيه)، وقال الآخر: (بل ألقته الريح في الطريق ويحتاج أن نخرجه إلى مكان آخر) فوقف عندهما، وسألهما فقال لهما: (إني أشم عليكما رائحة آل الرحيل، فأولاد من أنتما؟) قالا: (نحن أولاد محمد بن محبوب الرحيلي) قال: (ومن أمكما؟)، قالا: (ابنة موسى بن علي)، فاحتضنهما وسار معهما إلى البيت، فأخبرا أمهما بمجيء جدهما، فقالت لهما: (قولا له أن يجلس في المسجد أو تحت سدرة هناك لأن صاحب المنزل غير حاضر)، فرجع الشيخ محمد قبيل الظهر، فوجد صهره خارج البيت فتعانقا، وغضب الشيخ محمد على زوجه حيث لم تدخل أباها، قالت: (ما أمرتني بذلك)، قال: (أفأنا أعلم أنه سيأتي هذا اليوم؟) فاعتذرت إلى أبيها لهذا السبب، فقال الشيخ موسى: (أصبت، لو أدخلتني ولم يكن عندكِ سابق إذن، لما رضيت عليك) وأيد ابنته على موقفها وإنها على حق ولا لوم عليها.

      ** ** **



      (أخت أبي حفص عمروس المساكني)

      هكذا عرف لنا التاريخ شخصية هذه المرأة بأنها أخت عمروس أما عن اسمها فلم تسعفنا المصادر التاريخية الباقية من التعرف عليها، فإذن هي أخت العلامة أبي حفص عمروس المساكني أحد فطاحل العلماء العاملين، كانت نجيبة ذكية تتمتع بثقافة واسعة وغزارة علمية، ومن حق تاريخها المضيء بنور العلم والمعطر بعبير التقوى أن نقف عندها وقفة نتأمل مدارجها في العلم ومعارجها في الفهم، كان أخوها يستورد نفائس الكتب من كل مكان، ويظل يدرسها دراسة المتعمق الفاهم، وعندما يحس بالتعب أو السأم كانت هي التي تتولى عنه القراءة والكتابة أو النقاش، وكم شهد بناء ذلك المنزل العامر من نقاش واع لمسائل العلم يدور بين ابنة فتح وأخيها، بين هذه الصبية الحسناء الذكية المثقفة التي تمثل المرأة المسلمة الواعية وبين أخيها الذي كان حجة في العلم، وقد يطول النقاش بين الأخوين العالمين حتى تقتنع بصحة رأيه فتسلم، أو يقتنع بوجاهة نظرتها فيرجع إليها، وعندئذ يستمران في الدراسة، وهكذا كانت هذه الفتاة الذكية مرافقة لأخيها في دراسته تستمع إليه، وتأخذ عنه حتى بلغت مبلغاً من العلم قل أن تصل إليه فتاة، وعندما كان يقوم أخوها أبو حفص بالدراسة أو بالتأليف كانت تقدم له مادة التأليف، وتلخص له مواضيع البحث، وتعد له مناهج الدراسة، وتساعده في الكتابة، فتملي عليه، أو تتلقى منه الإملاء فتكتب، وهكذا وجد منها منسقة ذكية بارعة.

      ومر ذات يوم العالم المحدث الفقيه بشر بن غانم الخراساني (بقطرس) البلد التي يسكنها عمروس وأخته يحمل معه مدونته. واستقبله عمروس استقبال الأخ المسلم لأخيه المسلم، وعندما أراد الرحيل ترك المدونة وديعة عند القاضي الأمين عمروس حتى يعود.. لم يخطر للقاضي أن يستأذن المؤلف في استنساخها حين ذاك، ولكنه فكر في نفسه، ورأى أنه إذا لم يغتنم هذه الفرصة فإن هذه الثروة العلمية سوف تفلت من يديه، واستعد للعمل، أحضرت له أخته كل ما يحتاج إليه من ورق وقلم ومداد، وكانت تملي عليه وهو يكتب في فناء الدار حتى إذا وصلتهما الشمس تحولا إلى الظل، ولم يمض عليهما وقت طويل حتى أتما نسخها، ورجع صاحب الوديعة (بشر بن غانم) يطلب وديعته فأرجعها إليه عمروس، ولكن بشراً كان يتوقع هذا العلم من عمروس، ولذلك عندما تصفحها ظهرت له آثار النقل في قطرات المداد واستعمال الصحائف، فقال لعمروس وهو يبتسم: (لقد سرقتها) فأجاب القاضي – وهو جذلان-: (سمني سارق العلم) وفي إثر هذا كان ما كان من تلف المدونة في تيهرت غصبا وحرقا، ولولا حرص عمروس وأخته على نسخ هذه المدونة لم يبق لأهل المذهب بجهات المغرب ديوان يعتمدون عليه.

      والعلم يكون فائدته بقدر ما يفيد صاحبه، فليس العلم النافع شحن الدماغ بالمعلومات بدون أن يكون لها أثر في حياة الإنسان، بل العلم النافع هو الذي يجد فيه حلاً لمشكلاته ونفعاً في دنياه وآخرته، فعندما ذهب عمروس إلى الجهاد وكانت وقعة (مانو) رافقته أخته إليها، واستشهد أخوها، وقتل أكثر الجيش، أخذت أسيرة مع بعض زميلاتها فخافت الفساد؛ فقالت لزميلاتها: (أما وقد وقعنا أسيرات ولا قدرة لنا على الخلاص من أيدي هؤلاء الوحوش فلنستخلف كل واحدة منكن من يزوجها بمن يريد بها سوءا) وهكذا حتى في أسوء الأحوال ينجدها العلم والدين.

      فهذه المرأة العاملة سيظل التاريخ يذكرها، ولن ينسى فضلها في حفظ مدونة العالم الجليل بشر الخراساني.

      ** ** **



      (الزهراء السقطرية)

      هي فاطمة بنت حمد بن خلفان بن حميد الجهضمية، ولقبها الزهراء، نشأت في سمد الشأن، ذهبت مرة مع والدها لزيارة نسيبهم الوالي القاسم بن محمد الجهضمي السمدي في جزيرة سقطرى، يوم كانت تابعة لعمان، وذلك في زمن الإمام العادل الصلت بن مالك الخروصي رحمه الله، وحدث أن نكث النصارى وخانوا العهود في هذه الجزيرة، فقتلوا واليها القاسم بن محمد وسلبوا ونهبوا وأخذوا الجزيرة قهرا.

      فكتبت الزهراء قصيدة عصماء تستغيث بالإمام وتستنجده، وتطلب منه أن يسارع بنصرة المسلمين، وتستثير في أبيات قصيدتها همة الإمام الصلت بن مالك ومن معه من الرجال لنجدة الإسلام وشرعه وأهله في جزيرة سقطرى، تقول فيها ما نصه:-

      قــل للإمـام الذي ترجى فضائله ابن الكــرام وابن السـادة النجب

      أمست سقطـرى من الإسلام مقفرة بعـد الشرائـع والفرقـان والكتب

      وبـعـد حـلال صـار مـغتبطـا حـي في ظل دولتهم بالمال والحسب

      لم تُبقِ فيها سنـون المـحل ناضـرةً من الغصـون ولا عـوداً من الرُطَبِ

      واستبدلت بالهـدى كفـراً ومعصيةً وبـالأذان نواقـيساً مـن الـخشب

      وبالذراري رجاـلاً لا خَلـاَقَ لـهم من اللئـام علـوا بالقهـر والغـلب

      جارَ النصارى علـى واليـكَ وانتهبوا من الحريـم ولـم يألـوا من السلب

      إذ غادروا قاسمـاً فـي فتيـةٍ نُجُـبِ عقوى مسامعهم فـي سبسبٍ خـرب

      مُجـدّلين سِراعـاً لا وسـاد لـهم للعـاديـات لسبـعٍ ضـارئ كـلب

      وأخرجـوا حُـرم الإسـلام قـاطبة يهتفـن بالويـل والأعـوال والكُربِ

      قـل للإمـام الذي تُرجـى فضائله بـأن يـغيث بنـات الدين والـحسب

      كـم مـن مُنعـمةً بـكرٍ وثـيبـةٍ مـن آل بيـتٍ كريـم الجد والنسب

      تـدعو أبـاها إذا ما العِلـجُ همّ بها وقـد تلقّـف منهـا موضـع اللبـب

      وباشر العِلـجُ ما كـانت تَضُـنُ به على الحلال بوافـي الـمهر والقـهب

      وحـلّ كـلَ عـراءٍ من مُـلمتـها عن سـوءةٍ لـم تزل في حوزةِ الحُجُبِ

      وعن فخـوذٍ وسيقـانٍ مـدملجـةٍ وأجعـدٍ كعنـاقيــدٍ مـن العـنب

      قهراً بغيـر صـداقٍ لا ولا خُطِبت إلا بضـرب العوالـي السُمرِ والقُضُبِ

      أقولُ للعيـن والأجفـان تسعدنـي يا عين جودي على الأحبـاب وانسكب

      ما بال صلـتٍ ينـام الليـلَ مُغتبطاً وفـي سقطـرى حريـم عُرضة النهب

      يـا للرجـال أغيثـوا كـل مسلمةٍ ولو حبوتـم علـى الأذقـانٍ والرُكبِ

      حتـى يعـودَ نصـاب الدين منتصباً ويهـلك الله أهـل الـجور والـريب

      وثم يصبح دعـى الزهراء صــادقة بعد الفســـوق وتحيى سنـة الكتب

      ثم الصلاة علـى الـمختـار سيـدنا خيـر البـريـة مـأمـونٍ ومنتـخبِ



      وما أن وصلت الإمام تلك القصيدة إلا فعلت فعلها في نفسه؛ فثار ثورة الضرغام، وصال صولة الغضنفر المقدام، وقام بكل ما يفرضه عليه منصبه وواجبه من عمل، فجهز جيشاً قوامه مائة سفينة مجهزة بالعدة والعتاد، وعين عليه خيرة المجاهدين الشجعان، وزودهم بكتاب عبارة عن دستور تنظيمي ينتهجون نهجه إداريا ودينيا، وبحمد الله تم النصر للجيش المسلم، فأصبح العدو بين قتيل وجريح وأسير، فأخذوا البلاد وهزموا الأعداء ورجعوا ظافرين مستبشرين ومن ينصر الله ينصره.

      وهكذا خلد التاريخ اسم الزهراء كما خلد سيرة الإمام المجاهد الصلت بن مالك الخروصي رحمه الله تعالى، فمن لنساء المسلمين الآن في شرق الأرض وغربها وهن يتجرعن مرارة الذل والهوان على أيدي الطغاة والمستبدين والمجرمين، فكم من زهراء تستغيث اليوم ولا صلت لها.

      ** ** **
      كـــــــــــــــــــــــــــــــن مــ الله ــع ولا تبــــــــالي
      :):)
    • (الغاية زوج أبي القاسم يزيد بن مخلد)

      لقد آتاها الله قلبا صافيا يلهمه الحكمة، ونفساً مطمئنة تزكيها الفطنة، وذهنا متوهجا فتح له أكمام الوعي، وامتلكت مواهب وقدرات مما أهلها أن ترتقي إلى أن تكون ملجأ يلجأ إليه العلماء لحل معضلاتهم، فهيا بنا نتعمق في أغوار هذه الشخصية الطاهرة الباهرة.

      بعد أن أتم العالم أبو القاسم دراسته واستعد للحياة التي يحياها الناس، فكر في الزواج، وبحث عن امرأة تجمع بين الخصال التي يطلبها أمثاله من خلق ودين وعلم، فوجدها في فتاة من أسرة كريمة كانت تسمى الغاية لها من الجمال والخلق والدين والعلم ما يرشحها لأن تكون زوجة لأبي القاسم.

      فخطبها من أهلها وزفت إليه بعد سنة من بلوغها، فكانت تحضر دروسه مع تلاميذه من وراء ستار، وكانت الغاية في بيت أبي القاسم مرجعاً للمؤمنات ومرشدة وهادية للفتيات وقدوة صالحة للمقتديات الصالحات.

      كان أبو القاسم يحدث طلابه يوما يحرضهم على الدراسة، وينصحهم بالابتعاد عن كل ما يشغلهم عن التعليم، فقال لهم: (لأن يبلغني موت الطالب خير من أن يبلغني تزوجه) وكانت زوجته الغاية تستمع إليه من وراء ستار فقالت له: (لماذا تزوجت إذن؟) فقال لها: (لو علمت مسألة ليست عندي لشددت إليها الرحال، وتركتك أيتها الزوجة الحبيبة).

      وعندما توفي أبو القاسم بقيت الغاية مقصداً لطلاب العلم والدين والخلق القويم، وكان العلماء والمشايخ يزورونها ويستشيرونها ويستفتونها، ويرجعون في كثير من الأحيان إلى رأيها، وكثيراً ما يلجأ إليها عالم من كبار العلماء في معضلة من معضلات علم الفقه أو علم الكلام، فيقول لها: (ماذا كان رأي القاسم فيها أو ماذا حفظت عن زوجك؟)، وهكذا ظلت ملاذاً لطلاب العلم والعلماء إلى أن اختارها الله عز وجل راضية مرضية.

      ** ** **



      (غزال (أم أبي الحاتم))

      غزال هي زوج الإمام أبي اليقظان محمد بن أفلح، وكانت أحب نسائه إليه، فقد امتلكت قلبه بقوة شخصيتها، وبالربيع الضاحك في محياها وبصفاء طويتها وحسن قيامها بالبيت، فكونت لأبي اليقظان فيه جواً مفعماً بالحنان ينسيه هموم الرئاسة ويستريح فيه من أتعاب الإمامة، وكانت لحزمها كما قال ابن الصغير: (مالكة لأمور أبي اليقظان وحشمه).

      امتازت غزال بذكائها، وثقافتها النسوية وحسن قيامها بالدار وبراعتها في إدارته وحياء الدين الذي كان في محياها ونورها وإشراقها فكانت نجمة متلألأة، وبتميزها تميز طفلها يوسف، فكان ذا شخصية قوية جذابة واتصف بمزايا حببته إلى أبيه، اهتمت غزال بتربية ابنها يوسف تربية إسلامية بناءة حتى أصبح ولدها معيناً لوالده في شؤون الإمامة، وأخذ والده يكلفه بمهمات الدولة فيحسن القيام بها، وبدأت كفاءته ونبوغه تظهر، واتصف بالحزم والذكاء والشجاعة حتى اختير إماماً من بعد أبيه، بفضل إحسانه إلى الناس.

      لقد كانت غزال قدوة صالحة للزوجة المخلصة لزوجها، ونبراساً للأم المربية، لقد عاشت مع إمام العدل والعلم وأنجبت ذلك الإمام الفذ أبا حاتم.

      ** ** **



      (نانا تابر كانت السدراتية)

      امرأة ربانية عاشت في تلك العصور العامرة بالإيمان والعلم والخير، سكنت (ابناين)، واشتهرت بين العلماء فكانت عالمة فاضلة بلغت من اعلم والورع ما جعلها ملاذاً للمشايخ والعلماء العاملين، ومما يدل على علم نانا تابر كانت وعمق إطلاعها وفهمها لأسرار الشريعة، أنه زارها جمع من العلماء فقالوا لها: (أوصنا يا عجوز) فقالت لهم: (إياكم وكثرة الكلام لئلا تحنثوا، وإياكم والتهمة لئلا تظْلِمُوا) ثم قالت لهم: (يقول بعض العلماء الحكماء: نقِّ العمل فإن الناقد بصير، وجدد السفينة فإن البحر عميق، وكثرة الزاد فإن السفر بعيد) ثم حذرتهم عن الزيارة لطلب الحوائج، والمصافحة بالمقارعة، والأكل أكل النهم، والمشي مشي المرضى، والنوم نوم الموتى. فهنا تصحح هذه العجوز بعض السلوكيات المنحرفة؛ فالزيارة إذا كانت في الله فهي أكثر خيراً، والمصافحة فيما بينهم يجب أن تكون بالتي هي أحسن لا بالفوضى والعنف؛ فتتحول إلى كراهية، وتنهاهم عن كثرة الأكل؛ لأنه من عمل البهائم، وتحثهم على أن يسيروا بمشية الأقوياء المتواضعين، والذين يكثرون النوم فهم يعدون من الأموات لا من الأحياء فالإنسان النشيط لا ينام إلا بعد الحاجة.

      كان لعلمها العميق ولخبرتها الواسعة التي حنكتها بها الحياة دور في سبر أسرار النفوس، فأثرت عنها حكم وأقوال بليغة، فمن ذلك قولها: (شر الصدور صدر لا رأفة فيها، وشر الأقدام قدم لا تزور في الله، وشر البيوت بيت لا يدخله المسملون، وشر المال مال لا ينفق منه).

      ** ** **



      (زوجتا أبي هارون

      موسـى بـن هـارون)

      كان لأبوي هارون امرأة صالحة يحبها وتحبه، وكانت عالمة ذكية ولمنها غير ولود، ونصحه المشايخ أن يتزوج غيرها عسى أن يرزقه الله أولادا صالحين ففوض إليهم أمر الاختيار، ووكّلهم القيام بهذه المهمة وكل ما اشترط عليهم أن يتوفر فيها من الصلاح والتقوى، وتشاور المشايخ ودرسوا الموضوع واستعرضوا عقائل الجبل- جبل نفوسة- فاتفق رأيهم ووقع اختيارهم على امرأة فاضلة.

      ترى من تكون هذه المرأة التي اتفق المشايخ على اختيارها زوجة لأعظم رجل في ذلك الحين؟ إنها ابنة جدة المشايخ السيدة (تابر كانت) أعظم امرأة في الجبل وأصلحها، فهي فرع من شجرة العلم الباسقة التي ارتوت بماء الحكمة وتغذت بثمرها وجناها وقطوفها، بذلت الجدة تابر كانت جهدها في تربية ابنتها على الخلق الكريم والدين القويم وزودتها بالعلم النافع الذي يكون نفعه في الدنيا والآخرة وثقفتها الثقافة الهادفة التي تؤهلها للقيام بدورها ومشاركة الرجل في أهم الميادين بالرأي والنصيحة، وعرض الأمر على الفتاة فقبلت الفتاة ورضي الشيخ وزفت العروس الصالحة إلى العالم المؤمن، ورزقها الله عز وجل منه بعدد من الأولاد أقروا عين والدهم الشيخ وخدموا الأمة بإخلاص، وأخذت هذه الأم على عاتقها تربية أبنائها ليكونوا مناراً للأمة ونبراساً يقتدي بهم الناس فكان منهم أبو زكريا يحيى: الذي كان همه آخرته وقد جمع جميع خصال الخير، ومن أقواله: (لا أبالي بالموت متى نزل بي) لبيان قوة استعداده له، ومات وهو شاب عمره أربع وعشرون سنة، أما ابنها أبو الربيع، فقد كان سخي الكف عالماً شديداً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأخذ العلم عن أبي يحيى زكريا بن سفيان اللالوتي وغيرهم، جمع إلى العلم الواسع والدين القويم والخلق الكريم شدة في الحق لا تلين ومحافظة على دين الله لا تفتر، وسيرة صالحة لا تضعف، فحقيق بنا أن نذكر هذه المرأة الصالحة في تاريخنا وسيرنا؛ إنها ابنة أعظم امرأة في الجبل وأصلحها، وزوجة أفضل علماء أهل نفوسة وأم أولئك الأعلام البررة.

      ** ** **



      (عافية (أم ماطوس))

      تربت هذه المرأة في حجر الدين، ونمت في رياض طاعة الله عز وجل، وتألق وجدانها في حرم مجالس العلم، وكانت حريصة على حضور هذه المجالس؛ لشغفها بالمعرفة والتفقه في أمور الدين حتى أصبح مشايخ العلم لا يعقدون مجلساً إلا بحضورها، كان اسمها عافية ولكن كنيت بأم ماطوس، طلبت العلم ببلدها بليبيا، ودرست على يد علمائها حتى لم تجد عندهم جديداً فرغبت في الالتحاق بمدرسة أبي محمد بن خصيب، وليس بالمدرسة قسم داخلي للبنات وبين البلدين مسافة طويلة لا تقل عن أربعة أميال، فعرضت أمرها على أهلها فعارضوها، ولما ألحت في الطلب ثارت ثائرتهم، وقرروا أن يمنعوها بالقوة، وكيف يسمحون لفتاة في عمر الزهور ان تقطع تلك المسافة الطويلة يوميا بمفردها، وكان أصلب الجميع في الموضوع أخوها الغيور؛ فتطوع أن يحبسها ويقوم بوظيفة السجان، فكان إذا أتى الليل أغلق الباب على أم ماطوس ونام على الباب، فكانت تتركه حتى ينام، فتفتح الباب وتغلقه خلفها فتأخذ مزراقها في يدها، وتذهب إلى مدرسة أبي محمد التمصمصي، فتحضر المجلس متلحفة بثوبها فإذا افترق المجلس رجعت، وتجعل مزراقها في زيتونة ثم تدخل البيت وتغلق الباب وكأن شيئاً لم يكن، وكان ذلك دأبها، فلم تنجح جميع هذه الوسائل في صدها عما رغبت فيه، ودرست في تلك المدرسة حتى تخرجت منها، وكانت فيما بعد مرجعاً من مراجع العلم والفتوى.

      وقضى الله لها أن تتزوج في (مرساون)، فكان المشايخ لا يعقدون مجلساً إلا بحضورها، فتحضر المناقشات وتسمع آراء الأعلام، وكثيراً ما تكبدت مشاق السفر وهي حامل لتحضر المجامع التي تعقد في (أجناون) أو غيرها من الأماكن التي يختارها المشايخ للاجتماع.

      وكان لا يعوقها عن حضور تلك المجالس عائق، فقد ذهبت في إحدى المرات إلى أجناون، وهي على بعد عشرة أميال عن منزلها مصطحبة معها أمتهاْ، كانت ورعة في دينها حافظة لحقوق زوجها يروى أن أحد المشايخ أراد المبيت في بلدة أم ماطوس، فلما وصل أرسل بغلته إلى أم ماطوس؛ لينزل عندها فردتها، ثم أرسلت إليها بعد فأخذتها، واعتذرت للشيخ عند العشاء بأن زوجها غائب حين بعث ببغلته فلما جاء استأذنته فأذن لها.

      هذه المرأة العالمة لم يمنعها حجابها من الجلوس في مجالس المشائخ تستمع إليهم وتسائلهم وتستجيب لنقاش الطلبة وترد عليهم، ولم يمنعها حياؤها من بلوغ هذه المرتبة السامية من العلم بل زادها العلم مزيداً من الاجتهاد في طلبه.

      فما أروع أن تسطر حياة هذه المرأة في أجمل صفحات التاريخ، لتكون قدوة صالحة لكل فتاة في تحمل المشاق وعناء الطريق ومعارضة الأهل من اجل البلوغ إلى الهدف النبيل وهو طلب العلم.

      ** ** **



      (زينب بنت أبي الحسن)

      هي زوج العلامة أبي الخطاب عبد السلام منصور المزاتي، كانت فتاة وافرة الدين والأدب والجمال، واستقر بها الحال في مدينة (درجين)، ولم يكن ينقص أبا الخطاب شيء إلا أن يرزقه الله تعالى ولداً ذكراً يكون له عوناً في شيخوخته يرثه ويحمل اسمه، وإنما رزقه الله عدداً من البنات، وعندما يجمعه وزوجته السمر كان كثيراً ما يقول لها في مداعبة ورجاء أن تفهم ما يرمي إليه: (يوشك أن يغلب بنو العم على بناتك يا زينب) وهو يقصد أن أولئك البنات عندما يكبرن يخطبهن أبناء العم فيتزوجن، ولا يبقى في البيت غيرهما، وما أشد وحشة بيت لا يسكنه غير شيخين هرمين، كانت الزوجة الوفية المحبة زينب تفهم ما يرمي إليه زوجها أبو الخطاب، وكان بجوارهم رجل من بني ورغميت مع عياله، وعندهم فتاة صبية أديبة نشيطة، وكانت ذات جمال بارع، فأعجبت بها زينب وأحبتها، فخطبتها لزوجها الشيخ، وهي تدعو أن يهب له ولداً تقر به عينه، ولبناتها أخاً يلج|أن إليه إذا ضاقت بهن سبل الحياة، وتزوج الشيخ هذه الفتاة الورغمية وكان مولودها البكر ذكراً سماه الشيخ سعيداً، ومن هذا الولد تناسلت ذرية العلامة أبو الخطاب عبد السلام، فكان في رأيها الخير والبركة واليمن.

      ** ** **



      (طـوست

      زوج أبي عبد الله محمد بن تامر)

      إنها شخصية فريدة مميزة في تاريخ المسلمات الإباضيات علماً وسلوكاً، أعطاها الله نوراً في البصيرة وضياءً في القلب حتى كان قلبها أشبه بمرصد يستقبل نفحات الله وأنوار الإيمان، فامتلأ كيانها صفاء ونقاء وشفافية وروحانية، جمع الله تعالى لها بحانب العلم والتقى والعبادة والورع شرف خدمة ولي من أوليائه، فشرفت بالزواج من أبي عبد الله محمد بن تامر وكان شيخاً فاضلاً وعالماً تقياً يسكن (فزاوة).

      ومما يدل على عبادتها وورعها وأداء حق زوجها، ما أوصت به ابنتها حين جهزتها للزفاف، فقالت لها: (ما نمت حتى أصلي خمسين ركعة، ولم يرني والدك عابسة قط، ولم تصدر مني كذبة عليه قط إلا مرة واحدة، وهي أن قلت لأبيك أبي عبد الله وقد سألني أعلفت البغلة، وقد تعب وهو صائم ولا يفطر حتى تعلف مطيته، وقدمت له فطوره، قلت: نعم، وزدت للبغلة في علفها وآتيتها به، فقلت: (اجعليني في حل فيما كذبت عليك، وقد زدتك في علفك) فأومأت برأسها شبه من يقول أنت في حل.

      وقد كانت داعية بسلوكها الرفيع وعلمها الواسع فتأثرت بها خادمتها أم خليفة، فكانت سبباً في هدايتها وتبصيرها بعقيدة الإسلام الحق، فرجعت إلى عقيدة أهل الاستقامة بعد أن كانت حشوية، وأصبحت من خيار المسلمات الورعات التقيات.

      ** ** **



      (أم ماكسن بن الخير)

      عاشت هذه المرأة في عاصمة الدولة الصنهاجية في البلاد التونسية، توفي عنها زوجها وترك لها ابناً اسمه ماكسن، فهي والدة العلامة ماكسن بن الخير، وهي صاحبة الفضل عليه، وكان من أمر ولدها ماكسن أنه أصيب بالعمى وهو طفل؛ فجهدت بكل وسيلة لتجد دواء له ما استطاعت لذلك سبيلا، وكانت لا تفتر عن السؤال عن دواء يرد البصر لوليدها فما اهتدت، وكانت ذات مرة في بيت أم يوسف زوج المعز بن باديس سلطان أفريقيا، فكانت أم يوسف لا تنفك تنظر ماكسن، وتتأمله فأعجبت بذكائه وخفة روحه، ونصحت أمه بأن تأخذه إلى الكتّاب ليتعلم فتنبهت الأم لذلك وتداركت أمرها؛ فأدخلت ابنها ماكسن مدرسة المدينة وحفظ القرآن الكريم في وقت قصير، وبذلت الأم جهدها من أجل تعليمه وتفرغت له وفرغته للعلم والدراسة، وبعد أن كبر سافر إلى مدرسة أبي محمد وسيلان بن أبي صالح بجربة بتونس، وكان أنجب وأذكى طلابها، وكان كل من رآه يستغرب من براعته وكثرة حفظه إلا أنه كان سريع الغضب، حاد الكلام وشكى الطلبة إلى أستاذهم أبي محمد من ماكسن، فسألهم ما يشكون منه، قالوا: (نشكو منه الخفة) فقال لهم: (لقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بم تكون الخفة في المؤمن؟) فقال لهم: (لغزارة في قلبه) وكان أبو محمد يقول لهم: (والله لا أسمع قولكم فيه ولا أقبله) لما تفرس فيه من الخير والبر وجدية في طلب العلم. وظل في دراسته، فاجتهد حتى أصبح عالماً وفقيهاً وإماماً يسعى إليه العلماء، ولم يقعده العمى واليتم عن التعلم والدراسة، فبفضل الله ثم بفضل نصيحة أم يوسف وبفضل بذل الأم الجهد لتعليم ولدها، أصبح ولدها ماكسن ممن يملك إرادة قوية وصدق عزيمة دفعاه إلى أن يتفوق بأعماله المبصرين، ويصبح ذلك العالم الفقيه الذي عوضه الله عن فقد بصره نوراً في البصيرة وضياء في القلب يرى بقلبه ما لا يراه المبصرون بأعينهم.

      ** ** **



      (أمة الواحد

      زوج أبي عـامر التصراري)

      أمة الواحد امرأة مؤمنة صالحة يجمعها إلى زوجها العالم أبي عامر حب وعطف وحنان وتشابه في الميول والعواطف والأعمال، حدث أن جاءت يوماً عجوز من (تندميرة) إلى (تصرار) تشكو إلى أبي عامر ابنتها الشابة اليتيمة وتدعى (توزين)، وإنها ترفض الزواج خشية حقوق الزوج وخوفاً من المسؤولية في الأسرة، وخافت العجوز على ابنتها أن تتركها في يوم من الأيام دون رعاية أحد، فعطف عليها الشيخ واجتمع بالمشايخ، وذهبوا إلى تندميرة لإقناع الفتاة فاقتنعت، وكانت مفاجأة أن اختارت أبا عامر ليكون زوجاً لها فوافق، ورجع أبو عامر إلى زوجه الحبيبة أمة الواحد بأثقل خبر على المرأة، ورجاها أن تستعد للقاء الزوجة الثانية، فما أخلفت ظنه وقامت تعد في منزل الشيخ ما يعد للعروس في أول الزفاف واستقبلتها استقبال الأخت المحبة.

      إن لأمة الواحد قلباً وعاطفة جياشة كما لسائر النساء، وهي تحب زوجها أبا عامر، ولكن لها مع ذلك دين يعصمها من النزق، ويمنعها أن تتعدى حدود الشريعة، وعاشت الزوجتان تحت كنف أبي عامر يرعاهما بلطفه ويغمرهما بحبه ويساوي بينهما بعدله.

      ويحكى أن أمة الواحد ذات يوم ذهبت لتجمع الحطب من بعض البساتين، فوسوس لها الشيطان أن الشيخ قد تغدى مع الزوجة الشابة، وتركا لها لقمة باردة في ناحية من البيت، فتعوذت من الشيطان وزادت الحطب إلى حزمتها لترغم أنف الشيطان، فلما رجعت إلى الدار وجدت الزوجين قد تغديا وتركا لها نصيبها في إناء، فرجع إليها الخاطر من جديد فدبت الغيرة في نفسها واصفر لونها، ونظر إليها زوجها أبو عامر بحنان وعطف ورآها متغيرة الوجه، فقام، فقام إليها وأمسك بطرف كمها، وقال كمن يخاطب الشيطان: (اخرج يا عدو الله من جسد طاهر) فاستعادت رشدها وأبعدت وساوس الشيطان ببركة دعاء زوجها وزالت الغيرة من نفسها، وهكذا عاشت أسرة أبي عامر في ظل الإيمان وطاعة الله عز وجل في منزل يغمره الحب والتعاون والتفاهم.

      ** ** **



      (عائشة بنت معاذ بن أبي علي)

      ما أحرى بالتاريخ أن يقف قليلاً متأملاً عظمة هذه المرأة الجليلة، وحسبها عراقة في الدين إنها ابنة العالم الجليل معاذ وأخاها أشهر من نار على علم، لقد ولدت في بيت يتلألأ بالدين الحنيف ويتعطر سماه بعبق تعاليمه السمحة، وتتهادى فيه ملائكة الرحمة.. في هذا المناخ الطاهر الباهر نشأت عائشة نشأة مباركة زكية.

      كانت أسرة العالم الصالح معاذ بن أبي علي في مدينة (آجلو)، مدينة الصلاح والعلم والعمل، وكانت أسرة دين وعلم وفضل وخير نساء هذه الأسرة ابنته النجيبة عائشة، حفظت القرآن الكريم وهي صغيرة السن، وتفتح عقلها الذكي لمزيد من المعرفة، فلم أبدت عليها ملامح الأنوثة والجمال ونضارة الشباب، طلبت من أبيها أن يشتري لها حصيرا من النوع الخفيف غير عريض، وطلبت من أمها أن تحضر لها عباءة، بعدها أقنعت والدها برغبتها في الاستمرار في طلب العلم على يد المشايخ، فوافقا على ذلك، فكانت تذهب إلى المجامع العلمية متلحفة في عباءتها الساترة الحاجبة، فإذا بلغت المجالس وجلست قريبا من شيخها، استترت بالحصير وتخفت بعباءتها فكان شخصها مفصولا عن الحاضرين لا تراهم ولا يرونها، ولكنها تسمع وتناقش وتكتب ما تشاء في حرية كاملة، فقد انطبق على عائشة قول الشاعر:

      فاطلب من العم مـما تقتضي به واعمل بعلمك مضطرا ومـختارا

      واطلبه ما عشت في الدنيا ومدتها في موقف العرض أن لا تورد النارا

      واجعله الله لا تجعـله مفخـرة ولا ترائي بـه بـدوا وأحضـارا



      وقد منّ الله على عائشة بعقل متفتح وذكاء متقد وفهم عميق للعلم، فدرست علم الكلام على يد العلامة الكبير تبغورين بن عيسى الملوشطي، وغيره من المشايخ في شبه تخصص تأخذ عن بعضهم علوم الشريعة والأصول، وتدرس عند بعضهم التاريخ والرياضيات وفروع الثقافة المعروفة في ذلك العصر، وتأخذ عن غيرهم علوم اللغة والأدب، وكانت ترى أن تعلم اللغة وآدابها وما تقوم عليه من نحو وصرف لا بد منه حتى يتسنى للمسلم كتاب الله وسنة نبيه الكريم، وظلت تنهل من هذه العلوم المختلفة حتى بلغت مكانة سامقة في العلم، واشتهرت بين أهل العلم بمعارفها الواسعة وإطلاعها الواسع، فصارت تميز بين مراتب العلماء وتقارن بينهم، وكانت تقول: (رأيت كثيراً من العلماء وأهل الخير، واستمعت إلى عدد منهم واستفدت، ولولا أبو العباس لمت على الجهل).

      كانت عائشة مثلاً للمرأة المسلمة المتعلمة المستنيرة التي تشارك الرجل في جميع الميادين الثقافية دون أن تتخلى عن رسالتها كأم ترعى أولادها، وكزوجة تصون نفسها وبيتها وتحفظ زوجها في نفسها وماله وبيته وتوفر له وسائل الراحة والسعادة والاستقرار، فلم يمنعها خمارها وثوبها الساتر الفضفاض من مناقشة أذكى الطلاب والتفوق عليهم، ومناقشة كبار العلماء في أدق المسائل، وصلت إلى تلك المكانة العالية من العلم دون أن تلقي عنها ثوب الحياء والحشمة، فكانت نبراساً لكل امرأة صالحة مؤمنة مجتهدة في طلب العلم.

      ** ** **



      (عائشة بنت محمد بن يوسف العبرية)

      هذه المرأة السخية عرفت معنى الاستخلاف في المال فلم يبهرها بريق الذهب والفضة، كان إشراق قلبها وسمو روحها يجعلانها في عالم مضيء بالسكينة والارتفاع عن مغريات الحياة، لقد كانت نهراً متدفقاً بالجود والعطاء، لقد اشترت بمالها الفاني الثواب الباقي الذي ستلقاه – إن شاء الله – ثوابا عند الله في جناته، فهيا بنا نستجلي سيرتها العطرة.

      هي الابنة الوحيدة التي خلفها الشيخ محمد بن يوسف العبري، وقد تزوجها الشيخ سالم بن خميس بن عمر العبري، نشأت البرة التقية الحرة المرضية عائشة في بيت أدب وعلم، وتربت تربية صالحة، وساعدها على ذلك البيئة العلمية والدينية التي ترعرعت فيها، اتصفت بالزهد وكثرة العبادة والإسراع في الخير طلباً لما عند الله من عظيم الأجر والثواب. ومن آثارها التي ما زالت موجودة في ولاية الحمراء:

      1- بناء مسجد الصاروج المسمى الآن بـ (مسجد السحمة)، وسمي المسجد بالصاروج لأنه بني بالصاروج والحجارة.

      2- أوقفت لإصلاح هذا المسجد أثر ماء من فلج العراقي بعبري.

      3- أوقفت بستاناً كثير النخل مع ما يحتاجه من الماء لعمل خل يكفي لعامة أهل الحمراء.

      4- وما يفضل من ثمر ذلك البستان من الخل أوقفته لمسجد الصلف في بلدة الحمراء لفطرة الصائمين، ولإصلاح مسجد الصاروج أيضاً.

      لقد امتثلت هذه المرأة الفاضلة لنصيحة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام حين كان يكثر من أمر النساء بالصدقة ويحضهن عليها، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، والوقف هو عين الصدقة الجارية.

      ** ** **



      (عائشة الريامية)

      إن الإنسان ليقف مبهوراً أمام سيرة هذه الفقيهة العابدة التي استطاعت أن تتبوأ درجة من العلم، حتى أصبحت فقيهة يفِدُ إليها طلاب العلم من كل حدب وصوب ليستفتوها فيما أشكل من أمور الدين، وغمض من أحكام الفقه، فهيا بنا نتعرف على هذه العالمة الفقيهة.

      هي عائشة بنت راشد بن خصيب الريامية البهلوية، سكنت حارة الغاف من بهلا، عاشت في عصر اليعاربة في أواخر القرن العاشر، وبداية القرن الحادي عشر الهجري، وقد عاصرت ثلاثة من أئمة عمان وهم: الإمام بلعرب بن سلطان بن سيف اليعربي، والإمام سيف بن سلطان اليعربي، والإمام سلطان بن سيف الثاني، اتصفت هذه البرة الرضية بالزهد والورع والتقى، وقد تتلمذت على يد كبار المشايخ والعلماء في عصرها، وقد أعطاها الله قوة في الذكاء، وعمقاً في الفهم، فاشتهرت بقوة علمها وغزارة إطلاعها، وبرزت في مجال الفتوى والفقه.

      وبالإضافة إلى مكانتها العلمية فقد كان لها دور سياسي جسيم، حيث يذكره عبد الله الطائي بقوله: (ولقد شاركت هذه العالمة الجليلة في توجيه الحكم في عصر اليعاربة في عمان، فبعد أن خرج سيف بن سلطان على أخيه الإمام بلعرب طالباً توسيع النفوذ الخارجي ومطاردة البرتغال، في حين اهتم أخوه بالإصلاحات الداخلية، تمكن سيف من الاستيلاء على الحكم بعد وفاة أخيه في الحصن الذي حوصر فيه، فبويع من قبل الكثيرين إلا أن الشيخة بنت راشد رفضت مبايعته، وأصرت على أن يلزم بيته أولاً، وأن يبتعد عن الحكم، ثم ينظر في ذلك من قبل أولي الرأي في البلاد، ولم يستطع سيف أن يعارض هذه المرأة فيحدث لعهده ثغرة بعدم انتخابه، فترك مقر الحكم فعلا ولزم بيته يومين، حتى أرسلت هذه المرأة المسلمة إليه، وناقشته بجانب جماعة من أعيان البلاد في مخالفته لأخيه ثم بايعته على أساس الجهاد والعمل على الإصلاح، وبذلك عاد إلى ممارسة الحكم، وأصبح من بعد في طليعة أئمة عمان حتى سمي بقيد الأرض لسعة نفوذه).

      وقد جُمّعت فتاواها في مجلدين تحت اسم جوابات الشيخة عائشة، ولعل لها مؤلفات أخرى في مجال الشريعة الإسلامية، ولكن للأسف فإن مؤلفاتها تلاشت، وكانت هذه المؤلفات توجد بالمكتبات في ولاية بهلا كأمثال مكتبة آل معد، ومكتبة آل مفرّج، ومكتبة الشيخ سالم بن راشد بن ربيعة العوفي الذي كان يسكن حارة الحدّاد بولاية بهلا، وروى جواباتها بعض العلماء مثل العلامة جميل بن خميس السعدي في كتابه (قاموس الشريعة)، وذكر فيه أنه قد أدركها وحفظ عنها.

      ونقل بعض جواباتها في كتابه المذكور منها ما نصه:

      (عن الشيخة ابنة راشد للضيف إذا كان أكله وحده أكثر مما أن كان رب الطعام حاضرا عنده استحيا منه أو تضيعا لأدب ومذهب أيسعه ذلك، ويكون سالما أم لا؟

      الجواب: إنه كان يأكل معه على أي حال، وأما في حسن الخلق فلا يأكل معه إلا أن يكون من الكبراء، والله أعلم).

      وليس بعجيب إذن على امرأة بلغت درجة الفتوى أن تكون مهتمة باقتناء الكتب، ومما يؤيد ذلك إطلاعنا على مخطوطة لكتاب المحاربة للشيخ بشر بن محبوب بن الرحيل رحمه الله – وقد كتب في آخر المخطوطة: (كتاب المحاربة – للشيخة التقية الرضية المرضية العالمة الزاهدة عائشة بنت راشد بن خصيب الريامية البهلوية) وهذا الكتاب يقع في أربعة وثمانين باباً، تتضمن أبواباً في العقيدة الصحيحة كالولاية والبراءة وما لا يسع جهله وما يسع جهله وغيرها، وأبواباً أخرى متفرقة كالإمامة والجهاد والدعاوى والقذف وذكر بعض الطوائف الضالة وغيرها من الفروع المهمة في الدين.

      ولم تكتف الشيخة عائشة باقتناء الكتب التي يصعب امتلاكها في ذلك الوقت فحسب، ولكنها رأت أيضا أن نسخ الكتب له أهمية بالغة في حفظها من الاندثار، وذخراً للأمة عند تقلب الدهور والأزمنة وبقاءً للعلم، فطلبت من مسعود بن راشد بن حرمل بن مرشد المعمري الخروصي نسخ كتاب جوابات الشيخ أحمد بن مدّاد النزوي الذي هو من علماء القرن العاشر، وتم الانتهاء من نسخه ليلة الخميس لثمان ليال بقين من شهر رمضان عام 1128هـ، وفي مخطوط بيان الشرع الجزء الرابع عشر، ذكر الناسخ بأنها نسخة للفقيهة العالمة عائشة الريامية، وتم الانتهاء من نسخه في الثامن عشر من ربيع الثاني من عام 1128هـ.

      ولقد كانت في عصرها- عصر اليعاربة نساء أخريات غيرها، اشتهرن بالعلم فما أعظمه من عصر انتشرت به تلك العالمات ليكن قبسا ترجع إليهن كل فتاة فيما أشكل عليهن في أمور دينهن ودنياهن ويكن شعلة تنير الطريق أمام كل فتاة تحب العلم وتسعى إليه.

      توفيت العالمة الجليلة عائشة الريامية في عصر الإمام سلطان بن سيف الثاني، بعد عمر قضته في كفاح من أجل العلم والدين، ودفنت ببهلا شمال الطوي الواقعة بمسجد العبّاد عليه لوح من الرباب مكتوب فيه اسمها وتاريخ وفاتها، ولا يزال قبرها معروفاً ولكن مع مرور الزمن تلاشى تاريخ وفاتها، ولكن اسمها لا يزال محفوراً في ذاكرة الأجيال يتـناقله الأبناء عن الآباء، وقد سميت مدرسة ببهلا باسمها تخليداً لذكراها العطرة.

      ** ** **



      (راية البيمانية)

      نشأت هذه المرأة الفاضلة في مدينة الرستاق، تلك المدينة التاريخية التي خرجّت العلماء والأئمة والأبطال، فقد كانت الرستاق في وقتها تعد عاصمة ثانية بعد نزوى نظرا لأهميتها الاستراتيجية.

      وعايشت راية البيمانية عصر اليعاربة ذلك العصر الذي كان من أزهى الفترات التي عاشتها عمان، فترة امتلأت بالازدهار الاقتصادي والعلمي، ومما ساعدها على ذلك قيام أسسها وبنيانها على أحكام كتاب الله عز وجل ومنهج الرسول صلى الله عليه وسلم والتزام مبدأ الشورى في جميع الأمور.

      اهتمت راية البيمانية بنسخ الكتب بنفسها، وما ذلك إلا دليل على اهتمامها الواضح بالعلم، فقد أدركت بثاقب بصيرتها أن الكتاب هو الصديق والمؤنس، يرجع إليه الإنسان فيما أشكل عليه من أمور الدين والدنيا، ويقتبس من خلاله الثقافة والعلم بأصول الدين وفروعه.

      وما تزال بعض الكتب التي نسختها باقية إلى الآن مثل:

      1- كتاب بيان الشرع، الجزء الرابع، للعلامة محمد بن إبراهيم الكندي، وقد انتهت من نسخه بتاريخ 2 من ذي الحجة عام 1101هـ.

      2- كتاب كشف الغمة وبيان اختلاف الأمة، ولم يذكر مؤلفه، وهو مخطوط يتضمن مسائل في أصول الفقه كما يتضمن عدة مواعظ نثرية وشعرية بأسلوب جميل، وقد أتمت نسخه بتاريخ 17 من ذي الحجة عام 1122هـ.

      ** ** **
      كـــــــــــــــــــــــــــــــن مــ الله ــع ولا تبــــــــالي
      :):)
    • (مـامـا ستّـي)

      هذه الأم الكريمة من الأمهات اللاتي بذلن مجهوداً مضنياً في سبيل العلم الصحيح وتأصيل المعرفة الإسلامية العلمية، فمن هذه الأمة القدوة؟ إنها والدة قطب الأئمة الشيخ محمد بن يوسف أطفيش، واسمها ماما ستّي وهي ابنة الحاج سعيد بن عدون، ورثت من أسرتها الذكاء والعلم والفضل، فكان جدها وعمها وأخوها من العلماء الأفذاذ الذين نبغوا في عصرهم، اتصفت ماما ستي بالورع والتمسك بالدين، ونشأت محبة للعلم والعلماء، تعرف فضل العلماء ومكانتهم وقدرهم، وأن العلم أنفس شيء في الوجود، تزوجت من السيد الصالح الحاج يوسف، وكان ذا أثر بليغ فيها، فقد رسخ فيها ما ورثته من أسرتها من حب العلم والدين والحماس للنهضة الحديثة وقوّاه، ولقد رزق الله هذا الزوج نعمة الذهاب إلى حج بيت الله الحرام، وبعد طوافه نام فرأى رسول الله صبى الله عليه وسلم في منامه يدنو منه باسماً متهللاً، ويكتب شيئاً في ظهره فاستفاق الحاج يوسف، وقلبه يغمره الانشراح، فلما رجع إلى وطنه استقبلته زوجته ماما ستي في حبها وحنانها وأشواقها فحدثها بالرؤيا، فاستبشرت، ثم حملت بعد مدة قصيرة بالولد السعيد، وبعد ولادته كان كما تمنيانه غلاماً جميلاً قوي البنية تبدو على نظراته وسيماء وجهه آيات الذكاء والنبوغ وعلامات الصلاح والنجاح، وأسمياه محمداً تيمناً وتبركاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، وتمنيا من الله أن يكون ولدهما في مصاف العلماء.

      وكان لا يرى الطفل محمد أباه بعد رجوعه من العمل أو المسجد إلا بين كتبه يقرؤها، فنشأ الطفل الصغير محباً للكتب تواقاً للمعرفة، وما يكاد يبلغ محمد الخامسة من عمره حتى يرى والده محمولاً على الأعناق إلى المقبرة، فارتاع وسفح الدمع الغزير، ولكن أمه ماما ستي أخذت تحنو عليه وتبالغ في الحنو وتكفكف دمعه، وتعوضه برعايتها وحسن تربيتها وتوجيهها ما فقده من حنان أبيه ورعايته.

      وكانت الأم ترقب تصرفات ولدها، فترى حبه للعلم منذ نعومة أظافره لدرجة أنه لا يكاد يجد ورقة مكتوبة في الشارع أو في الدار، إلا ويأخذها ويراها أعز ممتلكاته، وكان في ألعابه يقلد أصوات القراءة متلذذاً بها، فأيقنت الأم نجاحه لا يكون إلا في العلم وأن الله قد حقق آمالها وآمال أبيه فوهبها هذا الولد الذكي، وأورثه الشغف بالعلم والقراءة منذ صباه، وآلت أن تصارع الدهر والحاجة وتترك ابنها يتعلم حتى ينبغ.

      كانت ماما ستي حصيفة العقل، قوية الشخصية، عالمة نشيطة، تثبت في وجه الحياة المكشرة العابسة، فقد كان زوجها المتوفى مع حبه للعلم وأهله، تاجراً إلا أن هلم يتفرغ للتجارة وبالتالي لم يحقق ثراءً يذكر، فعندما توفي لم يترك لابنه وزوجته سوى دار يسكنونها، وثلاث نخلات، ومال يسير سرعان نفد، ولكنها بحسن تدبيرها اعتمدت على منسجها، وبراعتها في النسج، فعالت نفسها وابنها ولولاها لاتجه ابنها اتجاها ماديا يودي بنبوغه كما أودى الفقر والجهل بنبوغ كثير من اليتامى وأبناء الأمهات الجاهلات، وقد عهدت بولدها إلى أحد المؤدبين فحفظ القرآن، وختمه وأتقن حفظه وهو ابن ثمان سنوات، وقتها انتشت الوالدة باستظهار ولدها للقرآن الكريم، وكان ذلك اليوم أعظم عرس لها في الحياة، وقد أولمت له، وامتلأت دارها بالمهنئات، وأسرع إليها أقاربها يباركون للطفل ويهنئونها، وأسرع الطفل بعد ذلك إلى دور العلم يزاحم بالركب زملاءه في حقل الحلم، وأظهر ميلاً قوياً لحضور مجالس العلماء حتى إنه حين وصل العشرين من عمره كان يعد من أكابر العلماء، فقام بدور رائد في إحداث نهضة علمية في بلده وتخرج على يديه كثير من طلبة العلم، كان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر وتصدى للبدع في عصره، ثم لقب بقطب الأئمة عن جدارة، فحقق به وصف الشيخ الخليلي حين يقول: (كان رحمه الله أمة في فرد وفرداً في أمة فقد جمع بين العلم والعمل)، فهنيئاً لماما ستي التي كانت هي السبب بعد توفيق الله عز وجل في اتجاه القطب إلى العلم، فقد دلت ابنها على طريق الفوز والنجاة ورتبة الشرف في الدارين: الدنيا والآخرة، ولها من الأجر – إن شاء الله – بعدد ما قدم الشيخ من حسنات وأعمال صالحة.

      ** ** **



      (أم الشيخ صالح بن علي بن ناصر الحارثي)

      يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء وانكحوا إليهم) على هذا المبدأ اختار الشيخ علي بن ناصر الحارثي زوجته، وهي ابنة الشيخ علي بن سعيد الحضري الحارثي، فإنه كان معه يوما في غارة ضمن الحروب الدائرة في ذلك الوقت، فأعجب بشجاعته وإقدامه وفطنته؛ فأضمر في نفسه إن كان له بنت ليخطبها ويتزوجها لأنه لاشك أن ولدها سيكون نجيبا ذكيا.

      وسارت الأمور كما يشتهي فها هي بعد زواجه منها تنجب له ولداً أسماه صالحاً، واهتمت هذه المرأة اهتماماً بالغاً بهذا الابن رغم إنه كان لها ولد من زوج سابق لم ينل نفس الرعاية والاهتمام الذي ناله صالح، وحين سئلت عن سر ذلك، أجابت أن صالحاً ستكون عليه مسئولية لا تكون على أخيه، وذلك لأن أباه شيخ قبيلة بعكس الابن الآخر، ثم إنها جلبت له مرضعة معروفة بطلاقة اللسان وقوة المنطق، وقد سئلت عن ذلك أيضا فأجابت: (إن هذا الولد سيخاصم ويخاصم، فإن كان لا يعرف أن يتكلم فكيف يبز خصمه) فصدقت فراسة أمه في كل ذلك، فأصبح الشيخ صالح من بعد ليس رئيساً على قومه فحسب بل أكسبه جهاده وصلاحه طاعة القبائل الأخرى، ولقد كان تأثير حليب تلك المرضع طلاقة في اللسان وقوة في الصوت فكان ذا صوت جهوري يُسمع من بعيد.

      وهكذا يلوح ذكر هذه الوالدة كلما ذكرت سيرة وصفات المجاهد الشهيد صالح بن علي عليه رحمة الله ورضوانه.

      ** ** **



      (ستي بنت عمر نتموسني)

      نشأت هذه المرأة الفاضلة في بيت علم وأدب، فكان أبوها العالم الجليل عمر نتموسني رباها على أسس التقوى والعلم، ولقد بذل والدها ماله في اقتناء الكتب النفيسة النادرة، وكان أغلبها مخطوطاً لا يظفر بها إلا العلماء الكبار وبأغلى الأثمان، اتصفت السيدة ستّي بالذكاء البارع، وشجعها وجود مكتبة والدها على الإطلاع الواسع في فنون العلم المختلفة حتى أصبحت ذات ثقافة عالية، وعندما توفي والدها الجليل عمر أحست بالغيرة على كتب أبيها، فبذلت كل جهد للحصول عليها فكانت هي نصيبها من ميراث أبيها ولعلها قد اشترتها من الورثة.

      وعندما توفي زوج السيدة ستي خطبها قطب الأئمة الشيخ محمد بن يوسف أطفيش فرضيت به، وكان بعض الجهلة الحاسدين من قومها يناصبون القطب العداء، ويتخذون كل وسيلة لحرمانه من الاستفادة من خزانة كتب خاله، فكان زواجهما سراً لا يعلمه إلا الخاصة خوفا من الجهلة الغلاة من قومها، وفي اليوم الأول من الزواج استبقى القطب تلامذة غرداية، وضيّفهم في دار السيدة ستّي، فدخلوها ووجدوها مفروشة بأحسن الفرش، مبخرة، فقدم إليهم الطعام، وبعد الطعام كلمتهم السيدة ستي من وراء ستار فرحبت بهم، وأخبرتهم بزواج الشيخ منها فهنئوها، ثم قالت: (لقد اخترتكم أنتم تلاميذ غرداية لكتمانكم للسر لتشهدوا، ألا فاشهدوا أنني قد وهبت خزانة الكتب، وهذه الدار، للقطب فهما ملك له، وستكتب وثيقة الملك لتشهدوا فيها) وكانت خزانة كبيرة من الكتب، ووهبت له أيضاً بعض أثاث الدار القيم رحمهما الله، قال الشيخ بهون: (ورزق الله القطب لإخلاصه وورعه وعمله لله ثلاث أشياء نفيسة: الزوجة الصالحة الوفية، وخزانة الكتب، ودار في أحسن وأغلى حي في بني يسجن).

      ** ** **



      (عائشة بنت الناصر محرزي وابنتها)

      ولدت هذه المرأة المسلمة الصالحة بمدينة بريان في ولاية غرداية بالجزائر في القرن التاسع عشر الميلادي، وترعرعت في بيئة صالحة طاهرة مفعمة بالإيمان القوي وحب العلم، وقد غرس والداها فيها حب العلم والمعرفة والتفقه في العلوم الشرعية بحيث كانت تتردد على الكتاتيب القرآنية النسائية، فحفظت القرآن الكريم وأحاديث نبوية شريفة وعدة متون دينية.

      فنشأت مثقفة ورعة قوية الشخصية ذكية حافظة لا تكاد تنسى شيئاً مما تسمعه، وكانت تتشرب دروس العالم الجليل القطب، وتحفظ أحكام النساء في الدين فتعظهن وتفتيهن، وكان القطب يجلها لأثرها العميق في نساء بريان، ويعدها من أكبر تلميذاته، ولما هرمت وصارت لا تستطيع زيارة القطب صار هو يزورها في دارها وفاء لها، وتقديراً لجهودها، وقد اختار مجلس العزابة هذه السيدة الكريمة لتكون كبيرة العزابيات في بريان لعلمها وكفاءتها في تسيير ذلك المجلس الديني، لقد كانت هذه المرأة داعية تعيش من أجل نشر مبادئ الحق وتعاليم الإسلام السمحة، حتى تخرجت على يدها الكريمة العالمات الصالحات اللاتي برزن بدورهن الرائد في بيوتهن ومجتمعهن.

      عاشت هذه العالمة حياة ملؤها جهاد ونضال في الحق، حتى توفاها الله.

      وإذا كانت هذه سيرة السيدة الفاضلة العالمة عائشة، سيرة علم وتقوى وجهاد من اجل الدعوة، فقد أخذت منها ابنتها علمها وصلاحها، فكانت من المثقفات الفاضلات وكانت كأمها لها ذاكرة قوية تسمع الدروس الطويلة فتحفظها وتعيدها، وكانت من المواظبات على حضور دروس القطب فكانت حريصة على فهمها لهذه الدروس القيمة والإلمام بها حتى بزغ دورها في الدعوة، فكانت تجتمع بالنساء وتحفظهن مما حفظت من دروس القطب، فتخشع القلوب، وتسيل الدموع، وتحدث النساء عن عذاب القبر والحساب والعقاب بين يدي الله والنار وأهوالها في الآخرة، فتخرج النساء من المجلس وقد أحسسن برقة في القلب وخشية ورهبة، واهتمت بالشؤون الاجتماعية في بلدها (بريان)، فكانت ترى أنه إذا صلحت الأسرة صلح المجتمع، وكانت تسعى بالصلح بين الأزواج وبين المتخاصمين في العائلات، لا تسمع بنشوز في عائلة من معارفها إلا وتسرع فتعظهن بصوتها الخاشع المؤثر المؤمن بما سمعت من القطب، فتطفئ النيران وتزرع المحبة وتحل المشاكل التي تكدر صفو العائلة، ولما توفيت انطفأ نبع غزير من النور ومصدر عظيم للصلاح والدين يرحمها الله.

      ** ** **



      (سليمة الصقرية)

      هي ابنة الزاهد الورع الشيخ سعيد الصقري، نشأت في كنفه، فكان مدرستها الأولى التي درست فيها الفضائل والآداب الكريمة، فاتصفت بالحلم والزهد والأخلاق الرفيعة، ثم شاء لها القدر السعيد أن تقترن بالإمام المحتسب الشيخ صالح بن علي الحارثي، فكان مدرستها الثانية، فصارت سنداً وعوناً لزوجها الصالح، وكانت تعرف قدر الناس وتنزلهم منازلهم، تأثرت في ذلك بأبيها وزوجها، ولقد تبوأت مكانة عظيمة في قلب زوجها الصالح التقي الذي ان لا يستغني عنها لثقته الكبيرة فيها، ولكن بالرغم من ذلك فقد حصل بينهما ما قد يحصل بين أي زوجين من خلاف، وسوء فهم، فرأت أنه من المناسب أن تذهب إلى بيت أهلها إلى أن تهدأ الأمور، فأحس الإمام بالفراغ الكبير الذي تركته زوجته، وبحاجته الملحة إليها في بيته ونفسه، فبادر إلى استرضائها فلم تمتنع وعادت إلى بيتها كأفضل ما تكون الزوجة الصالحة.

      وكان لها فضل في إنقاذ حياة زوجها الإمام من الهلاك، حين أهداه أحد أعدائه عباءة مسمومة فأوجست منها ريبة ونصحته بأن لا يلبسها، وقد أخذ الشيخ بنصيحتها وقد جربت الزوجة الصالحة هذه العباءة على قطة فماتت، وأصبحت هذه الواقعة يضرب بها المثل (أقطع من سم البشت).

      ورزقهما الله عز وجل من زوجها الإمام ابناً وثلاث بنات، وهم عيسى وعزيزة وشمية وعائشة فبذلت الأم الصالحة نفسها ووقتها من أجل تربيتهم على المبادئ السمحة وعلى العلم والصلاح وأحسنت تربيتهم، فنبغ من أبنائها عيسى الذي أصبح بعد وفاة والده شيخاً لقبيلة الحرث.

      ** ** **



      (شمسة الخليلية)

      ترى هل يكفي لنعرّف هذه الشخصية أن نقول إنها ابنة العالم الرباني المحقق مجدد القرن الثالث عشر شيخ الإسلام سعيد بن خلفان الخليلي، أم نقول إنها زوج الإمام عزان بن قيس البوسعيدي، أم نذكر أنها أخت الشيخين أحمد ومحمد ولكن لن نكتفي بهذا لنعلم قدرها وشرفها فالنسب والقرابة لا قدر لهما في الإسلام إلا بقدر ما يقربان صاحبهما من الله عز وجل: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم). فهيا بنا نستجلي بعض ملامح شخصيتها وسيرتها العطرة.

      ولدت السيدة الفاضلة شمسة في قرية بوشر بولاية مسقط، تعلمت القرآن الكريم والعلوم الفقهية والأدبية، في ذلك البيت المسلم بيت العلم والفضل والتقى، فترعرعت محبة للعلم، ساعية في تحصيله، ومما ساعدها على ذلك ما حباها الله من عقل واع، وقلب متفتح، فارتوت من معين والدها الدفاق، حتى بلغت درجة من العلم وأصبحت مرجعا للفتوى وخاصة في مسائل النساء الدينية.

      وقد نالت هذه البرة الرضية شرف الاقتران بالإمام الرضي عزان بن قيس، وعاشت معه حياة هانئة سعيدة، ولكن ما يكاد يمضي عام على زواجهما المبارك إلا ويلتحق زوجها الإمام بسلك الشهداء، ففجعت بتلك المصيبة كما فجع معها المؤمنون الأحرار بفقد إمامهم وقائدهم، ولكن كما قيل: (لا دواء كالصبر) وبشر الصابرين.

      استشهد الإمام وهي حامل منه فكان مولودها ذكراً، وقد استشهد زوجها الإمام وهي ما تزال في ريعان الشباب، بل لعلها في العشرين من عمرها أو حول ذلك، وتقدم الصالحون لخطبتها، ولكن من كمثل عزان وطيفه لا يزال أمام ناظريها، فما كان جوابها لهم إلا قولتها المشهورة: (لا رجل بعد عزان)، وفضلت أن تبقى حاملة ذكرى ذلك الإمام الشهيد، ولا تكاد هذه السيدة الجليلة تستفيق من حر مصيبة فقدان الزوج، حتى تنزل عليها مصيبة أخرى وهي استشهاد والدها وأخيها محمد حين قتلا ظلما وغدرا، ولكن لا حيلة في رد القضاء، وهي وإن كانت مصيبة في حد ذاتها، فإن مما يسليها أن أولئك الأخيار إنما دفعوا أرواحهم ثمنا رخيصا لرضوان ربهم، وإقامة منهجه على الأرض، فانتقلوا إلى جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

      وكان لهذه الفقيهة البرة يد في علم الأسرار، وقد حباها الله بأموال كثيرة ورثتها عن أبيها الشيخ المحقق الخليلي واتصفت بالكرم والسخاء وكثرة التصدق على الفقراء والمساكين، وكانت تساعد ابن أخيها الإمام محمد بن عبد الله الخليلي رحمه الله بهذه الأموال من أجل معاونته على الخير والسير في طريق نشر العدل في الأرض، وكانت كثيرا ما ترد إليه الأموال التي كان يبيعها وتشتري الأموال ثم تردها إليه من أجل ذلك.

      وقد ظلت هذه المرأة الوفية من غير زوج بعد الإمام عزان أكثر من ثمانين عاما حتى وفاتها، وذكر مؤلف كتاب (الزمرد الفائق) للخصيبي أنه أدركها وزارها عام 1350هـ في ولاية سمائل، وكانت صالحة فاضلة، وعندما دنت وفاتها رأت الإمام عزان بن قيس رحمه الله في منامها وأخبرها عن العلاقة الزوجية بأنها باقية، وعاشت هذه المرأة الصابرة حتى اختارها الله بقربه على أثر ذلك، ودفنت في العلاية بولاية سمائل وذلك في عصر إمامة ابن أخيها الإمام محمد بن عبد الله الخليلي، رحمها الله رحمة واسعة، وأكثر في نساء المسلمين أمثالها.

      ** ** **



      (عائشة العامرية)

      نشأت هذه العالمة الفاضلة في القريتين من أعمال إزكي بعمان، في القرن الثالث عشر الهجري في بيت علم وأدب بين أب وعم فقهاء أعلام، ولقد اشتهرت بسعة العلم والمعرفة حتى كانت مقصد العلماء ولمزيد من التعرف على صفاتها نحيل القارئ إلى رسالة الشيخ عامر بن سليمان الريامي التي أرسلها إليها وهو من هو في العلم والدين ما يعصمه عن التملق والمبالغة في القول، يقول فيها: (نقية الأصل والفرع، طيبة الأرض والزرع، خصيبة المرعى، كريمة المسعى، نجيبة الخصال، واضعة درر المروءة قبل الفصال، المتسربلة بثوب العفاف، المتدرعة بمسرودة الكفاف، السالكة منهاج العلم، الراقية شناخيب مدارج العلم، كريمة عشيرتها، ونصيحة مسيرها، وسامية المرتقى، وبقية من بقى، سيدة المنتقات، المشايخ الثقات بنت مسعود بن سليمان بن سرحه بن حرمل بن حمد بن سرحان بن محمد بن ناصر بن أبي عامر العامرية المضريّة النزارية، سلمها الله سلامة سرمدية أبدية، ونجّاها من كل رزية وبلية ووقاها كل مماذق عايق، وكيد كل فاسق منافق). ولقد كان لها آراء وفتاوى رويت عنها في عدة كتب معاصرة لها وتالية، اهتمت هذه العالمة الجليلة بنسخ الكتب لما لها من أهمية بالغة في توسيع ثقافة كل طالب علم مثل كتاب المهذب المتخصص في علم الميراث وقد كتبته بخط يدها.

      ونختم الحديث عنها بمقتطف من رسالة الشيخ عامر بن سليمان الريامي السابق ذكرها والتي يقول في مقدمتها: (ولما عز اللقاء، وصعب المرتقى، لم يفتر الخاطر، ويقر الناظر إلا بتعريفكم حيث أنتم بقية المؤدين، قال الله تعالى: (فإخوانكم في الدين)، لا عدمنا وجودكم، ولا حرمنا فضلكم وجودكم). وبعدها تكلم عن الدنيا، وكونها دار ابتلاء والآخرة التي هي دار القرار فقال: (كل شيء لدوران، وكل حي فان، الدنيا نفعها ضرا، وحلوها مرا، ونعيمها انتقام، وسرورها أضغاث أحلام، ما أجمل من ألبوس التقوى عند البؤس الأقوى، ولو استخبر أهل المقابر من السنين العوامر لبدلوا عن الهضائم العظائم، والجفاء للأوفاء، ما من رسول ولا نبي إلا أخبر الله عنه بالتنكيل من أهل الأباطيل وليحصدوا ثمرة الصبر ويؤدوا لوازم الشكر، أين نحن من لفظ طعامهم، أو تراب أقدامهم مع سوء سريرتنا، وقبح سيرتنا، والحمد لله على كل حال فالحياة إلى زوال، فالسفر ينادي، والأيام رواحل، والشهور مراحل، والطرق غير مأمونة المخافة، فالعاقل من تأهب للرحلة، وترك عنه تسويف المهلة، وتقمص بقميص الحق، وتردى برداء الصدق، واعتم بعمامة الإيمان، وتحزّم بطاعة الرحمن، وتقلد بسيف اليقين، وركب مطية الموفقين، وساقها بعصى السياسة، وأوردها من حياض الكياسة، وأناخها في قنوات النيات، وقرع الباب في ظلمات المدلهمات، على كريم المعطيات غفار الخطيئات، فعسى ولعل تحل به أمنع محل في عيش هني، وشراب مري وروضات ورياض، ونهور وحياض وموائد وولائد، وقصور وحور، فتلك تجارة لن تبور...).

      ** ** **



      (نقية بنت عامر بن سالم بن راشد الحجرية)

      ولدت الفاضلة الزكية نقية في قرية الواصل من أعمال بدية بعمان، وتزوجت بالعالم الزاهد راشد بن خلفان بن علي الحجري.

      درست مع زوجها العالم مجالات الدين المختلفة فكان زوجها العالم الزاهد مدرستها الأولى، حتى توفي رحمه اله، فتزوجها إثر وفاته السيد فيصل بن عزان بن قيس البوسعيدي الرستاقي المسكن، ورأت أنها بحاجة إلى مزيد من الإطلاع في ما يهمها من أمور الدين، فتتلمذت على يد الشيخين الجليلين راشد وسالم ابني سيف اللمكي حتى اشتهرت بعلمها الواسع وزهدها المنقطع، فأصبحت عالمة مقصودة، واشتهرت بزهدها، وكانت كاتبة زوجها بسبب حسن خطها وجماله حيث كانت تكتب الرسائل للسيد فيصل، وعاشت هذه الزاهدة ما يقارب الخمسين سنة قضتها في العطاء والبذل، ومن الغرائب أن تتوفى هي في الرستاق في بلدة زوجها السيد فيصل، ويتوفى زوجها فيصل في بلدها الواصل ببدية إثر زيارة قام بها إلى هناك.

      توفيت رضي الله عنها عام 1320هـ بمحلة القرن بالرستاق، وقبرها معروف مشهور هناك.

      ** ** **



      (مامة بنت عبد العزيز)

      هذه المرأة العظيمة وهبت حياتها لخدمة ديننا الحنيف الاهتمام بالجانب العلمي، ولدت السيدة الجليلة مامة في مدينة مليكة العليا بوادي ميزاب بالجزائر عام (1270هـ / 1850م) في كنف عائلة مؤمنة مشهورة بالعلم والعمل، تلقت علومها الأولى في الكُتّاب فحفظت القرآن الكريم عن ظهر قلب، وكانت شغوفة بالعلم فلازمت عدداً من حلقات العلم كحلقة الشيخ محمد بن سليمان، والشيخ عمر بن سلمان، والشيخ عمر بعمارة، وغيرهم فأخذت عنهم الفقه وعقيدة التوحيد، وحفظت الكثير من المتون الدينية المعروفة آنذاك، والحديث والسيرة والابتهالات، وسعت إلى حضور مجالس الذكر، ودروس الوعظ والإرشاد في المسجد، وكانت شغوفة بشهود الصلاة مع الجماعة حتى أنها كانت تدق جدار المسجد من مصلى النساء عندما يخطئ المجلس في التلاوة فتهمس لهم بالآية الصحيحة ليرجعوا إلى الصواب.

      ومن هنا ظهر نبوغها واستيعابها الواسع للعلوم، حتى غدت علماً من أعلام النساء في بلادها، فتألق نجمها حتى ارتضاها المشايخ رئيسة لحلقة المرشدات في مليكة العليا، بذلت نفسها وجهدها في نصرة الحق ومقاومة الضلال والجهل، وردع العصاة والمفسدين عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل شجاعة وإخلاص، اهتمت بالأطفال الصغار فدرستهم القرآن الكريم، فكان من تلاميذها ممن أصبحوا بعد ذلك قضاة ومؤدبين وعلماء، وبرز دورها بين بنات جنسها، فأخذت تعلمهن القرآن الكريم، وتبصرهن في أمور الصلاة والصيام، وحقوق الزوج وغيرها حتى تخرج على يدها كثير من النساء النابغات الصالحات كأمثال مسعودة بنت صالح التي أصبحت رئيسة للمرشدات من بعدها.

      حرصت هذه المرأة الكريمة على إرشاد النساء، وتذكيرهن بواجباتهن كلما وجدت إلى ذلك سبيلا وخاصة في مؤتمرات (لا إله إلا الله).

      وكان دورها بارزاً في المجتمع فأخذت تعلن الرفض والمعارضة الشديدة أمام أي خلل تراه يظهر في المجتمع من المسجد أو غيره، حتى قال عنها أحد الأعيان وقتها: (إنها كانت تقف أمامنا كالجبل الشامخ بالبراءة والهجران سواء من الرجال أو النساء).

      ومن أعمالها الجليلة ترؤسها لمجالس الصلح بين العائلات المتنافرة لإصلاح الصدع وإحلال الوفاق بينها بكل إلحاح وإخلاص، مهما كان نوع المشكلة التي فرقت بينها، وكانت كثيراً ما توفق إلى النتيجة المرضية والحل الأعدل بين الطرفين، وفي غمرة هذه الكرامات والصفات النبيلة اختارها الله إلى جنة الخلد تاركة وراءها ذكراً طيباً، وعملاً متقبلاً صالحاً بإذن الله تعالى، وكانت وفاتها عام (1340هـ / 1922م).

      ** ** **



      (عائشة بنت عمر بن سليمان)

      ولدت هذه السيدة الجليلة عام 1272هـ في مليكة من ولاية غرداية بالجزائر، كانت أمنية والدها أن يرزق بابنة عالمة في أمور الدين، وعندما ولدت عائشة وقبل أن تذوق طعم لبن أمها أشربها أبوها غسيل سورة الانشراح، ورباها هذا الشيخ الفاضل بعد ذلك تربية دينية علمية على خلق القرآن الكريم، وبذر في نفسها مبادئ الدين وعلومه الأولية، وكان أخوها من علماء ذلك العصر، فاستفادت منه في كثير من علومها، لقد أحبت العلم فأقبلت على حفظ القرآن الكريم، بعدها طلبت من الشيخ صالح بن علي العلي أن يقبل انضمامها إلى حلقة (إروان) فرفض لأنها خاصة بالرجال فقالت له: (ما حجتك أمام الله إذا منعتني؟) وكان من حرصها على طلب العلم أنها كانت تنافس علماء زمانها وتستزيد منهم العلم، ومن هؤلاء العلماء الشيخ سليمان ابن بكير مظهري وغيرهم الكثير، ولقد كان لها من الذكاء والعلم والأخلاق ما أهّلها أن تكون محط إعجاب العلامة محمد بن يوسف أطفيش؛ فتقدم لها وتزوجها، ولقد تلقت من زوجها العالم الجليل صنوف العلم المختلفة حتى غدت عالمة نابغة ولا سيما في علوم الميراث، كانت عائشة أفضل امرأة لدى الشيخ أطفيش، أسعدت زوجها، وجعلته ينصرف إلى العلم بالهدوء المنزلي والجو العائلي الحسن الذي تحفه به، وأنجبت له ثمانية ذكور ربتهم فأحسنت تربيتهم حتى غدوا صالحين مصلحين، وهم وإن لم يرثوا علم والدهم ولكنهم ورثوا صلاحه، وكان من حب زوجها لها أن اصطحبها إلى حج بيت الله الحرام.

      ولم تكتف هذه الزوجة المطيعة والمربية الفاضلة بدورها في مجال الأسرة بل تعداه إلى المجتمع المحيط بها، فقد كانت تشجع الصبيان والبنات على العلم وتقوم بإهداء أدوات الكتابة لهم، وفتحت منزلها لتعليم البنات والصبيان القراءة والكتابة، وتحفيظ القرآن الكريم، كما أنها اهتمت ببنات جنسها فكانت تقوم بالوعظ والإرشاد للنساء في المجالس النسوية، وتفسر لهن القرآن الكريم، وتفتي لهم في المسائل الدينية الخاصة بهن، وكانت حريصة على الاستزادة من العلم عن طريق حضور دروس المشايخ التي يلقونها في المسجد.

      وفي عام 1356هـ رحلت هذه السيدة الجليلة إلى دار الآخرة لتنعم في جوار الله بجزاء المؤمنات العابدات الصابرات الشاكرات.

      ** ** **



      (مامة بنت سليمان)

      لقد قيضها الله تعالى لخدمة الإسلام وأهله فتركت بصماتها على صفحات التاريخ الإسلامي، لتكون من النساء اللاتي شاركن في ركب الحضارة الإسلامية والمضي بها في طريق الرقي والازدهار.

      ولدت السيدة مامة بنت سليمان بن إبراهيم عام (1280هـ / 1863م) في مدينة غرداية بالجزائر، وترعرعت في أحضان عائلة مؤمنة قوية.

      أخذت علومها الأولى في كُتّاب المدينة فاستظهرت نصف القرآن الكريم، وأتقنت القراءة والكتابة، وأخذت حظاً من علوم الشريعة، ومبادئ العربية والنحو من بعض مشائخ عصرها كأمثال الشيخ بابكر بن مسعود، والشيخ بهون بن موسى، وزوجها الشيخ يعقوب العزناوت، وابنها الحاج بكير بن عمر، وغيرهم الكثير.

      حفظت عقيدة التوحيد، ودرست الفقه من كتاب الإيضاح، والنيل وشرحه، والتفسير من كتاب تيسير للقطب أطفيش، والنحو من كتاب الأجرومية، والسيرة النبوية، وتاريخ الإباضية، وأما الأخلاق وتهذيب النفس فمن كتاب قناطر الخيرات.

      كانت حياتها منارة هدى وإيمان في بيوت التقوى والصلاح، فتحت منزلها لتعليم بنات جنسها القرآن الكريم والعقيدة الصحيحة والعبادات، أخذت توجه النساء وتعظهن في حصص أسبوعية مستمرة وخاصة في شهر رمضان فكانت لنساء بلدها المعلمة المؤمنة والمرشدة الصالحة.

      انضمت هذه الأم المربية إلى حلقة المرشدات بغرداية وترأسها عام 1324هـ فأخذت على عاتقها مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما حلت، لا تخاف في الله لومة لائم، فهي تعلن البراءة والهجران من النساء المستحقات لذلك في مقرهن العمومي وتعلن العفو عن التائبات كذلك، فأصبحت بمثابة عصبة البلد والعمود الفقري لتماسك العائلات عن أمواج الجهل والفتن المتلاطمة، وذلك من خلال سعيها الدؤوب لإصلاح ذات البين لما لها من قوة في الذكاء، ومكانة في المجتمع، وهيبة في النفوس، وحكمة في الرأي، وكان لها خبرة في سياسة الأمور حتى أصبحت نحل استشارة الأعيان والعزابة والقواد، ومن خلال مهمتها كرئيسة للمرشدات ألزمت نفسها الإشراف المباشر على تطبيق أوامر المسجد في الأوساط النسوية بكل حرارة وإخلاص لدى جميع المناسبات المقننة من طرف العزابة في المسجد، فهي بالتالي كانت حلقة الوصل بين العزابة وأعيان البلد والمجتمع النسوي، ومن أهم أعمالها الجليلة التي بذلت الجهد من أجلها مقاومتها للبدع والخرافات في زمانها، فقد قضت هذه المربية الفاضلة على كثير من الخرافات التي كانت تخيم على العقول بسبب الجهل والتقليد الأعمى، واستبدلتها بالتقاليد الطيبة النظيفة، مثال ذلك: منع زغاريد النساء عند رؤية السيل، ومنع زغاريدهن صباحا بعد اللقاء الأول بين العروسين، ومنع الإسراف في تزيين العروس شفقة على الضعيف، ومنع بعض الأطعمة والهدايا التي كانت يتبادلها الناس فيما بينهم في المناسبات، وفرض تحية (السلام عليكم) عند جميع الناس عوضا عن التحيات الأخرى غير المعهودة في الإسلام، ومنع كل ما فيه كشف لحجاب المرأة وضياع حرمتها، ولقد استجاب أهل غرداية لهذه المرأة الصالحة بكل ثقة ورغبة ورهبة، وكانت قاعدتها الأساسية للإصلاح والمقاومة هي الولاية والبراءة التي لا تطبق من جهة فرد واحد وإنما جماعة النساء والرجال فيعطي ذلك أثره العميق في الامتثال لأوامر الله والانتهاء عما نهى الله عنه، ولقد تقدمت هذه المرأة المؤمنة جنبا إلى جنب مع أخواتها الصالحات مع الرجال في الثورة على الاستعمار الفرنسي الذي قام به على الجزائر عام 1270هـ، فقد ذكر الأستاذ إبراهيم قرادي في رسالته: (إن الجماعات الدينية للنساء نظمت مؤتمراً تحت رئاسة رئيسة الجماعة الدينية النسائية بغرداية وهي المسماة (مامة بنت سليمان) وقررن إصدار أوامر بمقاطعة كل ما يتصل بالفرنسيين من لباس ومواد وغيرها وحمّست هذه المرأة الكريمة الجماهير على هذه المقاطعة السلبية وعقوبة كل من خالف الاجتماع هو إعلان (البراءة والهجران) ضده سواء من الرجال أو النساء، فعمّر الإضراب أكثر من ثلاثين عاما، ترك أثرا إيجابيا على المؤمنين بالفكرة، فكان الطفل يتدرب على ذلك منذ نعومة أظافره من أمه حتى لا تكون لديه عقدة ضدها فيرميها ويبتعد عنها، ولقد نجح إضراب مامة بنت سليمان نجاحاً باهراً فإلى عهد قريب كان اللباس الأوروبي ومأكولاته ومغرياته كلها مرفوضة، وكان لهذا الموقف المشرف من هذه المرأة المؤمنة يعتبر من المواقف التي رفعتها إلى مصاف زعيمات النساء المسلمات في العصر الحديث، فقد اعتبرها صاحب كتاب (ثورات النساء في الإسلام) واحدة من اثنتي عشرة امرأة اشتهرت بمواقف بطولية في العالم، ولقد أعدت هذه المرأة الحصيفة العدة لليوم الآخر وعملت بقول الرسول الكريم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) فقد بذلت نفسها لتعليم بنات جنسها في منزلها وسط المدينة وفي البساتين ثم بعد ذلك حبست كتبها لمن يطلب العلم، ونصت في وصيتها على شراء دار يوقف للتعلم وسط المدينة مما يفضل من الثلث، فما أعظمها من وصية، وصية من أجل طالب العلم الذي سيحمل شعلة العلم والإيمان لأسرته وجيرانه ومجتمعه، وبعد هذا الجهاد العظيم في سبيل إعلاء كلمة الله، وفي نهاية شهر رمضان المبارك ذكّرت النساء بفضائل العيد، وقرأت لهن خطبة عيد الفطر المبارك المعروفة في (وادي ميزاب)، وهي متزينة بلباس العيد، فقالت للنساء: (أتمنى لقاء الله على هذه الحالة) وما هي إلا لحظات حتى أصبحت في جوار الخالدين في جنات النعيم يوم 29 من رمضان عام (1349هـ / 193م) رحمها الله ورضي عنها وجعلها الله برفقة النبيين والصديقيين والشهداء، وحسن أولئك رفيق.

      ** ** **



      (نساء في محراب العبادة)

      1) الأختان الدرتان:-

      حليمة وباهصة بنات خميس بن علي بن خميس الحجري، أخوات الشيخ سالم بن خميس والد عبد الله بن سالم الحجري، كانت حليمة تتحرى رضا الله في الحركة والسكنة وتتوخى القرب منه تعالى، وتبتغي رضوانه في الخطرة والفكرة، وعدتها الصبر والذكر، تصبر النفس على ما تكره من طاعة اله عز وجل وإن ثقل عليها، وتذكر الله باللسان والقلب، كانت امرأة عابدة جلدة تقوم للنساء في صلاة التراويح في شهر رمضان، وكثيراً ما عمرت مصلى النساء بالواصل بصلاتها وتلاوتها، اتصفت بالشجاعة والجرأة في الحق فكانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، مرّ عليها ذات يوم رجل بمن معه يرقص مع الغناء، فلم يعجبها فعلهم فأنكرت ذلك عليهم ونهتهم، وسرعان ما امتثلوا أمرها وانتهوا عن منكرهم الذي كانوا عليه.

      أما أختها باهصة فلم تعنيها الحياة بكل ما فيها من زخرف ومتاع وإنما كان كل همها الباقيات الصالحات التي ستبقى لها وترفعها يوم القيامة في سلك الصالحين الأخيار، واتصفت بكثرة العبادة، وكان لها ابن وابنة بذلت ما في وسعها لتربيتهما التربية الإسلامية الصحيحة على منهج القرآن والسنة، حتى أثمرت عنايتها بهما فأصبح ابنها الشيخ ناصر بن بدر بن محمد الحجري أحد مشائخ المنطقة، وأما ابنتها فغدت من العابدات الزاهدات.



      2) الدرة العذوبية:-

      كانت شمسة بنت سعيد العذوبية من النساء العابدات الصالحات، تجردت لله في خشوع وتضرع وصبر لا تهزه الأحداث، وتوكل محفوف بالإيمان، وحب عميق لله ملأ قلبها وصدرها ووجدانها، فأصبحت مشاعرها ربانية، كانت تقوم لصلاة التنفل من نصف الليل حتى يطلع الفجر، فتسهر والناس نائمون، وتربح والناس غافلون، كانت لا تخرج من بيتها إلا لحاجة ملحة أو لورد الماء، حتى عجزت فأعانتها ابنتها في ذلك.

      ** ** **



      (الأستاذة المربية ماهلة)

      إن القلم ليقف عاجزاً عن الكتابة أمام هذه الأستاذة الجليلة والمربية الفاضلة، ولكن لنطف في غيض من فيض بحر هذه المرأة القدوة.

      لقد آمنت ماهلة فظهر إيمانها على أقوالها وأفعالها وحركاتها وسكناتها، فكانت مع الناس في معاملتهم، ولكن قلبها كان أبداً لله تعالى لا تعمل إلا له ولا ترجو إلا إياه، وكانت مع الله فكان الله معها، لقد نمت هذه الوردة اليانعة في بيت العلم والتقوى، وتفتحت في بستان الورع والتقى؛ فكان والدها الشيخ عامر بن سلطان الحجري، وهي أخت البرة الرضية الصوامة القوامة سالمة، تاقت نفسها للعلم فأخذته عن والدها الشيخ عامر، وأخذت تتبحر في فنونه المختلفة، ولمنها ركزت اهتمامها في المجالات التي تخص النساء كأمور الحيض والنفاس والطلاق والعدة وغيرها، اتصفت هذه المرأة القدوة بالصبر على طاعة الله تعالى والعبادة المنقطعة النظير، بذلت مالها للفقراء والمساكين في السر والعلانية، فأصبحت للمحتاجين نهراً دفاقاً بالبر وبحراً معطاء بالبذل، كانت ورعة لا يتكلم أحد من النساء في مجلسها بشيء من لغو الكلام وبحديث الدنيا إلا ما شاء الله، ولم تقتصر على ذلك بل رأت أن الدعوة إلى الله هي أسمى آيات الجهاد، فبذلت نفسها لطالبات العلم واجتهدت في تقديم النصيحة لهن، واهتمت ببنات جنسها فكانت تنير لهن طريق الصواب بأسلوب لطيف ولين ورقيق جذاب، فكانت نصيحتها تفعل فعلها في القلب، وتترك بصماتها في النفس، وكانت مرجعا في ما يشكل عليهم من أمور دينهن.

      هذا بالنسبة لبنات جنسها، أما بالنسبة لأسرتها فقد تزوجت هذه العابدة الزاهدة من الفاضل عامر بن محمد الحجري، وكانت معينة له في أمور دينه ودنياه وولدت منه ولداً أسموه حمدا، بذلت هذه الأم جهدها لتنشئته النشأة الإسلامية الحقة ثم أصبح أحد تلامذة الشيخ نور الدين السالمي – رحمه الله – وأخاً وزميلاً للشيخ سالم بن راشد الخروصي الذي أصبح إماماً لعمان بعد ذلك، وكان الإمام سالم بن راشد كثيراً ما يزور ولدها حمد في البيت، وكانت تقول لزوجها عامر لا تدع سالماً ينام خارج البيت، وكانت كثيراً ما ترقب سالماً في صلاة الليل، وتتحدث عن رؤية النور الذي يسطع عليه وتخبر صاحباتها عن ذلك، وكان ولدها حمد كثيراً ما يمزح معها وترد عليه بقولها: (اصنع لكم شغلاً إن لم يكن لكم شغل)، فكانت تتوخى استغلال وقتها في كل ما هو نافع ومفيد لها ولأمتها، وعلى هذا الصراط المستقيم أمضت هذه المرأة الطاهرة حياتها متألقة بالإيمان زاخرة بالتقوى لا تحرك لسانها إلا بعلم أو معرفة أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر.

      ** ** **



      (ولطريق العلم سالكات)

      1) الدرة الأولى:-

      كانت هذه الفتاة الكريمة في شجرة من الصالحين كالغصن الباسق الذي يزيد علواً ونضارة وعطاء مع مرور الأيام والأعوام من هذه الفتاة وكيف كانت حياتها؟ هذا ما سنتعرف عليه من خلال السطور القادمة.

      إنها سالمة بنت عامر بن سالم الحجرية بن سالم الحجرية تربت في كنف والدها الشيخ عامر الذي كان شيخاً من مشائخ العلم، كان إمام مسجد الجامع – وهو أحد مساجد بلد المنترب من أعمال بدية عمان -، وهو الذي قال فيه الشيخ حمد بن سالم مرتجلاً لما حضره بحضرة الإمام محمد بن عبد الله الخليلي بمثل قول الفرزدق:

      هذا الذي يعرف المحراب وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم

      فما أعلاه من شرف أن تكون سالمة هي ابنة هذا العالم الجليل، وأما والدتها فهي تلك العابدة الزاهدة شيخة بنت حمد التي كان لا يفتر لسانها عن ذكر الله تعالى، هذه هي أسرتها أسرة التقى والنقى، أسرة حلّقت في سمائها تعاليم الإسلام ومبادئه السمحة، فنشأت سالمة محبة للعلم متألقة في محرابه فنهلت علومها من والدها الشيخ عامر، وتبحرت في مسائل الصلاة والصيام، فكانت مرجعاً لبنات جنسها فيما يشكل عليهن من أمور الدين والدنيا، روضت نفسها على العبادات حتى غدت من العابدات الصائمات اللاتي لهن سبق في الدين والفضل، فجمعت هذه المرأة الفاضلة بين العلم والعمل، علم يقودها إلى العبادة الحقة، عبادة الله على بصيرة، وعبادة ترتقي بها إلى أعلى درجات الجنة.



      2) الدرة الثانية:-

      يكفي هذه المرأة شرفاً أن تكون أمها حليمة التي سبق ذكرها في (نساء في محراب العبادة)، أمها التقية الورعة، قدوة النساء في الصبر على عبادة الله وطاعته، كانت هذه الفتاة تدعى راية بنت حليمة واسمها راية بنت عامر بن سعيد، ربتها والدتها على الأخلاق الفاضلة والمبادئ الكريمة حتى غدت من العابدات الصالحات الفاضلات، أحبت العلم فثابرت على تحصيله من الأستاذة المربية ماهلة، كانت ذات عقل راجح وقلب متفتح للعلم فاجتهدت في التفقه في الأمور الخاصة بالنساء كالعدة والحيض، وأصبحت أفضل تلميذات الأستاذة ماهلة، روت عنها كثيراً من المسائل الفقهية الخاصة بالنساء، فغدت نائبة عن أستاذتها فيما بعد ومناراً لبنات جنسها فيما عضل عليهن في مسائل الحيض والعدة.



      3) الدرة الثالثة:-

      وهذه درة أخرى من نتاج جهود الأستاذة ماهلة إنها شمسة بنت علي العذوبية، من النساء اللاتي اهتممن بالعلم فبذلت جهدها في النهل من موارده العذبة، اتصفت بالصلاح وكثرة العبادة.



      4) الدرة الرابعة:-

      كانت رغبتها للعلم قوية فاتخذته هدفاً نبيلاً تسعى من أجل تحقيقه، وكان شعارها قول الشاعر:

      العلم أبقى لأهل العلم آثارا يريك أشخاصهم روحا وإبكارا

      إنها السيدة الجليلة شمسة بنت مسعود بن عامر بن خميس بن حابس التي أخذت على عاتقها الاهتمام بنسخ الكتب من أجل بقاء العلم، وليسهل الرجوع إليها من قبل طلابه، وبذلك أسهمت هذه الفاضلة في نشر العلم وحفظه، ومن هذه الكتب التي نسخت لها كتاب (ابن عطاء الاسكندري).

      ** ** **



      (وللقرآن حافظات)

      كن ثلاث أخوات قطعن على أنفسهن عهداً على بذل الوقت والجهد من أجل دراسة القرآن الكريم وحفظه، حتى يظل هذا الكتاب العظيم في صدورهن أينما ذهبن فيكون نبراساً لهن في أقوالهن وأفعالهن فيرتقين به إلى أعلى درجات الجنة، رزقهن الله بأخ كريم وشيخ فاضل هو الشيخ مسعود بن علي، درس القرآن فحفظه عن ظهر قلب، فكن يحفظن من عنده القرآن وكن يتدارسن على العشرات أي كل عشر آيات معاً، اتصفت هذه الأخوات الثلاث بالورع والمبالغة في التستر والاحتشام إلى حد أنهن كن يلبسن القميص وفي أطراف الأكمام عروة مقابلة لإصبع الإبهام من اليد تجعل تلك العروة في إصبع الإبهام، بحيث لا تنكشف سواعدهن إذا ما رفعن أيديهن.

      ** ** **



      (معلمات لأفضل الكتب)

      1) الدرة الأولى:-

      سالمة بنت سويف التي نشأت وعاشت في بدية، اتصفت هذه المرأة الفاضلة بكثرة العبادة، فكانت قانتة لله عابدة له حافظة لأغلب كتاب الله عز وجل، وحرصت هذه المرأة على غرس حب القرآن الكريم في أبنائها، ورأت هذه المعلمة الفاضلة وابنتها أن القرآن الكريم هو أهم شيء ينبغي لكل مسلم ومسلمة أن يهتم به، عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (علموا أولادكم القرآن فإنه أول ما ينبغي أن يتعلم من علم الله هو)، فبذلن جهدهن ووقتهن لتعليم وتحفيظ الأولاد القرآن الكريم، فكانت مدرستهن مناراً لكل مبتدئ ومبتدئة يستقي من خلال تلك المدرسة العامرة المبادئ الأولى في اللغة العربية، والنطق الصحيح للكلمات القرآنية، فكانتا سبباً في نشر كتاب الله عز وجل ونقله للأجيال.



      2) الدرة الثانية:-

      سلمى بنت مفتاح التي تعلمت القرآن الكريم فأنار بصيرتها، وأضاء سريرتها، وصقل قلبها، وجلا عقلها، وصفّى ذهنها حتى أصبحت العابدة الزاهدة، كانت من أحسن النساء وأسترهن، وكانت لها أخت اتصفت بكثرة التنفل والعبادة لله تعالى، وكانت حافظة للقرآن.



      3) الدرة الثالثة:

      تحرت الحلال في المأكل والمشرب والملبس، وعبدت الله عبادة الصالحين الأخيار، وعلمت بنات جنسها الصغار منهن والكبار، واجتهدت في تحفيظهن كتاب الله العزيز والأذكار، فهيا بنا نقطف أزهاراً من حديقتها الغنّاء لينتشر عبيرها في جميع الجوانب والأنحاء، إنها شيخة بنت علي بن عامر الدرة المكنونة الموسومة بالعبادة والصلاح، اهتمت بتعليم النساء البُلَّغْ ما يهمهن من أمور دينهن، وبذلك الجهد العبير لتعليم النساء الكبيرات القرآن الكريم، ومن تحريها الحلال أن بعض النساء كن يأتينها بشيء من الهدايا كالرطب والليمون فكانت لا تقبل إلا ممن تعرف أن لها مالاً.

      ** ** **



      (حقاً صائمة)

      كانت آنس ما تكون إذا كانت مع الله في خلوتها، وأوحش ما تكون إذا كانت مع الناس في جلستها، وكانت من العابدات الزاهدات الصابرات الشاكرات القوامات الصوامات، قد أحيت نفسها لله بذكره (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، فهيا بنا نطوف في حديقتها الغنّاء، لنتعرف على شخصها الكريم.

      إنها الشيخة بنت علي بن خميس البليشية، اشتهرت هذه المرأة بالزهد والانقطاع في عبادة الله تعالى، وكانت كثيرة الصوم لنفسها وإذا عرض عليها الصوم بالأجر، قالت: (الأعمال الصالحة لا يؤخذ عليها أجر ولا تفي بها).

      هذه المرأة العاقلة اتخذت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منهجا حينما قال: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، فارق عبدي شهوته وطعامه من أجلي فالصيام لي أنا أجازي به)، وكان لهذه المرأة الفاضلة ولد بذلت جهدها في تربيته حتى اشتهر بين الناس بالحاج عامر، ومن حفيداتها زيون بنت سعيد بن علي بن خميس البليشية التي اشتهرت بالفضل والعبادة وكثرة الصيام، وكانت لا تخرج أيام صومها ولا تتحدث مع النساء في لغوهن.

      ** ** **



      (ثرية... ولكن)

      كانت قدوة النساء في البذل والعطاء، تشرف بنفسها على تزكية أموالها متصفة بالفضل والطهر والنقاء، لقد كانت مريم بنت حميد من الفاضلات الطاهرات الزكيات، رزقها الله عز وجل أموالا وخيرا كثيرا، وكان زوجها من المجالسين للعلامة الشيخ نور الدين السالمي، فكانت تسأله عن مسائل الزكاة حتى تؤدي زكاة مالها على أكمل وجه، كيف لا؟ والزكاة فريضة من فرائض الإسلام الخمسة، ومما يذكر عنها أن زوجها قال لها: (قال لنا الشيخ السالمي أن لا زكاة في الحشف) وهو المعروف بالدقل، وكان من حرصها على أداء الزكاة أنها كانت تجلس قريبا من الذي يكيل الزكاة من التمر ومن البسر المغلي، وتقول له في الكيلة العاشرة: (مليّ يديك) أي خذ حفنة كبيرة، ما أعظمه من موقف أن يحرص الإنسان على محاسبة نفسه في ماله في هذه الحياة الدنيا، ليجد جواباً ينقذه من عذاب الله يوم القيامة ويقربه من رضا الله وجناته، جوابا لسؤال الله تعالى له يوم القيامة يوم العض الكبر، ذلك السؤال عن المال من أين أكتسبه وفيم أنفقه.

      ** ** **



      (من أولياء الله)

      منذ طفولتها الغضة الناعمة النضرة، وتعاليم الإسلام ومبادؤه تشكل سلوكها وتصوغ حياتها وتنأى بها عن مزالق الشيطان، فقد تربت الفاضلة سالمة في كنف والدها العالم الجليل عامر بن سلطان الحجري، وهي أخت المعلمة المربية ماهلة، اتصفت هذه المرأة بالزهد والانقطاع إلى الله تعالى بالعبادة، فكانت تجد لذتها في وقوفها بين يدي الله عز وجل في ظلام الليل تناجيه وتذكره، فارقت المأكل والمشرب من اجل طاعة الله سبحانه وتعالى فكانت صوامة قوامة، ولقد شرفها الله تعالى بزيارة المسجد النبوي الشريف وقبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأداء فريضة الحج في وقت لم تكن فيه الطرق آمنة ميسرة بل كانت رحلة الحج مغامرة محفوفة بشتى المخاطر والمشاق، فمن مشقة الطريق وطولها، إلى لهيب الحر في صحراء نجد والحجاز إلى الخوف الأعظم الكائن بسبب قطاع الطرق، أولئك القوم الذين سيطر الشيطان على نفوسهم وعقولهم فجعلوا من التعرض لضيوف الرحمن وسلبهم ونهبهم بل وقتلهم حرفة لهم، ولذلك حين عادت سئلت عن الحج، فقالت: (إن السفر إلى المدينة نصف الحج، والخوف النصف من ذلك السفر) وكان من كراماتها أن الأنوار تُرى عليها كثيراً، كانت كثيراً ما تحض الناس على طلب العلم وتشجعهم عليه لعلمها أن الله عز وجل لا يعبد عن جهل، وكانت من الذاكرات الله كثيرا.

      ** ** **



      (صاحبة الكرامة)

      تعالوا نقف ساعة في فيض عامر مع تاريخ هذه المرأة العظيمة ونحلق في معراج بطولتها ونزجي إليها تحية إعظام وإكبار، كما أهدت إليها الملائكة دعاء الرحمة والمغفرة والرضوان، من هذه المرأة؟ وما قصتها؟

      إنها سالمة بنت خميس بن علي بن خميس الحجرية، اتصفت هذه المرأة بحبها للعبادة وسموها في الأخلاق، فكانت تعاليم الإسلام تمثل منهجها في الحياة، ومبادئه تشكل سلوكها مع ربها ومع نفسها ومع الناس من حولها.

      اتخذت من القرآن الكريم والسنة النبوية نبراساً يهديها إلى طريق الحق والنور في الدنيا والسلامة في العقبى، كانت مع أخيها العالم الورع حمد بن خميس الحجري مفرسي رهان في التسابق إلى طاعة الله عز وجل وطلب مرضاته، ومما يذكر عنها أن أخاها حمدا حكم بينها وبين رجل يسمى مسعود المعروف براعي فالح، وكان الحكم في أرض لها ولأختها فاطمة بنت خميس، فقال العلامة حمد لمسعود: (حدد الأرض التي تدعيها) فخط مسعود برجله، فقالت له سالمة: (إن رجلك ستيبس ولا تخرج بها إلى السوق بعد الظهر إن شاء الله) فلم يخرج من مكانه منذ ذلك اليوم حتى توفي فيها، فيا لها من كرامة لهذه العابدة الفاضلة فقد تحققت دعوتها، دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب.

      ** ** **



      (أم اليتامى ومفرحة الأطفال)

      كانت هذه الدرة المكنونة، البرة الرضية مأوى للأيتام ومفرحة زهور الأيام، وعابدة لرب الأنام، إنها المعروفة باسم الحبيبة، جدة سالم بن علي بن عامر بن أبيه، اشتهرت هذه الطيبة النقية بالعبادة والصلاح، بذلت مالها ونفسها من أجل أن ترى البسمة ترتسم على وجوه الأطفال اليتامى، فكانت لهم كالأم الحنون الرؤوم تحفهم بعطفها وحبها وتضمهم إلى بيتها وتوفر لهم ما يحتاجونه من مأكل وملبس وغيره، وإذا توفر لها شيء من المال اشترت له هدايا للأطفال الصغار، وكان أسعد لحظات عمرها حينما ترى الأطفال فرحين مسرورين، وقد ابتلاها الله سبحانه وتعالى بفقدان نعمة من أغلى نعمه وهي نعمة البصر، فتلقت ذلك الابتلاء بما يجب ان يتلقى به المؤمن الصابر قضاء الله عز وجل وقدره من التسليم والرضا.

      لم تكن تخبط في دينها خبط عشواء بل كانت تهتدي بنور العلم، وتؤدي العبادات على بصيرة من أمرها، رقدت يوما في شهر رمضان، ولما انتبهت من نومها شربت من ماعون قريب منها تظنها في الليل، وخرجت من موضعها فحرقتها الشمس، فنادت على ولدها علي بن عامر بأن يذهب إلى العلامة حمد بن خميس الحجري، ويسأله عن مسألتين في الصوم، فسار إليه عامر وسأله عن المسألتين، فقرأ عليه الشيخ حمد جواب المسألتين من كتاب بيان الشرع من الجزء المختص بالصوم، فما أجدر بالمسلمة اليوم أن تطلب العلم من مظانه، وأن تجد في أمثال هذه المرأة أسوة حسنة فتعبد الله على بصيرة فتحاسب نفسها قبل أن تحاسب.

      لقد ضربت هذه المرأة المثل والقدوة في بذل النفس والمال من اجل رؤية البسمة في وجوه الأطفال اليتامى البؤساء، فأين مثلها اليوم وقد كثر الأطفال البؤساء نتيجة الفقر والحروب والمجاعات؟.

      ** ** **



      (راية بنت سويلم بن علي البليشية

      الطبيبة العابدة)

      جمعت هذه الدرة المصونة بين النسك والعبادة لله تعالى وبين العمل والبذل من أجل نفع الناس، رزقها الله ذكاء حاداً ونفاذ بصيرة، ويداً ماهرة متقنة في العمل، تعلمت طب الكيّ فكانت خبيرة في الكي عن الموضح ومرض الزهار اللذين لم يكن لهما علاج في القديم إلا به، وأكسبتها الحياة بمرور الأيام خبرة في توليد النساء فكانت نافعة لبنات جنسها ولا تمتنع على أحد منهن طلبا للأجر من عند الله تعالى، لقد جمعت هذه المرأة الفاضلة بين العبادة وكسب الرزق والعمل.

      ** ** **



      (مامة شيخة بنت إبراهيم بكير)

      أم اليتامى والمحرومين، الملقبة بأم الخير، وقدوة النساء في الصبر وتحمل المصائب، ومثل المرأة المؤمنة في حب العمل والكسب الحلال، هذه بعض ملامح حياة هذه المرأة القدوة مامة شيخة بنت إبراهيم.

      لقد ولدت هذه السيدة الكريمة في ولاية غرداية بالجزائر، ونشأت نشأة صالحة في أسرة الخير والصلاح، وعندما كبرت ازداد شغفها بسماع المواعظ التي يلقيها المشائخ في المساجد، وزاد حبها لحلقات الذكر والابتهالات في التجمعات النسوية المختلفة، وهكذا زاد تحصيلها العلمي الديني من خلال هذه الدروس والحلقات من غير مدرسة أو كتاب، حتى أصبحت العضد الأيمن الذي لا يمكن الاستغناء عنه في حلقة المرشدات.

      وهبها الله نضجاً في الفكر وسداداً في الرأي مما جعلها محل الاستشارة الصائبة في العائلة والمسجد والعشيرة، وكم كانت ترجع إلى المنزل في ساعة متأخرة من الليل بعد حضور إحدى هذه الحلقات الجدية مع أعيان من الرجال والنساء لحل مشاكل الأنساب في الميراث وغيرها، وكانت تجيب عن الفتاوى الدينية التي تلقى عليها، وذلك بعد التحقق من الإجابة الصحيحة من بعض علماء عصرها، ولقد استطاعت هذه المرأة الكريمة أن تكسب لنفسها مكانة بين العلماء بفضل خزانة الكتب التي نظمتها في غرفة استقبال للضيوف العلماء وقد كانت تغنيها بالتعاون مع زوجة القطب وابنته كلما صدر كتاب جديد في الساحة العلمية المحلية، هذا بالإضافة إلى ما ورثته من كتب قديمة من زوجها العالم.

      عاشت زوجة ثانية للحاج مسعود بن إبراهيم – أحد تلامذة القطب – ولقد رزق الله هذا الشيخ عشرين ولداً من الزوجة الأولى، ورزق منها ثمانية ذكور، وعندما توفي زوجها العالم صبرت لهول المصيبة فلم تسلم نفسها للنحيب والبكاء، بل كانت تنفرد بنفسها على سطح الدار، وتصلي لله تعالى مدة أيام الحداد، حتى أراها الله كرامة عن مقام زوجها في الخالدين، وقد بذلت نفسها بعد ذلك لتربية الثمانية والعشرين ولداً، جاهدت حتى توفر لهم لقمة العيش الهنية، فقد كانت تنسج الألبسة الصوفية بمختلف أنواعها، وترسلها إلى عم الأولاد ليبيعها في تجارته بمدينة الحلفة، وعندما تقبض النقود تعيدها إليه ليشتري بها ملابس وهدايا لأبنائها، وكانت لهم جميعا الأم الرؤوم بحنانها وعطفها والمربية القدوة بتربيتها لهم التربية الإسلامية الصالحة، وساعدتهم بمالها حتى كبروا، ولم تكتف بذلك بل عندما بلغوا سن الزواج ساعدتهم فيه بمالها، ولم تقتصر بإنفاق المال على أبنائها وربائبها، بل كانت تبذله في سبيل الله للمحتاجين والفقراء، وخاصة في أيام شهر رمضان حتى تتضاعف الأجور والحسنات، وكان لها دور عظيم في مجتمع غرداية يتمثل في إصلاح ذات البين، وكانت ترشد المتزوجين إلى أداء واجباتهم الدينية، ورعاية حقوقهم المتبادلة في الحياة، وقد بذلت نفسها لبنات جنسها فقد كان لها خبرة واسعة في توليد النساء، وكانت تجيب نداء أخواتها المؤمنات في أي وقت وإلى أبعد مكان ممكن في ضواحي المدينة، لما اتصفت به من رعاية فائقة للنفساء فكان النساء يشعرن بالاطمئنان والأمان والبركة أثناء توليدهن على يديها الكريمتين، هذه هي حياة ماما شيخة، عمل وكسب للرزق من أجل توفير لقمة العيش لأطفالها اليتامى، ونضال مستمر من أجل تنشئتهم النشأة الصالحة الحقة، وبذل للنفس من أجل إعلاء كلمة الله في الأرض، عسى الله أن تنال بشارة الرسول الكريم مصداقاً لقوله عليه الصلاة والسلام: (أنا وسعفاء الخدين كهاتين يوم القيامة: امرأة آمت زوجها ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى بانوا أو ماتوا) وأن يغفر الله تعالى لها بعملها الدؤوب، وكسبها الحلال، مصداقاً لقوله عله الصلاة والسلام: (من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفورا له)، وقدمت لنفسها الأجر الذي لا ينقطع لاستمرار عملها بعد وفاتها، متمثلة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، وفي نهاية حياتها ابتلاها الله بمرض في الكبد، ورجعت في يوم رطيب إلى ربها راضية مرضية في عام 1383هـ، بعد أن أعدت غُرفة بها جميع ما يلزم لتنفيذ الوصية فلم تتعب أحداً حية ولا ميتة رحمها الله ورضي عنها، فما أجدر المرأة المسلمة في هذا العصر أ، تستقي هذه الجوانب الناصعة من حياة هذه المرأة المجاهدة.

      ** ** **



      (ميرة بنت يحيى)

      لقد اتصفت هذه المرأة الصالحة بالشجاعة والإرادة والنشاط المنقطع النظير من أجل البلوغ بالأمة إلى أسمى درجات العزة، لقد ولدت هذه المرأة الفاضلة عام (1312هـ/ 1894م) في ولاية غرداية بالجزائر، توفي والدها وهي ما زالت صغيرة، فبذلت أمها مسعودة بنت عمر الجهد الجهيد من أجل تربيتها تربية صالحة، لقد تعلمت هذه المرأة الصالحة من طفل كان جاراً لهم، فأصبحت تكتب وتقرأ وحفظت مجموعة من سور القرآن عن طريق السماع من هنا وهناك، فلقد قيض الله لها من يعلمها بغير مدرسة ولا جامعة، لقد تعددت وظائف هذه المرأة الاجتماعية وضربت لكل امرأة مسلمة المثل والقدوة في الربط بين العمل والعبادة بل الاعتقاد بأن العمل ركن لا ينفك عن العبادة، وأن المرأة العاملة الصالحة خير من المرأة الخاملة المتواكلة، فقد اعتمت بالفلاحة حتى وصلت منتجاتها إلى السوق، كما أنها بنت وبمساعدة أختها مامة داراً للسكنى في بستانها بعد أن قطعت لها الطوب الطينية بيدها فكانت تحتجب لتقوم بالبناء وقت القيلولة أو الليل ثم سكنت هذه الدار بعد ذلك، ومارست أيضاً التجارة اليدوية التقليدية والمتمثلة في صنع بعض الأثاث لغرف العرائس وإصلاح بعض الموائد المنزلية، وكانت تجمع الجلود المهملة وتصنع منها الدلو والقربة، وترقع ما ثقب من الأدوات الجلدية التقليدية، ولقد ألهمها الله مهارة فائقة في طب الأسنان والعيون وجبر العظام، ، حتى أن الشيخ إبراهيم بن بانوح فتح لها منزله حتى تقوم بهذه المهمة في حصص أسبوعية خاصة، ولقد شاركت بإخلاص وشجاعة في الثورة ضد الاستعمار كممرضة لجنود جبهة التحرير الوطني، اشتهرت هذه المرأة العاملة الصالحة بالرأي الحصيف في مختلف الأمور التي تستشار فيها، وخاصة في مجالس إصلاح ذات البين، وكانت ملاذاً للعزابة والقواد في إعطاء الحلول النافعة والمشورة الصائبة، ولقد جمعت هذه المرأة الطاهرة بين الشجاعة والرأي السديد والصلاح والإيمان، وبين النشاط الدؤوب والعمل الجاد في سبيل نفع بني جنسها، وضربت لكل فتاة مسلمة القدوة الصالحة في الامتثال لقول الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الإنسان سيسأل عن (عمره فيما أفناه) وأن الوقت كالسيف فيجب استغلاله في كل ما هو مفيد ونافع للأسرة والمجتمع، وكان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مناراً لها في دربها والقائل فيه: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير).

      توفيت رضي الله عنها عام (1387هـ / 1967م) بعد عمر قضته في جهاد وعمل وعبادة.

      ** ** **



      (زعيمة البارونية)

      كانت مقالاتها تفيض سحراً وبهاءً تهز القلوب والعقول، هذه الكاتبة الأديبة شقت الطريق لأترابها فكانت أعجوبة في بيانها، إنها زعيمة بنت الباشا سليمان البارونية، ولدت بالتقريب عام 1320هـ بطرابلس بليبيا، نشأت في أسرة العلم والتقوى، أسرة الباشا الباروني تعلمت القراءة والكتابة فتنبهت في نفسها الرغبة في المطالعة والدراسة العميقة في فنون العلم المختلفة، حتى أصبحت كاتبة بارعة، حيث شاركت بمقالاتها في مختلف الصحف والمجلات مثل مجلة (صوت المربي) الطرابلسية ومجلة الأفكار، ولها مراسلات قيمة في أمثال هذه الشؤون العامة مع أخيها تدل على مبلغ علمها وثقافتها وأخلاقها وإخلاصها لمبدئها، امتازت هذه السيدة الفاضلة بأسلوبها القصصي الشيق، الخفيف الروح، وورثت زعيمة الروح الفدائية عن والدها العظيم، واختارت لنفسها حياة الانقطاع من أجل عملها ووطنها ومن أجل أبناء أخيها إبراهيم فلم تتزوج، وبذلت الوقت والجهد لتربية أبناء أبناء أخيها إبراهيم فكانت تقول: (إني أعاهد الله أن أبذل جهدي في تنشئة أبناء أخي التنشئة التي أرادها لهم جدهم المرحوم الوالد الباشا ولو كلفني ذلك آخرة قطرة من دمي)، ومن مؤلفاتها النفيسة: (أبي كما عرفته) وهو كتاب عن حياة والدها سليمان باشا الباروني، ومن مقالاتها البليغة مقالة بعنوان (فزان البعيدة) في مجلة صوت المربي العدد الأول، ومقالة (وفق الله الجهود النبيلة)، ومقالة (بنت الحاضرة) في مجلة الأفكار العدد السادس، وغيرها من المقالات التي ذكرناها على سبيل المثال وليس على سبيل الخصر، أما وظيفتها فقد كانت مع قيامها بشؤون الأسرة وأبناء أخيها إبراهيم ، كانت معلمة ببعض مدارس البنات بطرابلس، ثم ترقت لحسن سيرتها وكمال استعدادها إلى أن أصبحت نائبة لمديرة دار المعلمات بطرابلس، فجدير بنا أن ندوّن تاريخ هذه المرأة الفاضلة وأن نتأمل سيرتها وأعمالها الطيبة.

      ** ** **



      (ثريا البوسعيدية)

      هذه المرأة سيرتها بذل وعطاء وإنفاق وسخاء، بذلت مالها في سبيل الله والفقراء والمساكين ولطالبي العلم واستجابت لنداء رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما حث النساء على الصدقة فهيا بنا نتعرف على سيرة هذه المرأة السخية.

      هي السيدة ثريا بنت محمد بن عزان البوسعيدية، نشأت في بيت فضل وأدب ودين، فكان أبوها رجلاً اشتهر بالفضل والجود، ومما ساعده على ذلك ما أمده الله به من المال الوفير، أقام والدها فترة في بوشر ثم في بيت الوكيل الذي كان خلف المسجد الذي ارتبط اسمه بتلك الدار الطيبة، اتصفت هذه المرأة الفاضلة بالسخاء، فكانت تهب أموالها لوجه الله تعالى، فقد أوقفت أموالا كثيرة ومن أمثلة ذلك:-

      * مقصورة الرمامين وكانت مقصورة جميلة أوقفتها رضي الله عنها لمسجد الوكيل,

      * مقصورة خرس المالح وأرض أخرى أوصتها لمقبرة.

      * مقصورة بجانب مقصورة خرس المالح أوقفتها السيدة لمجلس المقحم في بوشر.

      ولقد رأت بثاقب بصيرتها أن العلم وأهله هم أحق الناس بالصدقة لما لهم من دور في إحياء الأمة والمضي بها قدما نحو المجد والسؤدد، فعينت الشيخ سليمان بن زهران الريامي وكيلا لها بمسجد الوكيل، يوزع نفقتها على الدارسين فيه وطالبي العلم، وقد تخرج منه جملة من العلماء والمشايخ الذين انتفعوا من النفقة ونفعوا من جاء بعدهم، وندرج هنا بعضا منهم للمعرفة وليس للحصر كالشيخ القاضي سالم بن فريش الشامسي، والشيخ القاضي ربيعة بن أسد الكندي قاضي مطرح سابقاً، والشيخ القاضي سيف بن أحمد الكندي، وقد اشتهر مسجد الوكيل برواد العلم والمعرفة الذين كانوا يرتادونه في القرن التاسع عشر الميلادي وبدايات القرن العشرين ويعتبر بيت السيدة ثريا أو ما يسمى بالبيت الكبير من أهم المعالم الأثرية في بوشر.

      ** ** **



      (عائشة الحارثية)

      نستطيع أن نقول إنها الشاعرة الوحيدة في هذا العصر، لما اتصفت به من بلاغة المنطق وفصاحة اللسان وقوة النظم، كان لنشأتها في بيت الدين والعلم والأدب أثر في صقل موهبتها، وتكوين وجدانها وتنمية عبقريتها وتفتح شاعريتها إلى أرحب مدى وأوسع أفق.

      إنها الشاعرة الجليلة عائشة الحارثية، كان والدها عيسى بن صالح الحارثي الشيخ العلامة الذي هو أشهر من نار على علم، ولدت عائشة في مسقط عام 1364هـ، نشأت هذه البرة الكريمة في بيئة صالحة في بيت علم وأدب وفضل ومكانة، وعُرف عن أسرتها حبهم للعلم والأدب من أب وأخ وخال، حفظت بعضاً من سور القرآن الكريم، وتهذبت وتمسكت بالدين والتقى، سمعت الكثير من قصائد التراث الشعبي وحفظت بعضاً منها، ومما شجعها على ذلك البيئة الأدبية التي نشأت فيها، تزوجت من الشيخ العلامة سعيد بن حمد الحارثي، تاقت نفسها إلى نظم الشعر فجاءت به على أساليب رقيقة وأفانين أنيقة، وقد بدأت بنظم الشعر منذ الصغر وأول بيت قالته:

      أحسـن لسانـك مهمـا استطعت فـإن اللسـان عـدو مبــيـن

      قال عنها صاحب شقائق النعمان، الأديب محمد بن راشد الخصيبي:

      ومـن الصالـحات مـن أهل رشد حُـرة لـم تـزل مـن المحصنات

      بنــت عـلامــة أميـر زكـي ذاك عيسـى بن صالـح ذو التقاة

      وذكر بعض من قصائدها في كتابه (شقائق النعمان على سموط الجمان في أسماء شعراء عمان)، كما نشرت بعضاً من قصائدها في الصحف المحلية العمانية مثل مجلة العقيدة والأسرة، ومن نماذج أشعارها قصيدتان، الأولى بعنوان المرأة في ميزان الإسلام:

      جمـال فتـاة المسلميـن حيـاؤهـا وحليـتهـا ديـن بـه تتجمـل

      وزينتـها بيـن النسـاء حجـابـها إذا أدبـرت أو أقبـلت فيه ترفل

      إذا بقيت فـي البيـت فهـي أميـرة يوقرهـا مـن حولـها ويبجـل

      وإسهامهـا للشعب أن قـدمت لـه رجـالاً أعـدوا للبنـاء وأهـلوا

      رعتهم صغـاراً فهـي كانت أساسهم تلقـن كلاً مـا يقـول ويفعـل

      أجبتك عنهـا فهـي ليست بقطعـة الأثــاث وليست آلـة تتـنقل

      قولها: (تدير شؤون البيت أو فيه تعمل)، لاينافي أن تعمل المرأة فيما فيه نفع المسلمين كمدرسة أو طبيبة أو مثل هذا، على شرط الاحتشام والتمسك بأمر الإسلام وقولها: (أجبتك عنها) لأن الباعث لهذا النظم أن سمعت الناظمة في البث المباشر امرأة تقول: (لا يجوز أن تلزم المرأة البيت فتكون كقطعة أثاث منه).



      والقصيدة الثانية التي هي بعنوان نداء الخير:-

      مـن ذا الـذي يـخشـى آبـقـا يبغـي المـلاذ إلـى ضعيف واني

      من ذا الـذي يـخشاه بعـد سقوطه متــرديـاً فـي ذلـة وهـوان

      ومـن الـذي يؤويـه بعـد هروبـه من بطش جبـار عظيـم الشـأن

      صهيـون تضـربكم بأمـر قد أتـى من ذي الجلال مدبـر الأكـوان

      نلتـم جزاءكـم علـى أيـديهـم بضيـاع ديـن أشـرف الأديان

      فيمـن تلـوذوا؟ بالنصـارى علهـم يأتيـكمـوا بالعـون والإحسـان

      تتهــددوا الأعـداء بسهم فـارغ سنحطـم الأعـداء بـكل مكان

      أنتم ومـن حـاربتمـوه جـميعكم في زيكم وسلـوكـكم صنـوان

      في قولـكم فـي الفعل في أفكاركم من ذا يصـدق أنـكم خصمـان

      لقد انـحرفتم عن شريعـة ربـكم ولقد سلـكتم مسـلك الشيطان

      تستصغرون كبـائر الأشيـاء بـل تستهزئ\ون بـمنهـج القـرآن

      فنساؤكم تمشـي سفـورا بيـنكم وتـجـاهرون الله بـالعـصيـان

      تـجري أمامـكم وتجـروا خلفها فخـرا بـها ويـؤمـكم نصراني

      والخمر أصبـح عـادة مـألوفـة فيكـم بـلا خجـل ولا كتمـان

      وبذلتموا للـراقصـات نقـودكم سفـهـا فيـا للعـار والخسـران

      ضيعتموا في اللهو معظـم وقتـكم ورضيتمـوا بالـذل والنـقصـان

      هـذا وأنتـم تـحت وطأة غاصب ماذا تـرى لـو أنـكم بـأمــان

      للمسـرحيـة والفكـاهـة أنتـم لستـم لـردع البغـي والعـدوان

      والله إن النصـر لـن يـأتيكمـوا أبـدا وربـي الواحـد الـديـان

      لـو تتـقـون الله حـق تقـاتـه عمـلا وتوحيـدا وصـدق بيـان

      لأتاكــم النصر المبيـن معجـلاً لا شـك ذا حـق علـى الرحـمن



      امتازت قصائدها بأسلوب يفيض بالنصيحة لطريق الخير، وتطفح منها كلمات الإيمان بالله وبالدين وبكلمة الحق، بعفوية صريحة تعبر عن مشاعرها، ويحق أن يقال لهذه الشاعرة إنها وحيدة عصرها.

      ** ** **
      كـــــــــــــــــــــــــــــــن مــ الله ــع ولا تبــــــــالي
      :):)
    • عائشة الريامية

      كلمة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي

      الحمد لله رب العالمين الحمد لله الذي شرف عباده المؤمنين وأماه المؤمنات بما وهبهم من عظيم الهبات وما رفعهم إليه من على درجات أحمد سبحانه حمد يليق بجلال وجه وعظيم سلطانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق فسوى وقدر فهدى وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين وسراج للمهتديين وإماما للمتقين ونعمة على خلق أجمعين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى تابعه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :



      فسلام عليكم آيه المشايخ والأخوة والأخوات والأبناء والبنات ورحمة الله وبركاته أحمد الله سبحانه وتعلاى الذي جمعنا في هذه الليلة الغراء في هذا الجامع الشريف وفي هذا البلد العريق لنشم عبقا من أريج التاريخ الماضي الحافل بالفضل والمبدأ ونحرص من خلال ذلك بعون الله وتوفيقه على ربط الحاضر بالماضي وضم تارك المبدأ إلى تليده وبهذا يتحقق ما يصبوا إليه من جعل هذه المسيرة موصلة بتاريخ العريق فإن كل أمة لا ماضي لها لا يكون لها حاضر إذن الحاضر إنما يبنى على الماضي هذا وقبل كل شئ أعتذر إليكم من حيث أنني وكل إلى أن أتحدث عن منهج الفقهي عند هذه عالمة الفقهية الرضية الشيخة عائشة أبنت راشد الريامية رحمها الله تعالى ومن المعلوم إن حديث حول منهج الشخص يحتاج إلى دراسة متأنية واسعة في عطاءه سواء كان عطاه فقهيا أو فكريا أو أدبيا ولم تتح لي فرصه ولم أطلع إلا نذر يسير عن فتواه ومن خلال هذا النذر يسير لا أستطيع أن أحدل من أجل عين ولكن قبل محولتي امتصاص ما يمكن أن نمتصه مما وجدناه من معارف من خلال فتواها لنتقدم لذلك صورة للمستمع من ما يمكن ند.. من منهجها أريد أن أنبه بأن هذا الاحتفاء يجب أن لا يكون أمرا عبارا ينتهي ولا يدع أثر له في نفوس فإنما على أي حال مطالبون بأن نعتبر ما قدمه السلف مع ما كان يكبده من صعوبة الزمان وتحديات العصر وعدم توفر الوسائل التي توفرت لنا نجن فإذن نحن مطالبون بالأكثر مطالبون بأن نجهد أنفسنا حتى نصل بفضل الله سبحانه وتعالى إلى ما تتطلع إليه .. من للمعرفة ولبناء جيل على قيم هذه المعرفة هذا ، ولا ريب أن جنس اللطيف يوجه إليه الخطاب بطريقة خاصة من حيث إن على بناتنا أن يدركن بان مسئولية هذا الدين ونشره وللقيام ببحث عن كنوزه ليست خاصة بالرجال دونهن فإن هذه مسئولية مشتركة فإن والله سبحانه وتعالى عندما استخلف الإنسان في هذه الأرض استخلفه كانسان وغض النظر عن كونه ذكر أ أنثى وقد جعل سبحانه وتعالى ميزان الإنسان التي استحق بها يرفع إلى هذه الدرجة العالية وأن يبدأ هذه موسم الرفيع وأن يعلي قدره حتى ينافس البناء الأعلى ويسبقهن وجعل الله سبحانه وتعالى .. الانسان التي نال بها هذه مرتبة إنما هي العلم والله سبحانه وتعالى يقول:""وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا تجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن بسبح بحمدك ونقدس لك قال أني أعلم مالا تعلمون وعلى آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبوني بأسماء هؤلاء أن كنتم صادقين قال سبحانك لا علم لنا إلا ماء علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ( ) قال يا أدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبائهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم أني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم من تبدون وما كنتم تكتمون "[1] .



      فأول إذن هو ميزة الإنسان التي رفع الله تعالى بها قدره وأعلى شأنه وجعله مختصا بهذه خصوصية عظيمة ومبوئا هذا المنصب الشريف منصب الخلافة في هذه الأرض على أن هذه الخلافة تستوجب أن يكون الإنسان موصلا بمستخلفه بحيث يتصرف بحسب أمره وينطبق فلا يتقدم على أمر إلا ببينة من ربه ، وذل يتوقف على العبادة الخالصة لله سبحانه وتعالى التي تكون طبق أمره ويتوقف على الطاعة المطلقة لله سبحانه بحيث يحرص الإنسان وهو يشعر بمسؤلية خلافة في هذه الأرض وانه يتحمل تبعات ذلك ويوقف أمام الله ليبحث عما قدم وما آخر وما أعطى وما منع والعبادة وسائر الطاعات التي خوطب بها الإنسان لا يمكن للانسان أن يؤديها بالجهل ونحن نرى في كتاب الله ما يدل على أن هذه مسئولية ليست خاصة لجنس دون آخر فليست خاصة لجنس ذكور دون جنس الإناث فالله عز وجل يقول:"ومن يعمل من صالحات من ذكر وأنثى وهو مؤمن فالن ......... "



      ومن الذي يفرق بين الصالحات واظلالها وإنما يفرق بينها من كان على بينة من أمر لا جل هذا أمرك السلف صالح هذه المسئولية لكبيرة وكانوا يسرعون ذكورا وإناثا إلى التفقه في دين الله وفي مقدمة الرعيل الأول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنهم فأنهم كانوا يتنافسون في ذلك ولم يكن الحياء يحجب الأناث عن تفقه في دين الله فقد سألت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها على نساء أنصار فقالت الله در نساء لانصار ما منع هذا الحياء عن النفقة في الدين فكان للمرأة أثر بارز في حياة هذه الأمة من حيث بناء الحضارة على أسس العلم وقد كان لأمهات المؤمنين رضى الله تعالى عنهن السبق في هذا الميدان ولذلك كان الكثير من الصحابة رضى الله عنهم وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون رضي الله تعالى عنهم يرجعون إلى أمهات المؤمنين عندما يختلف الخلاف ويعظم الإشكال في الكثير من القضايا ، وهذا يدل على أن المرأة مهيئة .. لأن لكون فقيهة في دينها عالمة أحاكمها دقيقة النظر فيها تجتهد كما يجتهد الرجل وتستنبط كما يستنبط ونقف معه على قدم المساواة في ذلك وقد وجد في تاريخ هذه الأمة وفي تاريخ أهل الأستقامة بصفة خاصة الكثير من النساء اللواتي كن على قدر من العلم والمعرفة والحرص على المناقسة في ذلك فإنبة إلى مسور رحمه الله تعالى كانت مثلا في ذلك عندما كانت تناقش اباها في مسائل الحيض حتى أنها نحدات على أن تصف له كيف يأتيها الحيض وكيف لونه وكيف طبعه فقال لها أما تستحين يا بنتي تسألينني عن مثل هذا فقالت له أخشى ... أن استحيت فقال لها لا مقاتت الله وكانت تناقش أباها في النظر في القضايا العلمية وتدني برأيها ولا تبالي بذلك وكان أبوها قرير العين بذلك ، فعندما قالت في يوم من الأيام إن المؤمنين أفضل من أعمالهم ردت عليه بل أعمالهم أفضل منهم لانهم يفنون ويبقى أعمالهم وحتى يوم كان بحيتها وكانت تغسل ثيابه فقال .. لو أن الله سبحانه وتعالى طهر قلبي فكان مثل هذا الثوب في نظافته فقالت له ثمينة لو أن الله سبحانه جعل تطير قلبي بيدي فأطهره مثل هذا الثوب فقال لها أنت أفقه مني حتى في الأماني وهكذا شأن المرأة على أن المرأة في الإسلام عندما كانت واعية مؤمنة مبصرة كانت محرك كثيرا لابناءها بل كانت محرك لزوجها في سبيل الخير فالخساء التي فعلت في الجاهلية ما فعلته حزنا على أخيها عندما أكرمها الله سبحانه وتعالى بالاسلام ونور بصيرتها بالأيمان وأدركة قيمة هذه الحياة ودفعة بأفلاد كبدها جميعا إلى الجهاد وركنهك في أثون المعركة وحضتهم على الثبات والجلد حتى يلقى الله سبحانه وعندما بل فهم نبا استشهادها ما زالت على أن حمدة الله سبحانه وتعالى على أن تقبلهم منها فهذا شأن المرأة عندما تكون المرأة مؤمنة بصيرة بأمر دينها عارفة بأحكامها مطلعة على أمر الله سبحانه وتعالى ونهئة هذا ومن المعلوم أن مناهج العلماء في الفقه و... وزتختلف .. أثر في ذلك لذلك كان أختلاف بين مدرسة الرأي ومدرسة الحديث نتيجة بعد أصحاب مدرسة الرأي عند مصر علم الحديث الشريف ومركزه عن أرض الحجاز فلذلك كانوا مضطرين للاجتهاد وتوسيع دائرة النظر في قضايا التي ينظرون فيها وبناء على هذا وقع الخلاف بينهم وبين في كثير من مسائل ولربما جهد بعض أهل الحديث على ظوافر من دون أن يمكنوا في مقاصد هذه النصوص ولذلك كان اجتهادهم مقصورا على من



      من ظواهر الأدلة الشرعية ولم ينفذوا ببصائرهم إلى إسرار التي تطوي عليها بينما أصحاب مدرية الرأي كانوا على خلاف ذلك ونحن نراى أيضا أن الازمة لها أثر في هذا الاختلاف فقد يكون زمان من الإيمان فيه توسع في ثقافة العلمية ويكون مناخ مهيئا لأن يكون هنالك الاجتهاد الواسع والنظر ودقة ومحاولة الاحاطة بالادلة الشرعية عندما تكون إجواء محيطة إجواء علمية ولكن قد تكون هناك ظروف أخرى الاجواء فيها مهيأة لهذا لسبب أو لآخر أما لاسباب عسكرية وأما لاسباب سياسية وأما لاسباب إجتماعية أو غير ذلك ولأجل ذلك نجد تفوات بين عصر وآخر في قوة الاستنباط والنظر والدقة في نظر في الأدلة الشرعية ولا بد أن نعترف بالحقيقة مهما كانت هذه الحقيقة مرة في بعض الأحيان فاحد أئمة اليعاربة أحدا متميزا في نفوذ سياسي وعسكري ولكن من حيث العلم إن هذا الوطن لم يكن مزدهرا بالنهضة العلمية التي كان ويجب أن تكون موكبة للنهضة سياسية والنهظة العسكرية ولعلنا نستطيع أن نقول بأنا أؤلئك أئمة الفضلاء شغلوا كثير بمكافحة العدو الذي جسم على صدر هذه المرحلة مرحلة مريرة فيه كثير كثير مما يندى له الجبين إذا جاءت تلك الفئة الحاقدة على الإسلام التي تمثلت في طلائع الاستعمار البرتغالي الذي قاد البوكرت لكنه الله تعالى وجثم على صدر هذه الامة واستطاع أن يمد نفوذه في المحيط الهندي حتى المحيط الهادي وصل نفوذه إلى حدود الصين ولم تقف أمامه قوة قط بل كل قوة أن يقضي عليها وعندما تصدى له الأسطول العثماني دمره تدمير وكانت العاقبة عاقبة مرة وكان الرجل حقودا على الإسلام إلى حد بعيد فما يتجلى ذلك في مذكرته التي جمعها زميله الذي سمى أبنه وهو أبن غير شرعي جمعها وطبعت أخيرا بعد ما ترجمت إلى اللغة العربية في نحو ألف وستمائة صفحة وهي تدل على ما كان في نفس هذا الرجل بل وما كان في نفس أتباعه من حقد على الإسلام حتى أنه كان يأسف لأنه لم يستطع أن يحقق أمنيتين اثنتين كان يطمح إليهما الأمنية الأولى أن يحول النيل عن مجراه حتى يجعل مصر أرض يابسة نكاية على المسلين والأمنية الثانية وهى أتعس وعاقبتها عند الله سبحانه وتعالى اعظم الذي كان يتمنى أن يدخل مكة المكرمة وهو كان من غبوته يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم مدفنا في مكة كان يتمنى أن يدخل مكة المكرمة ويخرج كما يزعم منهما جثمان المثاوم الكريم حسب ما قال لعنة الله ليدري وفاته أمام المسلمين ونحن لا نتجاهل دور أئمة اليعاربة عندما نهضوا وتصدوا لهذا الشر العظيم وتتبعوا فلول هؤلاء حقدين على الاسلام حتى طهروا منهمرو من رجسهم هذه البقاع والبقاع الجاورة وكادوا يصلون إلى رأس الرجاء الصالح في مطاردتهم لو لما جعله الله سبحانه وتعالى من خلاف فيما بينهم والله وتعالى المستعاون ولكن مهما كان ، كان حربا بهم وهم نهضوا هذه النهضة أن يدعموا هذه النهضة بالعلم وعندما جاء أحد علماء جزيرة جربة إلى عمان وجه نصيحة إلى الإمام بلعرب بن سلطان بأن يعني بنشر العلم ما وجده من ضغانة العلم بحيث كانت النهضة العلمية لا توازي النهضة الكبرى التي كانت قائمة في البلاد في ناحية سياسية والاجتماعية والعمرانية والعسكرية وأمي الإمام بتعليم جماعة من العلماء هذه الجماعة لعلا بعض مؤرخين يضخم أمرها إلا أن عددها الذي تخرجوا من هذه المدرسة هم خمسون لا يكفون قضاة لعمان وحدها فضلا أن يكفوا لارسلهم إلى بقاع الأرض معلمين ومرشدين وشارحين معالم الإسلام فالنهضة مهما كانت النهضة العلمية لم تكن على مستوى مطلوب في ذلك الوقت وعندما نقارن اجتهاد العلماء في ذلك الوقت سواء العلماء الذين كانوا في صدر هذه الدولة أو الذين كانوا في وسطها في عهد ازدهارها نجد أن ذلك الأجتهاد الذي يصدر منهممن حيث بناءه على الأدلة والنظر لا يوازي شيئا بجانب اجتهاد العلماء الأوائل الذين كانوا في عصور متقدمة واجتهاد العلماء الذين جاءوا من بعدهم بعدما قامت نهضة الاجتهاد في البلاد هذا ولا ريب أن هذه السيدة الرضية رحمها الله تعالى كانت على قدر من العلم فإنها كانت تنافس علماء زمانها الذين اعتبروا في ذلك الوقت في الصدر وكانت فتواهم هي معتمة وكانت في كثير من الأحيان ترجع أراء غير أرائهم وهنا لا بد أن نتعرض للاجتهاد ومقدار ما يمكن للمجتهد أن يحققه من مكاسب علمية وأن يصل إليهم من مراتب الاجتهاد العلماء يقسمونه إلى ثلاث مراحل المرتبة الدنيا هي القدرة على الترجيح وذلك أن يكون الفقيه قادرا على ترجيح رأيا على رأي وذلك عندما ينظر إلى الأدلة أدلة العلماء الذين اجتهدوا أي الذين سبقوا في الاجتهاد واستنبطوا الأدلة من الكتاب أو السنة النبوية أو أولو في النظر في مقاصد الشريعة الغراء أو استطعوا أم يرجحوا دليل على دليل من خلال جمعهم بين الأدلة بعضدها على بعض حسبما هو معهود عند الفقهاء والأصوليين هذه المرتبة بعض العلماء .. مرتبة الاجتهاد ومنهم من قال بأنها دون الاجتهاد وإنما يقال لها مرتبة الترجيح اذ الاجتهاد يكون بالقدرة على استنباط الأدلة الشرعية من مضامنها وبدون هذه القدرة وإنما أ، أول الإنسان على مجرد الترجيح فلا يكون مجتهدا عند هؤلاء القائمين والمرتبة الثانية وهى أعلى من هذه المرتبة وهى الاستنباط بحيث يكون الإنسان قادرا على استنباط الأدلة الشرعية من غير أن يسبقه أحد إلى الاستدال بهذه الأدلة وذلك إنما يحصل للإنسان بالممارسة مع وجود الأ.. التي تمكنه من الإجتهاد والنظر والتتبع الأدله وهذا أمر يتوقف على معرفة القرآن المريم والفرق وهو تفريق بين عمومة وخصوصة وتقيده و.. ومجمله ومبينه ومحكمه ومتشابه وناسخه ومنسوخه مع النظر في أدلة السنة المطهرة سواء كان هذا المجتهد قادرا بنفسه على تتبع الروايات وتميزها بين صحيحها وغير صحيحها أو كان مؤلا على العلماء الذين لهم قدر في علم مصطلح الحديث بحيث يميزون بين ما هو صحيح إلى الأحاديث وما هو غير صحيح مع مراعاة ما يجب مراعاته في الأحاديث نفسها كالذي يراعا في القرآن الكريم بحيث ينظر الإنسان إلى المجمل والمبين والخاص والعام ومطلق ومقيد ومحكمه ومتشابه وناسخ ومنسوخ فإن مما هو معلوم عند أهل العلم أن الخصوص يقدم على عموم وتقيد على الاطلاق مجمل يودي إلى معين ومتشابه يدي إلى محكمه والناسخ يقضي على منسوخ هذا أمر معروف ... كما يقول العلماء الدليل عام وإن كان قطعيا المتن هو ضمير الدلالة لأن دلالة عام لا يتجاوز أن تكون ظنية فلذلك كثير التخصيص حتى أن من العلماء من قال بأنه ما من عموم إلا وقد خصص ما عدا قول الله سبحانه وتعالى "كل شئ خالق " ونعود نقول بأن هنالك من الأدلة العامة ما لا يمكن أن نقول فيه بأنه ظني وهذه الأدلة إنما هي أدلة العقيدة فمن أدلة العقيدة ما يقضي العقل لاستحالة تخصيصه بقول الله سبحانه وتعالى " لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفؤاد أحد " إذ لا يمكن أن يقول أحد بان قوله سبحانه وتعالى لم يبد مخصص وأن أحد من الذين ولدوا هوة مولود الله تعالى عن ذلك ولا يمكن أن أحد أيضا بان الله تعالى ولد لأحد تعالى الله عن ذلك ولا يمكن أن يزعم أحد بان لله تعالى حزب وهكذا نحول قوله " ولا يظلم ربك أحد " وقوله سبحانه وتعالى " ليس كمثله شئ وهو سميع البصير" إلى غير ذلك من الأدلة التي يثبت العقل استحالة تخصيصها ونحن لا نريد أن نخوض في هذا المجال على أي حال بجانب هذا أيضا لا بد أن يكون الأنسان على بينة من معرفة الخطاب الشرعي والتميز بين دلائل الخطاب على الأحكام إلى كم دللالة تنقسم دللاله الالفاظ على الأحكام تنقسم إلى أربعة دلالات لأن اللفظ يدل على حكم الشرعي أما بعبارته أما بإشارته وأما بقتضائه وأما بدلالته ولابد من تميز مراتب ذلك ثم بعد هذا كله أيضا مطالب بأن يكون معرفة باللغة العربية ن لآنها اللغة التي نزل بها القرآن والتي وردت به السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ويتعذر على الانسان أن يجتهد في الأدلة الشرعية وهو غير متذكر ممن اللغة العربية بحيث يعرف دلالة هذه اللغة على المعاني فأن الكثير من مسائل الترجيح لا يمكن أن يرجح فيها دليل على دليل إلا بعد إمعان النظر في قواعد اللغة العربية هذا أمر لا نريد أن نتعرض له وكذلك أن نكون على خبرة بالسيرة النبوية لكثير من الأحكام أنما تستقي من السيرة النبوية ومن خلال معرفة الأنسان لسيرة النبوية يستطيع ضبط الأدلة الشرعية من حيث نزولها أن كانت آيات قرآنية أو ورودها على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أن كانت سنة نبوية فيميز بذلك بين ناسخ ومنسوخ ومع هذا أيضا مطالب الإنسان بان يكون على ببينة من مقاصد الشرعية الغراء فإن الترجيح كثيرا يعتمد على النظر في هذه المقاصد بل نفس الاستنباط أحيانا أنما يبني على النظر في مقاصد الشريعة وبدون هذا النظر يكون الإنسان غير قادر على استيعاب الأدلة الشرعية وما تدل عليه من الأحكام ونحن عندما ننظر إلى تلك الحقبة على أي حال نجد عند الناس ربما حصل من بعضهم شيئا من الاجتهاد أي العلماء الذين كانوا بين الناس في ذلك الوقت بحيث يستنبطون الأحكام الشرعية ولكن غالبا الاجتهاد إنما كان ترجيحا ترجيح رأيا على رأي والعلماء كانوا في ذلك متنافسين هذا الترجيح حصل عند كثير من علماء وكانت هذه السيدة الرضية رحمها الله تعالى تنافس هؤلاء العلماء ربما نختار رأياه غير رأيهم نجد أن العلامة الصبحي رحمه الله كان يعد في الرعيل الأول في ذلك الوقت في العلماء ولكنها كانت تختلف معه في كثير من المسائل من ذلك أنه كان يقول في المرآة إذا جاءها الحيض وأستمر بها الدم ولم ينقطع عنها الدم يقول بأنها تجعل عشرة أيام حيضا وعشرة أياما ولعل هذا الرأي هو أسهل ما يكون للنساء في الاستعمال الكثير من الآراء التي تخالف هذا الرأي وهذا الرأي هو مقيد ما إذا لم تكن هناك عادة سابقة للمرأة إما أن كانت لها عادة فإنها تحكم عادتها في ذلك لدليل حديث النبي صلى الله عليه وسلم "إذا أقبلت الحيضة فدعي لها الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي " ولكن العلامة الصبحي بجانب نظرة إلى هذه المسائلة من خلال هذا الرأي وترجيحه على بقيت الآراء يري أنه لعلله من باب الاحتياط أن المرآة بعدما تصلي خمسين صلاة أي إذا أعتبرت نفسها مستحاضة في عشرة التي بعد عشرا لحيضه تصلي خمسين صلاة يري أنها بعد أن تصلي خمسين صلاة صلاة وأحدة من باب الأحتياط ولكن هذه الفقيهة عرضته في ذلك وقالت لا بل ولو صلت تلك الصلاة بما أنها جاوزت العشر فإنها تعتبر في حكم الحائض ولما كانت في حكم الحائض فعلى أي حال لا تعتبر صلاتها تلك شيئا وتترك خمسين صلاة كالتي صلاتها من قبل وبعد ذلك تعود إلى صلاة مرة أخرى هذا الرأي على أي حال وهو رأيها مبني على الأصل فإن الأصل في دم أنه دم الحيض وما دامت مواصفاته مواصفات دم الحيض يحمل على أنه يكون دم حيض ولا يتعذر ذلك إلا عند ما تتجاوز العشرة أيام فإن أقصى مدة الحيض عشرة أيام وربما أقل الطهر عشرة أيام فهي تعطي للطهر عشرة أيام فإذا جاوزت هذه العشرة عليها أن تغتسل وتصلي فإذا صلت خمسين صلاة فلتترك للصلاة وإذا تركت خمسين صلاة فلتصلي كذلك خمسين صلاة إذن أصل في دم أنه دم حيض ويحمل على أنه استحاضة عندما ما يتعذر كونه دم حيض وهذا على أي حال اجتهاد مبني على نظر دقيق في هذه المسألة وهو مبني على قاعدة أصولية معروفة وهي استصحاب الأصل كذلك وجدنا الفقيه المذكورة ، كذلك وجدنا الفقيهة المذكورة اختلفت مع العلامة الصبحي في الموصى له إذا قتل الموصى فقد وقع قبل الخلاف معها خلاف بين الصبحي وابن عبيدان فكان ابن عبيدان يرى أن القتل على أي حال من الأحوال هو يسقط للوصية كما يسقط حقه أي حق القاتل من الذبح إن قتل مورثه وكان الصبحي يرى أن هذه المسألة لا بد إمكان النظر فيها وفقيه أبنت راشد كان لها رأي آخر كان رأيها التوسط فأن كان هذا القائل كان داريا لأن المقتول موصى له ففي هذه الحالة لا يستحق هذه الوصية إما إذا كان على غير معرفة للوصية رأسا فعلى أي حال لا يعتبر في هذه الحالة لا يعتبر متعجلا لآمر لأنه لم يكن على معرفة بالوصية رأس ومهما كان فإن القول بالمنع مطلقا إنما هو مبني على القياس أولا وابتكرت القياس قياس الوصية على الميراث ثم بجانب ذلك أيضا ينظر في هذه القضية إلى قاعدة معرفة عند الفقهاء والأصوليين وهي قاعدة سد الذريا فإنه من المعلوم عندما يحس كل أحد أنه أن قتل من أوصى له لا يرثا شيئا لا يستحق من الوصية شيئا كما لو قتل مورثه لا يستحق من أرثه شيئا لا ريب أن هذا من الأمور الراجعة على قتل فإن في النفس ريبة من هذا القتل إذا لعلل القتل ولو كان خطأ حسب ظاهر لصاحبه إرادته ولصاحبه نزعة من خلاله إلى التوصل لهذا القتل إلى ما يتطلع إليه من الوصية أو ما يتطلع إليه من الإرث لذلك جاءت الشريعة الغراء لسد هذا الباب رأسا كالنبي صلى الله عليه وسلم يقول :" لا يرث القاتل المقتول عمدا كان القتل أو خطأ" وهذا لأجل صون دماء المسلمين حتى لا يتوصل المفسدون إلى سفكها لأي غرض من الأغراض ومما وقع الخلاف فيه بينهما أن الفقيهة كانت ترى جوزت وصية المسلم لغيره مسلم بينما العلامة الصبحي ما كان يرى جواز هذه الوصية وقوله في الجوار هو القول الراجح لأن السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام تدل عليه فأم المؤمنين السيدة صفية بنت حيي رضى الله تعالى عنها أوصت لابني أخيها ولا بد أن تكون هذه الوصية بعد مشورة النبي صلى الله عليه وسلم وأخذت رأيه ما كانت أمهات المؤمنين يتصرفن من تلقاء أنفسهن من غير استشارت النبي صلى الله عليه وسلم ومع وجود مثل هذا مع ابني أخيها كان على اليهودية ولم يكونا على الإسلام ولكنها أوصت لهما وهذا يعني أن الوصية لغير المسلم جائزة وليس سبيلها سبيل الأرث فإن الوصية إنما هى سلعة ولذلك الله سبحانه الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف وقد قال من قال من العلماء بان المراد بالوصية للوالدين هنا الوصية للوالدين غير مسلمين فأن عدم أسلمهما لا يمنع من برهما وبما أن هذا البر مشروع بين الولد وولده ولو كان الولد على غير ملة الإسلام كما نص عليه القرآن في قوله سبحانه وتعالى ""ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكري ولوالدي وإلى المصير وإن جاهدك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصحبهما في دنيا معروفا"

      فإن هذه الصحبة بالمعروف وهذه الصلة وهذا البر ينبغي أن يستمر كل في ذلك ولو بعد الحياة فلا مانع أن يوصي الأنسان بمن يريد الوصية له بسبب قرابة ا, بسيصحبه أو بسبب أي شئ من هذا القبيل من غير المسلمين كذلك نجد الخلاف فيما بينهما في ما يتعلق بعدم أنزال من الرجل او المرأة هكذا قال بعض العلماء الذين نقلوا رأيهما ولكن يبدو أن كلام الصبحي كان كلام مطلقا ويحتاج إلى تقيد وهى قيدته على أي حال الصبحي لم يتعرض للجماع نفسه ولكنه قال فما إذا لم ينزل الرجل ولم تنزل المرآة لا غسل عليهما مع أنهما معلوم أنه صرح في مواضع أخرى بوجوب الغسل بمجرد ملامسته بمجرد التقاء الختانين فيحمل إطلاق كلامه على هذا التقيد وهذا يعني إذا كان ذلك من غير جماع هي تعقبت كلامه على هذا التقيد وهذا يعني إذا كان ذلك من غير جماع هي تعقبت كلامه بأنه إذا التقاء الختانان وجب الغسل على أي حال سواء واقع أنزال وإن لم يقع لقوله تعالى " أو لامستم النساء " ولحديث النبي صلى الله عليه وسلم " إذا التقاء الختانان وجب الغسل " أنزل أو لم ينزل ولا عبرت بالانزال مع التقاء الختانين نعم هذا القول وهو عدم وجوب الغسل عدم الإنزال ولو التقاء الختانان قول وجد وله دليل وهو حديث "الماء من الماء" ولكن دل حديث رافع ابن خديج رضي الله تعالى عنه على أن حديث الماء من الماء رسخ وهو نفسه كان في معاشرة أهله ونداه النبي صلى الله عليه وسلم فأستجاب وذهب واغتسل وأتى إليه وجسده يقطر ماء فسأله النبي صلى الله عليه وسلم قال له : لعلنا أعجلناك فأجاب بأنه كان في حالة المعاشرة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " إذا إعجلت او أقعت فيكفيك الوضوء " ثم رافع نص بنفسه بعد ذلك بأن هذا كان في بدء الأمر لكن نسق بعد ذلك باستقرار وجوب الغسل بمجرد الملامسة قال فالحديث أذن حديث ماء من الماء منسوخ على أي حال الفقيهة تعقبت كلام العلامة الصبحي وفكرت وجوب الغسل بمجرد حشفة من غير أن يلزم أن يكون متوتبا على ذلك نزول شئ من المني هذا وجدنا إيضا الخلاف بينهما في بعض المسائل الأخرى التي ربما كان خلاف فيما مبنيا على مجرد النظر أما في المصالح العامة أو المصالح الخاصة أو نحو ذلك كل ذلك إما يدل على أن هذه الفقيهة كانت حريصة على إتباع ما يتراى لها من الدليل سواء هذا الدليل آية رأنية أو حديثا نبويا أو كان هذا الدليل مصلحة فإنه مما يدرك من خلال النظر في كلامهما إنها كانت تعتبر المصالح وتعتمد كذلك على القياس ونصت على القياس في أكثر من موضوع وهو ما يدل على أنها تعتبر القياس دليل شرعيا خلاف أولالئك الذين لا يعو لن على القياس هذا ومن المعلوم أن عناية العلماء بفتواها حتى وجدت هذه الفتوى في كثير من الكتب الكبرى التي هي مدار اعتماد الفقهاء في السنين الأخيرة مما يؤكد مكانتها العلمية فنجد فتواها في قاموس الشريعة وفي لباب الآثار وفي خزانة الآثار وفي مكنون الخزائن إلى غير ذلك من الكتب مما يؤكد أن هذه الفقيهة كانت مكانتها مكانة مرموقة وهي كما قلت في عصر وسائل العلم فيه مستعصية أولا كما قلنا الأجواء لم تكن مساعده على العلم في زمانها وإنما بذلت ما في وسعها من أجل التوصل إلى ما توصلت إليه واجتهدت أجهدت نفسها حتى وصلت إلى مبتغها والآن الأمر بخلاف ذل فالمكتبات والحمد لله متوافرة والمطابع قربت المثير مما كان نأي ويسرت الكثير الكثير مما كان عسيرا وسهلت ما كان صعبا فأصبحت الكتب في متناول الايدي من أجل هذا نحن نحدث أبناءنا وبناتنا جميعا على العناية بالعلم واعطاء العلم حقه نحن على أي حال لا ندري كنا واحد أو كنا واحدة إلى محاولة الخوض في المسائل الفقهية لأجل البروز لي هو كذلك المقصود وإنما يتحدث في هذه المسائل من كان على دلالة وعلى بينة إذ الخوض في المسائل الفقهية بدون بينة أمر ذلك خطير كيف و الله سبحانه وتعالى يقرئ بين تقول عل.. بغير علم وبين الاشرك به عندما يقول " إنما حرم .. الفواحش ما ظهر منها وما بطن وأثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وإن تقولوا على الله ما لا تعلمون " وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنتم الدرون به فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول " من أفتى مساءلة أو فسر رأي بغير علم كان كمن خ رمن السماء إلى الأرض وصادف بئرا لا قعر لها " ولو أنه وافق الحق لكن ندعوا على أي حال بأن يكون هناك إجتهاد من قبل الطلبة أي بذل الجهد من أجل تحصيل العلم حتى يتأهلوا لأجل النظر وأقصد بالطلبة الذكور والإناث جميعا فكل مطالب بان يتهيأ للنظر في المسائل العلمية بجتهاده وبذله وسعه حتى يتمكن من الوصول إلى هذه المرتبة لا أن يتسور عليها من غير أن يكون أهلا لها وكذلك نحن نجد أن هذه المرآة الفقيهة بجانب ما كانت عليه من معرفة بفقه العبادات وبفقه المعاملات وبفقه الأحكام الشرعية أيضا كان عندما فقه عسكري ولذلك كانت تسأل عن هذه المسائل فمن ذلك أنها ساءلت عن قوم عرفوا بالبغض وأنهم يخشون الديار ويسعون فيها فسادا لا يبالون بسفك الدماء وانتهاك الأعراض وأخذ الأموال وارتكاب المحارم بلغ أهل بلد عنه أنهم آتون إلى ذلك البلد وهم يحسون بانهم لو تركوهم حتى دخلوا نفس البلد لما تركدوا من دفعهم حتى يخرجوا منا لأنهم يصبجون غالبين بعد الدخول فهل يجوز الخرج إليهم قبل أن يدخلوا إلى البلد لآجل مقاتلتهم خارج البلد فإجاب يجوز الخروج إليهم وتصدي لهم من غير بدئ في مقاتلتهم حتى يبدأ هم أولا فإن هم أولا عند إذن يحل قتالهم وهذا المنهج على كل حال هو المنهج الذي أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان يدعوا أصحابه في اعتراضهم للاعداء أن لا يكونوا البدءين حتى لا يكون هنالك عدوان وإنما او قبل كل شئ ينتظرون حتى يكون عدوان من قبل العدو عند إذن تحل مقاتلة العدو وهذا الذي درج عليه .. إيضا فأبو حمزة الشاري رحمه الله تعالى لما وجه الجموع حقبا وكانت بينه وبينهم محاورة في ما يتعلق في طاعة بني مروان وأصر أولئك على تصدي لأبي حمزة ومن معه طاعة لائل مروان قال أبو حمزة لا تبادؤهم بالقتال حتى يبدؤا هنالك امسك أصحاب أبي حمزة حتى أطلق أوؤلئك السهام وأصابوا رجل من رهط أبي حمزة فقال لإصاحبه كنوا لهم الآن فقد حل قتالهم فالمرآة كانت فقيهة قادرة على النظر في هذه الأمور ولذلك تعطي الإجابة الشافية المبينة على الدقة في النظر والاحتياط بقدر المستطاع وفي كثير من الأمور كانت تقول يعجبني كذا من غير أن تصرح بأن ذلك أمر واجب ولكن تبني فتواها هذه على الاحتياط والورع حتى لا يقع الناس في محارم الله فهي بجانب كونها فقيهة من أهل النظر والدقة في النظر هي أيضا محتاطة لدينها ورعة ترغب الناس أن يحتاطوا لدينهم وأن يكونوا حرصين على تجنب كل ما يؤدي إلى الشبهة وهذا أمر واضح في كثير مثير من أجوبتها نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمدها بواسع رحمته وأن يسكنها فسيح جناته ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل في نساء المسلمين الخلف الصالح الذي ينحوا هذا منحي ويعتمد على الفقه في دين الله سبحانه وتعالى من أجل العبادة على بصيرة ومن أجل تفقيه بنات جنسهن فيما يتعلق بأحكام الله ونسأل الله أن يفقهنا جميعا في الدين وأن يعلمنا التؤل وأن يجعلنا من عباده المخلصين ومن حزبه المفلحين ومن جنده الغلبين ومن أولياءه المتقين أنه على كل شئ قدير وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .



      الأسئلة

      السائل يسأل عن التقاء الختانين من خلف الملابس هلا يترتب عليه غسل على أي حال التقاء الختانين يراد به أن تولد الحشفه أي رأس الذكر أو ما ساويها ممن كانت مقطوعة منه في الفرج فعندما تدل هذه الحشفه يكون عند إذن وقع التقاء الختانين ويجب على كلا الزوجين الأغتسال كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن ذلك جاء في بعض الرواية وكانت عنده عائشة رضي الله عنها فقال :نصنع ذلك إذا وهذه ثم نغتسل " هكذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم فعندما تلد الحشفة ولو ولجت من خلف الثوب أن دخلت في الفرج ولو من وراء الثوب وجب الاغتسال والله أعلم .



      سؤال عن آثار الشيخة عائشة هل لها كتب ومؤلفات مستقلة أولا ؟

      الجواب : أنا حقيقة لم أطلع على شئ من ذلك وإنما قيل لي سمعت هكذا من بعض الناس قبل سنين بأن لها فتاوي في نحو جزئين وأناه أطلعت على هذه الفتاوي ما وجدتها إلا نا تناثر في كتب كالذي يوجد في قاموس الشريعة والذي يوجد في مكنون الخزائن ولباب الآثار وخزانة الآثار ونحو هذه الكتب كتب المتأخرين التي كانت تجمع الفتاوى فتاوى العلماء.



      سؤال : ما مدى صحة المقولة التي ذكرت في البحث الذي .. بالأمس بأن الشيخة عائشة وقفت عن مبايعة الأمام سيف بن سلطان لمدة يومين وبعدها أعلنت مبايعة له بأن تكون بيعه جهاد ؟

      الجواب : في حقيقة الأمر لا معرفة لي بذلك ولعلها توقفت بسبب أن الرجل في بادئي الأمر باغيا على أخيه أذ كان خارجا على أخيه وبطبعة الحال الأمامة لا تؤخذ بهذا الطريق لا تؤخد بالثوا.. والقيام على أئمة الرعين السابقين ومما يؤسف له أن حصل أماة في أسرة هو الذي يؤدي إلى مثل هذا التنافس بين الأقربين ويؤدي بالتالي إلى ضعضة الدولة وضعفها وذلك وقع فعلا عندما كانت لأنهم أحسوا بأنها ميراث يرثها اللاحق عن السابق ووقع تتطلع إليه وكل منهم أو أغلبهم كانوا يشئبون إليها وبسبب ذلك حصل ما حصل من التنافس وتلك المبايعة إنما كانت بسبب أن الناس راو السياسة تقتضي مبايعة في ذلك الوقت وقد كانت سفن المسلمين تخمر عباب البحر لمطاردة سفن أعداء الإسلام ولعل الناس لو تؤكوا عن المبايعة ووقع الشقاق وأنها الدولة أدي ذلك إلى رجوع الاستعمار البرتغالي من جديد وأدى ذلك ضعف أمر المسلمين فلذلك بايعوا سيف ابن سلطان القائم على أخيه ومع هذا ولم يقسم في الجهاد مهما كان أمره وأن كان في قيامه على أخيه كان باغيا إلا أنه بعد ذلك تصدى لا سطول أهل كفر وحاربهم ,أخرجهم من مثير من ديار .



      السؤال : من هم العلماء الذين عاصروا هذه الفقيهة وما المقصود بالعالم الصبحي؟

      الجواب : على أي حال كان هناك عدد من الفقهاء إنما كان في مقدمة الشيخ خلف ابن سنان الغافري وتلميذه الشيخ الصبحي وهو سعيد بن بشير الصبحي النزوي وهذان الشيخان ابن سنان وشيخ سعيد بن بشير كان في مقدمة أهل العلم في عمان في ذلك الوقت .



      السؤال : كيف كانت تحصل على المراجع والمصادر؟

      الجواب : على أي حال كانت بحسب الطرق المتبعة في ذلك الوقت استنساخ الكتب وشراء الكتب المنسوخة ما كانت مطابع.



      السؤال : هل هناك نساء عصرن الشيخة وإذا كان ذلك فما هو ردهن .

      الجواب : بطبيعة الحال لا بد أن تكون نساء كل وقت لا يعلم من النساء والرجال ولكن هل عن في مرتبتها العلمية ما لم نجد دليلا عليه.



      السؤال : هل للشيخة عائشة كرامات ؟

      الجواب : كرمتها الكبرى أن الله تعالى وفقها لطاعته وهداها لمراضاته بان كانت طالبة على ورغبة في رضوان الله هذه الكرامة الكبرى .



      السؤال : ما هو آثر الشيخة أبنت راشد في المجتمع المحيط بها وعلى وجه الخصوص ولاية بهلا وكذلك ما حال المجتمع في عصرها بحيث الإصلاح والصلاح ؟

      الجواب : على أي حال العالم الفقيه ذكر كان أو أنثى لا بد من أن يصلح بقدر مستطاعه والمرأة لها أثر في الإصلاح في بنات جنسها ومثل هذه الفقيهة لا بد أ ن يكون هناك جهد منها لإصلاح بنات جنسها بتفقهن في دين الله ودعوتهن إلى الخير وأمرهن بالمعروف ونهيهن عن المنكر .



      السائل يقول وهو سؤال خارج موضوع نحن بصدده ولكن ربما لأجل علاقته بمسألة التفريها رجل قبل زوجته في نهار رمضان مما أدى إلى خروج السائل الأبيض وهو الودي السائل أخطاء في هذا الودي ليس الذي يخرج مع التقبيل وإنما المذي الذي يخرج عند التقبيل أما الودي يخرج بسبب برودة ويخرج إما بعد البول وإما لتأثير الطبع البارد مع العلم أنه لم يلتقي الختانان فما حكم الصائم هل صومه باطل أم ماذا؟

      الجواب : على أي حال مع عدم خروج المني القول الراجح بأن المذي لا يؤدي إلى بطلان الصوم ولكن ينبغي على الإنسان أن لا يحوم حول الحماء فمن حام حول الحماء أوشك أن يقع فيه .
      كـــــــــــــــــــــــــــــــن مــ الله ــع ولا تبــــــــالي
      :):)
    • [COLOR='4B0082']م[/COLOR][COLOR='0F661A']ن[/COLOR][COLOR='996F2B']و[/COLOR][COLOR='D13B2B']ع[/COLOR][COLOR='7E001A']ا[/COLOR][COLOR='4B0082']ت[/COLOR]
      [WEB]http://www.islampedia.com/MIE2/MainInter/default.htm[/WEB]
      كـــــــــــــــــــــــــــــــن مــ الله ــع ولا تبــــــــالي
      :):)
    • سلسلة: صمود النص أمام الطوفان الجارف

      الحلقــة الأولـى

      البدايـة

      خميس بن راشد العدوي



      بسم الله الرحمن الرحيم

      الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

      السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد؛؛؛

      فقد صدر في هذه الأيام كتاب العلامة المحدث سعيد بن مبروك القنوبي بعنوان "الطوفان الجارف لكتائب البغي والعدوان" الذي صنفه الشيخ في الرد على أحد المقلدة الذين يرفضون الانصياع للأدلة الشرعية والبراهين العقلية، وإنما "يجتهدون" في إطار الدائرة التي وضعها لهم أسلافهم، ويرفضون خدش هذه الدائرة وإن كانت في منهجها قائمة على قواعد غير سليمة من جهة الشرع ولا صحيحة من جهة العقل ولا مسلّمة من جهة علماء الأمة وعقلاء البشر، ولست في هذا الموضع معتنياً ببيان مواطن خلله وخطله في كتابه "قدوم كتائب الجهاد" فهذا أمر قد قام به العلامة القنوبي، وإنما أريد أن أوجه القارئ الكريم إلى النظر بعمق إلى فلسفة النص في الإسلام وسر بقائه.

      ينظر البعض إلى "الطوفان الجارف" على أنه رد شخصي وانتصار ذاتي على الذي رد عليه في كتابه "السيف الحاد" وهذا أمر غير مسلم له بل هو كاسد في ميزان العلم والمناظرة، إذ أن فضيلة شيخنا قد ابتدأ الأمر بتصنيف كتاب "السيف الحاد" رداً على ما يمكن أن نسميه بالمدرسة الأثرية، هذه المدرسة التي أصيبت وأصابت، أصيبت بدخول الفكر الأجنبي عن النص الشرعي إليها، وقد انخدعت بالذين روجوا لها الفكر الدخيل باسم الدين وجعلت من قبول النص بالخبر الآحاد واقياً لها من هدم قلعة فكرها ومعتقدها، وأصابت هي بدورها الأمة حيث قامت هذه المدرسة بترويج ذلك بين المسلمين، فجاء "السيف الحاد" مناقشاً لنظرية الأخذ بخبر الآحاد في الاعتقاد، مما أثار حفيظة أحد أتباع هذه المدرسة، فقام بتصنيف رد غير مهذب علمياً منتصراً للمدرسة التي أصيب المسلمون من قبلها بالشيء الكثير، إذن فنظرة هؤلاء –أقصد الذين رأوا في "الطوفان الجارف" بأنه انتصار شخصي- خاطئة مرفوضة، وبما أننا ملزمون أدبياً أن نلزم الناس بما يلتزمون به، نجد أن هذا الذي ذكرته هو الذي أوضحه العلامة القنوبي حتى لا تذهب بهؤلاء عقولهم إلى التخرصات الوهمية، حيث يقول: (وليس من شأننا بحمد الله تعالى تتبع الهفوات أو تصيد العثرات أو الانتصار للنفس بأي وسيلة أو مواجهة الباطل بمثله) الطوفان؛ ج3؛ ص4.

      وربما ذهب البعض إلى أنه انتصار للمذهب الإباضي على اتباع المدرسة الأثرية، وهذا صحيح من حيث إن المذهب يدعو إلى التزام النص الشرعي الثابت وتطبيقه حسب القواعد العقلية واللغوية السليمة، أما الظن بأنه انتصار للمذهب تقليداً لسلفه بدون رؤية الدليل فهذا غير وارد البتة، (فأهل الحق والاستقامة ما فتئوا ينصرون الإسلام، ويذودون عن حياضه، ويبددون سحب الباطل بأشعة الحق، ويبذلون النفس والنفيس لإعلاء راية الإيمان، ونشر العدل والفضيلة، والتاريخ خير شاهد على ذلك، ومن شاء أن يعرف ذلك حق معرفته فليستقرئ ما سطرته أقلام أرباب التاريخ المنصفة حتى من غير أتباع هذا المذهب، وسيرى بمشيئة الله تعالى ما تقر به عين طالب الحق وملتمس الحقيقة) الطوفان؛ ج3؛ ص5.

      إلا أن الذي نريد أن نستقريه هو –كما قلت- فلسفة النص وسر بقائه، حيث يجب أن نوجه أنظارنا شطر النص الشرعي وحده، ونزيل أي أثر للدخيل الذي ولج إلى الفكر الإسلامي من باب المدرسة الأثرية، فالأمة الإسلامية تمر بمنعطف مهم جداً وهو مراجعة الذات، وإلغاء الصفة الكهنوتية التي تمارسها المدرسة الأثرية، وأن يكون كتاب الله تعالى والثابت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو النص الماثل أمام أنظارنا ونحن نحرر الفكر الإسلامي على وفق المنهج الإلهي، وعلى الأمة ألا تخشى من ذلك، وأن لا ترصد الأمر بخشية القضاء على المسلمات الموروثة التي تظن أنها من الدين وهي ليست منه على شيء، فإن ما لم يكن من الدين يجب أن لا نلحقه به بل نكشفه ونفضحه فهو عوار يبعدنا عن رضوان الله تعالى ويؤخر الأمة من الانطلاق نحو غد أرحب في عالم من الصراع على الوجود، وفي هذا المنعطف الذي تمر به الأمة سيظهر الجيل الذي يؤمن بالحقيقة الإلهية وحدها (إن الزحف قادم، فقد نصبت معالم الحق، واندك السد المنيع الذي حجب عقول كثير من الناس سنين طويلة، ووضح الصبح لذي عينين، ولسنا –بحمد الله تعالى- ممن تهوله القعقعة، أو تستهويه الألفاظ المسجعة، ولم يعد يقض مضجعنا اتهام الحاقدين الشانئين لنا بالخروج عن الإسلام ما دمنا متمسكين بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، معتصمين بالدليل نحاكم خصمنا إليه، فأي الفريقين أحق بالأمن) الطوفان؛ ج3؛ص5؛ بصرف.

      وإلى اللقاء في الحلقة القادمة؛ بإذنه تبارك وتعالى.

      خميس بن راشد العـدوي

      21 ذي الحجة 1420هـ

      28 مـــارس 2000م






      سلسلة: صمود النص أمام الطوفان الجارف

      الحلقــة الثانية

      المدرسـة الأثريـة

      خميس بن راشد العدوي


      تحدثت في الحلقة الماضية عن المدرسة الأثرية، وذكرت بأنها كانت سبباً لوجود الدخيل في الفكر الإسلامي، ويحسن بنا هنا التعرف على هذه المدرسة بشيء من القرب حتى تتضح الأمور أكثر. بعد اسيلاء الأمويين على أمر المسلمين، وتحويل الخلافة الراشدة إلى ملك مستبد، كان لا بد أن يصاحب هذا التحول قاعدة فكرية توطئ وترسخ وجودهم، وبما أن الأمة تدين بالإسلام ولا زال عقلها العام طرياً ندياً بالعهد النبوي، وليس من السهل أن تقبل شيئاً ناداً عن دينها، فإن القاعدة المؤسسة للأمة هي النص الشرعي، ومن الأكيد حتى يتم التغيير يجب أن يكون النص الشافع لشرعية هذا التغيير موجوداً، وبما أن كتاب الله تعالى قد تكفل سبحانه وتعالى بحفظه لقوله تبارك الحجر 9 فلم يبق إلا طريق السنة[إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون]وتعالى: النبوية الشريفة، فوضعت الأحاديث المؤيدة للأموية، وبذلك انفتح الباب لولوج النص المنحول الذي ألصق بكلام خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، وفي هذه المعمعة الفكرية المفروضة على الأمة قسراً دخل أرباب الأغراض المتنوعة، واستخدموا الأساليب المختلفة التي تجعل من حديثهم مقبولاً لدى المسلمين، بهذا وجدت المدرسة الأثرية التي كانت لديها أداة سبك وصك الحديث قوية وسريعة، وحتى لا تحاكم من قبل عقلاء الأمة اتخذت لها دروع حماية.

      نذكر من ذلك:-

      1. إبراز مصطلح "الأثر" وصبغه بصبغة الشرعية الممثلة للنص الشرعي، وجعله نقيضاً لاستخدام العقل في فهم النص، ومن لم يقبل النص الوارد من هذه المدرسة فهو من أصحاب الرأي المغضوب عليهم والضالين حسب تصنيفها، وقد بذل أتباعها جهوداً ضخمة لترسيخ هذا المفهوم وللأسف الشديد نجحت في ذلك نجاحاً كبيراً ولكنه مؤلم للأمة وفكرها الناصع النقي، ولم يقف نجاحها للسيطرة على عوام الأمة وعموم مفكريها، بل استطاعت أن تقتلع المدرسة العقلية التي نشأت كردة فعل للمدرسة الأثرية، وحتى قبل سقوط المدرسة العقلية استطاعت أن تؤثر عليها، وليس هنا محل توضيح ذلك، كما أن لديّ تحليل أكثر إيضاحاً لهاتين المدرستين، أرجئ الحديث عنه في مناسبة أخرى إن شاء الله تعالى.

      2. احتكار "صناعة" الحديث، وذلك بإنشاء مدرسة أهل الحديث، وهي مدرسة داخل مدرسة حتى يتسنى للأثرية الغالية رفض ما قد يتوصل إليه الفقهاء والأصوليون من حقائق تهدم مدرسة الأثر، وبهذا الاحتكار استطاعت الأثرية فرض مصطلحاتها على الأمة، وبالتالي رفض ما يأتي من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق آخر هو أسلم منهجاً وأقرب مورداً من معين النبوة الشريفة من طرق الأثرية المتشعبة، ونقول كما قال شيخنا الحافظ القنوبي حفظه الله تعالى بأنه آن الأوان لمراجعة مصطلح الحديث الأثري: (هذا؛ ومن الجدير بالذكر أن قواعد مصطلح الحديث تحتاج إلى مزيد من البحث والتحرير)الطوفان؛ج3؛ص317.

      3. تسليط سيف مصطلح "أهل الأهواء والبدع" على كل من لم يكن أثرياً مثلهم، والقصد منه الصدّ عن أي طريق آخر لا يوافق الأثرية، ومن هنا نرى رفضهم لروايات أهل الحق والاستقامة، وإدخال رواتها تحت مظلته، وكان الأجدر أن ترفض روايتهم التي عرف منها وفيها الدس والوضع والكذب على حديث رسول الله صلى عليه وسلم، وخاصة أن هذه النحلة الأثرية أصيبت بداء الإرجاء الذي "يجوّز" لها الكذب، وإنها وإن وقعت في كبيرة فهي خارجة لا محالة من النار حسب زعمها، يقول تعالى نعياً على الأمم فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من]السابقة هذا المنهج المعوج: عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون، وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون، بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم .[فيها خالدون

      4. رفض عرض الحديث المختلف فيه على كتاب الله تعالى وعلى الثابت المتفق عليه من سنة رسول الله صلى عليه وسلم، وأوحوا للمسلمين أن من يطلب ذلك بأنه رافض للسنة، وهو –حسب تصنيفهم- زنديق يكيد للدين، مع أن الله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في] شيء فردوه إلى الله ورسوله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن النساء 59.[تأويلاً

      5. تعطيل العقل في فهم النص، وذلك حتى يلزموا الناس بالإيمان والأخذ بمتناقضات رواياتهم، ورمي من يعمل عقله بأنه راد لشرع الله تعالى، وأنه يقدم العقل على الشرع فهو إذن معتزلي، مع أن المعتزلة لا يقولون برفض النص، ولا بتقديم العقل على النص بإطلاقه كما يوحي هؤلاء للناس.

      6. الوصاية على فهم النص، فعندما وجد الناس بأن ما هم عليه يناقض صريح المناقضة دين الله تعالى، وأخذوا يناقشون الأفكار الأثرية، نادى هؤلاء الأثريون بفكرة أن لا بد أن يفهم كتاب الله العزيز على ضوء السنة، وطبعاً من ضمن السنة الأحاديث التي سبكتها آلتهم العتيدة، ومع هذا عندما لم يسعفهم هذا النص السني، قالوا بضرورة فهم السنة على ضوء شروح سلفهم، وهم على هذه الوتيرة، فمنهم من يحاول أن يراوغ فيقول: (بأن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ليس على إطلاقهما، فهما يمكن أن يستدل بهما من شاء على معتقده حتى اليهود والنصارى!!! فلا بد من تقيديهما بفهم السلف) الألباني؛ شريط منهج الخوارج ويقصد أرباب المدرسة الأثرية، ومنهم من يفتضح فيقول: (لا خير في كتاب بدون سنة، ولا خير في سنة بدون فهم سلفنا) 'الطحان؛ شريط الرد على قضية الرؤية من الحق الدامغ' يقول شيخنا القنوبي مخاطباً أتباع هذه المدرسة: (وهكذا اتخذتم أقوال سلفكم حجة قاطعة تركبون لنصرتها كل صعب، وتسلكون للدفاع عنها كل سبيل وعر، بل جعلتم الكتاب العزيز والسنة النبوية على صاحبها وآله أفضل الصلاة وأزكى التسليم مجرد قنطرة عبور، ليس لهما أي قيمة في حقيقة الواقع إلا إذا وافقت أقوال سلفكم، فقد سددتم الأبواب عن كل من أراد أن يحتج بشيء منهما إلا إذا كان ذلك الاستدلال موافقاً لأقوال سلفكم بعبارة واحدة؛ وهي قولكم: (بفهم السلف الصالح) الطوفان؛ ج3؛ ص14-15، بتصرف. بهذا يتضح شيئاً عن المدرسة الأثرية التي رسخت دخول النص البشري غير المعصوم إلى دين الله تعالى، ومن ذلك يتحتم على عقلاء الأمة مراجعة ذاتهم، وعدم التهيب من نقد الدخيل على الشرع الحنيف لأجل نيل رضوان الله تعالى والسير الحثيث نحو الرقي بأمة الإسلام.

      يقول العلامة القنوبي مشخصاً هذه المدرسة: (فالعجب كل العجب أن تُجعل فرقة من الناس مقياساً للحق والباطل، وميزاناً للخطأ والصواب، فمن وافقها عدّ متبعاً للسلف الصالح من الصحابة والتابعين، متمسكاً بالكتاب والسنة، مبتعداً عن البدع والأهواء، أهلاً لكل ثناء وخير، منزهاً عن كل خطل ومين، فإن كان من العلماء وصف بأنه شيخ الإسلام وناصر السنة والقائم بالحق؛ دون غيره من الناس، والتمس له كل عذر وإن كان أوهى من نسج العنكبوت، وأخفى من السها، وأبعد من كل بعيد، وكلت العيون عن إبداء معايبه، وخرست الألسن عن ذكر مفاسده، وإن بلغت إلى حد البدعة في الدين، ومخالفة الدليل القطعي من الكتاب المبين، وسنة سيد المرسلين صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وإجماع جميع المسلمين، فلا يمكن أن يقدح فيه قادح بأي حال من الأحوال، ولئن وقع في ورطة وهال أتباعه الأمر فلم يجدوا من الاعتراف مناصاً؛ قالوا: أخطأ وهو في ذلك مجتهد معذور بل مأجور، وإن كان من عوام الناس وأشباههم جاهلاً بشرع الله تعالى عدّ تدينه محموداً، واتخذ قدوة للناس، وكلما أوغل في التشبيه وتسكع في مستنقع التجسيم، وبالغ في تضليل مخالفيه، عدّ من الشداد في السنة، وأصبح تعصبه المقيت وتضليله وتبديعه لمخالفيه انتصاراً للحق، ولئن روى الموضوعات قيل: إنه حدث بها عن حسن ظن وسلامة باطن، أما غيرهم من الناس فهم في قفص الاتهام، بل مجرمون حتى تثبت براءتهم، مبتدعون حتى يصح توحيدهم، مجروحون حتى تتبين عدالتهم، يبحث لهم عن أي زلة حتى يشهر بهم، ويجوز القدح فيهم والهمز واللمز بنية تنفير الناس عن باطلهم، وتحذيرهم من ضلالهم، ولو كان هؤلاء المخالفون من كبار أئمة المؤمنين، والعلماء الراسخين الهادين المهديين، ما داموا يخالفون الفكر الحشوي ولو في حرف واحد) الطوفان؛ج3؛ ص5-6.

      وإلى اللقاء في الحلقة القادمة بإذن الله سبحانه وتعالى.

      خميس بن راشد العـدوي

      29 ذي الحجة 1420هـ

      4 إبـــريـل 2000م









      سلسلة: صمود النص أمام الطوفان الجارف

      الحلقــة الثالثــة

      الإباضيــة والأثريــة

      خميس بن راشد العدوي



      وصلتني من بعض الإخوة الأعزاء استفسارات عن المقصود بـ'صمود النص' هنا، ومنها ما وصلني منهم عن طريق العلامة القنوبي حفظه الله تعالى، وكان بودي من أول الأمر أن أوضح المقصود، ولكن لزمني أولاً الحديث عن المدرسة الأثرية لأنه بها سيتعلق بيان المقصود من هذه العبارة، وسأرجئ الحديث عن ذلك في حلقة قادمة إن شاء الله تعالى، وفي هذه الحلقة سأتحدث عن موقف المدرسة الإباضية من المسلك الأثري.

      بداية لا بد من الاعتراف بأن المدرسة الأثرية كانت قوية جداً من حيث الانتشار لا الدليل، وقد تركت بصماتها على جميع المدارس الأخرى بدون استثناء، وذلك راجع -بتقديرنا- إلى أن المدرسة الأثرية تملك آلة سبك وصناعة النص المنحول، وإدخاله إلى النص النبوي جزءً لا يتجزأ منه لولا تنبه الأمة لذلك؛ ولكن –للأسف- بعد أن نجحت هذه الأثرية في إلصاق نصوصها بالنص الشرعي، وقد اختلفت درجة التأثر بها، فبعض المدارس حذت حذوها في اختراع النص واختلاقه بل وزاحمتها في ذلك وأصبحت أكثر أثرية منها، ومنها من انخدع بالنصوص الواردة من عندها، وهي في ذلك على درجات، وكل هذه المدارس أخذت صف الضد للمدرسة الأثرية، ودخلت معها في عراك حقيقي شديد، وكما قلت في حلقة سابقة؛ حتى المعتزلة قد تأثروا بها في بعض النواحي، مع أن أشد المعارك ضراوة كانت بين هاتين المدرستين، ناهيك عن تأثر بقية المدارس، ويكفي أن ندلل على ذلك بقضية ظهور المهدي المنتظر، حيث وضعت في ذلك أحاديث استغرقت بعد جمعها خمسة مجلدات، أي ما يفوق كثيراً النص الإلهي المنزل وهو القرآن الكريم، ولا يكاد يخلو مذهب إسلامي من التعرض لهذه القضية، ولها عندنا كتابات أخرى إن شاء الله تعالى، ولكن من الجيد أن يرجع فيها إلى كتاب 'معالم للزمن القادم' للأستاذ المفكر خالد بن مبارك الوهيبي، حيث تعرض بإشارات لهذه القضية.

      ونأتي الآن للحديث عن أثر المدرسة الأثرية على الفكر الإباضي، هل يوجد لها أثر في ذلك؟

      من المعلوم أن المذهب الإباضي يعدّ امتداداً طبيعياً للإسلام الرسالي، وتبلور منهجه على أيدي أئمة شهدت لهم الأمة بالنزاهة والصيانة والبعد عن الكذب واعتباره كبيرة من الكبائر، نذكر منهم الإمام جابر بن زيد والإمام أبا عبيدة مسلم بن أبي كريمة والإمام الربيع بن حبيب، وفي ذلك الوقت تقرر لدى علماء المذهب التسليم للنص الشرعي فقط، وحتى يتجنبوا الدس الأثري، قاموا بجمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، متحرين في ذلك الدقة، وكانوا من حيطتهم في ذلك وحذرهم من الدس في حديث رسول الله صلى عليه وسلم؛ يغلقون أبوابهم على الكثيرين من الناس حتى لا تستغل روايتهم في غير محلها ممن همهم إضافة أفكارهم ومعتقداتهم إلى دين الله تعالى، ونافح أهل الحق والاستقامة دون ذلك بأرواحهم وأموالهم وأنفقوا زمنهم المبارك لأجل ذلك.

      ومع كل هذا لم يغلقوا أعينهم من النظر فيما عند غيرهم، وبما أن الأمر المطلوب في قضايا الاجتهاد هو الوصول إلى مراد الشارع الحكيم، وهذا أمر مشاع لكل أحد إذا توفرت لديه شرائط الاجتهاد، وقد يتوصل إلى حقيقة المراد أفراد الناس المجتهدون، لزم النظر فيما عندهم، وأيضاً قد ترد الرواية الحديثية عند غيرهم دون أن ترد عندهم، لم يمنعوا أنفسهم من النظر إلى هذه الروايات ووضعها تحت المحك الشرعي، فما يثبت منها قُبل وإلا ردت على صاحبها، يقول الشيخ القنوبي عن هذه الروايات ومنها مرويات البخاري ومسلم التي تعدّ أصح المرويات عند المدرسة الأثرية: (هذا؛ وقد ألف العلماء في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مؤلفات كثيرة جداً منها الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم والمشيخات والأجزاء والفوائد وغير ذلك، وإن من أصح تلك الكتب كتابي 'الصحيحين' للإمام البخاري محمد بن إسماعيل الجعفي مولاهم البخاري ومسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، وقد اجتهدا ألا يضعا إلا ما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أنهما كغيرهما من سائر البشر معرضان للخطأ والوهم والنسيان إذ لا عصمة لأحد مهما بلغ من سعة الاطلاع وطول الباع ورسوخ القدم في فنون العلم ما لم يكن نبياً مرسلاً، ولذلك أنكر عليهما بعض العلماء من مشايخهما وممن كان في عصرهما وممن جاء بعدهما إلى يومنا هذا) الطوفان؛ ج3؛ ص41-42. بتصرف

      هذا ملخص المنهج الذي سار عليه أصحابنا أهل الحق والاستقامة، إلا أننا لا ننكر من جراء سمة التسامح التي يتميز بها المذهب وبإحسان الظن بالآخرين؛ أن تسربت آراء المدرسة الأثرية إلى بعض أجواء الفكر الإباضي، ولكن كل ذلك كان في بعض الظنيات وليس في شيء من القطعيات؛ ونحن نفرق بين المنهج والفكر، ومن الجيد أن أنقل هنا كلام علامة العصر الخليلي حفظه الله تعالى ورعاه ناعياً فيه على الأثريين من المذهب في معرض النقاش في بعض المسائل كما نقله الشيخ القنوبي: (ولعمري؛ لا أعجب إلا ممن يرضى بتقليد من يخطئ ويصيب ويعروه الذهول والنسيان، ويدع تقليد رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي المحفوف بالعصمة المتوج بوصف وهل عرف الدين إلا به؟ أم[وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى]العلي الأعلى: هل برزت الشريعة إلا من بابه صلوات الله وسلامه عليه؟ وهل يكون غيره وإن امتطى السماء أو ناطح الجوزاء إلا مديناً له ومتعبداً باتباعه؟ إذ لا يمكن أن يهتدي إلا بهديه ولا أن يستضيء إلا بشمسه، فكيف يعارض قوله صلى الله عليه وسلم بقول غيره، أو يناظر عمله بعمل أحد من الناس؟) الطوفان؛ ج3؛ ص41.

      وفي الفترة الأخيرة –كما انساق بعض المتقدمين- شهدنا بعض طلاب العلم ممن اختلط عليهم الأمر وهالهم الزخم الإعلامي والعلمي للمدرسة الأثرية، فانساقوا بدون شعور إلى استعارت المناهج الأثرية، وفي بعض الأحيان عرض إرثهم الحضاري على هذه المناهج بغية البحث عن الشرعية لها، وكأن الشرعية في المدرسة الأثرية في حين أنها في الحقيقة هي التي يجب أن يبحث لها عن شرعية إن وجد لها ذلك.

      ومن هنا ندعو طلاب العلم أن ينظروا في مناهج مدرسة أهل الحق والاستقامة التي لا تقدس الأفراد، وإنما تعترف بالنص الشرعي الثابت وحده بأنه دين الله تعالى وما عداه نقصان في الدين، وعلى حسب تعبير الإمام ابن بركة البهلوي رضي الله عنه: (لا حظ للنظر مع الإجماع والنص) الطوفان؛ ج3؛ ص24 وعليهم أن يُعمِلوا هذه المناهج في استنباط فكرهم وتقديمه للعالم الذي ينتظر الحل الإسلامي، وأقولها حقيقة لا مرية فيها أن روح الإسلام لا توجد متكاملة إلا في هذا المذهب، اللهم لا تعصباً إلا للحق وحده الذي ينجي عند الله تعالى.

      إن من الواجب علينا أن نظهر مكنون الإسلام، وأن نزيل ما علق به من المدرسة الأثرية، وأن ننظر بعين الشرع والعقل في المناهج التي تواضع البشر عليها كعلم الحديث وعلم أصول الفقه وتدوين التأريخ ونحوها، فنرد الأمور إلى نصابها، فما وافق الحق أخذناه وما خالفه رددناه كما قال الإمام أبو نبهان الخروصي رحمه الله تعالى: (إياك أن تلتفت إلى مَن قال، بل إلى ما قال) الطوفان؛ ج3؛ ص34 وأهم المدارس المهيأة لتصحيح الفكر الإسلامي وغربلته من الشوائب هي المدرسة الإباضية، وما على الجيل الناهض إلا أن يتحمل أعباء التغيير العالمي، والمستقبل لهذا الدين بأمر الله تبارك وتعالى.

      وإلى اللقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله سبحانه وتعالى.

      خميس بن راشد العـدوي

      11 محـرم 1421هـ

      16 إبـريـل 2000م








      سلسلة: صمود النص أمام الطوفان الجارف

      الحلقــة الرابعـة

      صمـود النـص

      خميس بن راشد العدوي



      مهما قيل في تعريف الحديث والأثر، إلا أننا نستطيع أن نميز بينها بالآتي؛ الحديث: هو ما أضيف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلقية أو خُلقية.

      والأثر: هو ما أضيف إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم من السلف.

      ولا ريب أن المؤمن متعبد فقط بما أنزل الله تعالى في كتابه وبما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عدا ذلك من كلام البشر فلا يمكن أن يعدّ من الدين، ولنا مزيد بيان عن ذلك في حلقة قادمة إن شاء الله تعالى، ولكن إذا كان قد وصلنا القرآن الكريم بالتواتر، ومن ينكر شيئاً منه يصبح فوراً خارج دائرة الإسلام، فإن هذا لا ينطبق على كل السنة التي وردت إلينا، حيث أصابها ما أصابها من الوضع والدس، إذن؛ فهناك جزء كبير من الأثر قد دخل في دائرة الحديث وأصبح سنة، وهذا الأثر يشمل الدخيل على الفكر الإسلامي كالإسرائيليات ونحوها، وهنا تأتي الخطورة حيث يضاف إلى دين الله ما ليس منه، ويتعبد به الناس على أنه من دينهم، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى إذا ظللنا متمسكين به وأظهر الزمان عواره ومينه وزيفه نكون قد أدخلنا الإسلام في دائرة التشكيك، والعياذ بالله.

      من كل ذلك؛ لا بد لنا أن نكون حازمين في نقد النص الدخيل وإخراجه من إطار النص الإلهي، وعلينا في مقابل ذلك أن لا نبقي قدسية لأي مخلوق غير النبي صلى الله عليه وسلم، حيث لم يعط الله غيره العصمة.

      والأمة الآن تمر بمنعطف مهم جداً –في حلقة قادمة إن شاء الله سوف أتحدث عن بعض هذه المنعطفات- يجب أن يعيه جميع المسلمين، وهو أن أداة التفكير عند عموم الناس قد تطورت تطوراً ملحوظاً حيث لم يعد الإنسان ينقاد لغيره بمجرد الإملاء والتلقين، بل أصبح لديه من الوسائل ما يمكنه من تمييز الصواب من الخطأ وكشف المنحول على الشرع، وأصبحت الكتابات تتوارد في ذلك بحيث تشكل تياراً فكرياً عارماً سيطوح بالمدرسة الأثرية، بل قد يقتلعها من جذورها، ولن تنفعها سعة الانتشار طالما أنها تتشبث بأدلة واهية يردها دين الله تبارك وتعالى، ويرفضها العقل، ويناقضها الواقع، ولن تجدي سياسة أغلق عينيك واتبعني، واختم على عقلك وقلدني، فلا تقليد إلا لصاحب الشرع المصون عليه صلوات ربي وسلامه وبركاته، يقول وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه]تبارك وتعالى: وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى](البقرة170) ويقول سبحانه: [آباءنا وإذا قيل لهم] (المائدة 104) ويقول: [الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا (لقمان 21).[اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا

      وكتاب 'الطوفان الجارف' لفضيلة شيخنا القنوبي حفظه الله تعالى يشكل جزءً من التيار المنقي للنص الشرعي من الدخيل، والمميّز للحديث من الأثر، إلا أن الطوفان الجارف الذي سيكبس على المدرسة الأثرية قوي جداً قد لا يتصوره سدنة هذه المدرسة، ولن ينفعهم وهم ابن سيدنا نوح عليه السلام عندما قال: (سآوي إلى جبل يعصمني) حيث لا عاصم اليوم من أمر الله، وعلى الأثريين أن يلموا خرقهم البالية، أو ليطوعوا أنفسهم لدين الله تعالى الحق دون الركون إلى تخريصات المخرصين، وإضافات الكائدين.

      إذن؛ لن يصمد أمام هذا الطوفان الهائل تلك النصوص الزائفة، ولن يصمد إلا الحقيقة الإلهية المطلقة، لأن هذه الحقيقة وحدها التي تشكل سفينة النجاة البشرية التي صنعها الله تعالى على عينه، وسيحرك هذا الطوفان الراكبين على هذه السفينة إلى بر الأمان والسعادة الدنيوية والفوز الأخروي.

      ومن المهم أن أذكر أن التيار النقدي التمحيصي للرواية الحديثية موجود من القديم ولكن كان تعتريه أشياء؛ منها:-

      1. لم يكن تياراً ظاهراً متميزاً، بل كان مبعثراً هنا وهناك.

      2. لم يستطع الصمود أمام المدرسة الأثرية، وإنما استطاعت هي أن تضمه تحت جناحها الأثري.

      3. غالب هذا التيار النقدي كان رهيناً للانغلاق المذهبي، مما جعل المرء يتوخى الحذر في أخذ هذا النقد.

      4. لم يحمل طابع الاستمرار بل جمد في الفترة الأولى من نشوئه.

      ولذاك جاء كتاب شيخنا القنوبي 'الطوفان الجارف' ليتخطى شيئاً من هذه النواقص، وليكون لبنة صلبة في رجع الناس إلى النص الشرعي، حيث نجده قد عمل على تجميع شذرات النقد في الجزء الثالث من كتابه، وبذلك يعطي لهذا التيار دفعة ناشطة للأمام، مجابهاً بذلك رموز الأثرية الذين أغلقوا أعينهم عن البراهين والأدلة الشرعية الواردة في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، كما أنه وعد بتصنيف كتاب نقدي يبين فيه رأيه في النص المنحول، لا سيما كشف التعارض مع القرآن الكريم والثابت من السنة النبوية على صاحبها أزكى صلاة وأتم تسليم.

      وإلى اللقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله سبحانه وتعالى.

      خميس بن راشد العـدوي

      18 محـرم 1421هـ

      23إبـريـل 2000م









      سلسلة: صمود النص أمام الطوفان الجارف

      الحلقـة الخامسـة

      منعطفـات ظهـور النـص

      خميس بن راشد العدوي



      من المسلمات التي لا يجادل فيها مؤمن أن الله سبحانه وتعالى جعل دينه شاملاً كاملاً لا تفريط فيه ولا نقصان، وهو صالح لكل زمان ومكان، يقول اليوم أكملت] (الأنعام 38) ويقول عز من قائل: [ما فرطنا في الكتاب من شيء]سبحانه: (المائدة 3) إلا أن النص[لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً بعد نزوله مر بمنعطفات خطيرة -في نظري- عملت على تقليص فهم مادته والاستفادة منها، كما أضيف إليه ما يضخمها ويضعف من عملها في نفس الوقت، ولذلك ظهرت الكثير من التناقضات والنواقص في الفقه والفكر، وحتى تتضح الصورة لا بد من استعراض هذه المنعطفات:-

      1. النزول: تعتبر فترة نزول الوحي أنقى عصور البشرية وأزهى أزمنة الأمة، به وحّد الله تعالى المؤمنين، وحفظ الإنسانية من الاندثار بعد أن كانت على شفا جرف هار، وبالوحي المحمدي ختمت الرسالات، وتم للناس دينهم، ولم يصبحوا مطالبين بشيء فوقه ولا معذورين -ما استطاعوا- عن شيء منه، وبه كسبت الأمة العز والتمكين، وطار شأوها في الخافقين، وذلت رؤوس الجبابرة لها، وعز المستضعفون بقوة يدها، وعاش الناس سواسية كأسنان المشط، يُأدَب ظالمهم، ويُنصَر مظلومهم. وفي هذه المرحلة تم تربية المسلمين على كيفية التعامل مع النص حتى غدا سجية من سجاياهم، وإلهاماً بفطرهم، ينقدح انقداحاً في عقولهم، ولم يحتاجوا إلى هيئة كهنوتية يقلدونها في دينهم وهم مغمضو الأعين والبصائر، لا يستطيعون أن ينفكوا عنها كما حدث لاحقاً.

      2. الوضع: بعد اكتمال الوحي، وانتقال صاحبه إلى الرفيق الأعلى عليه صلوات ربي وسلامه، لم تمر فترة طويلة من عمر الزمن حتى بدأ الوضع في الحديث الشريف، مما شكل منعطفاً خطيراً في فقه الأمة وتفكيرها، فلم يعد مستندهما خالصاً كما أنزله الله تعالى، فإن كانت المرحلة الأولى هي مرحلة الازدهار والتألق في الأمة فإن هذه المرحلة هي بداية انحطاط الأمة وتخلفها، وإن تراءى للناظر شيء من التماسك فيها؛ فإنما ذلك من جراء الدفعة العملاقة التي خلفتها المرحلة الأولى.

      ولنا هنا أن نذكر بعضاً من أسباب الوضع:-

      الحزب الأموي: الذي عمل باكراً على الدس وخاصة فيما يتعلق· بالسلطة.

      الدس الإسرائيلي بغية تحريف الدين القويم: وظهر هذا بوضوح· في العقيدة والتفسير والتأريخ.

      الفتنة التي حدثت بين الصحابة: حيث ذهبت شيعة كل فريق· للانتصار لحزبها إلى وضع الأحاديث في ذلك، ونستثني من ذلك المحكمة -أو كما يسميهم خصومهم بالخوارج- وهذا الاستثناء ليس من عندي بل هو واقع الحال وشهادة الأمة واعتراف الخصم، راجع في ذلك كتاب 'رواية الحديث عند الإباضية' للشيخ صالح البوسعيدي.

      وظهر وضع هذه الفرق في أحاديث الخلافة والوصية عليها والمهدي والقحطاني والحميري، وأحاديث الخوارج.

      التعصب المذهبي: وكان أكثر ما يكون في العقيدة كأحاديث· التجسيم والتشبيه والخروج من النار، وكذلك الفقه كأحاديث الرفع والضم في الصلاة.

      3. تدوين الحديث ونقده: عندما شعرت الأمة بالخطر الداهم من وضع الحديث أخذت بتدوين الحديث وانتقاء الصحيح ونقد الزائف منه، وهي خطوة إيجابية من جهة، إلا أنها من جهة أخرى كان لها سلبيات لأسباب ذكرتها في الحلقة الرابعة، من هذه السلبيات أنها أعطت الموضوع الذي لم تكشفه أداة النقد نتيجة قصورها ومذهبيتها وانغلاقها؛ أعطته المصداقية والشرعية والتأكيد، مما حدا بمن جاء بعد ذلك أن يعتبره من دين الله تعالى، ومن يرفضه فهو رافض للسنة النبوية الشريفة، كما رفض أيضاً الصحيح الثابت من السنة الذي لم تمهره مدرسة الحديث والأثر، فهذه المرحلة لها وعليها، ومن هنا يتوجب علينا شرعاً دراسة هذه المرحلة والتبيين للأمة ما أصابت فيه أداة النقد وأخطأت.

      4. المذاهب: تزامن مع المرحلتين السابقتين مرحلة وجود الأئمة المقلَدين، وبذلك استحكمت حلقات المدرسة الأثرية، ودخل النص في منعطف التفسير الأثري أو كما يسميه البعض السلفي، ووجد ما يسمى بمجتهد المذهب الذي يقابل المجتهد المطلق، والحقيقة أن الاجتهاد المذهبي هو الذي اتسعت دائرته؛ وإن ادعي نفيه، وضاقت جداً دائرة الاجتهاد المطلق، وإن ادعي سلوكه، واشتغل بالشروح والاختصارات المذهبية، وظهرت مقولات كفر من يتعامل مباشرة مع النص ويأخذ دون واسطة الأئمة من الكتاب والسنة، وتدرج الفقه والفكر في مدارك التخلف والتأخر، ثم وصلت الأمة بذلك إلى مرحلة إغلاق باب الاجتهاد، وكأن الحياة قد توقفت عند تلك الفترة الزمنية، وأصبح الإسلام بنصوصه الشاملة الكاملة أسير مصطلحات وألفاظ فصلت حسب مذاهب نشأت في القرن الثالث أو الرابع الهجريين، وتشكل العقل المسلم على ذلك، وأصبح من فروض العين التسليم والاستسلام لهذه المذاهب، ومهما نبغ العالم لا يستطيع أن يعدو خارج مضمار مذهبه إلا إن خرج من هذا المذهب ودخل في ذاك، واشتغل الناس بالانتصار للمذاهب، ووضعت أحاديث في سب العلماء المخالفين، وتقطعت الأمة إلى أشلاء ممزعة، وذهب كل فريق بما لديهم فرحين، يحسبون أنفسهم على شيء وما هم على شيء إن هو إلا سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً، وما نراه من سب وشتم مذهبي عبر 'الإنترنت' إلا صدى واضح لهذه المرحلة المذهبية التي لا زالت عقول المذهبيين وأقلامهم تدور حولها، ولكن سواطع الحق قد لمع سناها، وخيوط الفجر قد شقت سمانا، فعلينا أن نستعد للتغيير القادم، وعلينا أن ندرس مناهجنا حتى نقوّمها بميزان الكتاب والسنة الثابتة، ولا يبقى تعصبنا إلا للحق وحده.

      ولا ننسى هنا أن نجيب على السؤال الذي يطرح نفسه، أين المذهب الإباضي من هذه المنعطفات؟. وأقول وقولي عن قناعة علمية: أما المرحلة الأولى مرحلة النزول، فهذه مرحلة مباركة لم يكن الإسلام فيها مذاهب ولا الأمة شيعاً، وما إن جاءت المرحلة اللاحقة ووضع الدس والكذب في الحديث إلا كان الإباضية في منأى عن ذلك، حتى أصبح حديثهم أصح حديث، ورواتهم من أعدل وأضبط الرواة، وكانت سلسلتهم ذهبية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد لهم الدهر بذلك، وقال التأريخ قوله المحكم الذي لا ينسخه تمويه الأثريين، ولذلك لم يتضخم الحديث النبوي عندهم كما تضخم عند غيرهم، حيث لم تتجاوز أحاديث مسند الإمام الربيع بن حبيب 750 حديثاً، وهي شاملة لكل قضايا الإسلام، مما يجعلنا على مقربة من الواقع فيما يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

      ولم يساوموا في جرح الرجال وتعديلهم، فلم يكن للمذهب عندهم أثر طالما اشتهرت عدالة الراوي وضبطه، ولم يسلطوا على خلق الله تعالى سيف مصطلح 'أهل الأهواء والبدع' فقبلوا رواية مخالفيهم عندما يطمئنوا على صدق راويها، ومع كل هذا لم يرفعوا أقوال الرجال فوق منزلة النص، ولم يتبعوا أئمتهم تقليداً بل اتبعوهم تقييداً، ولذلك اعتبروا أقوال الإمام جابر بن زيد وأبي عبيدة والربيع كأقوال غيرهم يأخذ منها ويرد، وكانوا ينظرون إلى ما عند غيرهم نظرة مقارنة، ولذلك تميزوا من السابق بالفقه المقارن على مستوى الفكر الإسلامي دون سائر المذاهب.

      ولم يعرفوا الفئة الكهنوتية التي يقلد فيها إمام بعينه، بحيث يصبح لا يجوز الخروج على تقريراته، ولذلك لم يتحجر الفقه عندهم بحيث يصل إلى إغلاق باب الاجتهاد، فلم نعرف أحداً في المذهب دعا إلى إغلاقه كما حدث في المدرسة الأثرية، وظلوا محافظين على صلتهم المباشرة بالنص الشرعي، وعلى حد تعبير المستشار عبد الجواد ياسين عندما وصف نقاء القيم عند سلف الإباضية: (أما نحن فبمقدورنا أن نفسر هذا النقاء بأنه ضرب من الصلة المباشرة بالنص بغير وصاية مرجعية وسيطة) السلطة في الإسلام؛ ص82-83.

      إلى اللقاء في حلقة قادمة بلإذن الله تعالى.

      خميس بن راشد العدوي

      27 محـرم 1421هـ

      2 مايـــو 2000م











      سلسلة: صمود النص أمام الطوفان الجارف

      الحلقــة السادســة

      منعطـف نقـد التفكـيـر

      خميس بن راشد العدوي



      جاء العصر الحديث وأحدث نقلة نوعية في البشرية على جميع المستويات، وأساسها التغير في التفكير الإنساني، ونرى كثيراً من المحللين لهذه الظاهرة يذهبون مذهباً خاطئاً، حيث يعتبرون هذه الفترة قد أضعفت الدين في نفوس الناس وهيمنته على أعمالهم، وأرى عكس ذلك، أرى أن قوة الدين زادت وشوكته قويت، ودليل ذلك بروز الأصولية الدينية بشكل عاصف وصلت إلى حد الهيجان، وهذه ظاهرة عالمية لم يختص بها دين عن سائر الأديان، لا يقال: بأن الإنسانية قبل ذلك كانت مسحوقة تحت وطأة الدين والآن تحررت منه، لأننا نفرق بين خضوع الإنسان له رهبة، وهو ما كان قائماً، وخضوعه له قناعة وهو ما كائن الآن، وهذا بغض النظر عن سلامة الدين ونصوصه، وكان الناس أيضاً مقهورين بسلطان الخرافات -والخرافات نقيضة الدين وعدوه اللدود- وقد تحررت البشرية من الكثير منها، ولا يقال أيضاً: إن البشرية الآن أكثر تفسخاً من ذي قبل؛ وهو صحيح بلا ريب، لكن هذا التفسخ ليس راجعاً إلى ضعف الدين في النفوس، بل هو راجع إلى منبع الدين نفسه كأديان الشرق الوضعية، أو إلى التحريف في نصوصه كاليهودية والنصرانية، أو إلى الإضافة إلى النص كالوضع في السنة النبوية الشريفة.

      ولنأخذ على ذلك مثالاً من الواقع الإسلامي، فبسبب عقيدة الإرجاء والخروج من النار والشفاعة للعاصين غير التائبين؛ وهي عقيدة يهودية دخيلة على الإسلام، بسبب ذلك وجد الانسلاخ عن أحكام الدين وبالتالي وجد التفسخ، لأن الإنسان عندما يجد دينه يرخي له العنان في هذا الأمر؛ فما الذي يلزمه به؟!.

      هذا؛ وفي ظل التغير العالمي في نظرته للدين مما أدى إلى انبعاث الأصولية، وبالتقريب في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري، كان في العالم الإسلامي مخاض انبعاث وتغيير، ولد من رحمه جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وبوجودهما وجد منعطف نقدي في التفكير الإسلامي، يشكل تهديداً للمدرسة الأثرية عرف هذا المنعطف 'بالمدرسة الإصلاحية'.

      جاء الأفغاني ومحمد عبده؛ والعالم الإسلامي في حضيض انحطاطه السياسي يرسف تحت وطأة الآلة العسكرية الغربية، ولم يكن هذا بسبب التقدم الغربي فقط بل سبقه بكثير التخلف الفكري عند المسلمين، نتيجة الاستبداد والخرافات وجمود العلماء ومسلماتهم بالدخيل على فكرهم، وجد الأفغاني ومعه محمد عبده هذا الحال المزري بالأمة وموروثها الفكري، فعملا جادين على إقالتها من عثرتها، وكان لا بد أن يكونا جريئين في نقد هذا الموروث وانتزاع النص الخالص منه –حسب منهجهما الذي نبينه لاحقاً- وعرض هذا النص بثوبه البراق القشيب، فكونا بذلك تياراً فكرياً أنقذ الأمة من خط الانحدار المستمر. في هذا التيار؛ يشكل جمال الدين الأفغاني جناحه السياسي، الذي نظر إليه محمد عبده نظرة فاحصة فوجده لا يحقق المطلوب إلا إذا كان له قاعدة فكرية رصينة، فاتجه إلى ذلك؛ فشكل ما يمكن تسميته بالجناح الفكري، وكان مقداماً في نقده وشجاعاً في تأسيسه لمنهجه، بقدر ذلك الإقدام وتلك الشجاعة ترك أثره البالغ على الأمة، رغم وقوف التيار التقليدي للمدرسة الأثرية بكل ما أوتي من قوة ضده، ولا زالت هذه المدرسة إلى الآن تقف بكل عنفها محاولة طمس آثاره، انظر على سبيل المثال كتابات ربيع بن هادي المدخلي وجبهته الأثرية يتبين لك ذلك بوضوح.

      لا ريب؛ كان لهذا المنعطف النقدي الفكري بصماته التي وضحت في شتى مناحي الحياة الإسلامية، سواء في الكتابات أو الحركات الإسلامية أو الدعوة بشكل عام، والأهم من ذلك وجد في الأمة منهج نقدي بعد أن كان ذلك ضرباً من الزيغ عن الدين.

      رغم هذا العطاء الكبير الذي أوجده هذا التيار، إلا أنه وقع في أخطاء منهجية وشكلية، ليس محل ذكرها الآن، ولكن نحيل القارئ إلى 'جواهر التفسير' لسماحة شيخنا العلامة الخليلي حفظه الله تعالى وأمد في عمره، ولكن لا يمنع أن نذكر سبب هذه الأخطاء، سببها أن الشيخين رأس هذا المنعطف انطلاقاً من التركيز على نهضة الأمة بشكل أساسي، وتبعه النظر في النصوص، وبمعنى آخر، كان محمد عبده وهو ينظر في النصوص، يتمثل له بين ناظريه واقع الأمة السيئ، فيرفض الأفكار التي تعوق نهضة الأمة وتحول عن تقدمها، سواء كانت هذه الأفكار تأويلات زائغة للكتاب العزيز أو أحاديث يراها مدسوسة وموضوعة، ولذلك وقع في تفسيره الجليل للقرآن الكريم كما يرويه عنه تلميذه السيد رشيد رضا في 'المنار'، وقع في أغلاط لا تقبل منه، وبمعنى ثالث جعل نقد النص صدى لمتطلبات واقع الأمة، وهذا أمر يحتاج إلى نظر دقيق، لكن يجب أن لا يتخذ تكأة لرفض كل قضايا هذا التيار وهو ما تراهن به المدرسة الأثرية.

      هذا؛ ورغم جدية المدرسة الإصلاحية ورسوخ قدمها في العلم، وتأثر من جاء بعدها بها من مختلف المدارس الإسلامية وفي شتى الميادين، إلا أنه لم يكتب لها البقاء والاستمرار، فالتأثر بها شيء؛ واستمرارها شيء آخر، وانقطاعها –في رأيي- يعود إلى الزخم الهائل الذي جابهت به المدرسة الأثرية مدرسة الإصلاح، حيث هاجمتها بشتى الوسائل والطرائق حتى وصفت عَلَميها بأنهم من الزنادقة الماسونيين الذين يكيدون للدين من داخله، واستخدمت أخطاءهم معولاً لهدم بنيانها، وهذا الأمر قائم منذ نشوئها وإلى الآن، هذا من جهة الهجوم، ومن جهة أخرى استطاعت أعاصير المدرسة الأثرية أن تعصف بالمريد الأول لشيخ الإصلاح محمد عبده ووريثه العلمي وهو السيد محمد رشيد رضا، فأصبح رجلاً يدور حول رحى الأثرية، وهو وإن لم يتنكر للإصلاح تنكراً تاماً بل نقل علم شيخه وقد يوافقه في كثير من آرائه، إلا أنه عنده توقفت عجلت مدرسة جمال الدين ومحمد عبده نتيجة جنوحه إلى التيار الأثري التقليدي في التعامل مع النص، وبذلك حققت المدرسة الأثرية لها بضغطها الشديد في الساحة الإسلامية نصراً آخر في العصر الحديث لكنه وللأسف الشديد تأخر في رقي الأمة، وإخلاد للموروث الذي خالط الدين سواء في تأويلاته لنصوص القرآن الكريم، أو بإضافته نصوصاً جديدة للسنة النبوية، ولا ننسى بروز الأصولية كتيار عالمي كاسح يعنى بإظهار الموروثات، رافضاً إعادة النظر فيها، ومتصلباً أمام نقدها، لأن النقد يعني له الحذف والإبعاد والإقصاء والإلغاء، فتأثر المدارس الإسلامية –ومنها الأثرية- بهذا الخط الأصولي العالمي كان له أثر أيضاً في عدم استمرار المدرسة الإصلاحية، وبذلك انكسر منعطف نقد التفكير، ولكن لا يمكن التنكر للأثر الذي أبقاه من بعده.

      في الحلقة السابقة أبنت عن موقف المذهب الإباضي من المنعطفات التي ذكرتها، فما موقفه من هذا المنعطف؟.

      إذا نظرنا إليه من زاوية التجديد الإسلامي والتحرر المذهبي، ومحاولة الاقتراب من النص الخالص وإزالة التأويلات المتعسفة التي ألصقتها المدرسة الأثرية بالنص، وكذلك العمل على رجع الأمة إلى سالف مجدها والتمكين لها بالعزة والسؤدد والأخذ بها نحو الرقي الحضاري، فهذا يعتبر الحق الذي لا ريب فيه، ولذلك وجد صداه عند علماء المذهب المعاصرين لمدرسة الإصلاح، فها هو قطب الإباضية في زمانه نور الدين السالمي يصف الأستاذ محمد عبده (بمفتي مصر الراجع إلى مذهب الحق) جوابات الإمام السالمي؛ ج2؛ ص336 ولم يقف أمامه موقف الأثريين الذين هالهم الأمر وظنوا أن الدائرة قد دارت عليهم، ويلخص سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي رؤية علماء المذهب في ذلك بقوله: (وقد امتد شعاع هذه المدرسة إلى آفاق واسعة في الأرض فتأثر الكثير من العلماء العاملين بمنهجها الإصلاحي، يبدو أثر ذلك في دروسهم وتآليفهم، ومن علماء التفسير الذين نهجوا هذا المنهج الشيخ الإمام إبراهيم بن عمر بَيُّوض الذي ظل يفسر القرآن الكريم لأكثر من نصف قرن في مسجد 'القرارة' في 'وادي ميزاب' بالقطر الجزائري حتى اختتمه قبيل وفاته، وإذا كان الاعتراف بالفضل لأهله فضيلة بفضل السبق في معالجة المشاكل المعاصرة على ضوء القرآن والوقوف في وجه التيارات الفكرية الوافدة من الغرب وتفنيد مزاعم المستشرقين وتلامذتهم ضد الإسلام، ومكافحة الخرافات والأوهام التي سيطرت على عقول المسلمين آنذاك… ومن هنا كان ثناء أقطاب العلماء على هذه المدرسة ومسلكها في التفسير، ومن هؤلاء قطب الأئمة الذي نقل عنه تلميذه العلامة أبو إسحاق أطفيش رحمهما الله في مجلة 'المنهاج' إعجابه البالغ بتفسير 'المنار'، ونجد إمام المسلمين العلامة محمد بن عبدالله الخليلي رحمه الله يثني على كتاب 'الوحي المحمدي' للسيد محمد رشيد رضا في رسالته التي وجهها إليه) جواهر التفسير؛ ج1؛ ص29 ومع هذا التأييد الإباضي للخطوة الجريئة التي قامت بها هذه المدرسة، إلا أنهم لم يمنعهم من مناقشتها في أخطائها، وأنا هنا لا أريد أن أطيل عليكم في نقد هذه المدرسة، وإنما أختم كلامي بعبارة موجزة في ذلك من كلام شيخنا الخليلي حفظه الله تعالى: (وإذا كنا في ثنائنا على المدرسة الإصلاحية متأثرين بالواقع ولسنا مندفعين عن العواطف، فإن ذلك لا يمنعنا من أن ننبه على بعض سلبياتها، فإن نشأة هذه المدرسة في ظرف حرج ومرحلة دقيقة) جواهر التفسير؛ ج1؛ ص29 ومن أراد المزيد فليرجع كما قلتُ إلى 'جواهر التفسير'.

      وإلى اللقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله سبحانه وتعالى.

      خميس بن راشد العدوي

      17 صفـر 1421هـ

      21 مـأيـو 2000م
      كـــــــــــــــــــــــــــــــن مــ الله ــع ولا تبــــــــالي
      :):)
    • [COLOR='4B0082']ش[/COLOR][COLOR='47087A']ك[/COLOR][COLOR='420F72']ر[/COLOR][COLOR='3E176B']ا[/COLOR][COLOR='391F63']ً[/COLOR][COLOR='35265B'] [/COLOR][COLOR='302E53']ل[/COLOR][COLOR='2C354C']ك[/COLOR][COLOR='273D44'] [/COLOR][COLOR='23453C']أ[/COLOR][COLOR='1E4C34']خ[/COLOR][COLOR='1A542D']ي[/COLOR][COLOR='155C25'] [/COLOR][COLOR='11631D']ا[/COLOR][COLOR='0C6B15']ل[/COLOR][COLOR='08730E']ط[/COLOR][COLOR='037A06']و[/COLOR][COLOR='048001']ف[/COLOR][COLOR='137E05']ا[/COLOR][COLOR='227C0A']ن[/COLOR][COLOR='317A0E'] [/COLOR][COLOR='417912']ع[/COLOR][COLOR='507716']ل[/COLOR][COLOR='5F751A']ى[/COLOR][COLOR='6E731F'] [/COLOR][COLOR='7E7223']ا[/COLOR][COLOR='8D7027']ل[/COLOR][COLOR='9C6E2B']د[/COLOR][COLOR='AB6D30']خ[/COLOR][COLOR='BA6B34']و[/COLOR][COLOR='CA6938']ل[/COLOR][COLOR='D9673C'] [/COLOR][COLOR='E86641']و[/COLOR][COLOR='F76445']أ[/COLOR][COLOR='FC6045']ت[/COLOR][COLOR='F55A41']م[/COLOR][COLOR='EE543C']ن[/COLOR][COLOR='E74E38']ى[/COLOR][COLOR='E04834'] [/COLOR][COLOR='D94230']أ[/COLOR][COLOR='D23D2B']ن[/COLOR][COLOR='CB3727'] [/COLOR][COLOR='C43123']ت[/COLOR][COLOR='BD2B1F']ك[/COLOR][COLOR='B6251A']و[/COLOR][COLOR='AF1F16']ن[/COLOR][COLOR='A81912'] [/COLOR][COLOR='A2130E']ا[/COLOR][COLOR='9B0D0A']ل[/COLOR][COLOR='940705']خ[/COLOR][COLOR='8D0101']ط[/COLOR][COLOR='880006']و[/COLOR][COLOR='84000E']ا[/COLOR][COLOR='800015']ت[/COLOR][COLOR='7D001D'] [/COLOR][COLOR='790025']ك[/COLOR][COLOR='75002D']م[/COLOR][COLOR='710034']ا[/COLOR][COLOR='6D003C'] [/COLOR][COLOR='6A0044']ق[/COLOR][COLOR='66004C']ل[/COLOR][COLOR='620053']ت[/COLOR][COLOR='5E005B'] [/COLOR][COLOR='5A0063']د[/COLOR][COLOR='56006B']و[/COLOR][COLOR='530072']م[/COLOR][COLOR='4F007A']ا[/COLOR][COLOR='4B0082']ً[/COLOR]
      كـــــــــــــــــــــــــــــــن مــ الله ــع ولا تبــــــــالي
      :):)
    • في ذكر مولد الرسول e

      محاضرة لسماحة الشيخ العلامة أحمد بن حمد الخليلي



      بسم الله الرحمن الرحيم
      الحمد لله الذي أكرم أمة الإسلام بمسك الختام وبدر المتام سيدنا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأثني عليه وأستغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه وأومن به وأتوكل عليه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله اصطفاه الله من بين خلقه لإنقاذ الخلق بتبصيرهم مسالك الحق صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:

      إن العالم الإسلامي اليوم تجلله ذكرى غالية عزيزة على نفس كل مؤمن فتغشاها بالرجاء الذي يحطم منها اليأس وتشرق عليها بالنور الذي يبدد الظلام وتضفي عليها ما هي بحاجة إليه من أمل الانتعاش من كبوتها والنهوض من عثرتها وهي ذكرى ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حطم عن رقاب هذه الأمة الأغلال التي كانت على الأمم علي من قبل ورفع الأصار بإذن الله سبحانه وتعالى فكانت السماحة شعار شريعتها الغراء وأورثها الله سبحانه وتعالى بدعوته عليه أفضل الصلاة والسلام مواريث النبوات من قبل، كيف وتلكم النبوات كانت تمهيدا لهذه النبوة كما يؤذن بذلك القرآن الكريم إذ أخذ الله سبحانه وتعالى الميثاق على جميع النبيين أن يؤمنوا بهذا النبي العظيم صلوات الله وسلامه عليه وليس هذا الميثاق في حقيقته إلا الرسالة الجامعة وتجتمع تحت لوائها إمتثالا لأمر الله فالله سبحانه وتعالى يقول:] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ[ وقد بين سبحانه وتعالى أن دعوات المرسلين من قبل كانت مبشرة بهذه الرسالة وبرسولها العظيم صلوات الله وسلامه عليه فالله سبحانه وتعالى يقول:] الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ[ فإذا تلك الرسالات كانت تمهيدا لهذه الرسالة فهي بأسرها داعية إلى توحيد الله سبحانه وتعالى الذي تدعو إليه الرسالة وكذلك هي داعية إلى مكارم الأخلاق، ولئن كانت شرائعها مختلفة باختلاف البيئات والظروف فإن محاسن تلك الشرائع بأسرها قد اجتمعت في هذه الشريعة التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسالته عليه أفضل الصلاة والسلام كانت إيذانا بحياة تحياها هذه الأمة بعد موتها فإن الله سبحانه وتعالى يقول:] أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا[ فالانسانية كانت ميته بسبب عماها عن الحق وانغماس الحقيقة في قرارة نفسها إذا لم تكن تدري ما هذه الحياه وإنما كانت أمامها لغزا من الألغاز حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الرسالة الجامعة المانعة التي كشفت اللبس وحلت اللغز وبعثت في هذه النفوس الحياة فميلاده صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن ميلاد فرد وإنما كان ميلاد أمة هي خير أمة أخرجت للناس بنص القرآن الكريم ولما أن السلف الصالح كانوا على مقربة من هذا الحدث التاريخي العظيم وكانوا على إلمام بسيرته صلى الله عليه وسلم ومعطياتها الجمة كانوا دائما على صلة به صلى الله عليه وسلم وبشريعته الغراء وبدعوته الجامعة وبمعجزته الساطعة وببراهينه القاطعة فلذلك كانت نفوسهم حية باستمرار ولم يكونوا بحاجة إلى أن تجدد لهم ذكرى هذا الحدث العظيم حتى تتجدد في نفوسهم الصلة به صلى الله عليه وسلم لأن نفوسهم كانت موصولة به عليه أفضل الصلاة والسلام بإستمرار فهكذا كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهكذا كان التابعون لهم بإحسان وبسبب بعد العهد أصبحت العواطف بحاجة إلى ما يحركها وأصبحت هذه النفوس في ظلمات هي بحاجة إلى ما يبددها من اشراق نور يسطع من مشرق سيرته صلى الله عليه وسلم، فلذلك كان الناس يجسدون هذا الولاء له صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الاحتفالات ولكن ذلك لا يكفي لأن يكون معبرا عن الحب الصادق له صلى الله عليه وسلم، إذ المحبة الصادقة تقتضي أن يفني الإنسان هواه في هوى من يحب وأن يحرص على التأسي به كما هو معلوم للناس فإن الناس من عادتهم عندما يحبون أحدا من العظماء كثيرا ما يتأسون به ويجسدون معالم سيرته في سلوكهم وفي أقوالهم ونحن لا يمكننا أن نجد سيرة رجل عبر التاريخ البشري منذ خلق الله آدم وإلى أن يرث الله هذا الكون بأسره كسيرة الرسول e في عطائها المدرار وفي أنوارها اللامعة وفي استقامتها على الفطرة لأن شخصية الرسول e اصطفاها الله سبحانه وتعالى لحمل أمانة في رحمة للإنسانية بأسرها كما يعبر عن ذلك القرآن عندما يقول الله عز وجل:] وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[ فإذا علينا أن نستلهم جميع شئون حياتنا من هذه السيرة وأن نحرص على أن نقتفي أثره e وذلك من معالم الإيمان بالله واليوم الآخر فإن الله عز وجل يقول] لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً[ على أنه من المعلوم بأن كلا منا مطالب بأن يطبق القرآن الكريم والقرآن الكريم كانت سوره حية تتجلى في سلوكه e كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عندما سئلت عن خلقه عليه أفضل الصلاة والسلام فقالت:' كان خلقه القرآن' فإذا علينا أن نتخلق بهذا الخلق العظيم e وأن نحرص بأن نلم بما يمكننا أن نلم به من جزئيات سيرته e فضلا عن كلياتها وعلينا بجانب ذلك أن ندرك الأمانة الكبيرة الملقاه على عواتقنا وهي أمانة النهوض بهذه الأمة أمته e من كبوتها وهذا النهوض لا يمكن أبدا إلا الله بإقامتها على الطريقة السواء التي كان عليها e وكان عليها السلف الصالح من الصحابة والتابعين فإن الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم بالنظر إلى الأمم التي كانت تكتنفهم كانوا قلة ولكن مع ذلك كله استطاعوا بما أتاهم الله سبحانه وتعالى من قوة الإيمان والهمم المتوقدة بين جوانحهم والعزائم الحية التي كانت تملأ نفوسهم استطاعوا أن يكتسحوا كل مد للجاهلية وأن يقفوا أمام كل تحد من قبل أعداء الإسلام حتى وصلوا بهذه الدعوة إلى حيث وصلوا من مشارق الأرض ومغاربها فدانت لهم رقاب الجبارين وأنزل الله سبحانه وتعالى أولئك المتألهين من عليائهم وسخر رقابهم لهم فأنفذوا فيهم حكم الله سبحانه وتعالى وأذاقوا الإنسانية البائسة المحرومة طعم العدل والمساواة والانصاف فعرفت الانسانية قيمتها وأدركت مكانتها في هذا الكون والعالم اليوم بأسره من أقصاه إلى أقصاه هو بحاجة إلى هذه النهضة التي لا يمكنه أن تكون في العالم إلا بعد ما تكون في هذه الأمة، والأمة اليوم لم تؤت من قلة فإن كثرتها كاثرة ولكن مع ذلك ما هي إلا غثاء كغثاء السيل، صدق عليها وصف الرسول e عندما قال عليه أفضل الصلاة والسلام:' يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها قالوا: ومن قلة يا رسول الله، قال: لا إنكم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم وليقذفن الوهن في صدوركم، قيل له وما الوهن يا رسول الله قال: حب الدنيا وكراهة الموت' فالوهن الذي أصاب هذه الأمة ما جاء من هذه الناحية أصبحت الأمة ضعيفة ذليلة تنقاد للأمم وتملي عليها أراده غيرها من الأمم مع أنها أمة يجب عليها أن تملي إرادتها على غيرها من الأمم كما يقول أحد المفكرين الإسلاميين في وصف المسلم الحق: ( إن المسلم لم يخلق ليندفع مع التيار ويساير الركن البشري حيث اتجه وسار، ولكنه خلق ليوجه العالم والمجتمع والمدينة ويفرض على البشرية اتجاهه ويملي عليها ارادته لأنه صاحب الرسالة وصاحب الحق اليقين. ولأنه مسئول عن هذا العالم وسيره فليس مقامه مقام تقليد والاتباع أن مقامه مقام الإمامة والقيادة مقام الارشاد والتوجيه مقام الأمر والنهي وإذا تنكر له الزمان، وعصاه المجتمع وتنكب عن الجاده لم يكن له أن يضع أوزاره ويسالم الدهر بل عليه أن يثورعليه وينازله ويضل في صراع معه وعراك حتى يقضي الله في أمره. إن الخضوع والاستكانة للأحوال القاسرة والأوضاع القاهرة والاعتذار بالقضاء الله والقدر من شأن الضعفاء والاقزام، أما المؤمن القوي فهو نفسه قضاء الله الغالب وقدره الذي لا يرد. بمثل هذه الفكرة يمكن لهذه الأمة أن تستعيد مكانتها فقبل كل شيء يجب على هذه الأمة أن تدرك أنها أمة قيادية عليها أن تتبوأ مكان الصدارة بين الأمم وأن تمسك بزمام قافلة البشرية لتسير بها في الطريق الصحيح ، الطريق الذي يؤدي إلى السلامة في هذه الحياة الدنيا وإلى السعادة في الدار العقبى وعليها أن تدرك أنها لا تملك أن تصلح حال غيرها مع الحاجة الملحة إليها من قبل الأمم جميعا إلى ما في هذه الأمة من خير وإلى ما في دينها من عطاء مدرار لا يمكنها أن تصلح حال غيرها إلا عندما تصلح حال نفسها. فعليها قبل كل شيء أن ترجع إلى المنهج المستقيم عقيدة وشريعة وسلوكا وخلقا وعندئذ تتبوأ مكان الصدارة بين الأمم فإن ثراء هذه الأمة ليست في ارصدتها المالية ولا في قواها العسكرية ولا في مكانتها التقنية ولا في أي شيء نحو هذا القبيل مع أنها مطالبة بأن تكون في ذلك كله في مقدمة الأمم وإنما ثروتها قبل كل شيء في عقيدتها وفي استقامة سلوكها وفي حسن أخلاقها عندما تكون بهذه الطريقة السواء تتهيأ الظروف لأن تتبوأ المكانة اللائقة بها بين الأمم وتتهيأ الظروف لأن تستعيد قوتها سواء من حيث القوى العملية أو الامكان التقني أو الارصدة المالية فإن الله سبحانه وتعالى سيسخر لها مواريث الخير كله باستمساكها بهذا الحبل المتين. وعندما تكون معوجة عن اتباع هذا الصراط المستقيم وتكون معوجة في سلوكها، تكون بذلك قد ظلمت نفسها وظلمت الأمم التي تتطلع اليوم إلى ما عندها من العطاء العظيم فإن الإنسانية اليوم هي بأسرها بحاجة إلى هذا العطاء الذي عند هذه الأمة، هي بحاجة إلى منهج قرآني، ولكن لا يعني ذلك أن يبقى القرآن في الرفوف وأن يبقى محفوظا في الصدور وأن يتلى بالأنغام الشجية في افتتاح المؤتمرات والندوات واللقاءات والمحاضرات مع ترك العمل به وإنما يجب أن يتجسد هذا القرآن في كل جزئية من جزئيات حياة هذه الأمة فعلينا أن نضع القرآن العظيم نصب أعيننا نجمع به شأننا ونرص به صفنا ونرأب به صدعنا ونوحد كلمتنا عندئذ نكون بمشيئة الله سبحانه وتعالى أهلا للقيادة والزعامة ما بين الأمم بأسرها ولا أريد أن أكرر ما قلته في أكثر من لقاء من أن الإنسانية بحاجة إلى ما عند هذه الأمة من هذا الرصيد العظيم فشواهد ذلك كثيرة جدا، ومن الشواهد ما ربما قرأتموه في الأيام القريبة الماضية من تصريح ' كاسترو' الذي يعتبر الشيوعي الردكالي في العالم والذي تحدى الإرادة الغربية في عقر دارها وفرض الشيوعية حيث فرضها التصريح الذي أدلى به، والذي يقول فيه بأنه لم يبق الآن مخلص لهذه الإنسانية إلا في النموذج القرآني وتطبيق هذا النموذج فإذا علينا نحن أن نكيف حياتنا وفق تعاليم القرآن وأن ننهض بهذه الأمة بهذه التعاليم القرآنية لتكون أمة قائدة ورائدة ولتنال الإنسانية من هذا الخير العظيم الذي تتطلع إليه بعدهما حرمته في ظل الأنظمة الجائرة والمسالك الملتوية. فإن الأنظمة البشرية ما عادت عليها إلا بالوبال وهذا أمر معروف فالإنسانية عانت ما عانت بعد الثورة الصناعية الكبرى من الظلم الرأسمالي ثم بعد ذلك رجت أن تجد لها مخلصا في الأنظمة الاشتراكية وإذا بها تتجرع الغصص وتكابد الويلات وتصلى جحيما لا يرحم إلى أن كفرت بما كانت آمنت به من قبل وعادت أدراجها فيما هو مصدر البلاء وهذه الأمور يصرح بها كثير من القادة الذي خبروا أحوال الناس فقبل فترة من الزمن صرح ' جورباتشوف' الذي هو آخر زعيم لأكبر اتحاد شيوعي صرح لقناة تلفزيونية بريطانية بأن الشيوعية ميته عندما سئل عن الصين وفيتنام هل يمكن أن تبقى فيهما الشيوعية قال: كلا لأنها ميتة والميت لا يمكن أن يبقى فسئل عن البديل فقال: لا أعتقد أن البديل يكمن في الرأسمالية ولا في الإشتراكية ولا في الديموقراطية وإنما هو في نظام آخر فعلينا أن نتكيف وفق حضارة جديدة وأين هذا النظام إلا النظام الإسلامي فلإن كان هنالك من الناس من يقول بأن الحضارة الكونفوشوسية يمكنها أن تعود ويمكنها أن تقود هذا العالم فإن ذلك وهم من الأوهام إذ تلك الحضارة حضارة مادية بحته والإنسان كما هو معلوم جسم وروح ولابد من التنسيق بين أشواق الروح ومتطلبات الجسم لابد من النهوض بكل جانب من الجوانب الروحية والجوانب الجسمية في حياة الإنسان حتى يكون هذا الإنسان سعيدا لعدم وجود التناقضات والمفارقات بين أحواله الروحية والتطلعات النفسية وبين المطالب الجسمية وهذا لا يتم أبدا إلا في إطار الإسلام دين الله تعالى الحق الذي هو رحمة للعالمين. وقد جاء 'كاسترو' بعد بضع سنوات من تصريح ' جور باتشوف' ليضع النقاط على الحروف وليس هذا الكلام الذي نقوله مما يقال عند قادة المعسكر الشرقي كما اصطلح على تسميتهم فحسب بل الغربيون الآن بأنفسهم أيضا يعبرون عن الخواء الروحي الذي يعانون منه وعن الفراغ الفكري وعن انحسار الأخلاق عندهم فهنالك من أسلم من الغربيين وتحدث عن واقع الانسانية وحاجتها إلى الإسلام ومن بين هؤلاء أحد الناس الذين تبوءوا في السابق مكانة في سدة السياسة الأمريكية كالرجل الذي كان كبير المستشارين في عهد الرئيس نيكسون السياسة الأمريكية الخارجية في البيت الأبيض وهو الذي كان يسمى بـ ' روبر كرين' ثم بعد ذلك أسلم وصار أسمه فاروق عبد الحق فقد ألقى محاضرة قبل نحو ثلاث سنوات بعنوان ' القيادة الإسلامية في القرن الحادي والعشرين' ووضع النقاط على الحروف في هذه المحاضرة ونقل برجنسكسي، وأنتم تعلمون أن برجنسكسي هو الرجل الذي يعتبر صانع السياسة الأمريكية الجديدة وكان مستشارا للرئيس ' كارتر' للأمن القومي ويذكر بأنه كتب مقالا نشرته إحدى الصحف السيارة في الولايات المتحدة الأمريكية جاء في هذا المقال ما يدل على أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد صالحة لأن تسد فراغا اخلاقيا للعالم بل جاء في هذا المقال( أن الشعب الذي انغمس في الملذات والشهوات لم يعد صالحا لأن تسد فراغا أخلاقيا للعالم. ولأن كان كلام برجنسكسي جاء بطريقة اجمالية بحيث لم يبين ما تتطلع إليه الأمة الأمريكية من الحل فقد أفصح عن هذا الأمر من قدم لهذا المقال وهو الصحفي المشهور ' ترات كرولس' إذ بين أن الاسلام بعطائه الواسع وروحانيته المشرقة وشموليته الواسعة هو الحل الوحيد للولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من العالم وهذا يتطلب من الأمة الإسلامية أن تستمسك أولا بهذا الاسلام وأن لا تفرط فيه ويجب عليها أن تعتمد على هذا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأن تدرك أن فيه شفاء علتها وحل مشكلاتها وتبصير عماها وهو مصدر عزتها وسبب قوتها فاسبحانه وتعالى يقول] وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ[ ويقول عز من قائل ]إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً[ والنبي e يبين لهذه الأمة أن القرآن هو المخلص لها عند كل مشكلة وعند كل شدة إذ يقول عليه أفضل الصلاة والسلام:' ستكون من بعدي فتن كقطع الليل المظلم فقيل له وما المخلص منها يا رسول الله e قال: كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحد ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قسمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وحبل الله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم والصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تتشعب معه الآراء ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد وهو الذي لم تنتهي الجن أن سمعته أن قالوا:' إنا سمعنا قرآنا عجبا من قال قوله صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن اعتصم به فقد هدى إلى صراط مستقيم' وتأتي السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام في المركز الثاني بعد القرآن الكريم وهي كما يقال حسب عرف هذا العصر ' المذكرة التفسيرية' لما في كتاب الله سبحانه وتعالى لأن الله سبحانه وتعالى يقول] وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ[ فاذن اتباع الكتاب والسنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام مصدر كل خير لهذه الأمة وأنتم ترون أن الله سبحانه وتعالى عندما بشر هذه الأمة بالاستخلاف والتمكين في الأرض أمرها قبل كل شيء بطاعة الله سبحانه وتعالى وطاعة رسوله e ثم اتبع ذلك مرة أخرى الأمر بطاعة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام بعد الأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وذلك عندما قال سبحانه وتعالى ] قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ[ ثم ابتع ذلك قوله ] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[ وجاء بعد ذلك قوله سبحانه وتعالى ]وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[ فإذا طاعة الله وطاعة الرسول e جاءت مكتنفة لهذه البشارة الربانية لهذه الأمة بأن تمكن في الأرض وتستخلف فيها ويمكن لها دينها الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى لها وما ذلك إلا لأن طاعة الله سبحانه وتعالى وطاعة رسول e سبب لهذا التمكين والاستخلاف في هذه الأرض فإذا هذه الأمة القوة بيدها ولكنها تضيع هذه القوة بنفسها وأتذكر كلمات قالها قبل نحو نصف قرن من الآن أو أكثر المفكر الإسلامي الكبير الإمام أبو الأعلى المودودي في إحدى الاجتماعات بعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية قال:' سيأتي بلا شك اليوم التي تتحجر فيه الشيوعية في موسكو نفسها بدون أي ملجأ وتتعثر فيه الرأسمالية وباريس وتتلاشى فيه العنصرية حتى عند البراهمة والألمان وإنما تبقى عبرة في التاريخ قصة من يحمل عصى موسى تحت إبطه وهو يخشى من الحبال والخشب فهذه هي حالة هذه الأمة هي عبرة في التاريخ بيدها القوة بيدها عصى موسى عليه السلام لأن بيدها القرآن الكريم ولكنها مع ذلك تخشى من الحبال والخشب فهي عندما ترى الأوهام التي في الشرق والغرب تتضاءل أمامها وتجعلها أمر عظيما لا يمكن تجاوزه بحال من الأحوال وما ذلك إلا لضعف بصيرتها وما أصاب إيمانها من خور بسبب بعدها عن كتاب الله سبحانه وتعالى أما عندما تستمسك بهذا الكتاب تمام الاستمساك فلا ريب أنها تتبوأ مكان الصدارة بين الأمم والبشائر تلوح في هذا العالم بأسره من أقصاه إلى أقصاه لأن التمكين لهذه الأمة وأن الانسانية تتطلع اليوم إلى الحل الأمثل الذي جاء به القرآن الكريم وجاءت به السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام . ومن الطبيب الذي يصف هذه الوصفة لهذا العدد الهائل من المرضى؟ إنما الطبيب الإنسان المسلم العارف بدينه المستمسك به العاض بالنواخذ على تعاليم كتاب الله وسنة رسول الله e فهو الخبير بحلول القرآن الكريم وحلول السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وهذا مما يتسنى لأي أحد يدرس القرآن دراسة متأنية عن كثب ويتأمل تعاليم القرآن الكريم وتعاليم السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وكل أحد بإمكانه أن ينتزع الحجة من كتاب الله أو من سنة رسول e....قبل بضع سنوات زارني اسقف من أساقفة النصارى وبدأ الحوار بيني وبينه فيما جاء في الاناجيل الأربعة من التعارض البين في طبيعة المسيح عليه السلام والتقديم الذي كتبه أمام هذه الاناجيل الأربعة جاءت فيه أنه لا تعارض بين ما في هذه الاناجيل فهذا العبد والإنسان والإبن هو الله، فسألته كيف يكون الإنسان هو الله وكيف يكون الله هو العبد وكيف يكون الأب هو الابن والابن هو الأب؟ فقال: هذا شيء لا يمكننا أن نتوصل إلى فهمه لأن العقول البشرية قاصرة فقلت له: ولأن القرآن الكريم جاء بما يبصر العقول البشرية بحقيقة الأمر وإذ فتح المجال أمام العقل البشري فأنظر إلى قول الله سبحانه وتعالى ] وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ[ ثم أن الله سبحانه وتعالى أتبع ذلك قوله] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ[ أحال العقل البشري على هذا الكون الواسع الذي هو بمثابة معرض لآيات الله سبحانه وتعالى لكي تتجلى للناس في أنفسهم وفي الآفاق فإذا ما على الإنسان إلا أن ينظر في هذه الآيات الكونية ليبصر من خلالها وحدانية الله سبحانه وتعالى وأن الذي خلق هذا الكون بهذا التناسق العجيب التلائم الانسجام من غير نشاز ولا تعارض لابد من أن يكون إلها واحدا ومثل ذلك في قوله تعالى ] قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ،أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ، أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ، أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[ ثم جاء الرجل مرة ثانية كزيارة بعد خمس سنوات وذكرني بالزيارة السابقة فذكرته بالسؤال الذي طرحته عليه وأنني لا أزال أطال بالجواب وفيما أنه لا يتقن الاجابة عن هذه النقطة حاول التهرب ثم قال لي: هل تسمح بأن ننتقل إلى حديث آخر فقلت له: لا مانع لي فقال: فقال لي: ما رأيك في مؤتمر السكان الذي سينعقد في مصر وذلك قبل انعقاد ذلك المؤتمر بأيام قليلة فقلت له: هذا المؤتمر قبل أن أقول كلمتي فيه البابا نفسه قال فيه كلمته فما رأيك فيما قاله البابا؟ فقال لي: وكيف تحل مشكلة السكان في العالم؟ قلت له: حل هذه المشكلة في كلمات يسيره في جزء من آية من كتاب الله فإن الله تبارك وتعالى يقول:] لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ [ وهذه حقوق من غير الزكاة لأن الله سبحانه وتعالى أتبع ذكرها بذكر الصلاة والزكاة عندما قال:] وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ[ فلو أن الإنسانية سلكت هذا المسلك لما كان أمامها مشكلة فيما يتعلق بأحوال السكان وضربت له أربعة أمثلة هي أمثلة حية أولها قلت له: ماذا تقول في السباق الجنوني للتسلح في هذا العالم وإن هذه الأسلحة المدمرة لا تبقى ولا تذر كم ينفق فيها من أموال أرأيت لو أنفقت هذه الأموال في استصلاح الأرض من أجل الزراعة أما كانت تعود بالرفاهية والنعمة الشاملة على الإنسانية بأسرها فأعترف بهذا، قلت له: والمثال الثاني كم من الآف الأطنان من الحبوب تحرق في كل عام من أجل المحافظة على سعر الحبوب فأضاف هو قائلا: وهناك بحيرات من الألبان أيضا تراق من أجل المحافظة على سعر الألبان ثم ذكرت له المثال الثالث وهو أنني قبل نحو عشرين عاما من ذلك الوقت أطلعت على صحيفة جاء فيها أن امرأة في الولايات المتحدة الأمريكية تملك رصيدا يتكون من ثلاثمائة مليون دولار وقد أوصت بهذا الرصيد كله لكلابها فقلت له هذه الملايين من الدولارات كم تطعم من جياع لو وزعت على فقراء العالم؟ ثم ذكرت له المثال الرابع وهو أنني قبل وقت يسير من ذلك الوقت اطلعت على خبرين عجيبين في صحيفة محلية في صفحة واحدة منها وفي عمودين متجاورين الخبر الأول ان خبيرا اجتماعيا انجليزيا يدعو إلى أن يفرض على الناس تحديد النسل خشية هذا الانفجار السكاني بحيث لا يسمح للأسرة الواحدة أن تلد إلا مولودا واحدا وهذا لو طبق فإن في ذلك فناء العالم فعندما لا يسمح لاسرة من أسرة أن تلد إلا مولودا واحدا والأسرة تتكون من اثنين فلو قدرنا أن الكل لا يوجد فيما بينهم عقيم لكان الاثنان يلدان واحدا ومعنى ذلك أن العالم في الجيل الآتي ينزل عدده إلى النصف ثم في الجيل الذي يليه ينزل إلى الربع ثم في الجيل الذي يليه ينزل إلى نصف هذا العدد. ثم هكذا يتناقص إلى أن يفنى. في مقابل هذا خبر عن أغنى كلب في العالم وصف هذا الكلب الثري الغني بأنه يملك أرصدة هائلة من الأموال هذه الأرصدة تنفق عليه هو يسكن في القصور الفخمة وعنده جيش من الخدم منهم من لا عمل له إلا تنظيف أسنانه ومنهم من لا عمل له إلا تهيئة الفراش له ومنهم من لا عمل له إلا أخذه إلى الحمام وتنظيفه ومنهم من لا عمل له إلا طبخ الأطعمة الشهية له ومنهم السواقون ومنهم وغيرهم ويحمل في السيارات الفارهة ليتجول في الطرق فقلت له: هذا كلب لا يزيده ذلك شيئا من السعادة وإنما سعادته لو اطلقت له حريته ليأكل من الجيف وليضرب في الأنحاء التي يريد أن يصل إليها من المكان الذي يعيش فلو أنفقت هذه الأرصدة الهائلة التي يملكها على الفقراء كم كانت تشبع من جياع؟! ومثل هذا الكلب كثير من الكلاب فكيف يعيش البشر في هذه المسبغة وبجانب ذلك تعيش الكلاب في هذه الرفاهية والنعمة أليس ذلك من المفارقات البينة في هذا العالم فإذا الإسلام يقدم الحلول. لأن كانت هذه كلمات يسيرة في جزء آية من كتاب الله سبحانه وتعالى تقدم الحل لمشكلة هذه الإنسانية بجانب الحل للمشكلات الأخرى ومن بينها المشكلة الكبرى وهي المشكلة العقدية التي صدر حلها أول الأمر في قول الله سبحانه وتعالى ] وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [ ثم ذكرت في كلمات يسيرة الحلول للمشكلة التي تعاني منها الإنسانية اليوم بسبب عدم عدالة التوزيع لهذه الثروات في هذه الأرض فكيف مع ذلك يظل الناس عن الطريق السوي كيف لا يأخذون بهذا الكتاب العزيز فيتبعوا نوره ويرتقوا من نهره الدافق ويحل كل مشكلة من مشكلاتهم بحلوله التي تأتي على كل مشكلة من مشكلات هذه الإنسانية فإذا العيب إنما هو في المسلمين أنفسهم والله سبحانه وتعالى يدعونا إلى طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم كما يدعونا إلى طاعته يقول الله تعالى:] مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً[ ويقول: ] وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً[ ويبين لنا سبحانه وتعالى أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ما هي إلا تجسيد لحب العباد لربهم فهذا الذي يطيع الرسول إنما يجسد حبه لربه الذي بعث هذا الرسول وهذه الطاعة هي السبب لنيل المحبة من الله وسبب لوصول الإنسان إلى ما يتطلع إليه من رحمة الله إذ يقول تبارك وتعالى: ] قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[ فإذا ليس حبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل في إحياء هذه المناسبات ثم تناسي ما وراء ذلك من اتباعه صلى الله عليه وسلم ومن العض بالنواجذ على سيرته والاستهداء بالكتاب الذي جاء به فإن ذلك ولا ريب ظلال في الفكر وعمى في البصيرة وإنما يجب أن يتمثل هذا الحب في الطاعة الصادقة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم إذ حب الرسول صلى الله عليه وسلم ليس مجرد عاطفة لا تتأجج حتى تخمد وإنما حب النبي صلى الله عليه وسلم عقيدة مستحكمة في نفس الإنسان تجعل الإنسان ربانيا المصدر والمورد وتجعله قرآني المنزع والسلوك وتجعله محمدي القيم والأخلاق فمن هنا يجب علينا أن ندرك هذه الحقيقة وأن نحيي هذه المناسبات بتجديد الصلة بشريعة الله التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإحياء هذه الأخلاق العظيمة التي كان عليها صلوات الله وسلامه عليه. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم جميعا لهذا الخير العظيم وأن يأخذ بأيدينا إلى ما يحبه ويرضاه
      كـــــــــــــــــــــــــــــــن مــ الله ــع ولا تبــــــــالي
      :):)

    • البهلاني فقيها وأديبا




      الحمد الله رب العالمين, والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين, سبحانه له الحمد على ما أنعم, علم بالقلم, علم الإنسان ما لم يعلم- أحمده وأثنى عليه, واستغفره وأتوب إليه, وأومن به وأتوكل عليه, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله, وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله, أرسله الله إلى إلى خلقه منقذا من الضلالة ومعلما من الجهالة وداعيا إلى الله على بصيرة, فبلغ الرسالة, وأدى الأمانة, ونصح الأمة وكشف الغمة, وصلى الله وسلم عليه, وعلى آله وصحبه أجمعين, وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

      أصحاب الفضيلة والسعادة أيها الأخوة الحضور, السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

      أنه من يمن الطالع أن يتجدد لقاؤنا في هذا الصرح الثقافي تحت مظلة العلم والأدب, من أجل احياء ذكريات أعلام هذا البلد العريقين في علمهم وفي أدبهم, وإن مما يسعد النفس ويبهج الخاطر أن يكون المختفى بذكراه في هذا اللقاء الميون رجلا تلاطم في حيزومه بحر العلم والأدب, وهو الأديب الذي لا يشق له غبار وهم الفقيه المحقق المعروف بعمق مناقشاته الفقهية وقوة تأصيلاته لمسائل الفقه وهو المتكلم البارع الذي يثبت حجة الحق بما يثلج الصدورو وبما يثري القلوب.

      أن المحقق به إمام العلم والأدب العلامة الكبير أبي مسلم بن ناصر بن سالم بن عديم بن صالح بن محمد بن عبدالله بن محمد البهلاني الرواحي- رحمه الله تعالى- وشهرته تغني عن التعريف.

      والحديث عن شخصية أبي مسلم حديث ذو شجون, فطرح الجانب الأدبي في مثل هذه الندوة من أجل استقصاء مهارة أبي مسلم الأدبية أمر يستدعي جهدا كبيرا, كما أن طرح مناقشة قوة مأخذه في الفقه, وعمق تأصيلاته الفقهية, أيضا أمر يحتلح إلى باع طويل في الفقه وذلك أمر لا يستطيعه مثلي وقد كنت حريصا كل الحرص على الحضور هنا معكم في الليلتين الماضيتين من أجل الاستفادة من الباحثين المهرة الذين تناولوا شخصية أبي مسلم وعلمه وأدبه, ولكن حالت الظروف دون ذلك, والمقادير دون الأماني كثيرا.

      ولئن جئنا إلى شخصية أبي مسلم الأدبية- نجد أنه لم يكن أديبا تقليديا يهيم في كل واد ويقول ما لا يعمل, وإنما كان رجلا في أمة وأمة في رجل, يحمل هموم أمته, ويتلمس بيده الخبيرة عللها والامها, ويسنتنج بعقله الثاقب علاجها ودواءها من تلك العلل التي تعاني منها فكانت معاناته بسبب ذلك معاناة كبيرةز

      نعم, عاش أبو مسلم من أجل أمته وسخر قلمه لخدمتها, فلئن جلنا في أدبياته الروحانية التي قدم فيها أسماء الله الحسنى نجد أنه في مرحلة مبكرة كان يدعو الله- تبارك وتعالى- ويبتهل إليه بأن يهيىء لهذه الأمة من أمرها رشا فقصيدته التي نظمها وهو مطلع العقد الثاني من عمره وسماها المعرج الأسنى في أسماء الله الحسنى, نلمس فيها هذا الابتهال والضراعة إلى الله- تبارك وتعالى- كما في قوله:

      ويا قاهر اقصتم دولة السوء وامحها



      وشرد وأشدد عليها معجلا



      ويا اصرف سورة البغي وانتقم



      بعدلك ممن بالضلال تسربلا



      ويا باعث ابعث راية الحق حولها



      جنودك تبلو في رضاك وتبتلى



      ويا قائما بالقسط قوم مسددا



      قويا على أظهار دينك فيصلا



      يصول سريعا يا سريع بنقمة



      على كل ضليل عن الحق أحفلا






      وهكذا نجد في جميع أذكاره التي جمعها في ديوانه الذي سماه ( النفس الرحماني من أذكار أبي مسلم البهلاني).

      ولئن جئنا إلى قصائد الأخرى التي تتعلق بجانب الأمة نجد أنه الطبيب الخبير, فقد عرف حق المعرفة داء الأمة ودواءها, كما نجد ذلك واضحا في كل قصائده التي تناولت هذا الجانب لا سيما تلكم القصيدة العصماء المقصورة, والتي شخص فيها العلة وجسد الألم, ووصف فيها الدواء, نسمعه في مقصورته تلك يتألم لآلام هذه الأمة عندما يقول:

      اذكي من النار بقلبي زفرة



      يخرجها المظلوم من حر الأسى



      محترق الأكباد من حسرته



      لا غوث لا منصف لا يلوي إلى



      أنفاسه تطرق باب العرش لا



      تطرق باب غيره ولا ذرى



      وعبرة تسفحها أرملة



      كالخلق السحق اصارها الضوء



      شعثاء غبراء عليها ذلة



      مهضومة الحق عديمة الحمى



      وصفرة على يتيم شاحب



      ادقعه الفقر وأشواه الضنا



      مفترشا على العفا اديمه



      وهل له عافية على العفا



      يغدو ويمسي ضاحيا تحت السما



      كأنه عود خلال أو خلا



      وضربة من سيف به نهكت



      وجه تقي مثل تشهاق العف



      وسطوة من ظالم شباته
      ينتهك الحرمة لا تريغه



      اقتل للإسلام من حد الظبا
      ضريبة من كرم ولا تقى



      يرى عيال الله صيد قوسه



      يترك ما شاء وما ساء رمى



      جاس البلاد بالبلاء طاميا



      فبز حتى بلغ السيل الزبى



      وغيرة المؤمن في ضميره



      يطفئها الخوف ويوريها الاسى



      يهان في حريمه وعرضه



      ودينه وماله مثل اللقا




      ثم بعد ذلك يوجه النداء إلى رجال أمته:

      أين رجال الله ما شأنكم



      إلى متى في ديننا نرضى الدنا



      إلى متى نعجز عن حقوقنا



      إلى متى يسومنا الضيم العدا



      كنا اباة الضيم لا يقدح في



      صفاتنا الذل ونقدح الصفا؟



      كنا حماة الأنف لا يطمع في



      ذروتنا الطامع في نيل الذرى



      لا يطرق الوهن عماد مجدنا



      وكم مللنا عرش مجد فكبا



      علام(1) صرنا سوقة امعة



      اتبع من ظل واقنى من عصا؟!



      ما أفظع الشنار حين يزيله



      ضرب يزيل الهام من فوق الطلى!



      إلى متى نخزى ولا يؤلمنا



      كالميت لا يؤلمه حز الشبا؟!



      اذل من وتد حمار فيهم



      وقدرنا اقصر من ظفر القطا



      إلى متى نهطع في طاعتهم



      ونتقي وليتها تجدي التقى؟!




      ترون كيف صور حال الأمة في هذه الأبيات, عندما أحدقت بها المحن وتراكمت عليها الفتن, وهي في ذلك مفترقة أحزابا وشيعاو لا تحس بالآلام التي تقع عليها ولا تحس بالواجب الذي هي مسؤولة عنه, ثم يتبع ذلك خطابه لهذه الأمة لعله يجد فيها أنشودته.

      أين ذوو الغيرة من لي بهم



      قد حزب الأمر قد انقد السلا؟!



      اتسع الخرق على راقعه



      من يشعب الوهى ويرتق الثأى



      أما شعرتم أنها داهية



      شعواء لا فصية منها بألولى



      هبوا من النومات أن حية



      تنباع ما بين شرا سيف الحشا




      ويصف الحالة التي آلت اليها الأمة, حيث ذلت لخصومها واستكانت لعدوها:

      هل استباحوا حرمات دينكم



      هل منعوا الأرض الحياة والحيا؟!



      منوا عليكم بغذاء طفلكم



      وحسوة الماء ونفحة الصفا



      تحكموا في ملككم ورزقكم



      وكبسوا البئر وقطعوا الرشا



      وأزعجوكم عن ظلال ريفكم



      وليتكم لن تنزعجوا عن الفلا



      وضايقوكم في بلاد ربكم



      حتى على مدفن ميت في الثرى



      لا يرقبون فيكم إلا ولا



      ذمة دين أو ذمام من رعى



      قد سفكت دماؤكم وانتهكت



      حرمتكم ولا حشا ولا خلا



      نقعد يشكو بعضنا لبعضنا



      وما مفاد من شكا ومن بكى؟!




      ثم يقول:

      في بعض هذا غصة(1) لعاقل



      لو رجعت أفكارنا إلى النهى



      بسومنا الخسف خسيس ناقص



      لا دين لا حكمة لا فضل ولا



      أليس مما يذهل اللب له



      عسف الطواغيت بشرع المصطفى



      وحملنا على اتباع غيهم
      هب ملكنا ورزقنا فيء لهم



      مصيبة لحرها ذاب الحصا
      فديننا الأقدس فيء وجزى



      فيا صاحباه هل من سامع



      لو عوفيت قلوبنا من العمى!




      ويتبع ذلك تقريع هذه الأمة على رضاها بما وصلت إليه من المهانة إذ يقول:

      أليس عارا أن نعيش أمة



      مثل اللقا أو غرضا لمن رمى؟!



      يلفناالخزي إلى أوكاره



      ويحكم النذل علينا ما يرى



      أنشرب الماء القراح ما بنا



      من مضض وليس بالحلق شجا؟!



      ونهنا بالعيش على أكداره



      ونطعم الأجفان لذات الكرى




      ثم يذكر بعد ذلك اعتزاز هذه الأمة بأسلافها وافتخارها بماضيها مع عدم سلوك منهج أولئك الأسلاف, والقيام بما قاموا به من حق تكاه دينهم وتجاه أمتهم إذ يقول:

      نقر أحلاس البيوت خشعا



      أبصارنا مغمضة عما دهى



      ندرس تاريخ الألى تقدموا



      وحسبنا الله تعالى وكفى



      أن العظام لا تواتي شرفا



      ولا أقاصيص الوغى تكفي الوغى



      والسلف الصالح سل سيفه



      وكان ما كان له ثم انقضى



      تلك الرفات طينة صالحة



      لغارس وحارث ومن بني



      أتبحثون بينها عن عزة



      أو في (لعل) فرجا أو في (عسى)؟!



      تلكم إذا أمنية مخلفة



      وضيعة العقل وجهل وعمى




      ثم ذكر ما بقي لهذه الأمة من أسلافنا:

      أسلافنا وما لنا من مجدهم



      إلا حديث بعدهم لا يفترى؟!



      لم التحجي بعدهم في شرف



      عند رفات في الأرض حجى؟!



      نرفع منا أنفسنا(1) وننتحي



      كأنها من كسبنا تلك النخا!




      وهو يشير بذلك إلى أن الأمة يجب أن تبني مثل ما بنى سلفها, وألا تعتز بما قدم سلفها من غير أن تطأ موطئه وتنتهج نهجه, وتقوم بتبعات ما عليها من واجب تجاه جميع أفرادها كما تقوم بما عليها من واجب تجاه ديننا الحنيف ثم يتبع ذلك قوله:

      أواه أواه رزئنا بعدهم



      وليتنا في خلف عمن مضى؟!




      ثم يصف مرة أخرى حالة هذه الأمة في لهوها عما هي مسؤولة عنه, وفي غفلتها عما يحيق بها, وفي عدم احساسها بما وقعت فيه, وما يسري في جثمانها من آلام.

      فتحت عيني فرأيت غافلا



      يحمله السيل وليته درى



      ونائما والنار في جثمانه



      كأنه جزل الغضا وما وعى



      وراضيا بذله مفتخرا



      بأن يعيش خازيا ومزدري



      ومؤمنا مستضعفا يغمزه



      ظالمه من الرجا إلى الرجا



      وعاقلا في رأيه متهما



      وأرشد الآراء للحر الذوى(1)



      وحاسدا لنعمة تخاله



      اسعر ما كان إذا قلت خبا



      وبائعا لوطن فيه انتشى



      بلقمة يلذها وهي الودى



      فهل لنا استقامة وعزة



      وحالنا مشؤومة كما نرى؟!




      بعد هذا الوصف لألم هذه الأمة وآلامها نجده يقدم وصفة الدواء إليها إذ يقول:

      عصائب الإسلام في تلكم حالنا



      وليس يخفى في الظلام ابن جلا



      ما تنظرون في التماس طبكم



      قد نكأ الجرح وادنف الضنا



      ليس لها إلا التفاف قوة



      بقوة ومقتد بمقتدى



      ليس لها إلا نفوس طفئت(2)



      اضغانها واشتعلت فيها التقى



      يلمها الإيمان قلبا واحدا



      وجهته الله وحشوه الهدى(3)



      إذا رمت فقوسها واحدة



      وما رمت وإنما الله رمى




      فأبو مسلم من خلال هذا الوصف لعلاج هذه الأمة يبين لنا أنه لا يمكن خلاصها مما هي فيه وعليه من الذل إلا باستعلائها على أنانيتها, بحيث تكون أمة واحدة, إذا رمت فإنما ترمي عن قوس وأحدة, ومع ذلك فلحمة وحدتها إيمانها بالله- سبحانه وتعالى-, وسدي هذه الوحدة تقوى الله- تبارك وتعالى-, بحيث تجتمع في ظل الإيمان والتقوى وتلتقي على امر الله- سبحانه وتعالى- في ديننا من الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, حينئذ تكون أمة قوية, وتكون أمة منصورة على عدوها.

      ولم يكن أبو مسلم رجلا محليا وأقليميا وإنما كان رجلا عالميا, فحيثما كانت مشكلة تهم هذه الأمة كانت تلك المشكلة تعني أبا مسلم, وكان يجد لزاما عليه أن يشارك في علاجها فعندما حاول الاستعمار في مصر أن يذكي جذوة النعرة القبطية في غير المسلمين, وأن يصور لهم بأن الإسلام دخيل فيهم وأن مصر قبطية نصرانية, وأن المسلمين هم الذين احتلوا بيضتهم وهم الذين استهانوا بكرامتهم, وضايقوهم في بلادهم, وانعقد اثر ذلك مؤتمر إسلامي برئاسة رياض باشا في مصر لعلاج هذه المشكلة ومواجهة ذاك التحدي, فما كان من أبي مسلم وهو بعيد عن مكان انعقاد هذا المؤتمر إلا أن شارك فيه بقلمه, فأرسل قصيدة إلى أخوانه المسلمين بمصر, وقد قرأت بأن هذه القصيدة نشرت في بعض الصحف المصرية آنذاك, وتلقيت بالقبول من قبل المسلمين الذين يعنيهم هذا الأمر, وجاء في هذه القصيدة:

      هزت العالم أدوار البشر



      ينقضي الدور بأدوار أخر



      كل دور رقص الدهر له



      ضايق العالم وارتاد القمر



      أيها العالم سعها جلدا



      أن نصف الليل يتلوه السحر



      من كفيل الكشف عن موضوعهم



      هل له مستودع أو مستقر؟



      أن تكن فلسفة الدهر على



      حدها الأول أدركنا الخطر!



      يسقط الهز علينا كسفا



      ثم لا يلبث اسقاط الحجر



      ربما أشهد ظبيا كانسا



      دب فيه الدور فاصطاد النمر




      ثم ينبه لخوانه المصريين المسلمين لخطورة هذا الأمر وخطورة ما غرسه العدو في جزء من أبناء الشعب المصري من بغض لبقية الشعب, إذ يقول

      يا قطين النيل ما حادثة



      بات جفن الدين منها في سهر!!



      أقلقت مصر وغاظت غيرها
      يا لقومي والأسى كل الأسى



      خطة القبط وذاك المؤتمر
      إن جرى النيل على هذا القدر!!



      ضايقوكم في المراعي مطلقا



      واشرأبوا لاختصاص واشر



      طلبوا أعظم من مقدارهم



      شأن من أكسبه العدل البطر




      ثم يتساءل بعد ذلك:

      ليت شعري ما الذي أبطرهم



      ضغطة الرومان أم عدل عمر؟!



      أم وصايا المصطفى في حقهم



      ان ملكناهم وسعناهم ببر



      أم لصفح الدين عنهم بعدما



      جيش نابليون ولانا الدبر



      تبعوا نعقته وانجفلوا



      نحوه أشباه ضان وبقر



      ثم لما صننع الله لنا



      وجلى الخصم وابنا بالظفر



      خالطونا بضمير محرق



      وبصدر فيه ضب محتجر



      فاصطنعناهم وقلنا جارنا



      واذى الجار جميل المصطبر



      هذه سيرتهم حيث انجلت



      قترة جاءوا بادهى وأمر




      ثم يخاطب بعد ذلك ضمير الأقباط ويذكرهم بالجوار, كما يذكرهم بالحقوق المشتركة, وأن العدو يتربص بالكل الدوائر وهو لا يفرق بين مسلم ونصراني, وإنما همه أن يسعى إلى التفريق بين أبناء الوطن الواحد.

      ان هذا النيل أم حافل



      كلنا يرضع منها ويذر



      فغدت حافلنا ترضعها



      حية أشبه شيء بسقر



      رضعتها لبنا ثم دما



      واغتبطنا بمشاش ووبر



      وهي لا يقنعها ما ترتمي



      لا ولا يقنعها بلع الحجر



      ذكرتنا بعصا موسى على



      أن ذي تلقف أرواح البشر




      ثم يذكر ما يستفيده الآخرون من خيرات مصر فيقول:

      نيلنا في الغرب يجري ذهبا



      وبقينا نترامى في الحفر



      أن يكن جيش احتلال غركم



      فهي أمنية من لا يفتكر



      ما يريد الجيش احتلال غركم



      بعدما أبقى عصاه واستقر؟!



      عقد النير وما في همته



      آمن المصري.. يوما أم كفر



      جاء والمعية تلوي معيه



      فامترى ثم تعاطى فعقر



      طمت الحرفة يا أقباطها



      إنها مأدبة لا تنتقر



      أصبح المطران والمسلم في



      غمرها اعجاز نخل متقعر



      فاشعبوا الوحدة وحيا قبل أن



      تتداعى كهشيم المحتضر




      ثم بعد ذلك يثني على أولئك الذين استيقظوا لهذا الأمر وسعوا رأب الصدع, وتدارك ذلك الخطر فعقدوا هذا المؤتمر إذ يقول:

      إن في مصر رجالا عرفت



      كيف تأتي الأمر أو كيف تذر



      لا تبارون لهم مأثرة



      ولو احتلتم على كسف القمر



      صعدوا في كل هم فكرهم



      فاقتنوا حكم ابتداء وخبر



      اثر الحكمة فيهم نير



      كادت الأفلاك منه تنبهر



      مثلوا غيرتهنم مؤتمرا



      ينصر الله ونعم المؤتمر



      وطئوا الآمال بالدرك الذي(1)



      ادركوه من تعاليم النظر



      لا يبيتون على الضيم ولا



      حيرة الذهن إذا الخطب انفجر



      يهيمون بواد مبهم



      هم إلى التحقيق أهدى من بصر



      يا بني التوحيد في مصر لقد



      صرتمو في جبهة الدهر غرر



      صبغة الله على نهضتكم



      أن من كان مع الله انتصر



      بيئة مخلصة صادق



      لم يدنسها رياء واشر



      فخذوا وجهتكم واصطقروا



      لا ينال النجح إلا من صبر



      ثابروا جهدكم لا تسأموا



      قد بدا لي فتح أمر منتظر



      ربما ضاق على حيلتنا



      اعقب الفتح كلمح بالبصر



      وإذا الفتح تلافى أمة



      جد في نهضتها أهل الخطر



      صفوة الأمة أنتم وعلى



      أمركم صفوة أرباب النظر



      بطل الإسلام قمقام العلى



      رجل المجد الهمام المقتدر



      ناصح الحجة معصوم النهى



      جلد الهمة ذو العزم الذمر



      صاحب العز رياض من غدت



      فطرة التوحيد منه في وزر



      هضبة الفضل عزيز المحتمى



      شأنه العدل بما شاء وسر



      جرد الغيرة من أجفانها



      فحمى الحق وأخرى من غدر



      عصم النحلة مرهوب السطا



      لين الجانب صعب المنكسر



      يا حمي الأنف يال ليث الثرى



      ذد عن الحوض فقد جد الحذر



      لا تدع مصر لمن يعشو بها



      غير ما عزك من أمر القدر



      قائم أنت على أرجائها



      بملاك الأمر والحق الأغر



      قم بحول الله لا تحفل بها



      رقصت أم سكنت أم العبر




      ثم يعبر بعد ذلك عن شعوره بالتقصير من نفسه تجاه هذا الأمر لأنه لا يملك إلا هذا الذي يقدمه من الأدب, إذ يقول:

      بو يكون الشعر نصرا لم أزل



      انظم الانجم لا أرضى الدرر



      لو ملكنا السيف لم نرجع إلى



      قلم في النصر دن قام عثر



      والغيور الحر يبدي نصره



      لأخي ملته كيف قدر



      فخذوا شعري ثناء بعدما



      مدحت نهضتكم آي السور



      وليدم حيا رياض وليعيش



      تابث العزة هذا المؤتمر




      وفي هذا ما يدل- كما قلت- على أن أبا مسلم لم يكن رجلا محليا أو رجلا اقليميا, وإنما كان رجلا عالميا يعني بقضايا أمته في كل مكان ويتحسس آلامها ويشاركها في آمالها.

      وبجانب هذا الإهتمام الكبير بقضايا الأمة الإسلامية في كل مكان فإنه كان يولي قضايا بلده عمان اهتماما خاصا وكان يعتز بجميع المنجزات التي يقدمها الشعب العماني الأصيل, ويبدي شوقه في أشعاره إلى هذا الوطن العريق ومما قال في ذلك:

      معاهد تذكاري سقتك الغمائم



      ملثا متى يقلع تلته سواجم



      تعاهدك الأنواء (سح) بعاقه(1)



      فسوحك خضر والوهاد خضارم



      إذا أجفلت وطفاء حنت حنينها



      على قنن الأوعار وطف روازم



      ولا برحت تلك الرياض نواضرار



      تضمخها طيب السلام النسائم



      تصافحه بالزاكيات أكفها



      فيحسب فيها والرياض تراجم




      إلى أن قال:

      ولكن شجاني معهد بان أهله



      فبان الهدى في أثرهم والمكارم



      هو العهد الميمون أرضا وأمة



      وان زمجرت للجور حينا زمازم


      سيكثر ورادا على الحوض أهله



      إذا جاء يوم الحشر والكل هائم



      لقد صدقوا المختار من غير رؤية



      وتكذيب جل الشاهدين مقاوم




      وكان أبو مسلم لا يخفي اعتزازه بالمنجزات التي تحققت على أرض هذا الوطن الأصيل, فعندما قرأ قصيدة لأحد الشعراء لام فيها أخوانه العرب على نومهم الطويل مع استيقاظ العالم الغربيو في ضوء التقدم في كل المجالات الحضارية في العالم الغربي, انبرى أبو مسلم يجيب هذا اللائم, ويدفع العار عن العرب, ثم يعتز بعد ذلك ببلده عمان, وبما تم في عمان من المنجزات التي هي لصالح الإسلام والمسلمين, وكانت تلك الإجابة على نفس روي قصيدته وبحرها حيث قال في مطلع قصيدته:

      ألا لبيك يا صوت المعالي



      لقد أسمعت أحياء الرجال



      أحابك سادة نجب كرام



      طوال العزم بالبيض الطوال



      خفاف كالصواعق أن يشدوا



      جبال في حلومهم الثقال



      معاقلهم جياد فنقوها



      مسارحهن حومات النزال



      تعلمن التقارع من قديم



      فهن مع التقارع في شكال



      فإن تسأل بهم فهم سراة



      تربوا بين قيصوم وضال



      رضاع وليدهم بدم الأعادي



      ويحيى في الرضاع بلا فصال



      إذا استصرختهم شبوا سعيرا



      وصخ النجم قعقعة النصال



      مساعير الحرب لهم أجيج



      إذا احتدمت حميات الرجال



      مصاعب تصعق الأبطال منهم



      رغائبهم بأطراف العوالي



      إذا هجموا رأيت الفجر يجري



      ببارقة الصوارم في الليالي



      تروعك في زحرفهم رجوم



      من السمر المثقف والنبال



      ججاجح من بني قحطان صيد



      ومن عدنان آصاد القتال



      رأوا ما حل بالأوطان خزيا



      يسارع بالفظايع والوبال




      إلى أن قال بعد ذلك:

      وخصم الله جزار شنيع



      يضحي بالديانة لا يبالي



      رأوا أموالهم نهبا هنيئا



      وكل محرم عين الحلال




      ثم يتوجه إليه بالدعوة لزيارة عمان فيقول:

      تفضل بالزيارة في عمان



      تجد أفعال أحرار الرجال



      تجد ما شئت من مجد وفضل



      واحساب عزيزيات المثال



      تجد ما قسمته من المنايا



      خيول الله في حزب الضلال



      تجد من هيبة الإسلام شأنا



      عليه الكفر مبيض القذال



      تجد ههم الرجال مصممات



      بثار الدين ترخص كل غال




      ثم يخاطب أهل الشرق فيقول

      سناخذ حقكم ونذود عنكم



      ذيادا باليمين وبالشمال



      ويدرك فهمكم أنا قليل



      نكاثر بالحميد من الخلال



      وتعترفون أن العرب قوم



      قديما عبدوا صهب السبال



      وقد وافاكم زمن جديد



      ووافتكم به السنن الخوالي



      يرد الحق فيكم مشمخرا



      ويخزي الظلم خزي أبي رغال



      بأسياف الغبيراء المواضي



      ستخضر الأسافل والأعالي



      ويعلم عالم الدنيا بأنا



      بضوضاء الفخافخ لا نبالي












      - وكما قلت- كان أبو مسلم في جميع إبتهالاته إلى الله- تبارك وتعالى- لا ينسى جانب الأمة ووحدتها ونصرتها على عدوها وقد وجد في قصائد العلامة سعيد بن خلفان الخليلي- رحمه الله- مثلا يحتذى في ذلك, فلذلك عني بتخميس كثير من قصائد الالهيات, ومن بين هذه القصائد تلك القصيدة التي كان المحقق الخليلي- رحمه الله- يدعو بها ربه مدة اثنى عشر عاما- كما قيل- وقد خمسها أبو مسلم, ومما جاء في تخميسها مما يتعلق نصرة الدين- وكلها من أجل نصرة الدين ومن أجل وحدة الأمة- قوله:


      الهي عدو الله يشفي غليله





      سبيلك يدنيها ويعلي سبيله





      يغالب أمر الله حتى يحيله




      فيا غارة الله اغضبي وخيوله



      إركبي ومواضيه انعمى بورود




      ودائرة السوء استمري بدورة





      عليه ومقت الله خذه بسورة





      ويت بطشه الله اسحقيه بثورة




      ومني على الأعداء منك بزورة



      تريحهم من كفرهم بلحود




      ومزقهم الله كل ممزق





      بأهلك غلبا فيلقا بعد فيلق





      ونكل بهم وامحقهم بالتفرق




      ويارب مزق كل سور وخندق



      عليهم وحصن شامخ ووصيد




      طغوا في بلاد الله لما تطقهم





      وتغييرك اللهم لم يعتنقهم





      وإنك بالمرصاد خذهم وبقهم




      وقد مكروا فامكر بهم واذقهم



      عواقب مكر في البلاد شديد




      لقد وطئوا الدنيا برجس مرجس





      وعاثوا بظلم في عبادك مضرس





      شياطين ملعونين من كل مبلس




      فطهر بقاع الأرض منهم بأنفس



      من البغي تجريها بكل صعيد




      الهي قبيل جاحد لك قد غوى





      يعاديك لا يألو على عربك انطوى





      ابده ومن والاه وحيا وما حوى




      وشرد بهم في كل أرض فلا سوى



      قتيل ومأسور يرى وطريد




      بغيرتك اللهم يا حامي الحمى





      بسطوتك اللهم يا رافع السما





      سميع دعائي كن عليهم مدمدما




      وصب عليهم سوط منتقم كما



      لعاد وفرعون جري وثمود




      وعذبهم نكر العذاب ودنهم





      وشدد عليهم وطأة وإهنهم





      وعن كل خزي ربنا لا تصنهم




      ولا تبق ديارا على الأرض منهم



      فما قوم نوح منهم ببعيد





      ومن غرائب الإتفاق أن هناك قصيدة للإمام سعيد بن خلفان- رحمه الله تعالى- من قصائد الألهيات تناولها أبو مسلم- رحمه الله- بالتخميس قبيل موته ببضعة أيام, ولربما كانت فاتحة تلك القصيدة اسارة بأن أبا مسلم بتخميسها يقدم نفسه إلى ربه, ومطلع قصيدة الإمام الخليلي- رحمه الله تعالى-:

      تقدم إلى باب الكريم مقدما



      له منك نفسا قبل أن تتقدما




      أما مطلع تخميس أبي مسلم فهو:


      هو الله فاعرفه ودع فيه من وما



      دعاك ولم يترك طريقك مظلما




      عن الحق نحو الخلق يدفعك العمى



      تقدم إلى باب الكريم مقدما




      لك منه نفسا قبل أن تتقدما







      وقد وجدنا بخط العلامة أبي مسلم أنه أنهى تخميسها في اليوم الثامن والعشرين من محرم, وقد كانت وفاته ليلة غرة صفر من نفس ذلك العام, بما يعني أن تمام تخميسها كان قبل وفاته بيومين وبعض يوم, أو بيوم وبعض يوم.

      ولئن جئنا إلى الجانب العلكمي ولا أقول الجانب الفقهي من حياة أبي مسلم, نجد أن أبا مسلم هو العلامة الذي لا يشق له غبار, وإنما قلت الجانب العلمي لأن أبا مسلم درس علوم المعقول والمنقول, فكان نابغة في العلوم الكثيرة, ولم يكن مقتصرا على علم الفقه فحسب, فهو في علم التوحيد والمذاهب الكلامية عالم كبير, كما أنه في الفقه فقيه مطلع محقق وله في المسائل الكلامية تحقيق بدل على طول باعه في كثير من المسائل, من بين هذه المسائل, مسألة شغلت الناس كثيرا وتراشقوا بسببها بالتهم وهس مسألة واضحة لا تحتاج إلى النقاش الطويل, ولا تحتاج إلى ذلك الجدل العريض, تلكم هي مسألة الأسماء والمسميات, فإن أصحاب المذاهب الكلامية اختلفوا اختلافا طويلا وعريضا في الأسماء والمسميات, هل الأسماء هي عين المسميات؟ أم الأسماء هي غير المسميات؟ وقد أشبع أبو مسلم هذه المسألة بحثا وتمحيصا في كتابه " العقيدة الوهبية" وقد وضع فيها المفصل على الفصل, وأوضح بالحجة والبرهان بما لا يحتمل أي جدل وأي خلاف.

      خلاصة الأمر أن الذي ذهب إليه العلامة أبو مسلم هو نفسه الذي حرره العلامة الكبير السيد محمد رشيد رضا في تفسيره ( المنار) وهو أن الأسماء التي هي الألفاظ المكتوبة من الحروف هي غير المسميات بطبيعة الحالو فلا يمكن أن يكون الأسم هو المسمى, إذ لو كان الإسم هو المسمى لكان من تلفظ بكلمة (ماء) وهو عطشان, جرى الماء على حلقه وروي من عطشه, وكذلك إن تلفظ أحد بكلمة (نار) احترق لسانه بمجرد هذا التلفظ, لأن النار محرقة ولكن أعيان المسميات هي غير الأسماء, وإنما مدلولات الأسماء هي عين المسميات لأن الإسم يدل على المسمى, فإذا كان المدلول الذي يشخصه الإسم هو نفس المسمى فلا فارق بين مدلول الإسم وبين المسمى.

      وقد وجدت الإمام محمد عبده في تفسيره لقول الله تعالى] وعلم آدم الأسماء كلها[ يذكر عن بعض المفسرين قولا، بأن تلك الأسماء كانت هي الماهيات ، ماهيات الأشياء.

      فإن آدم كان أحوج إلى معرفة الماهيات خصائصها وهذا القول عار عن الدليل فإن آدم- عليه السلام- سئل عن هذه الماهيات، ما أسماؤها فأجاب بهذه الأسماء عندما عجزت عن ذلك الملائكة، وقد أعاد الإمام محمد عبده هذا الاختلاف الى فلسفة يونانية قديمة، هذه محصلها أن الحقائق الذهنية كانت تسمى عند اليونان أسماء، وأعاد الإمام محمد عبده الخلاف بأن الأسماء هي المسميات إلى هذه الفلسفة وقال بأن الإختلاف في كون هذه الحقائق الذهنية هي نفس مدلولاتها أو هي أشياء أخر شهير، أما الاسم فلا يمكن بحال من الأحوال أن يكون هو نفس المسمى.

      وإذا جئنا إلى المسائل الفقهية نجد أن العلامة أبا مسلم كان العالم المحقق الذي لا يتقيد برأي عالم من العلماء بل يناقش جميع العلماء على السواء فقد كان أبو مسلم يجل العلماء ويحترمهم احتراما كبيرا، ولكن هذا الاحترام لم يمنعه من أن يناقشهم.

      فعندما جاء- مثلا- الى مسألة تخليل اللحية في الوضوء رجح بأن تخليل اللحية واجب لابد منه مع أنه ذكر بنفسه عن ابن بركة وعن صاحب الايضاح وعن الإمام القطب أنهم كانوا يرجحون عدم عدم وجوب تخليل اللحية لأن الإنسان مطالب بأن يغسل ما واجه به،وتنما يواجه بوجهه لا بما كان داخل شعره، ولكن العلامة أبا مسلم قال: إن الوضوء ليس أقل من الغسل- فكما يجب استيعاب العضو داخله وخارجه في الغسل كذلك يجب في الوضوء فاذا كان استيعاب البدن كله لازما في الغسل، فلا أقل من أن يستوعب العضو الذي تجب توضئته في الوضوء، واستدل على ذلك النبي- صلى الله عليه وسلم- أمر النساء بأن يخللت ضفائرهن في الغسل من الحيض وأن يغمرن قرونهن في الغسل من الجنابة من أجل أن يصل الماء إلى أصول الشعر وقد قال- عليه أفضل الصلاة والسلام-:' إن تحت كل شعرة يغطي جنابة فبلوا الشعر وانقوا البشر' فاذا من الضروري في الوضوء عندما يكون الشعر مغطي جانبا من الوجه الذي أمر بتوضئته أن يخلل ذلك الشعر حتى يصل الماء إلى أصوله.

      هناك مسألة أخرى وقع فيها الخلاف بين المذاهب الإسلامية من قديم وهي مسألة المني وطهارته أو نجاسته، فالشافعية والحنابلة يقولون بأن المني نجس لأنه يخرج من المخرج الذي تخرج منه النجاسات ، فإذا لابد من أن يكون حكمه حكم الخارج من هذا المخرج ، والإماما الشافعي أشبع هذه المسألة بحثا في كتابه ' الأم' وانتصر به لمذهبه.

      والعلامة أبو مسلم في كتابه' نثار الجوهر' يجمع أشتات المسائل من المؤلفات القديمة والحديثة في مختلف المذاهب الاسلامية ويناقش هذه المسائل مناقشة دقيقة وقد نقل كلام الإمام الشافعي بنصه وفصه في كتاب' نثار الجوهر' أي نقل النصوص التي أوردها الإمام الشافعي في كتابه' الأم' بحذافيرها، ثم أتبع ذلك مناقشة علمية دقيقة وخلاصة الأمر أن الإمام الشافعي يقول: بأن حكم المني يختلف عن حكم ما خرج من السبيلين فللمني حكم خاص ويستدل لذلك بأدلة عقلية ونقلية.

      فمن الأدلة النقلية التي استدل بها ما جاء عن أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- إنها قالت: ' كنت أفرك ثوب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الجنابة' وتعرض الإمام الشافعي لرواية سليمان بن يسار لهذا الحديث, إذ روى عن عائشة ' كنت أغسل ثوب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الجنابة ويخرج إلى الصلاة وأن بقع الماء في ثوبه' وقال: لا نعلم أن سليمان ابن يسار روى حرفا عن عائشة, وإنما هو وهم من الراوي عنه, عمرو بن ميمون.

      وهذا الكلام الذي ذكره الإمام الشافعي في رواية سليمان بن يسار تبعه عليه البزار, كما ذكر ذلك الحافظ بن حجر في فتح الباري ولكن الحافظ بن حجر بعد ما ذكر نصوص الرواية, رواية سليمان بن يسار عن عائشة – رضي الله عنها- في الصحيحين قال: بأ، هذا وهم, ولم يهم البزار وحده بل قال هذا القول من تقدموه ومن بينهم الإمام الشافعي في كتابه 'الأم'.

      واستدل أيضا على ذلك بما أخرجه هو عن أبن عباس- رضي الله عنهما- أنه ذكر بأن المني أن كان يابسا يحت وإن كان رطبا فيماط عن الثوب.

      واستدل أيضا برواية تشبه هذه الرواية عن سعد بن أبي وقاص.

      أما من الناحية العقلية فإنه استدل لذلك بأن الله- تبارك وتعالى- خلق أصل الإنسان من ماء وطين, والماء والطين طهوران جعلهما- تبارك وتعالى- طهورين, فلا يعقل أن يكون خلقه لسلالة هذا الإنسان فيما بعد من غير شيء طاهر, واحتج لذلك أيضا بكرامة الإنسان على الله- تبارك وتعالى- لأنه أكرم من أن يخلق هذا الإنسان الذي شرفه بالخلافة في هذه الأرض وبالسيادة في هذا الكون, وجعله مؤتمنا على دينه وجعله قائما بأمره- سبحانه وتعالى- من مادة نجسة, هذه هي خلاصة ما استدل به الإمام الشافعي.

      وقد أطال العلامة أبو مسلم في مناقشة هذا الكلام واستدل أو ما استدل بنجاسة المني في الحديث الذي أخرجه الإمام الربيع في مسنده عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ' المني والوذي ودم الحيضة ودم الاستحاضة نجس' فهذا النص صريح في نجاسة المني.

      كما استدل ذلك برواية سليمان بن يسار التي في الصحيحين عن عائشة – رضي الله عنها- إنها قال: ' كنت أغسل ثوب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الجنابة, ويخرج إلى الصلاة وان بقع الماء في ثوبه'.

      وقال بأن رواية الفرك لا تنافي رواية الغسل لأنها كانت تستعين على ازالة هذه النجاسة, بالفرك أولا عندما يكون المني يابسا في الثوب فإنها تحته أي تفرك الثوب حتى يزول أثر المني ثم تتبع ذلك الغسل بالماء.

      وقال: إن ما قاله الإمام الشافعي من أن سليمان بن يسار لم يرو حرفا عن عائشة- رضي الله عنها- أمر غريب لأن ابن يسار كان من أكابر التابعين, وقد كان بالمدينة المنورة وقد صرح بالسماع عن عائشة فهو تارة يقول (سألت عائشة, وتارة يقول ( سمعت عائشة), فهو إذا روى رواية متصلة من غير سقط, على أن هذه الرواية كانت رواية مرسلة, فإن المرسل عندما يعتضد بدليل آخر يعول عليه عند الإمام الشافعيو ولذلك عول مسانيد سعيد بن المسيب.

      وتحدث عما رواه الإمام الشافعي عن ابن عباس من أنه قال: بأن المني يماط, وقال: إنما هو بمثابة المخاط النخامة, وبأن هذه الاماطة إنما هي وسيلة إلى التطهير كما يقول الاستجمار وسيلة إلى التطهير بالماء فيما بعد, وليست مشروعية الاستجمار قبل الماء إلا لأجل هذه العلة والتشبيه بالمخاط والنخامة لما ينتظم هذه الأشياء المشبه بعضها ببعض من التلبد, فإن المخاط والمني شبيهان بالتلبد وكذلك النخامة بالجملة.

      وقد أشبع أبو مسلم هذه المسألة بحثا واستدل لذلك أيضا بالأثر الذي أخرجه الإمام مالك بالموطأ عن عمرا بن الخطاب- رضي الله عنه- أنه ذهب إلى الجرف, وقد صلى الصبح وإن قد احتلم ولم يشعر وصلى ولم يغتسل, فلما رأى ذلك الاحتلام هناك غسل ثوبه ونام أي غسل ما رأى أثر المني عليه, ونضح ما لم ير عليه أثر المني.

      كما استدل أيضا لرجحان رأيه بالأثر الذي أخرجه مالك أيضا في الموطأ عن يحيى بن عبد الرحمن بن حافظ أنه صحب عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- إلى العمرة فاحتلم ولم يكن على ماء فركب حتى وصل إلى الماء, وبقي وقتا يغسل ثوبه حتى أسفر وناداه عمرو بن العاص: لقد أصبحت ومعنا ثياب, فقال له: عجبا منك يا أبن العاص: إن كنت أجد ثيابا, أكل الناس تجد ثيابا؟ لو فعلت هذا كانت سنة ولكن أغسل ما رأيت وأنضح على ما لم أره, إلى غير ذلك من الأدلة.

      ثم تحدث عن مبدأ خلق الإنسان من هذه النطفة فقال: إن الله- تبارك وتعالى- وصف هذه النطفة التي خلق منها الإنسان بأنها ماء مهين, ووصفها بأنها نطفة أمشاج وذلك أبلغ في الدلالة على حقارتها, وذلك أبلغ في الدلالة على قدرة الله- تبارك وتعالى-.

      وأيضا فإن الإنسان ينطوي على كثير من الأشياء التي هي أنجاس فدمه نجس وفضلاته نجسهو كذلك أيضا أن كانت نطقه الرجل طاهرة, فلم بقل أحد في نطقه المرأة بطهارتها, على أن مرقد الانام في الرحم عندما ينشأ, والرحم مشتمل على النجاسة ولكن الله- تبارك وتعالى- شرفه بما آتاه من فضل وبما نفخ فيه من روح.

      وتعرض العلامة أبو مسلم لكثير من القضايا فأشبعها بحثا في كتابه ' نثار الجوهر' ومن بين هذه القضايا التي ناقش فيها العلماء قضية التفرقة بين الضاد والظاء (الظاء المستطيلة والضاء المشالة) فإن الإمام الفخر في تفسيره قال: لا يجب أن يفرق بينهما القارئ وأن لم يفرق بينهما في صلاة لما كان عليه في صلاته بأس, ولقد تشدد أبو مسلم اجاه هذا الأمر وقال: با، الضاد وأن كانت تجتمع مع الظاء في مجموع من الصفات منها الجهر والاطباق والرهو والجرسية, ولكن بجانب ذلك أيضا تختلف الضاد عن الظاء في المخرج, فالضاد من الحروف الشجرية والظاء من الحروف اللثوية كما إنها تختلف عنها بكون الظاء مستطيلة والضاد ليست من حروف الاستطالة.

      ويجب على الإنسان أن يقرأ القرآن كما أنزل من غير أن يبدل حرفا بحرف, ثم بجانب ذلك ذكر أيضا كلاما لإمام السالمي من أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يعلم أصحابه القرآن كان يعلمهم النطق بهدذه الحروف, والشعوب التي دخلت الإسلام تلقت النطق بهذه الحروف كما هي, وذلك داخل في تعريف القرآن.

      وقال: بأن هذا الرد غير مسلم به نظرا لأن العرب كانوا أقحاحا يتحدثون بالعربية بسليقتهم وبفطرتهم, ولم يكونوا بحاجة إلى أن يعرفوا الصفات الفارقة ما بين هذه الحروف.

      ومعظم الصحابة- رضوان الله عليهم- كانوا من العرب فإذا كانوا عندما يتلقون القرآن عن الرسول-صلى الله عليه وسلم- كانوا يقرأونه بسيليقتهم العربية, والشعوب التي كانت تتعلم على أيدي العرب, بعدما دخلوا في الإسلام كانوا يلقنونهم النطق بهذه الحروف ولئن كانوا يلقنونهم التفرقة ما بين بقية الحروف الأخرى التي هي متقاربة في المخرج- فكيف لا يلقنونهم التفرقة ما بين الضاد والظاء فاشبع هذه المسألة بحثا.

      أيضا مسألة ترجمة القرآن الكريم, وقراءة القرآن الكريم باللغة الفارسية أشبعها بحثا وناقش كلام الحنفية, وذكر أن القرآن الكريم لا يمكن أن تفي به لغة, فلغته الخاصة- هي التي أنزل الله- تبارك وتعالى- بها, ولا يمكن أن يكون أي كلام آخر بأي لغة أخرى يسد مسد القرآن الكريم, فلو حاول الإنسان أن يستخلص المعاني من الفاتحة الشريفة, ويقرأ قراءة غير هذه الآيات التي أنزلها الله مع الاستيعاب لتلك المعاني لا يمكن أن يقال بأنه قرأ, ولو قرأها بعربية فصيحة فكيف أن انتقل من العربية إلى لغة آخرى, على أن الله- تبارك وتعالى- بين أنه حكم عربي, وأنه- سبحانه- جعله قرآنا عربيا وأنزله قرأنا عربيا فإنه لا يعدل عن العربية إلى أي لغة أخرى, وقد استفاض بالحتجاج بهذه المسألة.

      كذلك مسائل أخرى متعددة, لا يمكننا الآن مع ضيق الوقت أن نستوعبها, فأبو مسلم كما كان في أدبه رجلا عالميا هو أيضا في علمه وفقهه خاصة رجل عالمي فإنه يجمع في فقهه ومناقشاته الفقهية ما بين المذاهب الإسلامية المختلفة ويعتمد على مراجع المذاهب المتعددة فهو ينقل عن كتاب الأم للإمام الشافعي والموطأ للإمام مالك, ويروي عن الأمهات الست وغيرها من كتب الحديث وعن شروحها, كما يروي عن كتب الرجال والنقد, ويروي عن كتب التفسير وغيرها, فكتابه موسوعة علمية, ولو أن الله- تبارك وتعالى- هيأ له أن يتم هذا الكتاب فأنسأ له في عمره لكان هذا الكتاب موسوعة فقهية في المذاهب الإسلامية المتعددة.

      نسأل الله- سبحانه- أن يتغمده برحمته وأن يمن عليه بالفوز والسعادة في دار النعيم كما أسأله- سبحانه وتعالى- أن يهدينا سواء السبيل, وأن يبارك لنا في حياتنا وأن يعلمنا ما لم نعلم, وأن يفهمنا ما لم نفهم وأن يهدينا إلى الطريق الأقوم أنه- تعالى- على كل شيء قدير, وهو بالإجابة جدير, إنه نعم المولى ونعم النصير وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين.

      وفي الختام أشكر وزارة الثراث القومي والثقافة على هذه الفرصة التي أتاحتها لي وعلى رأسها سمو السيد فيصل بن علي بن فيصل آل سعيد وزير التراث القومي والثقافة, كما أشكر القائمين على المنتدى على اتاحة هذه الفرصة وأشكركم جميعا على اصغائكم وحضوركم.

      وأسأل الله- تبارك وتعالى- أن يجمعنا مرات ومرات تحت لواء العلم والأدب إنه على كل شيء قدير, وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى صحبه أجمعين.




      --------------------------------------------------------------------------------

      (1) تكتب على نحو آخر (على م)

      (1) عظة: نسخة قديمة للديوان ص 39 (المنظومات الأربع).

      (1) (انفسنا) ص 348 ديوان أبي مسلم شاعر زمانه وفريد اوانه.

      (1) المرجع نفسه ص 351 (الدوا).

      (2) نفس المرجع ص 352.

      (3) ديوان أبو مسلم شاعر زمانه وفريد أوانه ص 17 ورد الشطر" وهبية الله وسورة الهدى".

      (1) (لما) ديوان ابي مسلم ( مرجع سابق) صـ 355.

      (1) ديوان الشاعر ص 316.
      كـــــــــــــــــــــــــــــــن مــ الله ــع ولا تبــــــــالي
      :):)
    • الشيخ أبو زيد الريامي فقيهاً






      محاضرة ألقاها سماحة الشيخ: أحمد بن حمد الخليلي -حفظه الله -
      بنادي بُهلا الرياضي







      الأربعاء 26 من شهر رجــب لسنة 1418 للهجرة

      الموافق 26 من شهر نوفمبر لسنة 1997 للميلاد








      الحمد لله الذي يختص من يشاء من عباده بما يشاء من إمداده، سبحانه له الحمد ومنه المِنَّة، وله الشكر لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، )يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، وما يذكر إلا أُولوا الألباب)([1](، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم تسليما عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

      فالسلام عليكم أيها المشايخ الكرام، والأخوة الأعزة والأبناء الفضلاء، ورحمة الله وبركاته أُحَيِّيكم بهذه التحية الطيبة المباركة في هذه الليلة المباركة، ونحن نجتمع هنا في ظلال العلم لأجل الاستفادة من ذكريات حملته الذين أنار الله سبحانه وتعالى بصائرهم، وطهر سرائرهم فكانوا مثالاً للإنسانية في الاستمساك بحبله تعالى، والسير على نوره والاستبصار بهداه.

      ولا ريب أن سيرة شيخنا العلامة الجليل، القانت الأواب الزاهد المتواضع أبي زيد - رحمه الله- سيرة تعد نادرة من نوعها، فإنه رحمه الله جمع بين العلم و العمل والإخلاص والمثابرة، فلذلك كان فضلاء عصره يعترفون بِقَدَره، ويدركون منـزلته ويُبَوِّئونه)[2]( مكانته التي يستحقها، ولا أدل على ذلك من كلمات نقلت إليّ عن الإمام محمد بن عبدالله الخليلي)[3]( –رحمه الله- أنه قال في العلامة أبي زيد –رحمه الله- بأنه(من رجال عمر، ولكن الله أكرمنا به).

      وإذا جئنا من الناحية العلمية فلا ريب أن العلامة أبا زيد -رحمه الله- كان من علماء عصره، كان من المثابرين إلى العلم فهو من الذين هاجروا في طلبه، فقد هاجر إلى عَلاَّمة عصره في مصره الإمام نور الدين السالمي)[4]( -رحمه الله- من أجل الارتواء من معينه الفيَّاض، وانقطع إليه سنين يتزود العلم وكان على قدَر عال من الاجتهاد، كما تدل على ذلك القصة التي حكيت لي عن أحد تلاميذ الإمام السالمي -رحمه الله- وهو العلامة أبو الوليد)[5]( فإنه قال:(كنت أعجب من اثنين من تلاميذ الإمام السالمي -رحمه الله- وهما الإمام سالم بن راشد الخروصي)[6](، والعلامة أبو زيد -رحمهما الله تعالى- فإنني كنت كلما فتحت عيني في الليل المظلم الساجي، لم أجد الإمام إلا مصليا، ولم أجد أبا زيد إلا كاتبا فتعجبت متى ينامان).

      أما الإمام سالم بن راشد -رحمه الله- فكان له هَمٌّ كبير في النُّسك والعبادة، ولذلك كان زميله يتحدث عنه بذلك أنه كلما فتح عينه في الليل الداجي لم يجده إلا مصليا والعلامة أبو زيد -رحمه الله- كانت عبادته بجانب نُسُكِه وبجانب قيامه للتهجد في الليل، تتمثل أيضا في خدمة العلم فكان يقضي ليله في الكتابة.

      هذا يدل على مدى اجتهاد الشيخ -رحمه الله- في تحصيل العلم، ولا ريب أننا عندما نأتي إلى آثاره العلمية قد نجد بعض الصعوبة في استبانة مكانته العلمية، بسبب رُكُونِه دائما إلى الاختصار، عندما يجيب وذلك لأسباب تعلمونها، فهو من ناحية كان مشغولا بالأشغال الكثيرة كان يحمل على رأسه عبء الأمة، ومن ناحية أخرى كان أيضا يخاطب عوام الناس ولا يريد أن يُبَلبِلَ)[7]( أفكارهم، بذكر الأقوال الكثيرة وتأصيل الأحكام وذكر الشواهد والأدلة، إلى غير ذلك مما يتوسع فيه المتوسعون في البحوث العلمية، على أننا قبل كل شيء ندرك مدى منـزلة الشيخ في العلم، من حيث عمله فإن العمل مقياس للعلم ذلك لأن العلم بلا عمل لا قيمة له.

      والله سبحانه وتعالى ضرب مثلا في بني إسرائيل عندما حُمِّلوا التوراة فلم يحملوها، أي عندما كانوا معتنين فقط بحفظها، من غير أن يهتموا بتطبيقها فقال فيهم: ]مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مَثَلُ القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين)[[8](.

      وقد حُكي عن بعض أصحاب رسول الله r أنه قال:(قبض تسعة أعشار العلم بموت عمر -رضي الله تعالى عنه-) مع أن عمر- رضي الله تعالى عنه- لم يكن من المكثرين فيما بين الصحابة رضوان الله عليهم في الإدلاء برأيه في القضايا العلمية، فهناك من الصحابة-رضي الله تعالى عنهم- من كان أكثر بكثير في الإدلاء بالآراء في المسائل الفقهية من عمر وكان هنالك من الصحابة أيضا من كان أكثر في الرواية عن عمر بكثير، ولكن مع ذلك كان التطبيق الدقيق للفقه الدقيق الذي يُبصِّر الإنسان بالمنهج السليم من قِبَل عمر t دليلا على علمه لأنه موصول بربه سبحانه وتعالى، وخير العلم ما وصل صاحبه بالله.

      أما من حيث البحث والنظر في المسائل التي كان يتناولها العلامة أبو زيد -رحمه الله- بالإجابة فإن ما يتبين لنا أنه كان دائما يميل إلى القول الراجح، ويترك الأقوال الأخرى، ويترك عَرضَ الأدلة ومناقشتها، وبيان انبناء القول على الدليل أو بناء الفرع على الأصل لأن ذلك أمرٌ كما قلنا، لا تحتمله مدارك عوام الناس الذين يخاطبهم.

      وقد كانت الأسئلة توجه إليه كثيرا من قِبَلِهِم فكانت إجاباته مبسَّطة، ولكن الناظر في تلك الإجابات يدرك أن الرجل كان على قَدَرٍ عالٍ من الفهم، وذلك هو الفِقه فإن الفقه كما هو معلوم عندكم من حيث اللغة هو:(فهم ما فيه غموض)، ومن حيث الاصطلاح هو كما قال الكثير من أهل العلم:(علم النفس ما لها وما عليها فعلا وتركا).

      من أمثلة ذلك أنه -رحمه الله- سُئل عن الذي يصلي صلاة الظهر مثلا، ولكن عندما يأتي لِيَعقِد النية بلسانه، كما هي عادة الكثير من الناس ذَكَرَ العصر بدلا من الظهر أو العكس، كما سُئل في موضع آخر عَن من يصلي صلاة الفرض، ولكن عندما جاء ليعقد النية بلسانه ذكر النفل بدلاً من الفرض، أو العكس فهل تكون صلاته في الحالين صحيحة أو لا؟

      فكان جوابه أن العبرة بالنية، وبما أنه ناوٍ أن يصلي الظهر أو يصلي العصر أو يصلي الفرض أو يصلي النفل فخطأُ لسانه ليس محسوبا عليه وإنما العبرة بما في قرارة نفسه لهذا يتبين لنا أن الرجل كان على معرفة بالنية المطلوبة. ولا ريب أن النية المطلوبة هي ما يستقر في قرارة النفس، إذ النية هي إخلاص العمل لله وذلك هو المَعنِي لقوله تبارك تعالى : ]وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)[[9]( وهو المقصود بقول رسول الله r وقد استدل هو بهذا الحديث )إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)([10](.

      ومن المعلوم عند أصحاب العلم والمعرفة، أنَّ رسول الله r وصحابته -رضي الله تعالى عنهم - والتابعين درجوا على العمل بالنية القلبية وحدها من غير أن يكونوا يتحدثون بألسنتهم، أي من غير أن يترجموا هذه النية القلبية إلى قول لساني… فما كان أحدهم عندما يقوم ليصلي صلاة الظهر مثلا يقول:(أصلي لله أربع ركعات فريضة الظهر مؤدياً للفرض الذي عليّ) أو نحو ذلك وإنما كانوا يستحضرون النية في قرارة نفوسهم ويعوِّلون على ذلك وهذا لأن النية هي الإخلاص، والإخلاص كما قلنا سِرٌ بين العبد فالإخلاص كما جاء في بعض الروايات هو سِر بين العبد وربه لا يَطَّلع عليه مَلَك فيكتبه ولا شيطان فيفسده.

      ولو كان الإخلاص مجرد أن يقول الإنسان(نويت أن أفعل كذا) أو(قصدت بعملي هذا وجه الله) أو نحو هذه الكلمات، لكان الأمر هَيِّنا ولما كابد الناس ما يكابدون من أجل أن يتصفوا بالإخلاص، ذلك لأن الإخلاص هو ضد الرياء فمن أراد الإخلاص لابد له من أن يكابد رغبة نفسه، حتى لا يريد أن يَطِّلع غيره على عمله على أن قول النبي r: )وإنما لكل امرئ ما نوى( لو كان يعني أن الإنسان مجزيٌ بأقواله الخيرية فحسب ولو لم يعمل بمقتضاها، لكان الإنسان الذي يقول بلسانه ولو لم يقصد بقلبه(أريد أن أفعل كذا) أو(أنوي أن أفعل كذا) أو في قرارة نفسه(أن أفعل كذا) مجزيا بذلك العمل، ولكن أنَّى له ذلك حتى تكون الحقيقة الكامنة في نفسه، التي يطلع الله تبارك وتعالى عليها وحده متفقة مع هذا الذي يدَّعيه، ومما يدل على ذلك أن الرسول r يقول في ذلك الحديث: )فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه( فهذا الذي يهاجر إلى الله ورسوله ليس هو الشخص الذي يقول دائماً بلسانه إنني مهاجرٌ إلى الله ورسوله، فإنه لا عبرة بنطق اللسان مع كون الواقع النفسي مخالفا له، وكذلك الذي هجرته إلى )الدنيا ليصيبها( أو إلى )المرأة ليتزوجها( ليس هو الذي يقول(بأنني أهاجر من أجل أن أتزوج فلانة)، أو(من أجل أن أنال من الدنيا كذا).

      فلربما كان الشخص الذي يقصد هذا المقصد يطوي قصده في قرارة نفسه من غير أن يعرب عنه بلسانه بحال من الأحوال، وإنما يبدي للناس خلاف ما تنطوي عليه نفسه.

      ومع هذا كُلِّه فإنه ربما وجد الناس بعدما دخلت الجموع الكثيرة في الإسلام، وجدوا هذه الجموع بحاجة إلى أن تُعبَّرَ لها النية التي تنويها حتى يكون هذا التعبير اللساني أو هذه التَّرجَمة اللسانية عونا لها ووسيلة إلى استحضار معاني هذه الكلمات، التي هي في حقيقتها النية الصحيحة عندما ترسخ في النفس، ولذلك أوجب بعض العلماء هذه الكلمات التي تترجم النية من أجل عون العوام الضعفاء على استحضار النية)[11]( ولكن مع مرور الزمن انقلبت المقاييس، فأصبحت الوسائلُ مقاصد وصار عوامّ الناس يجهلون هذه الحقيقة ويعتقدون أن النية هي مجرد هذه الكلمات، فلربما كان ذِهنُ الإنسان عازباً ويُتَمتم بلسانه ما يُتمتم ويعتقد أنه بمجرد تلك التمتمة، استحضر النية وينكر على ما لا يأتي بهذه الكلمات، على أن الناس بالغوا في مجتمعاتنا مبالغة عظيمة، وفي مجتمعات أخرى حتى وصل بهم الأمر إلى أن استعملوا بعض الطقوس التي ما أنزل الله بها من سلطان.

      وقد نَبَّهْنا على ذلك أكثر من مرة، فمن ذلك أنهم يعتقدون أن المرأة المُعتَدة التي تعتد عدة الوفاة لزوجها لا تتم عدتها إلا عندما يدخل عليها رجل، ويُقرئها هذه الألفاظ فهي إن لم تستعمل هذه الألفاظ تعتبر عدّتها غير صحيحة وإن استعملتها بقراءتها بنفسها من غير أن يُقرئها إياها رجل فعدّتها أيضا غير صحيحة، وعندما تقرئها إياها امرأة فعدّتها غير صحيحة، وهذا من تشريع ما لم يأذن به الله، والله تبارك وتعالى يحذّر من ذلك إذ يقول: ]أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله)[[12](.

      فالواجب إذاً أن نعي مثل هذه الكلمات عندما تصدر من أمثال هؤلاء العلماء، عندما يقول العلامة أبو زيد-رحمه الله- (إنما العبرة بالنية))[13]( فالنية التي يعنيها هي ما في قرارة النفس، فبها الاعتبار وعلينا أن ندرك أن مع تحول الوسائل إلى مقاصد أو إلى غايات، واختفاء الغايات من أجل طغيان الوسائل عليها؛ علينا أن نترك هذه الوسائل جانبا وأن نحرص على الغاية وحدها على أن في ذلك استمساكا لما كان عليه رسول الله r وبما كان عليه صحابته –رضي الله تعالى عنهم- فهم خير القرون.

      ومن أمثلة ذلك أيضاً أن العلامة أبا زيد –رحمه الله- سُئل عن الذي يحرم امرأته فأجاب بأن: (عليه كفارة يمين))[14]( وهي المنصوص عليها في كتاب الله في قوله سبحانه وتعالى: )فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام( ومن المعلوم أن هذه المسألة اختلف العلماء اختلافاً كبيراً، فاصطدمت فيه آراء بعضهم البعض، فمنهم من يقول: (بأن التحريم يؤدي إلى طلاق المرأة طلاقاً بائناً بينونة كبرى)، بحيث تكون مطلقة بالثلاث، ومنهم من يقول: (بأنه يؤدي إلى أن تكون المرأة بائنة بينونة صغرى بحيث لا تحل له رجعتها إلا بعقد جديد ولو لم تنكح زوجاً غيره)، بخلاف القول السابق، ومنهم من يقول: (بأنها تخرج بذلك بطلقة واحدة فيكون طلاقها رجعياً)، ومنهم من يقول: (بأن هذا ظهار)، ومنهم من يقول: (بأن هذا إيلاء) ومنهم ومنهم…

      الأقوال في ذلك كثيرة حتى أن الإمام القطب)[15]( –رحمه الله- ذكر في ذلك ستة)[16]) أقوال في شرح النيل، والعلامة ابن رشد)[17]( في كتابه (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) ذكر سبعة أقوال، والعلامة النووي في شرحه على صحيح مسلم ذكر أربعة عشر قولاً، والعلامة القرطبي في تفسيره في تفسير سورة التحريم ذكر ثمانية عشر)[18]( قولاً، والعلامة ابن القيم الجوزية في كتابيه زاد المعاد وكتاب أعلام الموقعين ذكر عشرين قولاً في هذه المسألة، وقد بسط الحديث فيها في أعلام الموقعين، فأفرد كل قول من هذه الأقوال العشرين بفصل مستقل، ذكر كل قول أدلته وما يرد عليه وما يجاب به، ولكن مع هذا كله فإنه كما قلنا بأن العامي الذي يتقدم بالسؤال ينبغي أن يجاب بالرأي الراجح، لأن الرأي الراجح هو الذي يمكن أن يحل مشكلته، فهو لا يدري الخلافات الكثيرة، وعندما تعرض عليه بأدلتها وتأصيلاتها، يتيه عقله في مواجهة خضم مناقشاتها، ولا يستطيع أن يخرج بحاصل، على أن القول الذي ذهب إليه العلامة أبو زيد –رحمه الله- إنما هو قول مروي عن ابن عباس –رضي الله تعالى عنهما- وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، وبجانب ذلك أيضاً أنه يعتضد بدلالة القرآن، إذ القرآن الكريم يدل عليه، وذلك أن الله تبارك وتعالى حذر أولاً من التحريم أي تحريم ما أحل سبحانه، ثم اتبع ذلك الكفارة عندما قال: )لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة(([19]) إلى آخر الآية، على أن هذا الاقتران دليل بأن للمشكلة الأولى التي ذكرت فيما سبق هذا الحل، ومما يدل على ذلك أيضاً أن الله سبحانه وتعالى عندما عاتب نبيه r على تحريم بعض الأشياء التي هي محللة، لم ينـزل فيها من الله تبارك وتعالى تحريم وقد حرمها الرسول r على نفسه جاء عقب ذلك قوله سبحانه وتعالى: )قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم(([20]) وهذا دليل على رجحان هذا الرأي، على أنه من الممكن أن يقال بأن هذا القول إنما يترجح فيما إذا لم يقصد الإنسان غرضاً آخر عندما يقوله، أما عندما يقصد الطلاق أو يقصد الظهار فله قصده في هذه الحالة، ومهما يكن من أمر فإن علينا أن نقف عند هذه النقطة لأن أمر التحريم ليس بالأمر السهل، والناس في هذه الأيام اقتحموا لجج مخاطر هذا الأمر من غير مبالاة بعواقبها، فالتحريم ليس هو من حق إنسان، وإنما هو من حق الله تبارك وتعالى، بعد التحذير من كتاب الله من اجتراء الإنسان على تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم فإن أي اجتراء من هذا القبيل يعد كفراً بواقاً)[21](، عندما يعني الإنسان أن الشيء الذي أحله الله حرمه هو، أو أن الشيء الذي حرمه الله أحله هو، فليس للإنسان أن يجترأ هذا الاجتراء، ومن اجترأ يعد مرتداً عن الإسلام، فالتحذيرات من ذلك بالغة إذ الله تبارك وتعالى يقول: )قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين( ويقول عز من قائل: )ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون( والله سبحانه وتعالى يبين كيف يكون اعتذار المشركين، وهم الذين كانوا يجترئون هذا الاجتراء يجترئون على التحريم، يقول الله تعالى: )سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء( وفي اقتران التحريم بالإشراك دليل على أنه له حكمه أيضاً، كما أننا نجد أن الله سبحانه وتعالى ينعى على المشركين في كتابه العزيز هذا الاجتراء الذي اجترأوه على الله يقول الله تعالى: )ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل ءآلذكرين حرم الله أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين % ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ أوصاكم الله بهذا( نجد أن الله تعالى يتحدى أولئك ويأمر رسوله r بأن يتحداهم عندما يقول سبحانه: )قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم( هكذا يتحدى الله سبحانه وتعالى أولئك المشركين ويأمر رسوله r بتحديهم، فما للمسلم والوقوع في هذا الأمر بعدما جاء هذا التحذير البالغ في كتاب الله من الاجتراء على الله سبحانه وتعالى، والله U يقوك )قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل ءالله أذن لكم أم على الله تفترون( على أن الافتراء على الله سبحانه وتعالى شرك به ورد على كل حكم من أحكامه سبحانه وتعالى يُعد من ضروب الإشراك، فمن وقع في ذلك وقع في كفر الشرك الذي يفصل الإنسان عن جسم الأمة الإسلامية ويبيح دمه وماله، والعياذ بالله تعالى.

      ومما يجب التحذير البالغ منه ما يصدر من عوام الناس وجهلتهم في وقتنا هذا، بحيث لا يكاد أحدهم يطلق امرأته إلا مقرونا طلاقها بتحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم، وكل منهما كفر بواق كما قلنا يفصل صاحبه من ملة الإسلام، فعندما يطلق الإنسان امرأته يعتبر أنها لا تطلق حتى يقول لها (حرمتك عليّ وأحللتك لأي رجل آخر)، من هو حتى يحلل ويحرم؟ وبأي سلطان يحلل ويحرم؟ إنَّ التحليل والتحريم بيد الله سبحانه وتعالى، والمخلوق عليه أن يقف مع حدود الله وكيف يحرمها على نفسه مع أن الله سبحانه وتعالى يقول: ]وبعولتهن أحق بردهن في ذلك)[[22]( هذا إن كان الطلاق رجعيا، أما إن كان الطلاق بائنا فإنه ليس هو المُحَرِّم وإنما الله تبارك وتعالى حرمها، وماله والتحريم، وأما قوله أحللتك لغيري فكيف تحل لغيره، وهي لم تتربص التربص الشرعي بعد، والله تعالى يقول: ]والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر…)[[23](.

      كذلك مما وجدنا أن العلامة أبا زيد -رحمه الله- اقتصر فيه على القول الراجح أنه سُئل فيما سُئل عنه فيما إذا ماتت المرأة بموته، أي التي اعتدَّت على زوجها عدة الوفاة هل تطيب أم لا تطيب؟

      فأجاب بأنها(تطيب وأن حكم الممات يختلف عن حكم الحياة))[24]( وفي المسألة قولان قيل تطيب كما ذهب هو، وقيل لا تطيب، هؤلاء الذين قالوا: لا تطيب، قاسوا المعتدة على المحُرِم، مع أن هذا القياس إنما هو قياس مع الفارق فهو قياس غير صحيح، ذلك لأن العلة في منع المحرم من الطيب عندما يموت، هي أنه يبعث مُلَبِّيا، كما جاء في الحديث: )يبعث بإحرامه ملبيا لله تبارك وتعالى)([25]( وتكون تلبيته شاهدا على أنه كان على إحرام، والطِّيب مما يتنافى مع الإحرام، فيطلب أن يسترسل في إحرامه وهذه كانت معتدة والعِدَّة ذهبت وكانت في حِدَاد والحِدَاد انتهى، فهي لا تُبعث مُحِدة وإنما تبعث عروسا إن كانت تقية ووفية قائمة بأمر الله سبحانه وتعالى، فلا داعي إلى أن تمنع من الطيب بعد وفاتها، ومع وجود هذا الفارق ما بين هاتين المسألتين، لا يصح قياس إحداهما على الأخرى وبهذا يتبين أن القول الذي ذهب إليه العلامة أبو زيد -رحمه الله- وأفتى به هو القول الراجح.

      كذلك سُئل عن من جاء إلى المسجد فوجد الجماعة قائمة تصلي وهو مسافر والإمام مقيم، فهو يقصر الصلاة والإمام يتمها، وقد جاوز الإمام الركعتين الأوليين هل يدخل مع الإمام أو لا يدخل؟

      فأجاب بأنه يدخل مع الإمام)[26](، وهذا أيضا هو القول الراجح، بل رجحه من علماء المذهب الإمامان قطب الأئمة ونور الدين السالمي –رحمهما الله تعالى- وكفى بهما مُرجِّحا وهو الذي يدل عليه حديث رسول الله r عندما يقول عليه أفضل الصلاة والسلام: )إذا جئت والناس يصلون فصل معهم )([27]( ويقول: )ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)([28]( وفي رواية: )وما فاتكم فاقضوا( فإن قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: )إذا جئت( عام لم يُخَصَّص فإن )إذا( من أدوات العموم، وقوله عليه أفضل الصلاة والسلام أيضا:(ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا( أو )ما فاتكم فأتموا( كما في الرواية الأخرى هو أيضا عام لأن )ما( من أدوات العُموم ولم يأت ما يخصص هذا العموم، على أنَّ المصلي عندما يدخل مع الإمام في صلاته تكون صلاته مرتبطة بصلاة الإمام، وبسبب هذا الارتباط وجب عليه أن يتابع الإمام في هذه الصلاة وبوجوب متابعة الإمام فإنه يصلي أربعا إن كان الإمام مقيما وكان هو مسافرا لم تكن هذه التبعية إلا بسبب هذا الارتباط فإذن هو دخل على إمام مقيم، والإمام المقيم لا يزال بعد في صلاته فهو لم يتجاوز الصلاة التي فرضها الله تبارك وتعالى عليه، لذلك كان عليه أن يدخل معه ويُتِّم الصلاة، ولو كان الإمام جاوز الركعتين الأوليين.

      من الأسئلة التي وُجِّهَت إليه فأجاب فيها بالقول الراجح وترك بقية الأقوال معرضا عنها، أنه سئل عن: بيع المتاع الذي يشتريه الإنسان قبل أن يقبضه؟

      فأجاب بالمنع من ذلك، واستدل بالحديث حديث النهي عن بيع ما لم يقبض وربح ما لم يُضمَن)[29](، وحديث النهي عن بيع ما ليس عندك)[30]( والمسألة فيها أقوال كثيرة)[31](، فقد بلغت الأقوال فيها ثلاثة عشر قولاً، منهم من أباح ذلك مطلقا في غير الطعام، ومنهم من أباحه إلا في العُروض، ومنهم من أباحه إلا في المَكِيل، ومنهم من أباحه إلا في الموزون، ومنهم من أباحه إلا في المكيل والموزون، إلى غير ذلك من الآراء و لكنَّ هذا الرأي الذي ذهب إليه هو الذي يتفق أولاً مع الرواية وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ]وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا)[[32]( وأيضا هو الذي يتفق مع روح الشريعة الغَرَّاء ولا ريب أن علم مقاصد الشريعة، علم جليل فإن الإنسان كثيرا ما يتمكن من ترجيح رأي على رأي عندما يجد أحد الرأيين أو أحد الآراء متفقا مع مقاصد الشريعة أو أكثر انسجاما مع هذه المقاصد دون بقية الآراء، وهذا الرأي الذي يتفق مع مقاصد الشريعة كيف؟ والشريعة الإسلامية جاءت لسد ذرائع الفساد على اختلاف أنواعها، وليس هنالك فساد في المعاملات أشد من فساد المعاملات الرِّبَوية فلذلك شَدَّد الإسلام في الربا تشديدا بالغا لا مثيل له، والربا يكون ببيع النقد بالنقد مع النسيئة هذا هو المعبر عنه بربا النسيئة وهو المُجمع على تحريمه بغير خلاف، فهذا الذي اشترى متاعا بثمن معين ثم بعد ذلك يبيع هذا المتاع من قبل أن يقبضه هو لم يزد على أن دفع نقدا واستوفى نقدا لم يَحُز المتاع إليه وبسبب كونه باع نقدا واستوفى نقدا، كان مُشبِها للمرابي فإنه أراد أن يأخذ نقدا أكثر في مقابل نقد أقل مع تفاوت في الزمن بين أخذه وعطائه، وقد أشار إلى هذه الحكمة البالغة حَبر الأمة وتَرجُمان القرآن ابن عباس -رضي الله عنهما- وقال: بأن الحرمة إنما هي من أجل ذلك فإذن في هذا كله مراعاة لهذا الجانب.

      وهناك الكثير الكثير من المسائل التي أجاب فيها بالرأي الذي توجه إليه عقله واختارته نفسه، يتبين من خلالها أنه كان يميل إلى الرأي الأرجح ويأخذ بالقول الأقوى، ويأخذ بما يتفق مع الدليل وبما يتفق مع مقاصد الشريعة الغراء، ثم إنه لا ريب كان من الناحية التطبيقية آية في الفقه، كما قلنا من قبل، فهو كان يحرص دائما على الخير يحرص على البر، كان يواسي الفقراء والمساكين ويقف بجانب الضعفاء المحتاجين ويحمل الكَّل، ويُعين على نوائب الدهر، آخذاً في ذلك بإرشادات الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام وإرشادات القرآن كتاب الله تبارك وتعالى قبل كل شيء.

      وكما سمعتم من البحث القَيِّم الذي أفاض فيه الباحث في بيان أوصاف الشيخ -رحمه الله تعالى- أنه كان يهتم اهتماما بالغا بمكافحة البطالة، والاشتغال بما يعود بالمصلحة على الكُّل، فكان حتى المساجين يدفع بهم إلى العمل، كان صاحب كل مهنة عندما يسجن يُمكِّنه من ممارسة مهنته وهو في السجن، كما أنه أيضا كان عندما يجد أحدا محتاجا يعينه على دفع خَصَاصَتِه بأن يسهل له القرض الحسن ليشتري دابة يشتغل بها أو ليشتري آلة يعمل بها حتى يعمل كل أحد في مجاله ويكون هنالك تسابق وتنافس بين الناس في هذا المضمار، في مضمار العمل، واعتنى هو نفسه عناية بالغة بالعمل لا لشخصه، ولكن لمصلحة الأمة فكان يُجهد نفسه في العمل، يحرص على بيت مال المسلمين حرصا لا مثيل له، كان عندما يبصر نخلة صغيرة بدأ فيها الطلع يهتم بتأبيرها من أول الأمر، وعندما ينساها العمال يكتب إليهم أو إلى من يقوم بهذا العمل من الناس رسالة خاصة يبعث العُمَّال إلى تأبيرها، وكذلك عندما يمر بشجرة ليمون وقد بقيت فيها آحاد من الثمر ينبه على ذلك القائمين بهذا الأمر ويكتب إليهم وله في ذلك رسائل إلى عماله، ربما لا تزال محفوظة إلى الآن.

      وكل ما يعود بالمصلحة على المسلمين كان يهتم به كما اهتم بالغِراس اهتماما بالغا فقد عُني بذلك عناية فائقة وهو في ذلك يعمل بحديث رسول الله r عندما يقول عليه أفضل الصلاة والسلام: )ما من أحد يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو آدمي أو دابة إلا كانت له به صدقة)([33]( وهذا مما يعمله أهل هذا البلد كيف عني في غرس مال المسلمين عناية بالغة فائقة لا مثيل لها واهتم بالأوقاف اهتماما بالغا لا مثيل له وبما أننا ذكرنا الأوقاف فإن هذه الأوقاف وهذا بيت المال كل منهما يعد من الصدقة الجارية، التي يكتب الله سبحانه وتعالى لصاحبها الخير إلى يوم يلقاه فهذا مما ينتفع به العبد بعد موته، كما يدل حديث رسول الله r:)إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له)([34] والشيخ -رحمه الله- له صدقات جارية، فقد عُنِيَ ببيت مال المسلمين وعني بالأوقاف الخيرية وان لم يكن هو واقفها إلا أنه عني بإحيائها عناية بالغة ولذلك فإن الاحتفال بذكراه وتدارس مآثره -رحمه الله تعالى- مما يَحفِزُ الهمة إلى سلوك هذا المسلك والعناية بهذا الجانب، ونحن نرى أن السابقين كانوا ذوي عناية بالغة بالأوقاف الخيرية، ففي هذا البلد مثلا لكل وجه من وجوه الأوقاف الخيرية نصيب لأهلها السابقين، حتى أنني اطلعت على صك وقفية في القرن السابع الهجري، وقفية لمال وُقف في هذا البلد لتحمل ثمرته من هنا إلى مكة المكرمة من أجل تفطير الصائمين بالمسجد الحرام، وهذا ما يدل على عناية السلف بالأوقاف، أوقاف الخير، فضلا عن الأوقاف التي للمساجد، والأوقاف التي للمدارس، والأوقاف التي للفقراء، والأوقاف التي للصائمين، والأوقاف التي هي لأنواع سُبُلِ الخير ونحن نرى حركة الوقف توقفت مع الأسف الشديد في هذه الآونة مع أن الخصاصة التي كان يكابدها السلف اندفع كثير منها عن الخلف فقد حل محلها الثراء فالخَلف أولى بأن يحرصوا على الأوقاف الخيرية من أسلافهم على أن هنالك الكثير الكثير من السُّبل التي تستدعي الوقفية لها من أجل أن يستمر خيرها، من بينها أنواع التعليم تعليم القرآن الكريم وتحفيظه -تعليم القرآن التحفيظ- و تعليم الفقه وتعليم علوم الآداب، وشتى أنواع العلوم التي تعود بالخير على الأمة أين أصحاب الهمم؟ وأين أصحاب الخير؟ وأين الساعون إلى البِّر والإحسان من أجل المثابرة إلى هذه الأعمال؟ التي يتنافس فيها المتنافسون ليتسابقوا إلى رضوان الله تبارك وتعالى، وبما أننا نَتَفَيَّأُ ظِلاَلَ ذكريات الصالحين علينا أن نقتدي بهم، وأن نحرص على اتباع سيرتهم وعلى التأثر بمآثرهم حتى نحشر معهم بفضل الله تبارك وتعالى وتوفيقه.

      هذا، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك في هذه المكتبة التي عُنِيَت بهذه العناية الفائقة والعناية بالمكتبات، لا ريب إنها عناية بمادة العلم عناية بسبب العلم، عناية بتهيئة الأجواء العلمية التي يجد فيها كل طالب علم بُغيَتَه، فالعناية بالمكتبة عناية يُؤجر عليها صاحبها بمشيئة الله فما من أحد يدرس علما ينتفع به في هذه المكتبة إلا ويعود أجر ذلك بمشيئة الله سبحانه وتعالى على من أَسَّسَ المكتبة أو شارك في تأسيسها أو ساهم فيها بأي شيء كان.

      فإنشاء المكتبات من الأمور التي يجب أن ينفق فيها المال ليكون قربة إلى الله تبارك وتعالى، أشكر أصحاب هذه المكتبة أولا على تأسيسها والتأسيس أمر صعب في بدايته ولكن بعد ذلك يهون بمشيئة الله وعزائم الرجال تذلل الصعاب، وعظائم الأعمال إنما يقوم بها عظماء الرجال وأشكر رئيس مجلس هذه المكتبة على العناية البالغة بتنظيم نشاطها وقيامها بأمثال هذه الأعمال التي تعود بالنفع على المجتمع، شِيبِه وشبابه وتَصقِل مواهب الشباب بتذكيرهم بمآثر أسلافهم الصالحين كما أنني أشكر كل من ساهم في هذه المكتبة وإنشائها وترتيبها وترتيب أنشطتها، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك في جهودهم وأسأله U أن يتغمد شيخنا أبا زيد -رحمه الله- بواسع رحمته وأن يسكنه فسيح جنته وأن يبوأه مبوأ صدق في دار كرامته، وأن يجمعنا به مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وأسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكم التوفيق لكل خير وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وأشكركم على استماعكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.





      --------------------------------------------------------------------------------

      )[1]( سورة البقرة الآية (269).

      )[2]( ينـزلونه.

      )[3]( هو الإمام محمد بن عبدالله بن سعيد الخليلي بويع له بالإمامة بعد موت سلفه الإمام سالم بن راشد الخروصي سنة 1338ه‍، كان أعلم أهل زمانه، وقد جمع الشروط الشرعية التي تتوافر في القائد بالأمر فقام بالواجب خير قيام… وعاش مرجعاً لأهل عُمان، أنفق أمواله كلها في عز الدولة، مات في صبح اليوم التاسع والعشرين من شهر شعبان سنة 1373ه‍، رحمه الله.

      )[4]( هو العلامة المحقق المجتهد نور الدين عبدالله بن حميد بن سلوم بن عبيد بن خلفان بن خميس السالمي.

      ولد "بالحوقين" بلدة من أعمال الرُّستاق سنة 1286ه‍، كف بصره في السنة الثانية عشر من عمره.

      يُعد نور الدين السالمي مربياً وداعياً ومصلحاً هذا بجانب تآليفه القيمة في مختلف فنون العلم، كما درس على يديه فطاحل العلماء.

      لم يكتب لهذا العلامة أن يعمر طويلاً وذلك عندما ارتطم بغصن شجرة وهو في طريقه إلى بلدة الحمراء ليتفاهم مع الشيخ ماجد بن خميس العبري في أحد المسائل.

      )[5]( لم يتيسر لي البحث عن شخصية العلامة أبو الوليد، فأكتفي بما ذكر عنه الشيخ أحمد بن حمد الخليلي في محاضرته بما يتصف به من صفة العبادة تدعو إلى التأسي به رحمه الله.

      )[6]( هو الإمام سالم بن راشد بن سليمان بن عامر الخروصي، بويع له بالإمامة في اليوم الثاني عشر من جمادى الآخرة سنة 1331ه‍، كان صارماً في الأحكام، لا تأخذه في الله لومة لائم، قام بالحق وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وأدب السفهاء، وازدهرت عُمان في زمانه، بقي في الإمامة إلى إن مات شهيداً في ليلة الخامس من ذي القعدة سنة 1328ه‍، كانت إمامته سبع سنوات وأربعة أشهر واثنين وعشرين يوماً رحمه الله.

      )[7]( يبلبل: يخلط.

      )[8]( -سورة الجمعة الآية(5)

      )[9]( -البينة الآية(5)

      )[10]( أخرجه الإمام الربيع بن حبيب في المسند من رواية ابن عباس، وقد رواه أئمة الحديث من قومنا من طريق عمر بن الخطاب t وذكر نور الدين السالمي أن هذا الحديث مجمع على صحته مستفيض من الأمة.

      )[11]( وهذا ما دوِّن في تلقين الصبيان من رسالة النيات للشيخ هلال بن زاهر اليحمدي، وذلك لمن لا يحسن استحضار النية في قلبه يعلم بها لفظاً إلى أن يتقنها حتى يسهل عليه استحضارها في قلبه، وليس ذلك بمحصور في صيغة معينة إذ لم يرد عن رسول الله r من ذلك شيئاً.

      )[12]( -الشورى الآية(21)

      )[13]( هذه الكلمات لها مدلول عند أبي زيد –رحمه الله- والمقصود إنما العبرة بالعمل الصالح المقرون بالنية الصالحة لأن الإيمان قول وعمل ونية، فجمع العبادات والمعاملات والأخلاق التي يدان بها الله ويتعبد بها لابد لها من نية وكذلك الانتهاء عن المنهيات لابد إن يكون تجنبه مقروناً بالنية وذلك خوفاً من الله طلباً لرضاه، هذا مفهوم الشيخ لقوله "إنما العبرة بالنية" والذي أود أن أشير إليه أن هذه الكلمات أخذت مدلولاً عقيماً عند العوام وعند المتذبذبين، وذلك أن النية لديهم صفاء القلب بدون أن ينظر إلى العمل، وبدون أن تتبع النية الصالحة بالعمل الصالح، فيرتكب الكثير منهم المحرمات ويدَّعي صفاء القلب ونقاوته، محتجاً بمدلول "إنما العبرة النية" والرد على ذلك:

      إذا كانت النية حسنة والمضغة التي عبر عنها الحديث في القلب صالحة أمرتك بالعمل الصالح لأن باعث العمل القلب، وإن كانت النية خبيثة صدرت من مضغة فاسدة العمل سوف يكون فاسداً وهذا من مدلول قوله عليه السلام: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".

      وأيضاً فإن المخلوق ينظر إلى المخلوق جانب الظاهر ما لم ينعكس ما في الباطن على الظاهر من مخالفة شرع الله، فإقامة الحدود في شرع الله إنما على أمر ظاهر، وحكم الولاية والبراءة على الظاهر.

      أما لو صدر من الإنسان العمل الخبيث وادَّعى الصفاء للقلب حكمنا عليه بالبراءة إذ ادعاءه لا يفيده اللهم إلا إذا وجدت قرينة تبيح بقاءه على ولايته فليع ذلك القارئ.

      )[14]( القول الراجح الذي ذكره الشيخ وهو الذي تدل عليه النصوص كما ذكر الشيخ أحمد بن حمد الخليلي في سياق محاضرته، وهذا القول الذي يرجحه الشيخ نور الدين السالمي في العقد الثمين الجزء الثاني ص‍، مكتبة الضامري، والقول مذكور في كتاب النكاح للجناوني والقطب في تفسيره لسورة التحريم، وكذلك شرح النيل الجزء السابع، وزارة التراث القومي والثقافة، والملاحظ من سياق كلامهم يميلوا إلى القول بكفارة اليمين.

      )[15]( هو الإمام القطب الشيخ العلامة محمد بن يوسف بن عيسى بن صالح وينتهي نسبه لعمر بن حفص جد الأسرة الحفصية في "تونس" ولد في بني "يسقن" بالجزائر سنة 1236ه‍، الموافق 1820م لأب وأم ماجدين، وكان أجداده لأبيه وأمه من العلماء الفضلاء ذوي المنـزلة والمكانة الرفيعة، فهو من أكبر المؤلفين في الميادين المختلفة، توفي يوم السبت الثالث والعشرين من ربيع الثاني سنة 1332ه‍الموافق 1914م.

      )[16]( القطب، شرح النيل، ج‍، ص‍، 190، ط1، التراث.

      )[17]( انظر ترجمة ابن رشد في الجزء الأول من كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد.

      أما ذكر الأقوال في المسألة ففي الجزء الثاني من نفس المرجع ص‍دار إحياء التراث العربي بيروت.

      )[18]( القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، المجلد التاسع (17-18) ص‍-186.

      [19]المائده الآية 89

      [20] التحريم الآية 2

      )[21]( بواقاً: شديداً ويراد به أيضاً الباطل والزور.

      )[22]( - البقرة الآية(228)

      )[23]( - البقرة الآية(228)

      )[24]( ذكره الشيخ العلامة محمد بن الحواري على أنه أكثر القول / انظر جامع أبي الحواري ج‍، ط1، وزارة التراث، ص‍.

      )[25]( ونص الحديث كما ذكره نور الدين السالمي في شرح المسند والحديث رواه الجماعة ولفظه عندهم عن ابن عباس قال: "بينما رجل واقف مع رسول الله r بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته فذكر ذلك للنبي r فقال: اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فإن الله تعالى يبعثه ملبياً يوم القيامة" شرح المسند، ج‍، ص‍.

      )[26]( انظر شرح النيل، ج‍، وزارة التراث ص ‍.

      ([27]( رواه الربيع بن حبيب في مسنده مرسلا بابا رقم 36 رقم الحديث219 بنصا: "بلغني أن رسول الله r جلس ذات يوم وفي مجلسه رجل يسمى محجناً فأقيمت الصلاة، قال: فقام رسول الله r فصلى فلما فرغ من صلاته نظر إلى محجن وهو في مجلسه، فقال له رسول الله r ما منعك أن تصلى مع الناس؟ ألست برجل مسلم؟ قال: بلى يا رسول الله ولكن قد صليت في أهلي، فقال رسول الله r "إذا جئت والناس يصلون فصل معهم وإن كنت قد صليت في أهلك".

      )[28]( رواه الربيع بن حبيب في مسنده من طريق أنس بن مالك باب(36) حديث رقم217 بلفظ: "إذا ثوب للصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة والوقار، وما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا، فإن أحدكم في صلاة ما كان يعمد إلى الصلاة" والحديث أخرجه أحمد الشيخان من طريق أبي قتادة بلفظ "وما فاتكم فأتموا".

      )[29]( رواه أحمد ومسلم وأبو داود.

      )[30]( رواه الربيع بن حبيب في مسنده مرسلا الباب (32) الحديث رقم563 بلفظ بلغني أن رسول الله r أنه "نهى عن الاحتكار وعن سلف جر منفعة وعن بيع ما ليس عندك".

      )[31]( وقد أثار القطب إلى المسألة في شرح النيل، ج‍، رقم (1) في باب التولية والإقالة، وأيضاً في ص‍من نفس الباب وكذلك في باب السلم.

      )[32]( - الأحزاب الآية(36)

      )[33]( متفق عليه ، أنظر الفتح الكبير للسيوطي ص‍119

      )[34]( أخرجه مسلم عن أبي هريرة.
      كـــــــــــــــــــــــــــــــن مــ الله ــع ولا تبــــــــالي
      :):)
    • السلام عليكم
      جزاكي الله خير يا اختي .. مشكوره كثير على هذه المبشرات للخير .. بس يمكن يكون االموضوع عميق وكبير .. والواحد لا يستطيع ان يقرأ كل ما هو موجود .. انشاء الله يكون يكون الناس موجودين في هذه المحاضرات .. جزاكي الله خير اختي ..