الهند والصين.. من يكسب المعركة في خليج البنغال؟ *

    • الهند والصين.. من يكسب المعركة في خليج البنغال؟ *



      يقر كثير من علماء الجغرافيا السياسية أن مراكز الأقطاب العالمية تتحرك الآن من أوروبا والأمريكيين نحو القارة الآسيوية، ويتوقع أن تسيطر ثلاث دول في هذه القارة على مسرح النظام العالمي المقبل، هي: روسيا والصين والهند. التنافس الهندي الصيني قديم جديد، ولكنه يكتسب اليوم بعدا ساخنا بسبب النمو الاقتصادي والعسكري الشامل لكلتا الدولتين، وتود الدولتان قبل تحركهما لتبوء مكانة الريادة على المسرح العالمي أن تحسم أولا ريادتها على المستوى الإقليمي.
      وعلى الرغم من أنه لا توجد حدود بحرية مشتركة بين الهند والصين، فإن الهيمنة الإقليمية البحرية للطرفين تجعل مياه المحيطين الهادئ والهندي -والبحار الداخلية المرتبطة بهما- ساحة تنافس مقبل بين الطرفين، وقد يبدو ظاهريا أن المجال الحيوي البحري للصين يقع في المحيط الهادئ، بينما يمثل المحيط الهندي المجال الحيوي الكلاسيكي للنفوذ الهندي، لكن اليوم ثمة منطقة تداخل بين المحيطين هي التي تمثل أكثر محطات التنافس في المستقبل، وتتألف من قوس بحري يمتد من غرب المحيط الهادئ وحتى البحر العربي، ويمكن تقسيم هذا القوس إلى ثلاثة أقاليم: شمال شرق المحيط الهندي (خليج البنغال)، ومضايق مالقا، وبحر الصين الجنوبي.
      يعد إقليم خليج البنغال وشمال شرق المحيط الهندي منطقة "حياة أو موت" بالنسبة للأمن القومي الهندي، وبالنسبة للصين تمثل طريق عبور بالغ الأهمية يحمل واردات الطاقة من غرب آسيا وإفريقيا؛ وهو ما يجعل الصين عرضة لخسائر كبيرة إذا ما وقع أي تنافس عسكري هندي - صيني حول المياه البحرية.
      ويحد مثل هذا الموقف الحساس إستراتيجيا للصين من قدرة بكين على استخدام القوة لإشباع طموحاتها الإستراتيجية في غرب المحيط الهادئ، خاصة مع تايوان، وبوسع الصين أن تخفف من نقطة الضعف هذه بتكثيف وجود أسطولها البحري في هذه المنطقة، وهو ما قد يمكن الصين من ممارسة نفوذ وتأثير على نيودلهي لحل القضايا الرئيسية بينهما ولدعم موقفها العسكري في حالة نشوب حرب مفتوحة مع الهند.
      ميانمار.. بين الهند والصين

      في هذه المنطقة الحيوية تلعب ميانمار (بورما) دورا بالغ الأهمية؛ فمنذ ثمانينيات القرن العشرين قدمت الصين مساعدات دفاعية كبيرة لهذه الدولة، فهناك شيدت الصين تسهيلات بحرية وقواعد رادارية واستخبارية على طول ساحل ميانمار وجزر كوكو التي لا تبعد بأكثر من 18 كم عن الطرف الشمالي لجزر أندمان التابعة للهند.
      وتشير التقارير إلى أن عناصر من الجيش الصيني استقروا في ميانمار لاستخدام هذه التسهيلات لجمع معلومات بالغة الحساسية عن الهند، ومن المتوقع في المستقبل استخدام هذه المواقع كمحطات تزويد بالوقود للقوات البحرية الصينية.

      ومنذ مطلع التسعينيات تتبع السياسة الخارجية الهندية سياسة الاستعداد لما هو أسوأ تجاه ميانمار، ولا تعتمد هذه السياسة على تأمين الجانب الميانماري فحسب، بل شملت المساعدات الدفاعية المشتركة وتقوية العلاقات بينهما بصورة ملحوظة، وكان أبرز الأحداث في ذلك مشاركة البحرية الميانمارية في التدريبات العسكرية المشتركة من أجل السلام التي أجريت عام 2006 في "بورت بلير Port Blair" ميناء وعاصمة إقليم جزر أندمان، تلك التدريبات المعروفة باسم ميلان Milan (تعني كلمة ميلان في اللغة الهندية "ملتقى").
      كانت هذه التدريبات أول زيارة في التاريخ لسفينة حربية ميانمارية لأي ميناء خارجي، كما قدمت ميانمار من جانبها الفرصة للجانب الهندي لزيارة "المواضع المشكوك فيها" من قبل الهند، والتي يثار حولها احتمالات الوجود الصيني، وفي ذات الوقت ما تزال القوات المسلحة الميانمارية تعتمد بقوة على التقنيات العسكرية الصينية؛ ففي يونيو 2008 قام فريق من البحرية الصينية بزيارة جزر كوكو وتحديث إمكاناتها العسكرية، وهو ما يمثل تهديدا مباشرا للهند.
      وفي أبريل عام 2008 وقعت الهند وميانمار اتفاقية للنقل عبر نهر كالادان، والذي يمثل خط الحدود الدولية بين الهند (حيث ولاية ميزورام) وميانمار، ونصت هذه الاتفاقية على اشتراك الهند في تحديث ميناء سيتوي Sittwe الميانماري، والذي يصب فيه نهر كالادان (راجع الخريطة المرفقة).
      وقد اقترح في هذا الاتفاق بناء ميناء عميق في مرفأ داوي Dawei بجنوب غرب ميانمار، ورغم أن هذه المبادرات قد تكون ذات دوافع اقتصادية وتجارية وتخدم شبكة النقل والمواصلات، فإنها تعبر في ذات الوقت عن رغبة هندية في مواجهة النشاط الصيني في سواحل ميانمار.
      وقد استجابت ميانمار للضغوط الصينية ورفضت السماح للهند بأن تكون المشغل الوحيد لميناء سيتوي، وبدلا من السماح للهند ببناء وتشغيل وإدارة خدمات النقل BOT (Build, Operate and Transfer) أعطى الاتفاق للهند فقط بناء وتشغيل واستخدام الميناء (واستبعد الاتفاق "إدارة" نيودلهي لخدمات النقل).
      النفط والغاز.. جانب آخر من التنافس

      كما ظهر التنافس الهندي الصيني على حقوق استكشاف مصادر الطاقة في ميانمار، فالشركات الصينية دوما ما تنجح في الاستحواذ على النسبة الأكبر من العقود، سواء عن طريق ممارسة نفوذ كبير على ميانمار أو باكتشاف مناطق الضعف الهندية، في عام 2005 حصلت الهند على أول منصة لاستخراج النفط والغاز من المياه العميقة، وسمحت بنجلاديش للهند بتمرير خط أنابيب غاز عبر أراضيها، لكن فيما بعد لم تتمكن الهند من تحقيق ذلك بسب مفاجأة بنجلاديش للهند بوضع شروط جديدة، وقد أدى ذلك إلى تأخر في قدرة الهند على الالتزام بتعهداتها في العمل في هذا المشروع، وهو ما دفع ميانمار (أو أعطى لها ذريعة)، فقررت في 2007 توريد كل الغاز من المنطقة إلى الصين عبر خط أنابيب يبدأ من سيتوي ويصل إلى كونمينج Kunming، ويبدو ذلك مثيرا للدهشة نظرا لأن الطريق الجديد الواصل إلى الصين أطول بثلاث مرات من نظيره الهندي.
      وفي شكل آخر لمحاولة الرد الهندي على التأثير الصيني على ميانمار بادرت الهند بإقامة قيادة عسكرية اتحادية لجزر أندمان ونيكوبار، متخذة من ميناء بورت بلير مقرا لها، وذلك منذ عام 2001، وقد سبب ذلك قلقا للصين، أخذا في الاعتبار الأبعاد الأمنية لهذه الخطوة على ناقلات النفط المتجهة إلى الصين عبر المنطقة، وقد بدا ذلك جليا في عام 2002 حين قامت البحرية الهندية تؤازرها وحدات من قواتها الجوية بإجراء مناورات عسكرية بالاشتراك مع البحرية الإندونيسية على طول الحدود الساحلية بين البلدين.

      وقد أجريت المناورات في المنطقة المتمشية مع المضيق المعروف باسم مضيق 6 درجات شمالا والواقع بين الطرف الجنوبي لجزر نيكوبار الهندية وجزيرة سومطرة الإندونيسية (راجع الخريطة المرفقة)، وفي هذا المضيق تمر السفن الصينية المحملة بالنفط من الشرق الأوسط.

      وفي عام 2005 بدأت الهند مناورات عسكرية مشابهة مع تايلاند في منطقة بحر أندمان، وعلى الرغم من أن هذه المناورات كانت موجهة في الأساس لمكافحة الجرائم البحرية، فإنها كانت ذات دلالة في تحجيم النشاط الصيني في المنطقة.
      ولعل تحديث القدرات العسكرية للهند في القيادة الموحدة في بورت بلير سيزيد من قلق الصين بشأن الحضور العسكري الهندي في شمال شرق المحيط الهندي، وتهدف المخططات الهندية إلى بناء قواعد بحرية جديدة، وتسهيلات للقوات الجوية، ومحطات رادارية، ومستشعرات ثابتة تحت المياه في مناطق مختلفة عبر سلسلة الجزر الممتدة من جزيرة ناركوندام وإيست Narcondum and East في الشمال (في شمال شرق أرخبيل أندمان) وحتى نقطة إنديرا Indira Point في أقصى جزر أرخبيل أندمان، تلك النقطة التي تشرف مباشرة على مضيق 6 درجات شمالا على الحدود الإندونيسية. (راجع الخريطة المرفقة).
      ومن وجهة نظر الهند فإن هذا الشكل من تعزيز القدرات الهندية لا غنى عنه لممارسة سيطرة جديدة على النطاقات البحرية الواسعة المتباعدة الأطراف، وإن كان الهدف الخفي الذي لا يمكن استبعاده هو ردع الحضور الصيني في المنطقة، وسيزداد التنافس الهندي - الصيني في المستقبل مع المخططات التي تسعى إليها الهند لبناء جسور من التعاون للسيطرة المشتركة على تلك المنطقة البحرية بالتعاون مع دول الجوار البحري (إندونيسيا، وتايلاند وميانمار

      -