التجربة العمانية

    • التجربة العمانية

      قال لي صاحبي وهو يحاورني: أنت لم تترك في عالمنا العربي زعامة إلا واشبعتها انتقادا وتعرية,وكشفت سوءاتها, وأظهرت سلبياتها, فلماذا تستثني التجربة العمانية من النقد؟

      قلت له: لسببين, الأول أنني لازلت في حالة دهشة واعجاب من قدرة تجربة النهضة العمانية على تصحيح نفسها دون أن تأخذ صانع القرار العزة بالنفس, حتى أن السلطان قابوس بن سعيد قادر على أن يواجه أي قرار يتخذه في خطة خمسية ويعيده إلى مساره الصحيح فور التأكد من أي خطأ.

      والثاني هو أن النقد ينبغي أن يكون في سياقه الجغرافي والتاريخي وينطلق من الامكانات المادية التي تملكها الدولة, وسلطنة عمان كانت قبل عام سبعين أقرب إلى الدولة الهامشية في المنطقة من أي كيان آخر, وكانت غارقة في الجهل والمرض والأمية والحروب الأهلية وأطماع الجيران, ومع ذلك فقد حققت في ثلاثين عاما ونيف ما لم تحققه دولة عربية, ثورية تقدمية أو ملكية, في ضعفي هذا الزمن وأضعاف الثروة القومية.

      قال لي: ولكن هناك سلبيات بدون شك وأنت لا تكتب عنها إلا لماما وبإشارات مقتضبة, فلماذا لا تضم سلطنة عمان إلى الدول التي لن تسلم زعاماتها من قسوة وحدة قلمك؟ قلت له: أما المقارنة فمعاذ الله أن أكون من الظالمين, فهناك في عالمنا العربي مئات المعتقلات والسجون, وعشرات الالاف من الأبرياء خلف قضبانها, وهناك تعذيب وقهر وقمع, وأيضا فساد وسرقة أموال الشعب واهدارها ونهب الثروة القومية وفشل المشروعات وغطرسة الحاكم الذي يمثل السيادة المطلقة في كل شيء, فهو المبدع والكاتب والصحفي والرياضي والروائي والعالم والفيلسوف والفقيه والطبيب والمهندس المعماري و ... الخ

      إنني لا أقارن تجربة النهضة العمانية بغيرها في عالمنا العربي الذي خرجت من عباءات الحكم فيه حركات التطرف والغلو والتزمت .

      نعم هناك سلبيات في سلطنة عمان وفي مقدمتها التواجد الآسيوي الكثيف كما في كل دول الخليج الأخرى, وكم وددت أن يحل اليمنيون محل الآسيويين لتعريب النهضة المباركة التي صنعها فكر السلطان قابوس بن سعيد, وأن يمارس الصحفيون والاعلاميون التحليل النقدي اللاذع بدون خوف لأن السلطان قابوس الذي يقوم بجولات في كل بقاع عمان, يستمع بتواضع جم إلى الصغير والكبير والشاب والغاضب والمظلوم, والذي يتراجع بشجاعة وشهامة عن أي خطأ في تجربة النهضة ويطلب من المختصين الادلاء بدلوهم وآرائهم لن يضيق ذرعا بمقالات أو تحقيقات أو موضوعات نقدية شديدة فهي ستصب بعد ذلك في صالح الوطن.

      وهناك أيضا عدة آلاف من الخريجين الذين لم يجدوا عملا بعد, وتلك مهمة ثلاثية ينبغي أن تتعاون الدولة مع القطاع الخاص ومع طالب العمل لايجاد الفرص المناسبة.

      لم يكن في فكر السلطان قابوس عندما صنع من نقطة الصفر في المستشفيات والمدارس والمعاهد العلمية والندوات التوعوية والجامعات والمنح الداخلية والخارجية وغيرها أن يصنع مواطنا معتمدا على الدولة في كل شيء, ففرص النجاح والاستثمار والقطاع الخاص والتصدير والاستيراد والزراعة والابداع في مشروعات صغيرة غير ذات تكلفة مفتوحة للجميع على قدم المساواة, وليس في سلطنة عمان حيتان النهب والسرقة والفساد وأقرباء المسؤولين , فهؤلاء لم يكن لهم موضع قدم منذ بدء النهضة المباركة.

      من سلبيات التجربة العمانية أنها تعتمد اعتمادا كليا على قائد الثورة المباركة , فصحيح أن عبقرية فكر التخطيط القائم على الاخلاص والشرف والنزاهة ومحبة الشعب ميزت السلطان قابوس منذ توليه السلطة, لكن العمانيين لم يستفيدوا من هذا في صناعة وانشاء وتأسيس معاهد سياسية وفكرية واقتصادية وأيديولوجية تقرأ وتحلل تطورات النهضة, وكيفية تفاعل مراحلها في عقل السلطان قابوس قبل أن تطلق واقعا يحقق الخير والرفاهية للشعب.

      نحن لا نطالب بصناعة قوالب جاهزة, فهذا يتنافر ويتنافى ويناهض سنة الله في خلقه, ولكن السلطان قابوس بن سعيد, أطال الله في عمره, لن يعيش خالدا لهذا الشعب الطيب, لذا يجب أن يعرف كل مسؤول عماني كيف يفكر قائده, ودرجات تسلسل الفكرة حتى تصبح واقعا أو يرفضه التحليل المنطقي والموضوعي قبل أن يخرج للشعب مشروعا غير ناجح.

      فلينظر العمانيون إلى ما لديهم من أمن واستقرار ومعيشة كريمة وحياة خالية من الجرائم, تقريبا, والعنف والقسوة, ثم يقارنوها بدول عربية وأفريقية أخرى لعلهم يضاعفون قدرتهم على العطاء الفردي أيضا.

      لم نقل في يوم من الأيام بأن النهضة العمانية خالية من أي سلبيات, لكننا نقيس درجة النجاح بما تحقق في زمن قياسي, وتلك لعمري معجزة بكل المقاييس.في عالم عربي خرجت من أرحامه قوى التطرف والظلامية والمذهبية العمياء والتشدد الأحمق, لم يستطع الارهاب أن يولد في تجربة النهضة العمانية, وتم اغتيال التطرف المذهبي منذ قيام ثورة السلطان قابوس بن سعيد, بل إن المواطن العربي من المحيط إلى الخليج لا يعرف ما هي الاباضية, وهل أتباعها هم من السنة أو من الشيعة؟

      لقد صنع السلطان قابوس واحدة من أهم القيم التي قامت عليها النهضة العمانية وهي التسامح الديني والمذهبي والعقيدي, وبذلك تم تجفيف كل منابع اللاعقلانية في الفكر الديني حتى يواكب النهضة, ولذلك لن تجد عمانيا يعترض على تعيين وزيرة أو سفيرة أو حتى من يمثل عمان في المنظمات الدولية.

      نعود إلى طلب محاورنا أن نكتب عن سلبيات التجربة العمانية وننتقدها بقسوة, ونكشف أوجه النقص فيها.

      نحن لا نمانع مطلقا في الحديث المسهب عن أي خلل أو نقص أو فساد أو امتهان لكرامة الانسان.

      لكن الذين يطلبون منا هذا لم يطلعوا بعد بأعين مبصرة على قيمة الانسان في فكر السلطان قابوس, ويكفي أن معظم أنظمة الحكم العربي تُلَمّع نفسها من الخارج لتغطي على فشل في الداخل, أما السلطان قابوس فهو مهموم ببناء مستشفى في قرية بعيدة, أو انشاء مصنع يستفيد منه سكان ولاية صغيرة, أو ارسال قوافل التوعية الزراعية والصحية والمائية لجوف مناطق شبه مجهولة عن أن تكتب عنه صحف عالمية تحقيقات مدفوعة الأجر لتزيين صورته.

      اعجابنا بالنهضة العربية جاء عبر متابعة دقيقة وتفصيلية للحلم العربي الذي فشل في عشرات من دول العالم الثالث ونجح في سلطنة عمان, وأعني به الاهتمام الأول والأخير في يوميات القائد والزعيم بالمحليات, وكل شبر من أرض الوطن, وكل الأمور الصغيرة التي لا تراها عين الزعيم ( الكبير ) في بلد آخر, يبحث عنها السلطان قابوس ولو كانت رصف طريق بين قريتين في أقصى الأرض العمانية, أو ندوة توعية عن مرض يصيب نباتات أو زهورا أو أسماكا وليس فقط الانسان.

      اعجابي بالنهضة العمانية الذي عبر عنه هذا القلم لسنين طويلة يعود إلى تمنياتي أن يهتم ويكترث كل زعيم عربي لتفاصيل دقيقة في حياة مواطنيه دون تمييز قبل أن يرتدي ملابسه الأنيقة ويخرج في موكب قارون لاستقبال الزعماء والملوك والأباطرة ويحقق انتصارا وهميا في الخارج.

      وتعاطفي مع نهضة سلطنة عمان لم يأت من فراغ, فكم حلمت وتمنيت لكل بلد عربي زعيما يجفف منابع الفساد والنهب والسرقة والمشروعات الفاشلة, وأن يعتبر نفسه خادما للشعب وليس العكس.

      انجازات زعاماتنا العربية, في أكثرها, حبر على ورق, واعلانات مدفوعة, وانتصارات دون كيشوت, أما السلطان قابوس فقد اختار أصعب الطرق وأكثرها شفافية وحبا لشعبه واخلاصا له وخدمة لحاضره ومستقبله, فولىّ وجهه شطر الداخل, وحصد حبا وتأييدا وولاء.


      عُمانيٌ وأنطلقُ إلى الغايات نستبقُ وفخري اليوم إسلامي لغير الله لا أثقُ وميداني بسلطنتي وساحُ العلمِ منطلقُ
    • بصراحة من اجمل ماقرأت ...
      احسنت ...
      وبالرغم من وجود مشاكل اعتبره صغيره بين المذاهب في السلطنه ...
      ولكن بكل صدق عبرة بشكل مميز عن معاني كبيره ...
      تقبل احترامي ومروري
      [FONT="Comic Sans MS"][SIZE="6"]
      عذراً أخوتي ... ضاعت الرجولة
      [/FONT]
    • شكرا على المرور
      عُمانيٌ وأنطلقُ إلى الغايات نستبقُ وفخري اليوم إسلامي لغير الله لا أثقُ وميداني بسلطنتي وساحُ العلمِ منطلقُ