الانتماء والحضارة وتكوين المواطن الصالح

    • الانتماء والحضارة وتكوين المواطن الصالح

      عُمان -

      د. نافلة بنت سعود الخروصية:



      صاغ المؤرخ العظيم ومؤسس علم الاجتماع العلامة عبدالرحمن بن محمد بن خلدون، الحضرمي المولود في تونس، واليمني الأصل حسبما كان يؤكد دائما، نظرية رائدة حول مفهوم «العصبية» والذي يشار إليه في عالمنا المعاصر بـ «التضامن»، لقد كان ابن خلدون من أوائل من وصفوا نشأة الحضارة بأنها نتاج لتعاون الأفراد الذين يسعون جميعا لتحقيق هدف مشترك، هذه الحضارة التي تتجلى في مواطنيها روح الجماعة التي تتعدى الروابط القبلية وتتجاوز الحدود الأسرية. إن المجتمع الذي يصفه العلامة ابن خلدون هو مجتمع تسوده روح الإيثار وتترسخ جذوره حينما يهب أفراده لمساعدة بعضهم البعض، مجتمع تتعزز وحدته بهويته الإسلامية التي تشجع روح المحاسبة والمسؤولية، مجتمع مدني يسعى نحو تشجيع المزيد من الانخراط في العمل المدني ويعمل على ترسيخه عن طريق المشاركة الجماعية الفاعلة.

      وتعكس النظريات الحديثة في علم الاجتماع في تعريفها لمفهوم المجتمع المدني تعريف العلامة ابن خلدون، فبحسب مركز المجتمع المدني في كلية لندن للإقتصاد فإن مفهوم المجتمع المدني يشير إلى «ذلك الميدان من العمل الجمعي التطوعي المتمحور حول المصالح والأهداف والقيم المشتركة.. والذي تختلف أشكاله المؤسساتية عن تلك الأشكال المرتبطة بالدولة والأسرة والسوق»، ويستخدم روبرت باتنام مصطلح «المجتمع المتمدن» ويصفه بأنه مجتمع يتميز بـ«الاهتمام المطرد بالمصلحة العامة والسعي الحثيث نحو تحقيقها على حساب كافة الغايات الفردية والأغراض الخاصة.. مجتمع تربط أفراده علاقات أفقية من التعاون والتبادل، وليست علاقات رأسية من السلطة والتبعية، مجتمع يتميز أفراده بأنهم يساعدون بعضهم بعضا ويثقون ببعضهم البعض حتى حينما يختلفون على أمور جوهرية».

      لقد شهدنا هذه الروح الجماعية بين ظهرانينا عندما تعرضت أراضي السلطنة إلى إلأنواء المناخية الاستثنائية ، حيث هب الجميع شيبا وشبانا، نساء ورجالا، فقراء وأغنياء، كلهم هبوا يجمعهم هدف واحد تسامى على مصالحهم الشخصية، فقد تجمعوا لمساعدة المحتاجين ولتنظيف شوارعنا وأحيائنا السكنية. ونشعر بهذه الروح في كرم جيراننا عندما يشاركوننا طعامهم رغم قلته في شهر رمضان، ونراها كذلك في الكثير من الناس ينتظرون بكل صبر أن يعبر السائقون بسياراتهم الوديان عند جريانها للإطمئنان عليهم قبل أن يذهبوا هم في حال سبيلهم. كما أننا اعتدنا أن نشاهد في قرانا ومدننا مناظر ساحرةً لأناس من مختلف شرائح المجتمع يتجمعون لتقديم واجب العزاء عند وفاة شخص ما، فعندما تحل مصيبة الموت سواء كان الميت قريبا أو غريبا، نشعر بأنه يتوجب علينا مشاركة أهل العزاء أحزانهم والتوجه نحوهم لمد يد العون، حتى وإن اقتصر ذلك على الدعاء لهم بالرحمة والغفران، فنحن نقدم لهم لفتات تشعرهم بأنهم ليسوا لوحدهم وأننا معهم في مصابهم، فمصابنا وأحزاننا واحدة.

      لكن وللأسف الشديد هناك مؤشرات متزايدة ومقلقة هذه الأيام تشير إلى انحسار العصبية وروح التضامن من مجتمعاتنا، فمن منا لا يلاحظ فقدان الكثير من أفراد المجتمع لمشاعر الخوف من التسبب في إلحاق العار بالأسرة أو المجتمع، نرى ذلك في حالات الإدمان المتزايدة نسبيا بين الشباب، وفي الاستغلال المالي من الأزواج لزوجاتهم احيانا ، وفي صفاقة امرأة متعافية تجر طفلها في الشوارع لتتسول به بدلا من مزاولة عمل شريف، وفي المعاملة اللاأخلاقية التي يتعرض لها الأطفال داخل أسرهم، وفي تهور السائقين وتجاهلهم للمخاطر التي يعرضون الغير لها.

      غير أن مظاهر هذا الانحسار وهذه اللامبالاة تتجلى بشكل فظ للجميع في عدم اكتراث الناس بالمحافظة على النظافة في أحيائهم السكنية، فقد أصبح منظر المخلفات والأوساخ الملقاة على قارعة الطريق وفي الأزقة والأحياء أمرا اعتياديا لا نلقي له بالا، ومن وجهة نظر» باتنام « فإن الموقف النمطي المعتاد ممن يقترفون هذه الأعمال هو أن «الشؤون العامة هي من اختصاصات الآخرين – المسؤولون - ، وليس أنا»، وفي هذا السياق «يصبح الفساد هو الأصل وتصبح القوانين في عرف الجميع هدفا مستباحا لكل من يخالفها، ولكن خوفا من خروج الآخرين عن القانون فإن الناس يطالبون بنظام أكثر صرامة.»

      إن الغثائية المجتمعية تنجم عن تصرفات الأفراد المنعزلين عن مجتمعاتهم، ويمكن أن نعزوها إلى مشاعر التهميش وعدم التمكن من المشاركة في اتخاذ القرارات التي تتعلق بحياة هؤلاء الأفراد. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كيف يمكن إذاً أن نشجع الأفراد على المشاركة الجمعية؟ والإجابة على هذا السؤال هي أننا يمكننا ذلك عن طريق ترسيخ مفهوم «الانتماء» كما يستخدمه العلامة باتنام، لأن المجتمع المدني كما يقول «باتنام» لديه أعراف وقيم «تتجسد في نظم وممارسات اجتماعية متميزة وتتعزز من خلال هذه النظم والممارسات»، وفي العادة فإن هذا المجتمع يتميز بمنظمات وشبكات اجتماعية تتضمن ما هو موجود بالفعل في مجتمعنا مثل الجمعيات الخيرية وجمعيات المرأة ومنظمات التنمية غير الحكومية والجمعيات التاريخية وجمعيات الفنون الجميلة، بالإضافة إلى النوادي الرياضية، وهذه المنظمات المدنية هي التي تساعد على تنمية «التعاون والتبادل» وتشجيع الإقرار بأننا نتحمل جميعاً مسؤولية تطوير مجتمعاتنا والمحافظة عليها، كما أن هذه المنظمات المدنية توفر بيئة لتقوية اعتزازنا بثقافتنا وهويتنا.

      إن تأسيس مثل هذه الجمعيات في حد ذاته ليس كافيا، لأن مقياس المجتمع المدني الصحي هو مدى استعداد أفراده للانخراط في العمل التطوعي والمشاركة بشكل فاعل في مثل هذه الجمعيات، وبما أن «مافيريك فيشر» يؤكد أن مفهوم «الانتماء» عند «باتنام» هو نفسه مفهوم «العصبية» عند ابن خلدون، فيمكننا أن نخلص إلى أن شدة العصبية التي وصفها ابن خلدون بالتضامن المجتمعي هي التي تحافظ على تماسك المجتمع.

      كما أن العضوية في هذه الجمعيات ينبغي أن تكون ممثلة لوجهات نظر مختلفة وليس فقط لتلك التي تعبر عن شريحة معينة من شرائح المجتمع، ويجب كذلك تشجيع النقاش البنَّاء بما يكفل التفكير بحلول عملية بديلة للمشاكل الاجتماعية ومن ثم تطوير مثل هذه الحلول.

      وللحد من الشعور بحالة التهميش وخاصة بين الشباب، ولتعزيز التماسك الاجتماعي، فإننا بحاجة إلى التبكير في تشجيع المشاركة الإيجابية (بمعنى الانتماء) في تنمية المجتمع، ومن الضروري أن نغرس في أذهان أبنائنا بأن صيانة مجتمعاتنا ليست مسؤولية الدولة وحدها أو أي جهاز من أجهزتها ولكنها مسؤولية تقع على عاتق كل واحد منا، كما أن علينا ترسيخ فكرة أن المواطنة لا تعني فقط الأخذ من الدولة ولكنها تعني كذلك العطاء للمجتمع.

      إن مهمة تربية وتعليم الناس وتمكينهم وإقناعهم بأنه حتى الأعمال الصغيرة يمكن أن تحدث فرقا كبيرا في المجتمع ينبغي أن يضطلع بها كل من القطاع العام والخاص، كما أن إشراك الناس في تنظيم البرامج المجتمعية مثل مبادرة التوعية بالسرطان سوف تحمس الناس وتغرس فيهم الثقة بأن ما يقومون به على درجة عالية من الأهمية لأنهم بأعمالهم هذه يشجعون على نشر مفهوم التضامن والقيم المشتركة، كما أن لوسائل الإعلام الفاعلة والجديرة بالثقة دورا حيويا في نشر المعلومات الصحيحة بما يعزز بناء الثقة بين الناس، لذا ينبغي أن تستمر وسائل الإعلام هذه في توفير منابر للحوار البنَّاء بين الأفراد من مختلف التوجهات.

      كما أن للنظام التعليمي دورا جوهريا، وفي الحقيقة فإن كلمات المفكر العظيم غاندي حول التعليم تـُدوِّي اليوم أكثر قوة من ذي قبل مشيرة إلى أننا بطريق الخطأ «نقيم قيمة التعليم بنفس الطريقة التي نقيم بها قيمة قطعة الأرض أو الأسهم في سوق المستندات والأوراق المالية، وأننا نوفر فقط ذلك التعليم الذي يجعل من المتعلم قادرا على كسب المزيد، أما أن نفكر في تطوير الشخصية والأخلاق عند المتعلم فإن هذا مما يندر حدوثه»، يجب علينا أن نتخلص من هذه النظرة للتعليم، فالمدارس والجامعات تحتاج إلى أن تغرس في أذهان الأجيال أن العمل التطوعي خطوة أساسية في طريق المواطنة الصالحة، كما يجب أن نغرس في أذهان الأجيال الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية وفي الوقت نفسه تدريبهم على المشاركة في الحوار القائم على الاحترام المتبادل.

      وبالتعاون مع القطاعات الأخرى فإن على التربويين أن يدربوا أفراد المجتمع على مهارة خلق توافق عام عن طريق تحديد المصالح المشتركة وتوفير الفرص للمشاركة الجمعية من خلال تنظيم حملات توعوية أساسية مثل «لنعمل على تنظيف أحيائنا السكنية»، «لنحافظ على بيئتنا» بالإضافة إلى حملات التوعية بالصحة العامة.

      ويؤكد مايكل إدواردز مدير مركز الحوكمة والمجتمع المدني في مؤسسة فورد في نيويورك على حقيقة أن «الانتماء له قوة فعالة، ذلك لأنه يطلق القوة الاجتماعية الكامنة وهي الاستعداد للعمل انطلاقا من منظومة المـُثل التي يؤمن بها الشخص، وأنه يمثل الرغبة في خدمة المجتمع بما فيه المصلحة العامة، وهذه هي القوة التي تحرك المجتمع المدني»، وعليه فينبغي علينا أن لا نستهين بحماسة الشباب والشيوخ عندما نوقظ فيهم روح العمل لتحقيق هدف مشترك.


      ¨°o.O ( على كف القدر نمشي ولا ندري عن المكتوب ) O.o°¨
      ---
      أتمنى لكم إقامة طيبة في الساحة العمانية

      وأدعوكم للإستفادة بمقالات متقدمة في مجال التقنية والأمن الإلكتروني
      رابط مباشر للمقالات هنا. ومن لديه الرغبة بتعلم البرمجة بلغات مختلفة أعرض لكم بعض
      المشاريع التي برمجتها مفتوحة المصدر ومجانا للجميع من هنا. تجدون أيضا بعض البرامج المجانية التي قمت بتطويرها بذات الموقع ..
      والكثير من أسرار التقنية في عالمي الثاني
      Eagle Eye Digital Solutions