البابُ تقرعهُ الرِّياح.. - جديد بدرية العامري

    • البابُ تقرعهُ الرِّياح.. - جديد بدرية العامري


      البابُ تقرعهُ الرِّياح



      الباب ما قرعته غير الريح في الليل العميق
      الباب ما قرعته كفك،
      أين كفك والطريق
      ناء؟ بحار بيننا، مدن، صحارى من ظلام
      الريح تحمل لي صدى القبلات منها كالحريق
      من نخلة يعدو إلى أخرى ويزهو في الغمام
      الباب ما قرعته غير الريح…
      آه لعل روحاً في الرياح
      هامت تمر على المرافئ أو محطات القطار
      لتسائل الغرباء عني، عن غريب أمس راح
      يمشي على قدمين، وهو اليوم يزحف في انكسار
      هي روح أمي هزها الحب العميق
      حب الأمومة فهي تبكي
      "آه يا ولدي البعيد عن الديار!
      ويلاه! كيف تعود وحدك، لا دليل ولا رفيق؟"
      أماه.. ليتك لم تغيبي خلف سور من حجار
      لا باب فيه لكي أدق ولا نوافذ في الجدار!
      كيف انطلقت على طريق لا يعود السائرون
      من ظلمة صفراء فيه كأنها غسق البحار؟
      كيف انطلقت بلا وداع فالصغار يولولون؟
      يتراكضون على الطريق ويفزعون فيرجعون
      ويسائلون الليل عنك وهم لعودك في انتظار؟
      الباب تقرعه الرياح لعل روحاً منك زار
      هذا الغريب!! هو ابنك السهران يحرقه الحنين
      أماه ليتك ترجعين
      شبحاً. وكيف أخاف منه وما امحت رغم السنين
      قسمات وجهك من خيالي؟
      أين أنت ؟ أتسمعين
      صرخات قلبي وهو يذبحه الحنين إلى العراق
      الباب تقرعه الرياح تهب من أبد الفراق
      (بدر شاكر السّيّاب)

      الإيقاع :
      جرى النّصُّ الشِّعري على بحرِ الكاملِ_ بتفعيلاتِهِ المُضمرةِ ، والصّحيحةِ ( متفاعِلن / متْفاعلن)_ المعروفِ بسعةِ فضائِهِ ، ولينهِ ، وانسيابيّتِهِ ، ، وغنائيّتِهِ ، ووضوحِ تنغيمهِ .
      *القوافي :
      1.العميقْ ،الطّريقْ ، الحريقْ ، العميقْ ،رفيق
      2. ظلامْ ، الغمامْ
      3. الرِّياح ، راح
      4.القطارِ ، انكسارِ ، الدِّيارِ ، حجارِ ، الجدارِ ، البحارِ ، انتظارِ
      5. السّائرونْ ، يولولونْ ، يرجعونْ
      6. الحنينْ ، ترجعين ، السّنينْ ، أتسمعينْ
      7. العِراقِ ، الفُراقِ
      * وفي استقراءٍ بسيط للنّصِّ وجدنا سيطرة بعض الأصواتِ ، وتفشّيها في النَّصِّ ، كصوت الرّاءِ ذي التّردُّدِ العالي تكرّر نحو 50 مرّةٍ في النّصِّ ، كما تكرّر صوتُ النُّونِ الّذي يزيدُ من تراكميّةِ صورِ الإحباطِ ، والتّقوقعِ ، والانكسارِ ، نحو 41 مرّة ، كما أنّهُ جاء في بعضِ المواضِع لاحِقا للواوِ الممدودةِ ، فظهر خافِتا ، خفيفا مُتهالِكا ، كما تفشّى صوت القافِ نحو 22 مرّة ، وصوتُ الخاءِ نحو 25 مرّة.
      *كذلِك كان لأسلوبِ الاستفهامِ الّذي تكرّر لأكثرِ من ثلاثِ مرّات تنغيمٌ صوتيٌّ خاصٌّ ، فهو يُعطي حيويّةً للنّصِّ ، كما أنّهُ يُساهم في إظهارِ تنويعاتٍ إيقاعيّةٍ تزيدُ من زخمِ الإيقاعِ الصّوتيِّ.
      * كما أنّهُ من المُلاحظِ أنّ الأسطر الشّعريّةِ جاءت قوافيّها جميعا مسبوقة بحرف مدٍ أكان ألفا ، أو واوا ، أو ياءا ، ومعروفٌ أنّ أصواتِ المدِّ توفِّرُ إمكانيّة التّشكيلِ النّغمي باختلافِها في النّغمةِ ، والطُّولِ ، والانسجامِ ، وهذا من شأنِهِ تكوين تجمُّعاتٍ صوتيّةٍ تُساهِم في موسيقيّة النّصِّ.
      * يُسيطر في بعضِ الأسطر الشِّعريّةِ صوتٌ ما فكما نُلاحظ في هذا السّطر ( ناءٍ ، بحارٌ بيننا ، مدنٌ صحارى من ظلامْ) ، تفشّي حرف النّونِ ، و مساندة التّنوين له ، وهذه التّجمعات الصّوتيّة ساهمت في إيقاعيّةِ النّصِّ.
      ( آهِ لعلّ روحا في الرِّياحِ) ،كذلِك الجناس النّاقص في هذا السّطر أعطى إيقاعا له.
      (هامت تمرُّ على المرافئ ، أو محطّاتِ القِطارْ) ، إن تكرارِ حرفي الميم ، والرّاء في البناء الدّاخلي للسّطرِ الشِّعري ، قد ساهم في إيقاعيّةِ النّصِّ.
      ( آه يا ولدي البعيدَ عن الدِّيار!
      ويلاهُ! كيف تعودُ وحدكَ لا دليلَ ، ولا رفيقْ؟)
      سيطر حرفُ الدّالِ على هذين السّطرينِ الشِّعريينِ.
      *تكرّرت جملتي ( البابُ ما قرعتهُ غير الرِّيحِ ) ، و ( البابُ تقرعهُ الرّياح) ، في أكثرِ من موضِع ، وبذلِك قد تُعدُّ ملازمتان أضافتا موسيقيّة للنّصِّ ساهمت في إيقاعيّةِ النّصِّ

      الصُّورُ الشِّعريّةُ :

      *( البابُ ما قرعتهُ غيرُ الرِّيحِ في اللّيلِ العميقِ)
      لصوتُ الرّاء تردُّدٍ عالٍ ، و تكرارهِ في ثلاثة مفرادتٍ متتالية أعطى إيقاعا للسّطرِ الشّعري .
      إنّ المُستوى الدّلالي قد يُعطي إيقاعا خاصّا للنّصِّ ، فتناغُم ، وتواؤم الأصوات لم يتأتّى عبثا في المقطعِ أعلاه، بل أنّ لهُ دلالة خاصّةً ، فالفعلُ ( قرع) بالأصواتِ المكوِّنةِ لهُ ، ووقعهِ ، وفاعِلهِ يتناسب مع عُمقِ اللّيلِ ، واسوداده ، فقرعُ البابِ قد يدلُّ على حالةِ إرباكٍ ، ووجل ، و قد تناسب هذا الحال مع ما ارتبط بهِ عمقُ الليلِ في أذهانِنا من خوفٍ ، وقلق.
      *( صحارى من ظلامْ)
      وكدليلٍ على مسافاتِ البُعدِ ، و النّأي... ساق لنا الشّاعِر لفظة ( صحارى) و ربطها بالظّلامِ بعدما عدّد لنا ما بينهُ وبين كفِّها من بحارٍ ، ومُدنٍ ، فمع ذلِك كلِّهِ ثمّة صحارى شاسِعة يطمسها الظّلام ، دليلٌ على جهلِ ماهيّة هذه الصّحارى ، وكما هو متعارف فالصّحارى تخفي بين جنباتِها المخاطِر ، والهلاك.
      * (الرِّيحُ تحملُ لي صدى القُبلاتِ منها كالحريقِ
      من نخلةٍ يعدو إلى أُخرى ويزهو في الغمامْ)
      يحملُ هذا السّطر الشِّعري كيفيّةِ انتقالِ صدى القُبلاتِ ، فهو كالحريقِ الّذي ينتقلُ بسرعةٍ بين هاماتِ النّخيلِ ، ليُعانِق الغمام بلهيبِهِ ، هكذا هي صدى القُبلات الّتي حملتها إليهِ الرِّيح .

      *(من ظُلمةٍ صفراء فيهِ كأنّها غسقُ البِحارِ)
      يرمز السّيّاب هُنا لعالمِ الأمواتِ بالظُّلمةِ الصّفراءِ الّتي تُشبهُ ظُلمة البِحارِ الّتي يغشاها موجٌ فوق موجٍ.

      *(يُسائِلون اللّيلَ عنكِ...)
      لكأنّما يرى السّياب هُنا أنّ الليل قد يُنبئُ بأملٍ جديدٍ ، فالصِّغار عَدّوهُ عاقِلا يُسأل عن غائِبٍ ما ، لربّما يأتي مع إشراقةِ الصُّبحِ.

      *( هذا الغريب..! هو ابنكِ السّهرانُ يحرقهُ الحنين)
      إنّ اسم الإشارة الّذي ابتدأ به السّطرُ الشِّعري ، و الخبر الموالي لهُ قد اسهم في إيقاعيّةِ النّصِّ ، كما أنّ الصُّورة الشِّعريّة جاءت تُناسِبُ صفة الغريب ، فابنُها قد أقضَّ الحنينُ مضجعهُ ، فبات سهير العينِ لأنّ الحنين نارٌ تحرِقهُ فلا تغمضُ لهُ عينا.

      *( صرخاتُ قلبي وهو يذبحهُ الحنينُ إلى العِراقِ)
      ولشدّةِ حنين السّيّابِ إلى العِراقِ ،بثّ لواعِج نفسهُ فشبّه الحنين وما يعتلج قلبهُ من لوعةٍ بذبّاحٍ تستنجد ذبيحتهُ بالصّرخاتِ علّهُ يُطلِق سراحِها ويُعيدها إلى موطِنها.
      *( البابُ تقرعهُ الرّياحُ تهبُّ من أبدِ الفُراقِ)
      يعود السّيّاب في نهاية النّصِّ ، ويكشف لنا قارِع البابِ ، وما هيتهُ .
      يتّضِحُ لنا من سطرِهِ الشِّعري الأخير ، المقصود بالبابِ ، والرِّياحِ ، فالسّيّابُ قد يرمُزُ بالبابِ إلى قلبِه المفجوعِ باليُتمِ منذُ الصِّغرِ ، و الرّياحُ هي الحنين إلى أمِّهِ الرّاحلة ، الّتي لم ينعم بحنانِها.
      لكأنّ السّيّاب يقولُ أنّه توصّل أخيرا لماهيّةِ الرّياحِ الّتي تقرعُ الباب ، فتتركهُ حيرانا ، مُعذّبا ، فهي تهبُّ من عالمِ الأمواتِ ( الفُراقِ الأبدي) ، فعذاب قلبِهِ المجهولِ إنّما كان مصدرهُ هو الحنينُ إلى من كان فُراقهم أبديا.


      المصدر : مدونة بدرية العامري


      ¨°o.O ( على كف القدر نمشي ولا ندري عن المكتوب ) O.o°¨
      ---
      أتمنى لكم إقامة طيبة في الساحة العمانية

      وأدعوكم للإستفادة بمقالات متقدمة في مجال التقنية والأمن الإلكتروني
      رابط مباشر للمقالات هنا. ومن لديه الرغبة بتعلم البرمجة بلغات مختلفة أعرض لكم بعض
      المشاريع التي برمجتها مفتوحة المصدر ومجانا للجميع من هنا. تجدون أيضا بعض البرامج المجانية التي قمت بتطويرها بذات الموقع ..
      والكثير من أسرار التقنية في عالمي الثاني
      Eagle Eye Digital Solutions