سوريا.. في مواجهة الإعصار الأمريكي

    • سوريا.. في مواجهة الإعصار الأمريكي

      معتز الخطيب**
      دخلت العلاقات الأمريكية السورية في الأيام القليلة الماضية مرحلة بالغة التوتر بشكل لم يسبق له مثيل، وقد بدا واضحًا التصعيد المفاجئ للهجة التصريحات الأمريكية ضد سوريا، خصوصًا بعد أن لاحت بشائر النصر العسكري الأمريكي في العراق مع اقتراب تمكن قوات التحالف من دخول كل أراضيه بعد سقوط النظام. هذا التصعيد المفاجئ دفع إلى تكهنات بعض المراقبين بأن تكون سوريا هي الهدف الثاني بعد العراق.

      هذا المقال يتتبع التطور في العلاقات السورية - الأمريكية من التفاهم الضمني إلى المواجهة، ويحلل أبعاد التصعيد الأمريكي وآفاق الأزمة الراهنة.

      تفاهم غير معلن.. ودبلوماسية متعثرة

      منذ استقلال سوريا 1946م خضعت العلاقات الأمريكية - السورية لشدٍّ وجذبٍ؛ فقد انقطعت العلاقات الدبلوماسية تمامًا بعد حزيران 1967، خصوصًا مع وجود خطاب بعثي وصف بأنه "متشدد"، انتهج مبدأ "الحرب الشعبية" لتحرير فلسطين، فضلاً عن ارتباطه مع الاتحاد السوفيتي آنذاك، واستمرت العلاقات على هذه الحال مع وصول الرئيس حافظ الأسد للحكم عام 1970م، لكنها دخلت مرحلة جديدة في سنة 1974م بعد حرب تشرين/ أكتوبر، مع توقيع اتفاقية فصل القوات، بعد مفاوضات مكوكية قام بها كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي آنذاك بين دمشق وتل أبيب، ثم خضعت للتجاذب فيما بعد، خاصة بعد التدخل السوري في لبنان الذي كرس الدور الإقليمي لسوريا، وانتهى بواشنطن إلى إقراره بعد حرب الخليج الثانية، التي شهدت عودة الجولات المكوكية بين واشنطن ودمشق، التي قام بها هذه المرة جيمس بيكر الذي أقنع الأسد بالانضمام للتحالف الدولي تحت قيادة الولايات المتحدة "لإخراج" العراق من الكويت، ثم بالمشاركة في مؤتمر مدريد للسلام في أكتوبر 1990.

      حافظت العلاقات بعدها على نوع من "التفاهم غير المعلن" -كما يصفه أحد الباحثين- بين دور كلٍّ منهما في المنطقة، شهد أوجه خلال حكم الرئيس بيل كيلنتون.

      كان منهج الأسد الأب الاستفادة من المفاوضات السورية - الإسرائيلية بشكل يساعد في تحسين العلاقة مع أمريكا دون الاصطدام معها. وجاء تأييد واشنطن للأسد الابن في استلامه للسلطة من خلال زيارة أولبرايت وزيرة الخارجية آنذاك لدمشق، باعتباره امتدادًا لنهج أبيه، وخصوصًا فيما يتعلق برغبته في السلام واستمرار المفاوضات السورية- الإسرائيلية.

      عودة التوتر بعد 11 سبتمبر

      لكن التوتر الذي ساد العلاقات الأمريكية - السورية أتى تحديدًا بعد 11 أيلول/ سبتمبر وما سبقها من استلام إدارة بوش الابن وطاقمه الذي يحوي "صقورًا"– كما يشيع وصفهم، بمعنى: اندفاعيين بمقابل "الحمائم" المتحفظين- من أمثال وزير الدفاع رامسفيلد ونائبه بول ولفوفيتز، وريتشارد أرميتاج نائب وزير الخارجية الأمريكية الذي أعلن أن الولايات المتحدة "قد تقوم بعمل عسكري ضد دول مثل سوريا إذا لم تستجب للمطالب الأمريكية والغربية"، وقد أثارت تصريحاته تلك في ذلك الوقت احتجاجات شديدة اللهجة من قبل الحكومة السورية، فاستدعت وزارة الخارجية السفير الأمريكي بدمشق تيودور قطوف لإبلاغه احتجاجها الشديد على تصريحات أرميتاج، لكن تصريحاته تكررت خصوصًا بالنسبة إلى "حزب الله"، ثم أتت بعد ذلك تصريحات مساعد وزير الخارجية بولتون الذي أضاف سوريا إلى دول "محور الشر" عندما تحدث في إحدى محاضراته عن "ما وراء محور الشر".

      أعقب ذلك كله قرار الكونغرس الأمريكي الذي صادق عليه الرئيس فيما بعد بعدم إعطاء الرعايا السوريين تأشيرات دخول إلى الولايات المتحدة (بالرغم من وجود علاقات دبلوماسية بين البلدين)، ثم أعقبه "قانون محاسبة سوريا" الذي جرت مناقشته في (سبتمبر 2002)، ويحمّل سوريا مسؤولية أي عملية يقوم بها "حزب الله" أو أحد التنظيمات الفلسطينية المقيمة في سوريا، ويطالبها بضرورة وقف تصدير النفط العراقي عبر أراضيها.

      كانت سوريا تتخوف منذ أحداث سبتمبر من المدى الذي يمكن أن تبلغه "الحرب ضد الإرهاب"، ولذلك كانت تلحّ باستمرار على "ضرورة تعريف الإرهاب"، وانطلاقًا من تخوفها هذا ورغبتها في تحسين العلاقة مع الولايات المتحدة أيضًا قدمت تعاونًا "استخباراتيًّا" ملحوظًا في "الحرب ضد الإرهاب"، ربما فاجأ المسئولين في الإدارة الأمريكية بحجمه، وكان السوريون يتوقعون أن يؤثر هذا التعاون في طبيعة العلاقات مع أمريكا. لكنه لم يسفر إلا عن تجميد "قانون محاسبة سوريا" الذي بدا واضحًا حينها أنه محاولة "للضغط" لتقديم "تعاون" في الحرب الأمريكية ضد "الإرهاب".

      كان هذا التوتر في مرحلة ما بعد سبتمبر غير معهود في تاريخ العلاقات؛ إذ لم نشهد حوارًا "رسميًّا" بين البلدين، وبدا أن هناك "جفاء" ملحوظًا، وأن مسيرة العلاقات تسير بشكل متعثر، وهنا نفهم جيدًا واحدًا من تصريحات الرئيس بشار الأسد مفاده أن "أمريكا صداقتها وعداوتها مشكلة".

      الدور الإسرائيلي

      لم تكن إسرائيل بمنأى عن الوضع، وبدت عاملاً مهمًا في تعثر العلاقات الأمريكية- السورية، ومنذ أحداث سبتمبر انقلبت إسرائيل بشكل ساخر إلى دولة "محارِبة للإرهاب" مستغلة الشحنة الانفعالية لأحداث سبتمبر إلى أقصى مدى، بدأ بتشبيهها "إرهاب 11 سبتمبر" بـ"الإرهاب الفلسطيني"، وصولاً إلى سعيها المحموم للزج باسم سوريا ضمن اللائحة الأمريكية لمحاربة الإرهاب، تارة من خلال الملف الفلسطيني، وأخرى من مدخل "الملف العراقي"، وكان من أبرز المحاولات الإسرائيلية الزعم -عبر صحفي في صحيفة "هاآرتس" في مقال تحريضي- بأن سوريا تشتري أسلحة لصالح صدام، وتخرق الحظر الدولي المفروض عليه، وأن التقديرات الأمريكية والإسرائيلية تستشف من التقارب بين البلدين وجود تعاون عسكري كبير بينهما.

      بين الأسد الأب والأسد الابن

      مع تعقيدات الأزمة العراقية وبروز خيار الحرب لم يكن من بدّ أمام القيادة السورية إلا التعاطي بشكل مختلف عن تعاطي الأسد الأب في حرب الخليج الثانية، فكان الموقف السوري من أشد المواقف صلابة؛ وهو ما دفع إلى التصادم الذي كانت سياسة الأسد الأب تقوم على تفاديه؛ فقد عارض الابن الحرب على الدوام؛ لأنه يدرك جيدًا اختلاف المرحلة والأهداف؛ فدخول أمريكا للعراق يعني إعادة رسم خارطة المنطقة بما يتوافق مع أمن العدو الإسرائيلي، وفقدان العمق الإستراتيجي لسوريا في العراق، ووقوع سوريا بين فكي كماشة: "الجار الأمريكي" الجديد، والعدو الإسرائيلي، وهذا لا شك ستكون له انعكاساته الإقليمية، وخاصة في العلاقة مع تركيا التي ترتبط باتفاقيات مع إسرائيل؛ الأمر الذي يعني عزل سوريا تمامًا (لاحظ إلغاء زيارة وزير الخارجية التركي لسوريا واستقباله للوزير الإسرائيلي بضغط من أمريكا)، وهو ما سيشكل ضغوطًا شديدة على المصالح السورية تفضي إلى "تنازلات" مؤلمة أمام إسرائيل، كما أن من شأنه تصفية المقاومة الفلسطينية التي تؤوي سوريا عددًا من قياداتها.

      الحرب.. وتداعيات الموقف السوري

      ابتدأت الحرب على العراق.. تزايدت حدة المعارضة السورية للحرب مصممة على كونها "احتلالاً" و"غير شرعية"، وكان لافتًا صدور فتوى سورية (26-3-2003) -بشكل لم نعهده- بالحث على "العمليات الاستشهادية" في العراق ضد الأمريكيين، (مع أهمية ملاحظة أنه لم يرد في الفتوى لفظ "جهاد"). وكانت إسرائيل ترقب الوضع عن كثب وفق سياسة "انتهاز" الفرص المعهودة منها، فسرّبت أخبارًا تحريضية ظهرت على لسان وزير الدفاع الأمريكي في مؤتمر صحفي (28-3-03) قائلاً: "لدينا معلومات بأن شحنات من العتاد العسكري تعبر الحدود من سوريا إلى العراق بما في ذلك مناظير للرؤية الليلية"، وقد سئل عن "عمل عسكري" ضد سوريا فلم يجب. وجاء الرد السوري مباشرة بأن تصريحات رامسفيلد "محاولة لتغطية ما ترتكبه قواته بحق المدنيين في العراق". وفي هذا السياق جاءت تحذيرات رامسفيلد لإيران أيضًا (28-3-2003) من "مغبة السماح بأي أنشطة عسكرية" في العراق؛ الأمر الذي يرجح صحة الرؤية السورية للتهديدات.

      لكن سقوط بغداد (9-4-2003) دفع إلى زيادة التصعيد الأمريكي؛ فقد حذرت الولايات المتحدة الدول التي تتهمها "بالسعي" لامتلاك أسلحة غير تقليدية -ومن بينها إيران وسوريا وكوريا الشمالية- بأن تأخذ العبرة من "درس العراق". مرة أخرى لم تكن البصمات الإسرائيلية خافية؛ فقد جاء التحذير هذه المرة من أحد أبرز المتشددين في الإدارة الأمريكية جون بولتون وكيل وزارة الخارجية، وكانت الخارجية السورية ترى البصمات الإسرائيلية، فجاء ردها بأن "إسرائيل تنشر معلومات مضللة إلى واشنطن ضد سوريا".

      وانتقل التصعيد مرة أخرى على لسان وزير الدفاع (10-4-2003) بأنه يمتلك "معلومات من مصادر استخباراتية تؤكد تقديم دمشق تسهيلات لمعاوني صدام للهرب من العراق"، وصمت الرد السوري يومين ليصدر في (12-4-2003) بحضور وزير الخارجية الفرنسي بأن الاتهامات "لا أساس لها من الصحة".

      الخيار العسكري.. بين الاستبعاد والتلويح

      لكن هذا التصعيد بقي يستبعد الخيار العسكري ضد سوريا، فقد قال بولتون "الأولوية بالنسبة للولايات المتحدة هي القضاء (سلميًّا) على هذه البرامج" – يقصد الكيماوية والبيولوجية التي تسعى بزعمه تلك الدول لامتلاكها. ثم جاء تأكيد كولن باول وزير الخارجية (11-4-2003) لتلفزيون باكستان –ونشرت المقابلة وزارة الخارجية الأمريكية- "بأن الولايات المتحدة ليس لديها خطة أو قائمة عليها أسماء دول تعتزم مهاجمتها واحدة تلو الأخرى". مكررًا باول "أمله" أن تقنع "تجربة العراق" الدول الأخرى، مثل إيران وسوريا، بالكف عن "السعي" لامتلاك أسلحة كيماوية أو بيولوجية أو نووية، وعن مساندة "جماعات إرهابية" للتحرك "في اتجاه جديد".

      وفي اليوم نفسه جاء أيضًا تصريح ولفوفيتز مساعد وزير الدفاع بأن "الولايات المتحدة مرتابة من موقف سوريا"، لكنه أضاف "أنها لا تعتزم إرسال قواتها إلى هناك"، ثم عاد وأكد المعنى نفسه المتحدث باسم وزارة الخارجية ريتشارد باوتشر قائلاً (11-4-2003): "إن الرئيس لا يسعى بصورة تلقائية إلى استخدام القوة العسكرية الأمريكية"، و"إن القوة ليست قط خياره الأول"، ترافق ذلك مع تصعيد سوريا بالمطالبة "بإنهاء الاحتلال الأجنبي".

      وفي اليوم نفسه طلب الرئيس بوش من دمشق "تعاونًا كاملاً في القبض على الهاربين من أعضاء حكومة الرئيس العراقي"، وبإغلاق الحدود في وجه الهاربين، مع أن سوريا صرحت سابقًا بإغلاق الحدود إلا أمام المساعدات الإنسانية.

      اللاحسم.. بين تصعيد وتهدئة

      لكن ريتشارد بيرل، الذي يرأس حاليا "مجلس السياسة الدفاعية" الأمريكي انضم للجوقة بشكل سافر مهددًا في (12-4-2003) بأن "سوريا ستصبح هدفًا عسكريًّا محتملاً إذا تبين أن في حيازتها أسلحة دمار شامل عراقية". وهو الأمر الذي ربما رفع حدة التكهنات بالخيار العسكري لدى البعض؛ إذ يصدر من "مهندس" الغزو الأمريكي للعراق هذه المرة.

      ثم عاد باول ليكرر (13-4-2003) الاتهامات بشأن إيواء مسؤولين عراقيين وتخزين أسلحة دمار شامل عراقية، وتزويد بغداد بالعتاد العسكري أثناء الغزو، مشيرًا إلى قلق واشنطن من إيران وكوريا الشمالية باعتبارهما جزءًا من "محور الشر".

      ومع تواتر التهديدات وتصاعد التوتر، دخل وزير الخارجية البريطاني على الخط فقال في زيارته للبحرين (14-4-2003): "إن لندن وواشنطن لا تعتزمان مهاجمة سوريا بعد العراق"، لكن "على سوريا التي تتهمها واشنطن بحيازة أسلحة كيماوية وإيواء مسؤولين عراقيين أن تجيب على أسئلة مهمة"، داعيًا إلى "الحوار" مع حكومة دمشق، وأن "المهم أن تتعاون" سوريا بشكل كامل مع التساؤلات.

      عاد كولن باول ليصعد الموقف في اليوم نفسه مصرّحًا بأن واشنطن "ستبحث اتخاذ إجراءات محتملة ضد دمشق، سواء أكانت دبلوماسية أم اقتصادية أم غيرهما"، "نتيجة موقفها في النزاع العراقي"، مضيفًا أنه "يأمل أن تدرك سوريا واجباتها في المحيط الجديد". وأدلى وزير الدفاع الأمريكي دونالد رمسفيلد بدلوه قائلاً: إن الأمريكيين سجلوا حصول "تجارب على أسلحة كيميائية في سوريا في الأشهر الـ12 أو الـ15 الماضية". وكذلك أعلن الناطق باسم البيت الأبيض آري فليشر أن "سوريا دولة إرهابية تؤوي إرهابيين"، مرددًا الاتهامات نفسها.

      ثم عاد سترو فاتهم سوريا "بالتعاون في الأشهر القليلة الماضية مع نظام الرئيس العراقي"، وقال في الكويت (14-4-2003): "إن هناك أدلة على ذلك" مرددًا كلام باول أن من المهم جدًّا أن تدرك دمشق الآن أن هناك "واقعًا جديدًا"، وأن على سوريا أن "تجيب على عدد من الاستفسارات".

      كما انضم وزير الدفاع البريطاني جيف هون إلى الحملة فأعرب في مؤتمر صحفي بلندن (14-4-2003) عما أسماه بالقلق من "الجهود التي قام بها السوريون في الماضي لتطوير الأسلحة"، مضيفًا أن "بريطانيا تفضل في هذه المرحلة إبقاء الحوار مع سوريا".

      إسرائيل لم تكتف بترويج تلك الاتهامات على ألسنة المسؤولين، فانضمت للضغوط على سوريا علنًا عبر وزير الدفاع الإسرائيلي شاؤول موفاز الذي قال لصحيفة معاريف الإسرائيلية (14-4-2003): "لدينا قائمة طويلة من المسائل نفكر في مطالبة السوريين بها، ونفضل أن نقدمها عبر الأمريكيين". وسانده في أنقرة وزير الخارجية الإسرائيلي سيلفان شالوم الذي قال: "إن سوريا تواصل تشجيعها للحركات الإرهابية"، مؤكدين على مطالب سيكررها شارون لاحقًا.

      "حرب العقوبات".. وردود الفعل الدولية

      لكن حرب التصريحات هذه أثارت ردود فعل دولية، خصوصًا بعد إعلان واشنطن أنها قد تفرض "عقوبات" على دمشق؛ فقد حث مسؤول السياسية الخارجية للاتحاد الأوروبي خافيير سولانا (14-4-2003) الولايات المتحدة على "تخفيف نبرتها الحادة ضد سوريا"، قائلاً: "إنه حان وقت تهدئة الوضع المتوتر في الشرق الأوسط". كما حذر وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر (15-4-2003) الولايات المتحدة والمجتمع الدولي من مخاطر وقوع "مواجهة جديدة" مع سوريا في خضم الحرب على العراق. وقال للصحفيين في لوكسمبورغ: إنه يجب تركيز الجهود على كيفية "كسب السلام في العراق وعدم الدخول في مواجهة أخرى". ودعت موسكو -على لسان نائب وزير الخارجية الروسي ألكسندر لوسيوكوف- الولايات المتحدة إلى "مزيد من ضبط النفس في تصريحاتها حيال سوريا"، معربة عن قلقلها من أن هذه التصريحات يمكن أن تعقد الوضع في منطقة الشرق الأوسط. وكذلك أشار رئيس الوزراء الإسبانيّ خوسيه ماريا أزنار إلى أن سوريا لن تتعرض لأي عمل عسكري، وبأن سوريا ستبقى صديقة لأسبانيا، كما جاء في بيان للمتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة أن "الأمين العام قلق من التصريحات الأخيرة التي استهدفت سوريا والتي من شأنها أن تزيد من زعزعة الوضع في منطقة تضررت بالفعل بشدة من الحرب في العراق".

      وكذلك كان هناك ردود فعل عربية وخليجية، وفي الوقت نفسه بدأت تحركات عربية تهدف –فيما يبدو– إلى نزع فتيل الأزمة قبل استفحالها؛ فقد قام وزير الخارجية السعودي بزيارة مفاجئة لدمشق (14-4-2003) أعقبها دعوته إلى مؤتمر إقليمي عاجل على مستوى وزراء الخارجية للدول المجاورة للعراق الجمعة 18-4-2003 في الرياض لدرس الأوضاع في العراق وانعكاساتها على دول المنطقة.

      إزاء هذا الوضع نفى رئيس الوزراء البريطاني توني بلير صحة التكهنات بأن سوريا قد تكون الهدف التالي بعد استهداف العراق، وقال: "ليس هناك أي خطة لاجتياح سوريا".

      وقال بلير في كلمة أمام مجلس العموم البريطاني (15-4-2003): إن الرئيس السوري بشار الأسد أكد له أنه "سيمنع" أي شخص قادم من العراق من الدخول إلى سوريا، معربًا عن اعتقاده بأن هذا ما سيفعله السوريون.

      عودة التصعيد الإسرائيلي

      ثم عاد التصعيد الإسرائيلي، لكن هذه المرة على لسان شارون نفسه الذي حث -في لقاء نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية (15-4-2003)- الولايات المتحدة على ممارسة ضغوط شديدة على دمشق، وأوردت الصحيفة على لسان شارون المطالب التي ترغب إسرائيل في مناقشتها مع سوريا، وهي:

      1. إزالة وحل المنظمات الفلسطينية التي تعمل من دمشق ومن بينها حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وحركة الجهاد الإسلامي.

      2. إنهاء تعاون سوريا مع إيران، ومن ذلك محاولات نقل أسلحة إلى السلطة الفلسطينية، وتحريض الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948.

      3. نشر الجيش اللبناني على امتداد حدود لبنان مع إسرائيل وطرد حزب الله من المنطقة.

      4. تفكيك شبكة صواريخ أرض- أرض تزعم إسرائيل أن حزب الله أقامها في جنوب لبنان.

      5. طرد الحرس الثوري الإيراني من سهل البقاع في لبنان.

      أبعاد التصعيد الأمريكي ضد سوريا

      لكن كيف نفسر ذلك التصعيد "غير الطبيعي" على سوريا؟

      يبدو جليًّا أن أعضاء الإدارة الأمريكية يدركون جيّدًا "صلابة" الموقف السوري، وأنه ليس وليد اليوم، لذلك هم يهدفون إلى تكثيف الضغط النفسي لإدخال الحكومة السورية في حلقة مفرغة من التوتر وحالة اللاحسم: تصعيد ثم تهدئة ثم تصعيد ثم تهدئة، وهكذا، يتوافق ذلك مع مشهد الخراب والدمار بعد إسقاط النظام في العراق، وكون الجيوش الأمريكية في الجوار (ملامح "درس" العراق)، وذلك بهدف إفقاده توازنه لزعزعته وصولاً إلى إنهاكه "لتطويعه"، خصوصًا أنهم يعلمون أن سوريا حريصة على علاقات جيدة مع واشنطن، وهو ما صرح به مسؤولون في الخارجية السورية منهم وزير الخارجية نفسه (12/4/2003).

      بل إن مسؤولاً أمريكيًّا صرح لصحيفة واشنطن بوست (15/4/2003) قائلاً: "نحاول فقط تخويفهم لفترة من الوقت على أمل أن تغير سوريا من سلوكها".

      ويبدو الموقف السوري المتماسك -حتى الآن- من خلال تعاطيه مع التهديدات الأمريكية يتمشى مع هذا الفهم؛ فهو لم يوفر جهدًا لصد الاتهامات، معتبرًا- على لسان عماد مصطفى المسؤول الثاني بالسفارة السورية في واشنطن في حديث لشبكة إن بي سي التلفزيونية (13-4-2003)- أنها "حملة تضليل". وجاء رد وزير الخارجية السوري (12-4-2003) بأن التهديدات "تعبر عن تيار متعصب"، وأنها "لا تعبر عن المسار العام للولايات المتحدة"، لذلك لا يعتبرونها "جدية".

      ويبدو أن تصريحات الوزير هذه هي التي زادت من تصعيد التصريحات الأمريكية في الأيام التي تلتها، وخصوصًا على لسان باول (المحسوب سابقًا على من يسمون بالحمائم)، الذي هدد بفرض عقوبات على سوريا "نتيجة موقفها من النزاع العراقي"؛ ويمكن أن يفسر على أنه محاولة واضحة لإقناع سوريا بأن الحملة "جدية"، وأنها -الحملة- موقف الإدارة كلها لتبدي سوريا تجاوبًا. وهنا تأتي الردود الأوروبية والروسية التي صدرت بعد الإشارة إلى "العقوبات".

      لكن إشارة باول إلى أن "العقوبات" التي تفكر فيها واشنطن هي "نتيجة لموقف سوريا من النزاع العراقي" تحمل تفسيرًا واضحًا لردود الفعل الأوروبية والروسية المعارضة للحرب، "المبرِّر" الذي تفكر واشنطن بفرض العقوبات بناء عليه. كما أنه يدعم القول بأن التهديدات هدفها "تطويع" الإرادة السورية لتسوية الوضع في العراق على ما سبق، خصوصًا أنه يبدو أن النموذج العراقي في التصور الأمريكي ليس سهل التحقيق.

      لكن هذا "التطويع" الذي يتوسل بفتح كل ملفات سوريا دفعة واحدة: (موقفها من الحرب على العراق- إيواء مسؤولين عراقيين - دولة داعمة للإرهاب- أسلحة دمار شامل) يبدو جزءًا من سياسة أوسع للولايات المتحدة؛ فالاتجاه الأبرز في خصوص مستقبل العراق هو الاتجاه العقائدي الطابع، الساعي إلى إعادة ترتيب المنظومة السياسية والاقتصادية العالمية بما ينسجم ومصالح واشنطن، وأفُقه هو المدى البعيد، وحديث أصحابه هو عن "القرن الأمريكي الجديد". وهنا يأتي إلحاح عدد من المسئولين الأمريكيين ضمن التهديدات لسوريا (ردد ذلك أيضًا البريطانيون تبعاً) على "محيط جديد" أو "واقع جديد"، و"درس العراق" أو "تجربة العراق"، كما تم الإلحاح على "درس العراق" في تصريحات لإيران وكوريا الشمالية.

      وحيال هذا "الواقع الجديد".. مطلوبٌ أمريكيًّا من سوريا "التعاون الكامل" بشأن العراق، كما صرح بوش وغيره، لكن دمشق تدرك جيدًا أن "التعاون" لا يقف عند العراق، بل يتعلق بالملف الفلسطيني وإسرائيل، خصوصًا مع التصريحات الإسرائيلية بعد أن كانت تدفع بالأزمة من وراء الكواليس، وليس ثمة صورة أكثر فجاجة من "لائحة المطالب" الإسرائيلية من سوريا التي ستقدمها عبر واشنطن التي تبدو وكأنها تخوض حروب إسرائيل بالوكالة. ولذلك جاء الهجوم السوري على لسان وزير الخارجية الذي قال (13-4-03): "حتى الإسرائيليون سيدفعون الثمن في المستقبل إذا لم يطلبوا من أصدقائهم الأمريكيين أن يوقفوا العدوان"، في إشارة إلى الحرب على العراق.

      إن المخطط الإسرائيلي التبس بالمخطط الأمريكي، وأصبحت العراق الساحة التي تنطلق منها المخططات الأمريكية والإسرائيلية صوب المنطقة العربية، وإعادة ترتيب الأوضاع فيها. وهذا سبب جوهري آخر لتقديم سوريا على إيران، على الرغم من أنها خارج محور "شر بوش"، لكنها في "معناه"، كما أن سوريا لاعب رئيسي في الملف الفلسطيني وفي لبنان، وإسرائيل تريد بوضوح تصفية المقاومة في فلسطين ولبنان، ويترافق التصعيد أيضًا مع موضوع "خارطة الطريق" وتشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة، وسوريا ولبنان تبعًا ترفضان الخطة.

      إذن "التعاون" المطلوب من سوريا على المدى القصير هو العراق، وعلى المدى المتوسط هو الملف الفلسطيني ولبنان، وإن بدا أن بعض أعضاء الإدارة يتمنون حرق المراحل والعمل على كل ذلك دفعة واحدة باعتبارها الفرصة المناسبة، وبذلك نفهم "صدق" بوش حين ربط العراق بحل القضية الفلسطينية. وهذا لا شك سيكون بالغ التأثير على الموقف القومي السوري، والدور الإقليمي لها، والتحذير كان واضحًا من بعض المسؤولين الأمريكيين بأن سوريا عليها أن تفكر في "مكانتها" في المستقبل، وأن تتعامل مع "محيط جديد".

      أفق الأزمة.. إلى أين؟

      لكن.. ماذا بعد؟ هل تكون سوريا "العراق" الثانية؟

      من اليقيني أن واشنطن "غاضبة" الآن من دمشق، وأنها تملك "قابلية غير عادية" لاتهام سوريا بما يبرر الحرب، ولكن من الواضح أنها لا تريد تكرار ما جرى في العراق الآن على الأقل، ولذلك هي تستثمر غزو العراق بوصفه "درسًا" لأخذ العبرة. والدلائل على أن أمريكا لا تنوي اجتياح سوريا متعددة؛ فسوريا ليست العراق، بمعنى:

      - سورية لها مكانتها على الساحة الدولية والعربية والإسلامية، وحتى في الساحة الأمريكية، كما عبر وزير الخارجية السوري.

      - ليس لها تاريخ النظام العراقي، الذي يبرر –ولو ظاهريًّا- إسقاطه وهو أمر غير مطروح حتى الآن.

      - استهداف سوريا بحملة عسكرية سيصعّد توتر العلاقات الدولية، وخصوصًا مع فرنسا التي ترى في سوريا نفوذًا قديمًا، وهنا يمكن فهم زيارة وزير الخارجية الفرنسي لدمشق (12-4-03) فيما يمكن أن يوصل رسالة واضحة لواشنطن. وكذلك مع الرأي العالمي فسيكون استهداف سوريا أمرًا استفزازيًّا جدًّا، خاصة بعد أن أغضبت أمريكا قطاعات كبيرة من الرأي العام العالمي والعربي بضربها العراق، ومن المستحيل أن تحصل على غطاء شرعي دولي لضرب سوريا، فهي لم تحصل عليه بخصوص العراق.

      - أمريكا إن كان غُرِّر بها بأن الشعب العراقي سيستقبلها بالورود، فإنها تعلم جيدًا بأن سوريا حكومة وشعبًا ضد الولايات المتحدة، بل إن برنارد لويس الساخر من العرب والإسلام وصاحب الآراء المؤثرة لدى الإدارة يصنف سوريا كذلك (حكومة وشعبًا ضد أمريكا).

      - التصعيد العسكري مع سوريا من شأنه أن يحدث آثارًا سلبية على إسرائيل نفسها.

      - العراق كان مستنزفًا بالحرب والحصار، ومن ثم كان هدفاً مكشوفًا.

      - العراق بلد موفور الغنى بالثروات الكامنة فيه، فهو قادر على دفع تكاليف "عملية تدميره/تحريره"، وقادر على دفع "فاتورة إعادة تعميره"، وسوريا ليست كذلك.

      ورغم الحملة الشديدة على سوريا في الصحافة الإسرائيلية فإن كاتبًا في صحيفة معاريف (13-4-03) يرى "أن الأمريكيين لا يعتزمون اجتياح سوريا، لكنهم قادرون على إيلامها لدرجة نزيف لا يستطيع النظام السوري احتماله"، إلا أنه لم يستبعد تمامًا "حدوث ضربة أمريكية ضد مواقع عسكرية سورية في لبنان أو سوريا".

      ونحن -وإن كنا لا نستبعد احتمال "ضربة"- نرى الدبلوماسية السورية لن تعدم العديد من الأوراق لإزاحة شبح الحرب حين تبدو أكيدة، لكن هل تصل الأمور إلى طريق مسدود يضطر واشنطن إلى القيام "بضربة استباقية" وليس اجتياحًا؟ لا يبدو كذلك حتى الآن لكنه غير مستبعد تمامًا، خصوصًا إذا كان المدى البعيد لواشنطن متجاوزًا للسقف السوري ليصل إلى تصفية دورها الإقليمي ومطالبتها بإصلاحات داخلية، وخصوصًا (إذا) نجح النموذج العراقي– الأمريكي، ومن المستبعد تمامًا استجابة دمشق لذلك. لكن هذا لا يبدو قريبًا الآن.