إنَّ الأعاصير الداخلية، تلك التي تعصف داخل نفس الإنسان وتجول في عقلِه لأكبرُ بكثيرٍ من الأعاصير الخارجية التي تختارُ بقعاً دون أخرى لكي تمارس جنونَها المؤقت. الأعاصير الداخلية هي حالة من الهلع الخالص ــ أحياناً ــ تجولُ بداخلكَ وتحولك إلى كائن متوتِّر، كبركة ماء تغلي، وتقذف بالماء الساخن، وبعض الحجارة أو بقايا المشاعرِ الميِّتة التي غلاها الماء.


تدهمك بعض الحقائق ــ والتي تبدو حقائق أمام عقلكَ ــ وأنتَ تخاوضَ الماء بحثاً عن مجال لتواصلَ فيه حياتَك الطبيعية، بعيداً عن الوعكة المناخية المؤقتة، وتدرك كم بداخلِ كل إنسان أنانية طافحة، مهما بدا للآخرين أنَّها روحٌ من الإيثار. تتجلى الأثرةُ في الخوف، خوفِ الناس المبدئي على أنفسهم أولا وعلى غيرهم من الجوع والعطش والظلام والمرض، ثمَّ تراجع الخوف إلى خوفٍ من الظلامِ والمرض المُباغت، ثمَّ يتراجعُ هذا الشعور ليكونَ خوفاً على مكتسبات الحياة العصرية، وخوفاً من انقطاع إرسال الهاتف النقَّال، وأخيرا خوفاً من انقطاع الإنترنت، وإرسال الدشِّ الذي عصفت به الرياح.


ينسى كثيرون أن الدشَّ هذا الذي يتموضع بسخريةٍ من الإعلام العُماني فوقَ كل سقف ليس فقط [ملكاً] يمكن الاستغناء عنه لأنَّ قيمته لا تتجاوز العشرين ريالاً، ولكنَّه في الوقت نفسه سلاح قاتل بيد الريح، يمكنها أن تقصف عمر ربِّ أسرة نسي في غمرة بحثه المجنون عن الماء والخبز، أن يشترى حفاظات لطفله المصاب بالإسهال، يخرجُ ليبحث عن أقرب بائع قرر أن يفتحَ ربما لأنَّه؛ يدرك أنَِّ الناس بحاجةٍ إليه، أو لأنَّه بحاجةٍ إلى حاجتهم، ولا يجد غضاضةً أن يلعب بطولةً مؤقتة وهو يحسبُ المالَ، وإن كان ما يفعله خيرٌ في النهاية، إلَّا أن ربَّ الأسرةِ هذا لم يكن لينتبه إلى هذا الصحن الحديدي الهائج بيد الريح الغاضبة وهو يرتطم برأسِه وينزف الدماء الغزيرة أمام زوجته التي لا تعرف ما قد تفعله، تنقذ زوجها المجروح، أو تترك طفلها الباكي، كلُّ هذا لأنَّ أحداً منَّا قرر أن الدشَّ شيءٌ ليسَ مهماً ليثبت جيداً على السطح، وأنَّه ــ في سياقه ــ مجرد أداة أخرى للحياة العصرية التي نقتلُ بها ضجرنا الطبيعي الأصلي في نفوسنا.



تدركُ بعد إعصار خارجي أنَّ نفوساً ما ختم على قلوبها بكراهية الحياة، والمقتِ لكلِّ شيء، تدرك أن التصورات الفردية والفكرية للمدن الفاضلة قد تكون تصورات تعيسة لمدن خراب، مدن يكون بها الناس قطعاناً راعيها، راعيها الذي نسيَ في غمرة تصوراتِه اللامرئية أنَّ الحياة ليست بالبشاعة التي يتصورها، وأن المرح والفرحَ جزء من حياةِ الناس في العالمِ أجمع، جزء لا يتجزأ مثل العلمِ والعَمل التي يفعلهما العَالمُ الذي تجاوزَ هذه الرهبنات البائسة، وكلام القساوسة البائسين، وغيرهم من الذين لا يزالون تحتَ هذا الخطاب، خطاب الكراهية للحياة وللدنيا، ولكلِّ شيء يمكنُ لغيرهم أن يراه مجلبةً للسعادة والفرح، ومساحةً من مساحات الذات والحرية الشخصية، ولا يجد غضاضةً أن يسوقَ شتى الحالات الفردية، فلعمري هذا دأب هؤلاء الآن ــ سوق الحكايات ــ وكأن العالمَ الآن يسير بحكايات الأفراد، وكأنما ينسون أنَّ الافراد ليسوا قطيعاً من الغنم إن مرض كبشٌ من الكباش فلا يعني أن يرث المرض باقي نعاج القطيع.



تقنعك الأعاصير ببؤس العاطفة. ولعل فارق الحرفِ الذي قرنَ بينهما في جناسٍ ناقصٍ ليس دقيقاً عندما يرتطمُ بالعيش في معناه العام، ليس دقيقاً أن تكون عاطفياً أمام الأعاصير، وإنما عليك فعلا أن تمسك أعصابَك، وأن تكون هادئاً وأن تفكر بهدوءٍ في المهم وفيما ينبغي إنقاذه. رغبتك في المساعدة قد تكون أنانيةً أحياناً عندما تكون على حساب الآخرين الذين يعيشون من أجلها، أو يعيشون بها. المساعدة التي نريدُ كلنا أن نكون طرفاً منها قد تكون في أحايين فعلية فعلاً أنانياً، فعلاً نريد به تهدئة خواطرنا الداخلية على حساب هؤلاء الذين خسروا الكثير، فقط لأنَّ الطبيعة قررت في غضبةٍ من الغضبات أن تسلط غضبها العشوائي على البشر الآمنين سابقاً، تسلطها دون أن تفكر جيداً ما قد يفعله البشر في مكان النكبة من أجل أنفسهم ومن أجل غيرهم.



نحن عكس الطبيعة في نهاية المطاف في بعض تجلياتنا، وإن كان الهدوء يسبق العواصف، فنحن عواصفنا تسبق الهدوء، الهدوء الذي يكون طويلاً ومؤثراً وفعلياً، حتى نبدأ مرَّة أخرى بالدخول في طور الأعاصير، والتي وإن هدأت سنين في الطبيعة، فإنَّها لن تهدأ في يومٍ واحد في هذه النفس الإنسانية المعقدة، والبسيطة في آنٍ واحد.