دار الأوبرا العمانية وهرم ماسلو - جديد هرطقات

    • دار الأوبرا العمانية وهرم ماسلو - جديد هرطقات

      كلما عبرت بسيارتي من قرب دار الأوبرا العمانية أصاب بقشعريرة حادة، لإني في اللحظة التي أتصور فيها عظمة البناء واللّذات الجمالية الناشئة من أن تكون هناك دار للأوبرا في عمان، في تلك اللحظة بالذات يعتمل في قلبي أمران: أدرك فجأة ذلك البناء على يمين الأوبرا، وأتذكر، فجأة أيضا، هرم ماسلو.

      فأما البناء على يمين الأوبرا، بأخذ واجهتها مُطلّة على الشارع العام، فإن ذلك البناء تحديدا مضادٌ تماما للّذات الجمالية التي يمثلها وجود الأوبرا. لقد نشأ ذلك البنيان بعيدا عن كل ذوق جمالي، وكاد أن يصطدم بالشارع العام من جانب، وبالشارع الجانبي من جانب آخر، واقتلع تلة جميلة كانت توحي بجمال آخاذ. قد نتفق إلى حد ما أن بعضا من جمال مسقط ناتج عن التشجير المحيط بالشارع العام، والذي يُوهِم في بعض أجزائه بأن هناك مساحات شاسعة خضراء من وراء صف الأشجار الأول. المشكلة الآن في هذا البنيان النشاز أنه أيضا يأخذ من الحيز الفراغي الذي يجب أن يحيط بالأوبرا حتى يمنحها الأبهة اللازمة لبنيان بمثل هذا الحجم. ولو كان البنيان نتيجة حاصلة بسبب الضغط العمراني وعدم وجود أماكن أخرى لَعُدَّ الأمر من قبيل أن نغض الطرف عن لذاتنا الجمالية في سبيل الحاجات الملحة لتوفير السكن المناسب لكرامة "مواطنينا الأعزاء"، لكنّ الأمر ليس كذلك أبدا؛ فإن معظم مواطنينا لا يجدون المال الكافي لاستئجار شقة في ذلك المبنى ( حسب آخر اتصال لي لمعرفة الإيجار هناك ، فإن شقة مكونة من غرفتين وصالة تؤجر بـ 850 ريالا).

      أعود الآن إلى هرم ماسلو، وهو هرم وضعه عالم النفس الأمريكي ابراهام ماسلو لتحديد حاجات الإنسان ضمن نظريته عن الدوافع المحركة للسلوك الإنساني. وحاجات الإنسان حسب هذه النظرية يمكن أن توضع على هيئة هرم: تبتدأ قاعدته بالحاجات الفسيولوجية (مثل التنفس والتغذية والشرب والجنس والنوم)، ثم أعلى منها الحاجة إلى السلامة والأمان ( الحفاظ على الجسد، على العائلة، على مصادر الدخل )، ثم الحاجة إلى الحب والانتماء (مثل العلاقات العائلية والعلاقات الحميمة وعلاقات الصداقة)، ثم الحاجة إلى الاحترام والتقدير (مثل احترام الذات ، وتقدير الآخرين للشخص، وتقديره للآخرين، وإنجازه للمهمات وثقته بنفسه)، ثم أخيرا، في قمة الهرم، تحقيق الذات (والتي تشمل الابتكار والإبداع وحل المشكلات والأخلاق والحاجات الجمالية مثل تذوق الموسيقى والأدب والفن). وحسب هذا الهرم فإن الحاجات تُشبع بداية من قاعدة الهرم. فحتى يستطيع الانسان أن يصل إلى تحقيق الذات فلا بد له أن يشبع الرغبات الأساسية أولا التي تأتي في أسفل الهرم. باختصار، من هو جائع أو خائف على نفسه لا يتكلم عن تحقيق الذات بل يعمل على إشباع جوعه وتحقيق الأمان لنفسه.

      والسؤال الذي يقوم داخل ذهني ويربط بين هرم ماسلو ودار الأوبرا هو: هل تحققت الحاجات الأساسية للناس بحيث أصبحنا نحاول تحقيق الحاجات الأعلى مثل الفن والموسيقى؟

      ومع أن السؤال قد يبدو بسيطا في ظاهره ويستدعي إجابة واضحة وبسيطة مفادها أننا يجب أن نحقق حاجات الناس من مسكن وملبس وأمن غذائي قبل أن نفكر في أشياء أعلى معقدة وجمالية، إلا أن القضية أبعد عن أن تكون بسيطة. بداية يجب أن أذكر هنا أن هرم ماسلو ونظريته في إشباع الحاجات المتدرج ليست كاملة أو نهائية، وأنها ووجهت بالكثير من النقد. وكل فرد يعرف تماما أنه قد يضحي أحيانا ببعض الحاجات الدنيا الضرورية من أجل حاجة جمالية وكمالية. وثانيا فإن القضية المطروحة هنا ليست قضية حاجات فرد واحد، بل حاجات أمة وشعب. فهل الأولويات في المجتمع أو في دولة هي ذاتها أولويات الأفراد؟ قد لا نستطيع الأجابة عن هذا السؤال، لكنني سوف أعرض هنا بعض النقاط لعلها تعطينا اقتراحات وتنير طريقنا لحل هذه المشكلة الأخلاقية الفكرية:

      * اكتشفتُ لاحقا أن الربط الذي يحصل داخل ذهني بين دار الأوبرا وهرم ماسلو تسبقه عادة مقدمات، ففي المكان الذي أعمل به يأتي مراجعون فقراء لا يستطيعون أحيانا أن يدفعوا أجرة التاكسي للعودة إلى بيوتهم، وأحيانا يقومون حرفيا بالتسول. ولذا فكلما حدث ان شاهدت أحدهم أو سمعت عن فقره، ثم امتطيت سيارتي عائدا لأجد دار الأوبرا على يميني ينبع الرابط الذهني بشكل أكثر حدة.

      * في بناء الدولة وتوزيع حصص المخصصات هناك أيضا أولويات، لنقل مثلا أن التعليم والجيش والصحة تأخذ حصصا أكبر من الشؤون الاجتماعية والرياضية ، لكن داخل مؤسسة التعليم مثلا يأخذ بناء المدارس وصيانتها حصة أكبر من رواتب المدرسين. وهنا ستأتي النتيجة أن راتب المدرس، ولنقل أنه أولوية أكثر من راتب موظف في وزارة الرياضة، سيكون ربما أقل مع أن وظيفته أكبر. وحتى حين الحديث عن الجيش فرغم أن حصة كبيرة من الميزانية تذهب للمؤسسة العسكرية فإن الجندي، الذي نفترض أن راتبه يجب أن يكون جيدا كونه في المؤسسة التي تأخذ أكبر حصة، فإننا نكتشف أن التسلح والآلات العسكرية تأخذ النصيب الأكبر. ذلك ربما يكون ناشئا من أن التوزيع يتم حسب مجالات (categories ( وبالتالي لا يؤخذ راتب الجندي أو المعونة المقدمة لأسر الشؤون على أنها جزء من التقسيم بل جزء من مجال أو طبقة.

      * ليست دار الأوبرا فقط ما يجب أن يستدعي هرم ماسلو في أذهاننا، ويجعلنا نتساءل عن كيفية التوزيع ومدى عدالته وموافقته لطبيعة الحال، بل حتى الأشياء الأخرى من قبيل إنشاء المساجد والجوامع والفنون التشكيلية والثقافية، فهل الحاجات الروحانية والفنية والثقافية هي أهم من حاجة الناس للغذاء والملبس والمسكن؟

      * مع هذا فإنه ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان! لنقل مثلا أن اللذات الجمالية الناشئة من وجود دار الأوبرا ستخدم فئات معينة من المجتمع، ولنقل أنه مع هذا سوف تكون هناك فئات أخرى تعاني من الفقر. فإن كانت حياة الفقراء سيئة فهل يعني هذا أن يضيق الخناق على الفئات الغنية، ولا يُمكَّنوا من التمتع بتحقيق ذواتهم والوصول إلى لذاتهم الجمالية؟




      المصدر : مدونة هرطقات


      ¨°o.O ( على كف القدر نمشي ولا ندري عن المكتوب ) O.o°¨
      ---
      أتمنى لكم إقامة طيبة في الساحة العمانية

      وأدعوكم للإستفادة بمقالات متقدمة في مجال التقنية والأمن الإلكتروني
      رابط مباشر للمقالات هنا. ومن لديه الرغبة بتعلم البرمجة بلغات مختلفة أعرض لكم بعض
      المشاريع التي برمجتها مفتوحة المصدر ومجانا للجميع من هنا. تجدون أيضا بعض البرامج المجانية التي قمت بتطويرها بذات الموقع ..
      والكثير من أسرار التقنية في عالمي الثاني
      Eagle Eye Digital Solutions