مسقط - حمدي عيسى عبد الله

هل فكرت يوما أن تركب القارب وتقوم بجولة في البحر؟ سؤال لا أوجهه للذين يحبون المياه الزرقاء ويتجهون إلى البحر بصورة منتظمة أو كلما سنحت لهم الفرصة كما أن السؤال لا انتظر اجابته من الذين يهوون ركوب القوارب والذهاب بعيداً وسط البحر بل السؤال موجه إلى الجميع لأن الجولة بالقارب وسط البحر لها نكهتها الخاصة وطقوسها المميزة والمشهد يتكرر كل مساء في الكثير من شواطئ السلطنة لكنه اكثر حضوراً وبهاءً في قنتب ففي كل مساء ترحل القوارب بالكثير من الناس وتعود بهم بعد أن يكونوا قد قضوا لحظات من ألف ليلة وليلة بين أحضان البحر .

** هكذا تكون البداية

لنتعرف على القصة بأدق تفاصيلها دعونا نبدأ القصة من نقطة الانطلاق فـ"قنتب" اسم له مكانة خاصة لدى هواة البحر والمتمسكين بقضاء لحظات مميزة يتأملون فيها البحر بزرقته وهو يعزف سمفونية بأمواجه بين المد والجزر لذلك الكل يتوجه إلى هناك والأمر لا يقتصر على نهاية الاسبوع فقط حيث أنه كل مساء يشهد الطريق المؤدي إلى قنتب حركة غير عادية فالكل يسابق الزمن للوصول إلى هناك وقضاء وقتا ممتعا أما يوما الخميس والجمعة فان للوضع هناك مشهداً آخر حيث أن الزحمة تصل ذروتها ويصعب أحياناً أن تجد موطئ قدم هناك.

** في الطريق إلى قنتب

الوصول الى قنتب يتطلب منك أن تقود سيارتك بإتجاه الوادي الكبير وحينما تصل إلى دوار المبخرة الذي يستوقفك بجماليته ورائحة التراث المنبعثة منه مع عبق البخور عليك ان تواصل السير باتجاه البستان وقبل وصولك إلى الشلال الاصطناعي بمياهه المتدفقة في مشهد مسافر في أفق الروعة تجد منعطفا على اليسار ولوحة ارشادية تؤكد أن هذا الطريق يؤدي إلى قنتب فتسير في طريق جميل تحيط به الجبال من الجانبين لترسم مساراً طويلاً تلاحظ خلاله أن الحركة كثيفة وبعد الكثير من المنعرجات ترى المشهد من بعيد زحمة وسيارات كثيرة وشاطئ جميل ممتد على مسافة طويلة بين جبلين.

** مفاوضات

بطبيعة الحال تتجه بسيارتك إلى المواقف المخصصة لها وقد تجد أحيان صعوبة في الحصول على مكان خاصة إذا كان اليوم خميسا أو جمعة وما إن تنزل من سيارتك حتى ترى أحداً يتقدم اليك ليسألك بأسلوب لبق وجميل إذا كانت لديك رغبة في القيام بجولة بالقارب وسط البحر ولا تجد صعوبة في تحديد هوية الشخص فتقاسيم وجهه تدل أنه بحار وهنا تبدأ جولة الاخذ والعطاء فهو يعرض عليك تفاصيل الرحلة ويبين لك الاماكن التي سيقصدها والسعر المحدد لها وطبعا الموضوع قابل للنقاش سواء حول تفاصيل الرحلة حيث أنك تستطيع أن تطلب مدة أطول والوصول إلى نقاط أخرى أو السعر الذي يدور الحديث حوله ليكون الاتفاق النهائي.

** إقدام وخوف وضحك وبكاء

مشهد الركوب في القارب يحمل الكثير من التفاصيل المتناقضة والتي تستوقف المشاهد كثيراً فالبعض تجده يقفز بخفة رشاقة إلى القارب وكله حيوية ونشاط بينما يتجه آخرون وهم يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى خاصة بالنسبة للذين يخشون ركوب البحر أو الذين لم يتعودوا عليه إذ يجتهد مرافقوهم في اقناعهم والتأكيد أن الامر يتعلق برحلة بسيطة وقصيرة وقد يتمكنون في الخير من اقناعهم بينما يفشلون في بعض الاحيان لينطلق الكل بينما يبقى المتردد على الشاطئ يلوح لهم بيده مودعا وهو سيتصبب عرقا.

أما بالنسبة للاطفال الذين يرافقون العائلات في جولاتها فان البعض تقرأ في وجوههم كل علامات الفرح بل تصلك ضحكاتهم المجلجلة وهم يقفزون في حيوية ويتشبثون بأيدي الذين يحملونهم من اليابسة إلى القارب في حين يصلك صوت بكاء أطفال آخرين خوفاً وجزعاً فهم يرون القارب "غولا" وقد تفلح محاولات الأهل في تهدئتهم لكن ما إن يجلسوا في القارب حتى يتمسكوا بالذين بجانبهم بقوة وفي عيونهم كل علامات الخوف وبعد أن يركب الجميع يدفع البحار قاربه إلى الماء ثم يشغل المحرك فتبدأ رحلة الأحلام.

** لحظات لا تنسى

القارب يمخر عباب البحر في سرعة متوسطة والمشهد من كل الزوايا أكثر من رائع يتجه أولا ناحية اليمين حيث مناظر لشواطئ صغيرة بين الجبال ثم يتوغل القارب أكثر ليظهر أمامك نادي الغوص بكل جماليته ومناظره التي تسلب القلوب وأخير تتراءى لك من بعيد صخرة كبيرة وقد شق وسطها في لوحة فسيفسائية تحمل كل عبق الروعة والجمال وكلما اقترب القارب منها ازداد المشهد وضوحا ليمر القارب عبر النفق فيعتريك احساس خاص وأنت في نفق وسط البحر.

** حداثة بعبق الاصالة

الرحلة تتواصل أمام منتجع رائع مصمم بطريقة بديعة جمعت الحداثة بآخر صيحات التصميم العالمية مع لمسة أصالة معطرة بعبق التراث العماني الغني والمسافر في أفق الابداع والتميز ومع المكان الهادئ للمنتجع فانك تتأكد أنه مكان مثالي لقضاء لحظات لا تنسى وسط هدوء وبين أحضان مناظر يعجز اللسان عن وصف روعتها.

بعد أن يصل القارب إلى ضفاف المنتجع يهدئ من سرعته ليتمكن الركاب من رصد المشهد من كل الزوايا ثم تبدأ رحلة العودة حيث يسلك البحار طريقا آخر لاكتشاف مشاهد جديدة وفجأة يجد الركاب أمامهم جبلا وسط البحر يدور القارب حوله فتكتحل عيون الركاب بصور تتسابق في الروعة والجمال وبما أن الجبل قد شق إلى نصفين ليكون ما بينهما معبراً فان القارب يقف في ذلك المعبر ليتأمل الركاب المشهد عن قرب إذ يبدو الممر أسطورة غير عادية يتأملها الجميع بدهشة واعتراف بقوة الانسان وجهده في شق معبر وسط الجبل داخل البحر وأخيرا يقترب القارب من الشاطئ معلنا نهاية رحلة تمنى كل ركاب القارب لو طالت وطالت لكن بما أن لكل بداية نهاية فان البحار يطفئ محرك قاربه ثم يساعد الركاب في النزول إلى اليابسة وأخيرا يتسلم أجرته وعلى وجهه كل علامات الارتياح.

** مشاهد متناقضة

تفاصيل كثيرة تحدث أثناء الرحلة ففي دردشة قصيرة جمعتني ببعض البحارة الذين يوفرون لمرتادي شاطئ قنتب جولات في البحر بقواربهم كشف لي أحدهم أن الرحلات عادة لا تخلو من المواقف الطريفة حيث أن بعض الركاب تجدهم أثناء كل الرحلة متمسكين بمقعدهم من شدة الخوف وكلما تحرك القارب مع حركة الموج ازداد تمسكهم بالمقعد وازداد ارتباكهم وتصبب العرق منهم وقد يصل بهم الأمر إلى "التقيؤ".

بحار آخر أوضح أن بعض الركاب يتظاهرون أثناء الركوب بالشجاعة والقوة وأن البحر لا يخيفهم أبداً لكن ما إن ينطلق القارب حتى تظهر الحقيقة حيث يصلون إلى أقصى حالات الخوف وقد يصرخون في حالات هستيرية أما إذا تمايل القارب أو ارتفع مع حركة الامواج فانهم "يتشهدون" وكأن لحظة الموت قد حانت.

لا فرق بين آدم وحواء في التعامل مع البحر حيث أكد أحد البحارة أن بعض النساء يظهرن شجاعة وتمكناً يثيران الدهشة حيث تجدهن في قمة الارتياح وقد يصل الأمر بهن الى الغناء والتمايل رقصا في حين ترى بجانبهن رجالا يجلسون وعلى وجوههم كل علامات الخوف.

** الجمعة يوم الذروة

أحد البحارة أوضح لنا أيضا أن الاقبال على ركوب القوارب في جولات بحرية يزداد من يوم لآخر وتكون الحركة أكثر يوم الخميس أما الجمعة فان المكان يشهد حركة لا مثيل لها ويكون الاقبال على الرحلات البحرية كبيراً ومن مختلف الجنسيات حيث أن الامر لا يقتصر فقط على الاجانب بل حتى العمانيين يحبون هذه الجولات ويقبلون عليها بصورة كبيرة والملاحظ أيضا أن العائلات لها نصيب الاسد في هذه الرحلات.

بحار آخر قال لنا أن الشاطئ وبما أنه محصور بين جبلين فإنه توجد الكثير من الشواطئ الصغيرة على سفوح الجبال المحيطة بالبحر لا يتم الوصول إليها إلا بالقوارب وهي شواطئ عذراء وجميلة جداً والكثير من العائلات تقصدها حيث أنها تعد العدة وتتجه اليها صباحا بالقارب لتعود في نهاية اليوم بينما تفضل عائلات أخرى قضاء الليل هناك اذ تقصدها مساء فتقضي ليلة لا تنسى على ضوء القمر وفي ضيافة البحر.

** إلى هنا تنتهي الحكاية

اخيرا تنتهي الرحلة فينزل الركاب من القارب وغالبا ما يواصلون ما تبقى من الامسية في الشاطء ليغادروه مع الغروب وهم يحملون في الذاكرة صوراًجميلة وثقوها بآلة التصوير التي تحضر مع كل راكب يخوض غمار هذه الرحلات وتبقى التجربة فيها الكثير من الجمال تستحق التجربة خاصة أن الكثير من الذين يذوقون حلاوتها يعودون إليها مرات ومرات.