بين الطبع والتطبيع ..!

    • بين الطبع والتطبيع ..!

      الوطن -

      صالح الفهدي:



      انفلت بعض الناس من روابط القيم ، فأصبحوا كالحلقات الفارغة التي تدحرجت عن خط سيرها المتسلسل، تثير لوحدها صليلاً باهتًا ..! لقد حملتهم الأنانية على الانفلات بعد أن غلبوا مصالحهم الشخصية على المصلحةِ العامة التي يستوجب المنطق أن يسير على منهاجها المجتمع بصفته كيانًا موحدًا له غاية مشتركة مهما تعددت المصالح الفرعية للأفراد .. هذا الانفلات قادهم إلى تجاوز القيم الفاضلة، والأخلاقيات القويمة التي أسستها مصادر التشريع المؤسسة لكيان المجتمع ولهذا فإن أية مصلحةٍ شخصية هي مقدمة عندهم على المصالح المنسجمةِ مع الغايات الوطنية وفي هذا حبٌّ للذاتِ غير حميد، ومحاباةٌ لغاياتها الذاتية الضيقة ..

      تلفتني الفوضى العارمة التي تواجهني في أمكنةٍ مختلفة ، وتثيرُ فيَّ الحنقَ الداخلي: لمَ يتصرَّف الناس وفق هذه الطباع غير الحميدة .. ففي الشارع ما إن تعطل السير لغرضٍ من الأغراض حتى فاض صبرُ الناس وغلبت عليهم طباع الأنانية، ولجوا في فوضى التجاوزات من اليمين والشمال ومن كل النواحي حتى تصبح كل الأمكنة مشاريع طرق في تلك اللحظة كي يصل أصحابُ هذه الطباع الأنانية قبل غيرهم .. فأتساءل: كيف فهم هؤلاءِ الدين؟! ثم في إحدى المؤسسات الحكومية، حيث وضعت تلك المؤسسة سياجًا بسيطًا لكن البشرَ يلتفون حوله كي يصلوا إلى الموظف الذي أصبح يتحرك بصورة أفقية مشوشة ، هذا يناديهِ من هنا وذاك يطلبه من هناك .. نظرتُ خلال هذه الجلبة الصاخبة إلى امرأة شابة أجنبية وقد وقفت لوحدها داخل السياج ، تحسبُ أن طابورًا مستقيما ، وهادئًا ـ كما هو الحال في بلادها ـ سيمتدُّ وراءها، وأنها بحكم كونها على رأس هذا الطابور سوف تقضى مصلحتها قبل غيرها .. لكن أنا لها هذا الحلم فما هي إلا واهمة.. !! كنت أرى الخطوط المشوشة التي تصنعها فوضى البشر تنسجُ حولها شبكةً غير منظمة، وكأني بهذه الخيوط تقيدها مكانها فلا تروم حراكًا، ولربما هي ساهمةٌ ، تستنكرُ هذه الفوضى في نفسها .. فرثيت لمنظرها .. وتذكرتُ الطابور والهدوء في بلدِ الغرب .. في موقف آخر تستمرُ طباعُ الأنانية البغيضةِ ، فأجدها متمثلةً في مواقف السيارات في أحد المستشفيات المرجعية حيث تناثرت السيارات في حلق الشارعِ وبين المواقف وفوق الأرصفةِ .. قلتُ في نفسي: ما الذي يحدثُ في مجتمعنا ..؟! فوضى في كل مكان يؤمه بشر لهم مصالح فيه .. حتى المسجدَ لم يخلُ من الفوضى .. كثيرون سدَّوا مداخل المسجدِ وطرقاته وهرعَوا ملبين نداء الحق .. والحق يوجبُ عليهم أن يميطوا الأذى عن الطريق ،وهم فوق ذلك يعطلون الطريق .. فأين هم من مقولة سيدنا عمر بن الخطاب"إني لأخشى أن تتعثر بغلة في الشام فيحاسبني الله لم لم تفسح لها الطريق يا عمر..!" فإذا كان هذا هو شعوره ـ رضي الله عنه ـ تجاه دابة في مكانٍ بعيد فكيف كان حاله بدروب البشر ..الذين يعطل هؤلاء الفوضويون طريقهم ويهرعُون لأداء الصلاة ..؟! وما قيمة الصلاةُ بلا أخلاق، ما قيمةُ العبادات التي يحرص عليها كثيرُ من الناس دون قيم حياتية، تقنن نظامهم الاجتماعي، وتضبط علاقاتهم مع الآخرين ..؟! إن امرأة ذكرت عند النبي صلى الله عليه وسلم بكثرةِ صلاتها وصيامها وتصدقها على الناس ولكنها تؤذي جيرانها فقال هي في النار، وامرأة مقلة في العبادات لكنها لا تؤذي جيرانها فقال هي في الجنة .. !! وهذا ما لا يفهمه الكثيرون فيهرعون للصلاة ، خشعًا ركعًا وفي الخارج يؤذون البشر بفوضاهم وسياراتهم التي تعيق حركة الشوارع .. ! قال لي أحد الإنجليز : إننا لا نذهبُ كثيرًا إلى الكنيسة ولا نهتمُّ بالدين ولكن كثيرًا من القيم ما زالت تعمُّ في حياتنا وأنظمتنا المختلفة .. فقلتُ له : ذلك بسبب حدة القوانين وصرامتها ..! وكثيرٌ من الناس عندنا تفسخوا من الطباع الكريمة حتى إننا لم نعد نسمع خصلةً عظيمة هي "المروءة" في قاموس حياتنا ..! تلك الطباع التي تأسست على القيم الإسلامية، فكانت خير منطلق للنفسِ البشرية بالرغم من طبع هذه النفسِ الذي ينحو بها إلى الرغبةِ في (التحرر) من هذه القيم ..

      هذه الفوضى الناتجة عن الانحراف في الطباع لا بد وأن يقابلها التطبيع .. لقد سألني أحدهم ذات يوم: كيف نستطيع تقويم الطبع إن لم ننجح بالكلمة، قلت له: بالقانون، فالقانون هو الضابط الضامن لحرية الآخرين ، وهو الرادع أمام تعدي أي كائن لحريات الناس .. إنني لا أتوق إلى مثالية (يوتوبيا) أفلاطون وكأننا نكتبُ المستحيل، ولا نكتبُ ما يمكنُ لبشرٍ أن ينتهجوه في حياتهم، ويمارسوه في واقعهم ، فلديهم الأدوات (القيم) ويتبقى عليهم التطبيق .. إنني - وغيري ممن يشاركونني هذه الهموم - نتوق إلى مجتمع يفعل القيم الحميدة التي جاء بها دينه ولا يحصرها في العبادات.. فكم عدد المصلين ، وكم عدد الحجاج ، وكم عدد الصائمين .. والعدد الكبير يملأ القلبَ بهجةً .. لكن كم هم الذين يفهمون القيم النبيلة ، والأخلاقيات السلوكية القويمة ..ويطبقونها..؟!!كم هم الذين تنسجم القيم الإسلامية مع تعاملاتهم وأخلاقهم ..؟! إذا كان "الدين الخلق" و"الدين المعاملة" فإن العبادات لوحدها لا يمكن تجزئتها عن السلوك وأخلاقيات المعاملة .. إن غاندي الذي أفنى عمره في مسيرة الاستقلال قال عام 1917 بمناسبة افتتاح المعهد الذي أسسته (الآنسة آني بوسانت) متوجها إلى الحضور من مواطنيه " إن الهندَ لا تستحقُّ الاستقلال ما دام المارُّ في أحد شوارع بومباي أو كالكوتا معرضًا لأن يتلقى بصقةً على رأسه من إحدى النوافذ" فكيف بنا نحن أصحابُ القيم حين نحيد عنها، وننحرف نصرةً لأنفسنا ، وتغليبًا لمصالحنا ؟!

      إن التطبيع هو واجبٌ حينما يخرجُ الطبعُ من دائرة القيم والأخلاقيات .. فمن يريد أن يستبق الناس في الطوابير يُحرم ، ومن يستهتر بالنظام في الشوارع ويعرض الناس للمخاطر يُردع بقوة القانون ، ومن يتجاوز الأنظمة ابتغاءً مصلحةٍ يقضيها يحاسب، ومن يشهر بالآخرين يحاكم، ومن يثير الفتنة يغلظ له الجزاء، ومن ينشر الشائعات يكبح، ومن يتفوه ببذاءة يؤدب .. فإن المرء الذي لا تضبطه أخلاقه ، ولا تردعه قيمه فإن القانون هو القيِّم عليه كي يضبط له خُلقه ، ويطبعه على أخلاقه .. وهذا الكلام يجعل من تغيير الطباع أمرًا ممكنًا إن كان فيه المصلحة وذلك على عكس الفهم السائد في الثقافة الشعبية .. ومع النسبة الكبيرة لأحقية المقولة القديمة القائلة"نقل الجبال أهون من تغيير الطباع" إلا أن الاستسلام للطباع السيئة التي تحرف صورة المجتمع إذا ما أصبحت ظاهرة يعدُّ أمرًا غير مقبول .. بل مؤشرا غير حضاري لا يرتضيه المجتمع الواعي ، الطامح إلى الازدهار والرقي..


      ¨°o.O ( على كف القدر نمشي ولا ندري عن المكتوب ) O.o°¨
      ---
      أتمنى لكم إقامة طيبة في الساحة العمانية

      وأدعوكم للإستفادة بمقالات متقدمة في مجال التقنية والأمن الإلكتروني
      رابط مباشر للمقالات هنا. ومن لديه الرغبة بتعلم البرمجة بلغات مختلفة أعرض لكم بعض
      المشاريع التي برمجتها مفتوحة المصدر ومجانا للجميع من هنا. تجدون أيضا بعض البرامج المجانية التي قمت بتطويرها بذات الموقع ..
      والكثير من أسرار التقنية في عالمي الثاني
      Eagle Eye Digital Solutions