{ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}(الشورى: 30).. فما أصابت الناس من مصيبة من المصائب سواء كانت في النفس أو الولد أو المال فإنما هي بسبب المعاصي التي اكتسبوها.. والآثام التي اقترفوها.. والمنكرات التي انغمسوا فيها.. والذنوب التي فعلوها.. والقبائح التي ارتكبوها.. والظلم الذي أوقعوه على أنفسهم بخروجهم عن المنهج الذي خط لهم.. فالكوارث الطبيعية.. والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية.. والحروب الطاحنة.. والأمراض الفتاكة والتي لم تكن معهودة من قبل.. وظهور العاهات والعلل.. والأمراض والأسقام.. ونقص في الثمرات.. وإصابة معظم الأشجار والثمار بالآفات فتهلكها.. وإصابة الحيوانات بالأوبئة فتقضي عليها.. والجفاف في مناطق بسبب انحباس الأمطار.. والفيضانات في مناطق أخرى والتي تدمر كل ما يقف في طريقها.. والزلازل والبراكين.. والرياح والأعاصير.. والتي تجتث كل شيء.. وتقضي على كل حي.. إنما بما كسبت أيدي الناس.. رغم أن الله سبحانه وتعالى يعفو عن كثير من السيئات ويغفر كثير من الخطايا والزلات ويسامح عن كثير من الهنات والسقطات.. ولكن ما يقع لنا من تلك الكوارث والمصائب بسبب ذلك المتبقي والذي لم يشمله عفوه تعالى ولو عاملنا الله بحسب ذنوبنا لما وجد أحد على هذه البسيطة ولكن رحمة الله شملت كل شيء.. عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : <<إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ولا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر>> (مسند أحمد [22440] ج5 ص277).. فقد يحرم الإنسان رزقه لا بسبب عدم توفيق من الله أو بسبب أن أحداً من البشر كان يقف حجر عثرة في طريق تحصيله لذلك الرزق.. وإنما قد يكون حرمانه بسبب معصية ارتكبها في الماضي.. أو إثم مازال يمارسه.. أو منكر لم يتراجع عن فعله.. وينطبق ذلك أيضاً على المصائب والمحن والمشكلات.. فالله سبحانه وتعالى يقول : {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ}(النساء: 79)..
شريعة الله للإصلاح عنوان
وكلُّ شيء سوى الإسلام خسران
لما تركنا الهدى حلت بنا محن
وهاج للظلم والإفساد طوفان
تاريخنا من رسول الله مبدؤه
وما عداه فلا عزٌّ ولا شان
محمد أنقذ الدنيا بدعوته
ومن هداه لنا روح وريحان
قال ابن القيم :"وعن محمد بن سيرين رحمه الله أنه لما ركبه الدَّين اغتمَّ لذلك!!.. فقال : "إني لأعرف هذا الغمَّ!! إنه بذنب أصبته منذ أربعين سنة"!!..
وهاهنا نكتة دقيقة يغلط فيها الناس.. في أمر الذنب.. وهي أنهم لا يرون تأثيره في الحال.. وقد يتأخر تأثيره.. فينسى ويظن العبد إنه لا يغير بعد ذلك.. وإن الأمر كما قال القائل :
إذا لم يغبرَّ حائط في وقوعه
فليس له بعد الوقوع غبار
وسبحان الله.. كم أهلكت هذه النكتة من الخلق؟!!.. وكم أزالت من نعمة؟!!.. وكم جلبت من نقمة؟!!.. وما أكثر المغترين بها من العلماء والفضلاء فضلاً عن الجهال!!.. ولم يعلم المغتر أنَّ الذنب ينقضُّ ولو بعد حين.. كما ينقضُّ السهم.. وكما ينقضُّ الجرح المندمل على الغش والدغل..
وقد ذكر الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال :"اعبدوا الله كأنكم ترونه.. وعدُّوا أنفسكم في الموتى.. واعلموا أن قليلاً يكفيكم خير من كثير يلهيكم.. واعلموا أنَّ البرَّ لا يبلى.. وأنَّ الإثم لا ينسى".. ونظر بعض العباد إلى صبي.. فتأمل محاسنه.. فأتي في منامه وقيل له : لتجدنَّ غبها بعد أربعين سنة!!.. هذا مع أنَّ للذنب نقداً معجلاً لا يتأخر عنه!!".. وليتذكر قول الله تعالى :{ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ}(الحج: 48).. فكثير من أهل قرية أخر الله إهلاكهم وأمهلهم مع استمرارهم على الظلم فاغتروا بذلك التأخير.. ثم أخذهم الله سبحانه وتعالى بالعذاب بعد طول الإمهال وإلى الله المرجع والمآب..
إن الذنوب تزيل النعم.. وتحلُّ على المذنبين النقم.. وما زالت عن العبد نعمة إلا بسبب ذنب اقترفه.. أو بسبب معصية ارتكبها.. أو إثم قام به.. ولا حلت به نقمة أو مصيبة إلا بذنب قال الإمام علي كرم الله وجهه :"ما نزل بلاء إلا بذنب.. ولا رفع بلاء إلا بتوبة"..
رأيت الذنوب تميت القلوب
وقد يورث الذلَّ إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب
وخير لنفسك عصيانها
لما فتحت جزيرة قبرص على المسلمين وفرق بين أهلها وسبوا.. جلس الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه لوحده يبكي!!.. فقيل له : سبحان الله!! ما الذي يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله.. وأظفرهم على عدوهم.. ومكنهم من رقابهم؟!!
فقال : ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه وتركوا أمره.. بينما أهل هذه الجزيرة أمة قاهرة ظاهرة.. لهم الملك في الأرض.. إذ تركوا أمر الله عز وجل وخالفوه.. فصاروا إلى ما ترون من الذل والهوان!!..
إن السبب الأساسي في الهزائم التي تلحق الأمم والشعوب هي وقوعهم في معصية الخالق وتماديهم في الغي والضلال.. وقال تعالى : {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} (القصص: 58).. وقال تعالى :{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِين}(يونس :13).. لقد ضرب الله سبحانه وتعالى الأمثال بالأمم السابقة التي طغت وتمردت على أوامر الله وأوامر رسله فجازاها الله على عصيانها وطغيانها بأنواع العذاب الأليم.. من الجوع والقحط وعذاب الاستئصال.. وعذبها عذاباً منكراً عظيماً يفوق التصور.. فذاقت عاقبة كفرها وطغيانها وتمردها على أوامر الله وكانت نتيجة بغيها الهلاك والدمار والخسران الذي ما بعده خسران.. قال تعالى :{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا* فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا *أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} (الطلاق :8 ـ10) وقال تعالى: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} (الحج: 45).. وقال تعالى :{ وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} (الأنبياء: 11)..
إن المعاصي والآثام والمنكرات تضر بالجميع لا يستثنى منهم أحد.. الصالح والطالح.. والخير والشرير.. والمذنب والبريء.. حتى الحيوانات والأشجار والثمار لا تسلم من شؤم المعصية.. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :"توشك القرى أن تخرب وهي عامرة!!.. إذا علا فجارها على أبرارها.. وساد القبيلة منافقوها".. وقال أبو هريرة رضي الله عنه :" إن الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم!!".. وقال مجاهد :" إن البهائم تلعن عصاة بني آدم!!.. إذا اشتدت السِّنة وأمسك المطر.. وتقول : هذا بشؤم معصية ابن آدم!!".. وقال عكرمة :" دواب الأرض وهوامها حتى الخنافس والعقارب يقولون : منعنا القطر بذنوب بني آدم!!".. فلا يكفيه عقاب ذنبه حتى يبوء بلعنة من لا ذنب له..