موعدنا الأسبوعي مع الموت

    • موعدنا الأسبوعي مع الموت

      عُمان -

      حمدة بنت سعيد الشامسية:



      نعيش نحن أبناء المناطق ممن جرتنا لقمة العيش للإقامة في مسقط حالة غربة طويلة، فعلى الرغم من إقامتنا الطويلة فيها التي تجاوزت عقدين من الزمن للكثيرين، وعلى الرغم من أن غالبيتنا نمتلك منزلا نقيم فيه بشكل دائم، لكن تظل ثلاثة أرباع القلب مرهونة في بلدة خلفناها وراءنا تحمل ذكريات طفولتنا، وتحتضن أحبابنا، لذا لا يكاد عقرب ساعة الثانية من بعد ظهر كل أربعاء يقترب حتى يتأهب كل ما فينا للعودة إلى حيث حضن الوالدة، وعبق نخيل الوالد، وسوالف الجيران، لا يعود أغلبنا للشقة التي استأجرها مقرا ظن أنه سيكون مؤقتا، أو بيتا أوهم نفسه بأنه سيقطنه لفترة زمنية قصيرة، فالحقائب حملت في السيارة قبل أن نغادر مسكننا، فأمثالنا يحسب حتى الدقائق، وعندما تنطلق بنا السيارة في شارع ندرك تماما أن الموت ينتظرنا عند كل منعطف فيه، يعمي الشوق للأهل بصيرتنا، ويتغلب الشوق على العقل والمنطق، فكم حدثت نفسي قبل أن يبلع سيارتي خط الباطنة المحفوف بالمخاطر والمسكون بالموت بأنني لن أسرع هذه المرة، فيأتيني صوت الصغار من أبناء إخوتي يناديني، أسبح بخيالي حيث يتلقفني الصغار، وتبتهج بعودتي وجوه الكبار، ترتسم لي ابتسامات إخوتي على المرآة الأمامية، وتظهر لي عيون أمي القلقة على لوحة تحكم السيارة، بدون إرادة مني أجد رجلي اليمنى وقد خالفت تعليمات عقلي وضغطت بشدة على البنزين، قد يستوقفني مشهد شاحنة مقلوبة للحظات، يسكنني الخوف، ويتملكني الحذر، لكن لدقائق معدودة، لأن هناك ما هو أقوى من الخوف وأشد وقعا من الموت يدفعني.

      هذه ببساطة هي قصة هذه الحوادث التي تحصد ما يزيد عما تلفظه بطون الأمهات من مواليد سنويا، وكأننا شعب يخاف التكاثر، وبقدر ما نلد بقدر ما نقتل سنويا، في شوارع لم تتعلم من كثرة الدماء التي شربتها، وشباب لا يملكون خيارا سوى إلقاء أرواحهم إليها بشكل أسبوعي في موعد ثابت مع الموت لا يتغير، تكثر المطالبات لنا بأن نكون أكثر حذرا، ويرمى بمطالباتنا بشوارع أكثر أمانا عرض الحائط، ويلقى باللوم على السائق وحده وكأنه من اختار الموت وقتل من يحب بيده، متجاهلين عمدا الأسباب الرئيسية الأخرى التي تساهم في تفاقم مشكلة الحوادث في الطرق العمانية، التي تربعت على عرش أكثر الدول قتلا لأبنائها على طرقاتها، تلك الشوارع الضيقة والمزدحمة، التي صممت لتؤدي عدة أغراض في آن واحد: كطرق سريعة عابرة للولايات، ومعبر للشاحنات، وطرق للخدمات، شوارع تغرق خلال ساعة من زخة مطر خفيفة لغياب قنوات التصريف، أو عدم كفايتها إن وجدت، نلقي باللوم على السائق دون أن ننظر للسبب الذي يجعله يقضي سنوات من عمره مسافرا عبر هذه الطرقات وراء لقمة عيش لا بد أن يعيش حالة ترحال دائمة إلى مسقط سعيا وراءها، بعد أن أصبحت مسقط هي العاصمة السياسية والاقتصادية والتجارية في آن واحد، وبهذا أصبحت الوجهة الوحيدة للساعين وراء لقمة العيش، تاركين وراءهم زوجات كتب عليهن العيش مدى الحياة كزوجات (نهاية الأسبوع) وأطفالا أجبروا على الحياة بدون أب في فترة هم أحوج ما يكونون فيها لدور الأب.

      ولا يختلف وضع المارة كثيرا عن وضع السائقين ، بسبب الطرق ذات الاستخدامات المتعددة ، التي لم يحسب فيها حسابا للمارة، من غياب ممرات عبور المشاة والجسور، التي وإن كانت موجودة في بعض شوارع محافظة مسقط لكنها لا تفي بالغرض بسبب وجودها على مسافات متباعدة، فبين كل جسر وآخر مسافة قد تتجاوز العشرة كيلو مترات في معظم الحالات، وكذلك غياب المواقف المخصصة لوقوف سيارات الأجرة التي تتسبب في حوادث مميتة بسبب وقوفها أو دخولها للشارع الرئيسي المفاجئ والذي لا يعطي للسائق فرصة لتجنبها.

      لكل مشكلة تداعيات وأسباب يجب أن يتم النظر إليها معا، أما التركيز على جانب دون آخر فلن يكون أكثر من مسكن مؤقت، ولا يخفى على أحد أن العامل الأساسي لارتفاع حوادث الطرق على المستوى الدولي هو ارتفاع عدد المركبات على الطريق، مما يفاقم حجم المشكلة عندنا هو غياب وسائل النقل العام ذات الكفاءة والفعالية التي يمكن معها الاستغناء عن استخدام السيارات الخاصة.

      و بعيدا عن العواطف التي قد يرى البعض أنها تغلب على المقال، فإن هناك بعدا اقتصاديا يتحمله اقتصاد البلد كنتيجة لهذه الخسائر البشرية، التي لا أملك إحصائيات عنها لكن يمكن الاسترشاد هنا بتقرير البنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية الذي يشير إلى أن دول العالم تخسر ما يعادل 2% من إجمالي الناتج المحلي لهذه الدول بسبب حوادث الطرق، أي ما يقارب 518 مليار دولار أمريكي ، وفي الدول الفقيرة يصل المبلغ إلى 65 مليار دولار وهو مبلغ أكبر بكثير من مبلغ المساعدات التي تتلقاها بعض هذه الدول، التي تصل فيها أرقام الوفيات إلى 20 ضعفا لتلك الموجودة في الدول المتقدمة، وتساهم هذه الحوادث إلى زيادة معدل الفقر بسبب الكلفة العالية للرعاية الطبية طويلة المدى التي يحتاجها المصاب في حوادث الطرق خاصة بالنسبة للدول التي لا يتوفر فيها علاج مجاني، فضلا عن فقدان معيل الأسرة.

      أدرك تماما بأن تكلفة حوادث الطرق لا يمكن تقديرها إذا ما احتسبنا قيمة الأروح البشرية التي لا تقدر بثمن، حيث أن حوادث الطرق هي المسبب الثاني للوفيات في العالم، المؤسف أن أغلب الوفيات تكون في الفئة العمرية من 5-29 سنة، هي المرحلة التي تمثل بالنسبة للأمم وللأسر على حد سواء مرحلة الأمل وفترة جني الاستثمار في هذه الفئة، سواء كان الاستثمار في التربية أو التعليم أو الرعاية الصحية، لكن حساب تكلفة هذه الحوادث على الاقتصاد المحلي مهم للغاية فقد يساعد ذلك المسؤولين على إدراك حجم الخسارة التي نحن بصدد الحديث عنها، وربما تشجيع الجهات ذات الاختصاص لوضع السلامة على الطرق ضمن أولوياتها، من خلال الاستثمار بشكل أكبر على برامج السلامة على الطرق لأننا ندرك جميعا بأن الوقاية خير من العلاج، وهذه القضية ليست إستثناء، نحن بحاجة إلى وضع استراتيجية واضحة تشمل التعليم والتدريب وبرامج التوعية، إضافة طبعا إلى تصميم طرق آمنة ووضع وتطبيق قوانين فاعلة للحد من حوادث الطرق، وعند احتساب التكلفة الاقتصادية للحوادث تدخل عناصر يمكن قياسها بالاسترشاد بمعايير القياس المعمول بها في الدول الأخرى، فالعلاج على سبيل المثال والذي يدخل في حسابه بالإضافة إلى العلاج الطبي خدمات الاسعاف يمكن التحصل عليها من وزارة الصحة، وكذلك الأضرار المادية بالمركبات والممتلكات العامة يمكن استخراجها من سجلات شرطة عمان السلطانية، وكذلك المصروفات الإدارية المتعلقة بتقارير الشرطة أو من شركات التأمين، وهناك طبعا من العناصر مما لا يمكن قياسه كما أسلفت ألا وهو الحزن والمعاناة والألم الذي يشعر به المصاب وأفراد أسرته والمقربون والأصدقاء.

      *


      ¨°o.O ( على كف القدر نمشي ولا ندري عن المكتوب ) O.o°¨
      ---
      أتمنى لكم إقامة طيبة في الساحة العمانية

      وأدعوكم للإستفادة بمقالات متقدمة في مجال التقنية والأمن الإلكتروني
      رابط مباشر للمقالات هنا. ومن لديه الرغبة بتعلم البرمجة بلغات مختلفة أعرض لكم بعض
      المشاريع التي برمجتها مفتوحة المصدر ومجانا للجميع من هنا. تجدون أيضا بعض البرامج المجانية التي قمت بتطويرها بذات الموقع ..
      والكثير من أسرار التقنية في عالمي الثاني
      Eagle Eye Digital Solutions