أنْ أكونَ متديّنة وصورتيْ على الفيس بُوك ! - جديد عائشة السيفي

    • أنْ أكونَ متديّنة وصورتيْ على الفيس بُوك ! - جديد عائشة السيفي









      عائشَة السيفيّ
      ufuq4ever@yahoo.com










      أتلقَى عادة ً بين الحين والآخر تعقيباً على مقالاتي رسائلَ غاضبَة من أشخاص مجهولين يتهمونني تارةً بالعلمانيّة وتارةً بالليبراليّة وتارةً بأنني متحرّرة وقد يأتي أحدهُم للقولِ أنّ أفكاري تشكلُ خطراً على "فِكر المرأة العُمانيّة المحافظَة" إلى آخرهِ من رسائل قد يتعرّض إليها أيّّ كاتبِ صحيفَة فما بالكُم بكاتبة قادمَة من بيئَة محافظَة جداً كبيئتي؟
      ويهاجمنيْ آخرون لوضعِي صورتي في مدوّنتي وأنّ ذلكَ يخالف الدين رغم أني أضع صورتي بحجابي الكامل دونَ أن أخرج عن الذوق العام في الحشمَة كأيّ صورة أخرى منشورة في الصحفِ أو كصورة أيّ فتاة محجّبة تمشي في الشارع !
      وتصبّ أغلبُ هذهِ الرسائل على دعوتيْ إلى "التديّن" أو كمَا قال أحدهم (العودَة الحقيقيّة للدين) وإعادة النظر في منهج الكتابَة التي أنهجُها من بَاب قولهِم أنّ الدين يكرّس ارتبَاط مفهومين همَا المرأة والستر .. والكتابَة تتنافى معَ هكذا مبادئ ..
      خلاصَة القول أنّ أغلبَ هؤلاء يُقدّمون في رسائلهم بطريقَة أو بأخرى مفاهيمهم الخاصّة في فهم التديّن كأسلُوب حيَاة وكفكر .. وهوَ ما يدفعني للتساؤل: ما هي فكرتنَا عن التدين؟


      مؤخراً نشرت قناةُ البي بي سي درَاسة نقلتهَا عن معهدٍ ألمانيّ أقام دراستهُ عن التدين على شريحَة واسعة من الألمان ومن المعروف أنّ ألمانيا من أكثر الدول التي تشهدُ التنوع الدينيّ وحريّة ممارسة العبادة كما أنّها تفتح المجال واسعاً للملحدين والطوائف الأخرى بإعلان أفكارها ومعايشتها جنباً مع جنبٍ مع بقيّة الأديان .. الدراسة شملت كافّة الأديان .. المسلمين اليهود والمسيحيين بطوائفهم المختلفَة وخلصت الدرَاسة إلى أنّ جميع الشرائح تشتركُ في مفهُوم واحد .. أنّ أغلب المتدينينَ يحتكرُون التدين في فكرَة ممارسَة الشعائر الدينيّة أكثر من مسألة عكسها بشكل واقعيّ على حياتهم الحقيقيّة وأنّهم بطريقة أو بأخرى في أسلوب حياتهم يخالفُون ما تنصّ عليه شعائرهم الدينيّة وأنهم إن طبقُوا تعاليم تلك الشعائر الدينيّة فإنهم يخالفونهَا في ممارسَات أخرى إن تعارضتْ مع غاياتهِم..


      بالمعنَى البسيط أنّ أغلب من شملتهم الدرَاسة يأخذُون من أديانهم ما يروقهم ولا يطبقُون جزءاً منها في جوانبَ أخرى سواءً بعمدٍ أو دون عمد ..


      ذكرتنيْ الدراسة بمقال جميلٍ جداً للروائيّ علاء الأسواني يتحدث فيه عن دراسَة مماثلة صنّفت بلدهُ "مصر" كأكثر البلدان تديّنا في العالم .. وتساءل علاء الأسوانيّ أنه بالرغم أنّ مصر تسجل نسب عاليَة من التحرش الجنسي مثلاً وتنشط فيها السوق السوداء أكثر من دول مجاورة وترتفع بها نسبة الجريمة فإنّ هذا لا يتنافى مع حقيقَة أنّ شعبه هوَ أكثر الشعوب تديناً؟


      لتفهموني أكثَر سأحكي لكم قصّة حدثت لي مع إحدى زميلاتي التي تربطنيْ بها علاقَة سطحيّة والتيْ يحلُو لها كثيراً تبرير تصرفاتها باسمِ الدين .. حيثُ كنا سوياً في استراحة الطالبات بالكليّة وبتلقائية شديدة سألتها إن كان لديها عطر لأني نسيتُ عطري ولم أضعهُ بالحقيبة ..


      فردّت علي بصورة عنيفة ومتجهّمة قائلةً : عفوا نحن ما نتعامل مع هالأشياء ولا الدين يرضاها ..
      طبعاً أنا لم أكن أتوقع ردة فعلها تلكَ وتناسيتهَا مع الزمن.. لكنني عدتُ وتذكرتها في إحدى الأيام ونحن متعسرُون في حلّ مسألة بإحدى الواجبات الدراسية بمقررٍ ندرسه سوياً .. وحينها مرّ أمامنا طالب من زملائنا ووضعَ واجبه في صندوق البريد الخاصّ بدكتور المادة وهذا الصندوق يكون مفتوحاً عادةً لأي أحد .. وحين غادرَ قالت لي الفتاة : (ما رأيك أن نذهبَ ونأخذ واجب الطالب من صندوق بريد الدكتور وننقله ثمّ نعيده وكأنّ شيئا لم يحدث؟)
      الحقيقة أنني أمضيتُ لحظات أحدّق إليها ثم ضحكتُ كثيرا وأنا أقولُ لها ( لا يا ابنتيْ ، "عفوا نحن ما نتعامل مع هالأشياء ولا الدين يرضاها" !


      رغم أنّ موضوع العطر لو قسناه من مبدأ الحريات فهوَ حريّة شخصيّة بينما سرقة واجب دراسي ومجهود طالب آخر هو تعدٍ صريح على حريته فأيّهما أكثر ارتباطا بالدين؟


      مثلُ هذه المواقف كثيرَة .. فنحنُ نأخذ من الدين ما يحلُو لنا ونتركهُ بمنطقِ الغايَة تبرّر الوسيلة .. وشخصياً تعرضت لها وزميلاتي بشكلٍ كبير .. ومن أمثلتها صديقتي غير المحجّبة التي كانَ ثمة طالب يبعث لزميلتها رسائل يدعوها لنصحها بارتداء الحجاب والاحتشام وترك السفُور .. فما كانَ من هذا الطالب سوَى أن يقوم بسرقة بريدها الالكترونيّ الذي استحوذ عليه إلى يومكُم هذا .. هذا الطالب نفسهُ أصبح يلاحقني في ردودهِ مؤخراً بمدوّنتي ناعتاً إيّاي بالمتحرّرة ومدعيَة الحريّة ومهدداً بسرقة بريدي الالكترونيّ ..


      الطالب هذا تذكّر الدينَ حينَ رغب في دعوة الفتاة إلى ترك السفُور لكنهُ نسي الدينَ حينَ قام بسرقة خصوصيتها وسرقة أكثر ممتلكاتها سريّة من مبدأ أنّ الدينَ يبرر له ما فعلَ !


      في الساحةِ الثقافيّة كذلك يتم إساءَة استخدام الدين أيضاً ولعلّ أبرز ما يحضرني حول ذلكَ هوَ أنّ شاعراً عمانياً عرف أخ شاعرَة عمانيّة وحين علم أنها شقيقتهُ بدأ في الحديث عنها بشكلٍ سيء قائلاً لأخيها: "ليش مفلتين أختكم بهالطريقة؟ ، وليش مخلينها ما شي شاعر إلا وتعرفه؟ ، يا أخي أين الدين؟ أين الغيرَة؟" رغم أنّ تلك الشاعرة منعزلَة جداً ونادرَة التواصل مع الوسط الثقافيّ .. لكنّ أفكاره المريضة دفعتهُ لاختلاق كلّ ذلك ما أدى لمنع أخِ تلك الفتاة منْ مشاركتها في أيّ فعاليات ثقافيّة بعد تلك المحادثة رغم توسطيْ بشكل شخصي لمشاركتها ورفض عائلتها..




      الشاعر نفسهُ أعلاهُ .. كانَ يؤمّ في كثير من الملتقيات الثقافيّة المصلّين ويفعل ذلك أيضا في المسجد المجاورِ لسكنهِ .. لكنّ هذا الشاعر نفسهُ أوقع بإحدى الفتيات اللاتي أعرفهنّ بل وظلّ يهددها بالرسائل إن لم تستجِب لطلباتهِ ووصلَ الحدّ إلى تدخّل عائلتها في الموضوع بعدَ أن تجاوزَ هوسُهُ الحدّ المسموح .. نفس هذا الشاعر سمعتهُ بعد إحدى الأمسيات الشعريّة التي جمعتنا يشتمُ في شاعرٍ عمانيّ كبير بطريقَة سيئة للغاية فسألتهُ : هل سبقَ والتقيتَ به؟ فقال لي: لا .. قلتُ له: طيب لماذا تشتمهُ؟ فأجاب: لأنهُ مترفّّع ولا يخالط بقيّة الشعراء!
      وبهذهِ الطريقة ظلّ هذا الشاعر يستخدم الدين ليبرّر ما يفعلهُ وينبذهُ حينَ يشعرُ بتعارضِ الدين في ذلكَ الموقف ..




      الأصنافُ التي ذكرتها أعلاهُ تظنّ في قرارَة نفسها أنها متديّنة .. تمارس الشعائر الدينيّة على أكملِ وجهٍ وتزيدُ عليها .. بالإمكانِ أن يكونوا مصلّين قوامين ، صائمين لكنهُم في نقطةٍ ما ، يحضرونَ الدين وقتما يشاؤون ويغيّبونه وقتما أرادُوا ..
      ولعلّ أبرز ذلك هو الفيلم المصريّ الذي طرحَ قبل عامٍ تقريباً "كباريه" ويسلّط الضوء على صاحب الكباريه ذي اللحية الطويلة التي لا تفارق المسبحَة يدهُ وَالذي يضع مكتبهُ في أعلى الكباريه ويعزل جدران مكتبهِ عن الصوت حتى لا تصلَ إليهِ أغاني الكباريه ولكنهُ يدير الكباريه ويردّ نقوده ويتصدّق بها وقبل تفجير الكباريه بيوم واحد كانَ قد حجز للذهابِ للعمرة..


      كاتبُ سيناريُو الفيلم قدّم بعبقريّة مدهشَة نمط صاحبُ الكباريه هذا .. الذي هوَ نسخَة مكررة من ملايين حولنَا .. يعتبرونَ أنهُم "متدينين" بطريقتهم الخاصّة في فهم الدين والتديّن .. تماماً كتلك الراقصَة التي تعمل في الكباريه من أجلِ أن تؤمّن النقود لوالدتها لتذهبَ للحجّ !


      ثمّة حديث شريف يحضرنيْ ولا أتذكر تفاصيلهُ لكننيْ أذكر فيهُ أنّ صحابيا مرّ على النبي صلى الله عليه وسلّم فقالَ النبي لأصحابه أنّ هذا من أهل الجنّة! فعجب الصحابة عن السبب وأرادَ أحدهم أن يعرف ما هوَ المميز في هذا الصحابيّ ليكون من أهل الجنّة لذا ذهب للمبيت في بيتهِ يوماً كضيف .. ليرى ما المميز في هذا الصحابي .. ومرت الليلة والصحابي الأوّل لم يلمح أيّ شيء مختلف في شعائر عبادَة المبشّر بالجنة .. وحين جاءَ النهار ذهب الصحابي للمبشر بالجنّة وأخبرهُ عن سبب مبيته وقالَ له والله ما رأيتكَ أكثر صلاةً مني ولا أكثر قياماً مني .. فما الذي حمل الرسولَ على أن يبشّرك بالجنة؟ فقال له المبشّر بالجنة : أنه لا يصوم ولا يصلي ولا يقوم الليل أكثر من بقيّة الناس ولكنّه لا يحمل نية سيئة تجاهَ أحد ولا يحمل غلاً وكرهاً تجاه أيٍ من الناس .. هذا الحديث يحاول أن يصحّح للناس فكرَة أنهُ لا يشترط لتكونَ صالحا أن تكونَ من العابدين القائمين الصائمين .. وإنما التزامك بالشعائر الدينيّة وتطبيقها بشكل عملي في حياتك هوَ السرّ في صلاح الدينِ والدنيا ..


      وهوَ ما يقوله النبيّ في حديثه (ربّ صائمٍ ليسَ له من صيامهِ إلا الجوع وربّ قائم ليسَ له من قيامهِ إلا السّهر) فممارستنا للدين لا تعني بالضرورة أننا حينها أصبحنا متدينين !


      وهوَ ليسَ في بلداننا العربيّة فقط ففي كتابٍ قرأتهُ ، ذكرَ مؤلّفهُ أنّّ دراسة ً شملت تجّار المخدّرات المسجونين في ولاية شيكاغُو أبرزت أنّ هؤلاء التجار ورجالات المافيَا يذهبُون بشكل دوريّ للكنيسة وللاعتراف ولقدّاس الأحد رغمَ أنّهم قد يقتلونَ في نفس اليوم أحدَ العملاء أو رجال عصابات أخرى ويوزعُون المخدرات لكنهُم في حياتهم كأيّ متدين يمارسُون الشعائر الدينيّة ولا يتخلفون عنَ جلسات الوعظ والإرشاد التي تقيمها الكنيسَة ..


      خلاصَة القولِ أنّ أكثرنا يجهلُ ما معنى كلمَة التدين؟ رغم أنّنا نتكئ على الدين في تبرير أغلبِ تصرفاتنا .. وأغلبُنا انتقائيّ في ممارسَة الدين .. نحضرهُ وقتما نريد ونبعدهُ وقتما نشعرُ أنّه يتعارض مع ما نريدُ فعلهُ .. قد نصلّي ونصوم ونقرأ القرآن .. ولكننا نغشّ في عملنا .. ونرتشيْ في تمرير معاملاتنا إلخ ..


      يا أصدقائي الذينَ يدعوننيْ للتديّن .. قد أكونُ "متحرّرة" وقد أضع صورتي في مدوّنتي وأنشر وأشارك في الأمسيات وقد ترفضُون أنتم ذلك لكن ليسَ بالضرورة أن تكونُوا أكثر تديّناً مني .. أو من الآخرين الذين يفعلُون ما أفعل .. نعم ، ما التعارضُ في أنْ أضعُ صورتيْ على الفيس بوك وأصلي وأصوم وأقرأ القرآن وأكتبَ عنكم وعن العمل الخيريّ والحياة الجميلَة والثقافة والفنون والشّعر والمرأة وميشيل فوكُو ومحمود دروِيش والآخرين؟ وربّما أكونُ حينهَا أكثر تديّناً منكُم ! من يدريْ؟










      المصدر : عائشَة السيفي


      ¨°o.O ( على كف القدر نمشي ولا ندري عن المكتوب ) O.o°¨
      ---
      أتمنى لكم إقامة طيبة في الساحة العمانية

      وأدعوكم للإستفادة بمقالات متقدمة في مجال التقنية والأمن الإلكتروني
      رابط مباشر للمقالات هنا. ومن لديه الرغبة بتعلم البرمجة بلغات مختلفة أعرض لكم بعض
      المشاريع التي برمجتها مفتوحة المصدر ومجانا للجميع من هنا. تجدون أيضا بعض البرامج المجانية التي قمت بتطويرها بذات الموقع ..
      والكثير من أسرار التقنية في عالمي الثاني
      Eagle Eye Digital Solutions