الوطن - أحمد الرحبي:



"جاءه الخدم حاملين معهم السلة وفيها رأس ولده ويداه وقدماه ورجوه بأن يفتحها ويأخذ منها ما طاب له" هذه احدى قصص الانتقام التي نفذها آخر الملوك الميديين واسمه استياجيس نكاية في أحد رجاله فنتيجة لحلم حلمه الملك في منامه رأى فيه ابنته المتزوجة من قمبيز الفارسي تخرج من رحمها كرمة تغطي آسيا كلها وهو ما يتنبأ فيه مفسري الأحلام الذين طلبهم على عجل ليقص عليهم رؤياه، كون الذي ستلده ابنته سيكون الطاغية على آسيا كلها والمقصود به الملك قورش الذي سيكون على يديه للفرس شأنا كبيراً في التاريخ على حساب الميديين طبعا الذين سيضمحلون ويتوارى ذكرهم في صفحات التاريخ.

وتحت تأثير النذير الذي شاع به تفسير الرؤيا لم يتأخر الملك في أن يكل إلى أحد أشد الميديين اخلاصا له بمهمة واحدة وهي أخذ ولد ابنة الملك وقتله، ومدفوعا بشدة لإبداء الإخلاص لملكه ومغتنما الفرصة السانحة لإثبات ذلك أخذ الرجل والذي كان اسمه هاربا جوس الطفل وقفل عائدا إلى بيته، وبعد أن تجاذب أطراف الحديث في الأمر مع زوجته وجد إنه (أي الرجل) ليس بالذي يعين في ارتكاب جريمة وبدى له من المنطق أن لا يقوم بهذه الجريمة ذلك أن الطفل من قومه ثم أن الملك قد شاخ وعجز ولم يعقب ولدا فإذا مات خلفته ابنته على العرش هذه الابنة التي يعتبر ولدها الأقرب لوراثة العرش، لكن ربما ليبرئ ذمته من دم الطفل ولتفعل الاقدار فعلها بعد ذلك أوكل هاربا جوس المهمة إلى احد رعيان الملك والذي يتخذ الجبال لرعي ماشيته وهو المكان الملائم لما اعتزم عليه حيث تجول الوحوش الضارية وتحلق في سمائها الطيور الكاسرة ومع موعد اقتراب مخاض زوجته عاد الراعي إلى بيته حاملا بين ذراعيه الطفل الملكي المغمور بالذهب الملفوف بالقماش بأجمل الالوان.

وهنا تتدخل الأقدار تدخلها السافر دائما في مثل هذه القصص اذ ينتج مخاض زوجة الراعي عن طفل ميت، فيتم تعويضه بابن الملك، ويحوز ابنهم المتوفى بمراسم تشييع كتلك التي تقام لأبناء الملوك في نفس الوقت.

ويقال أن الطفل بعد ان بلغ العاشرة من العمر كانت تصرفاته مع أترابه والمكانة المتميزة التي يحوز عليها بين رفاقه من ميزات زعامة ومواهب قيادة لهم، هي التي وشت به أمام الملك فبينما كانوا مندمجين في لعب بريء كان يقوم فيه بدور الملك الذي يصدر الأوامر بالاعتقال والمعاقبة أمر حفيد الملك بمعاقبة ولد احد البارزين من الميديين بعد أن عارضه بالضرب بالسوط فسارع أبوه للشكوى للملك مباشرة، وهكذا وبعد أن اعتقل الراعي وتحت ألوان التعذيب التي تعرض لها نتيجة جريمة من يعتقد أنه ابنه يعترف بكل شيء للملك فلما سمع استاجيس رواية الراعي وتحقق من الأمر لم ينله الضيق من فعلة الرجل بقدر ما ثار غضبه لمسلك هاربا جوس.

وللانتقام منه على فعلته أغراه بأن يمضي إلى أهله وليبعث بابنه وهو وحيده ليكون في صحبة حفيده للمشاركة في مأدبة سيقيمها الملك بمناسبة سلامة الفتى ولما احضر ولده أمر استاجيس بذبحه وتقطيع أوصاله فجعل من بعضها شواء ومن البعض الآخر لحما مطهيا بدون أن يعلم والده بالأمر ولما قدم هاربا جوس ومعه الضيوف الآخرون فجلسوا إلى المائدة فكان للضيوف نصيب من اللحم اما هاربا جوس فلم يكن أمامه سوى لحم ولده فلما انتهى من الأكل سأله الملك ان كان قد استطاب الطعام فأجابه انه استمتع به كل الاستمتاع وعندئذ جاءه الخدم على نحو ما أمر استياجيس حاملين معهم السلة هكذا هو بعض مكر التاريخ حسبما سجله هيدوت أبو التاريخ.