نساء عاريات... عندما تتنكّر الأم لـ أُمومتِها! - جديد بدرية العامري

    • نساء عاريات... عندما تتنكّر الأم لـ أُمومتِها! - جديد بدرية العامري

      قصّة واقعيّة نقلتها لكم من كتاب ( نساء عاريات) ?لـ أمينة السّعيد ، وهو كتابٌ يحكي أسرار المرأة في عيادة الطّبيب النّفسي ، تقول في مقدّمتها : أنّ الإنسان يكون في السّنوات الأولى من عمرِهِ كتلة من مشاعِر وأحاسيس ذات قابليّة هائِلة للتّأثُّر بما يجري حولها من أحداثٍ قد تبدو في نظرِ الكِبارِ غاية في البساطةِ ، وغير جديرة بالاهتمامِ ، ولكنّها تُصيب الطّفل بصدمة نفسيّة عنيفة ..... إلخ...
      وجدتُ هذا الكِتاب المهترئ بالأمس بين الملفّات في حين كنتُ أُرتِّب مكتبتي ... يحكي الكثير من القِصص والجرائِم الّتي حالما ينبشون فيها ، يجدون لـ حوادِث الطّفولة الأثر الأبلغ.... فـ انتبهوا في تعاملكم مع الأطفال...انتبهوا... انتبهو!


      [ عندما تتنكّر الأُم لـ أمومتِها]









      هي قصّة فتاة أمريكيّة اسمها (أيدا) في السابعة عشرة من عمرها ، صغيرة الحجم تبدو من حيث الشكل أقل من عمرها الحقيقي، ولكنّها جميلة بدرجة تلفت الأنظار، بيضاء البشرة ، فاحمة الشعر ، خضراء العينين ، رقيقةً ، وديعةً ، مثقفةً ، مهذبةً تتكلم بصوتٍ هادئ خفيض .. ليس فيهِ لفظٌ واحدٌ خشنٌ أو جرئ أو مبتذل .. و تتصرف في غيرِ تصنُّعٍ أو افتعال بوقارٍ أكبر من عمرها بكثير ، لا تميلُ للمرحِ ولا للضجيجِ ، ولا تُحِبُ الخروجُ من البيتِ إلا لزيارةِ المكتبات العامةِ ،و ممارسةِ رياضةِ المشي ..
      ولقد التقى الطبيبُ النفسي بهذهِ المخلوقةِ الجميلةِ المهذبةِ بواسطةِ صديقة لأسرته اسمها ( مسز درايفرز) كانت (أيدا) قد التحقت بخدمتها قبل ذلك بشهور كمربيةٍ لأولادها الصغار الثلاثة ، وأبدت في رعايتها لأولئِك الأطفال من الحنانِ ، والإخلاص ، والأمانةِ ما لم تعهده مخدومتها في أي مربيةٍ سابقة..
      واكتسبت بأدبها واستقامتها مضافا إلى ذلك تعلقها الجنوني بالأطفال حب (مسز درايفرز) وزوجها حتى اعتبراها بمثابة الأخت الشقيقة لهما ، وأحاطاها بكلِّ ما يملكانهِ من القدرةِ على الرعايةِ والاهتمامِ.. ولمّا عرفا منها أنّ أملها الأكبر في الحياةِ أن تصبح مدرّسةً برياضِ الأطفالِ ، وكانت بعد انتهائِها من دراستها الثانويّة قد تلقّت تدريبا يؤهلها لهذهِ المناسبةِ، وجدا من واجبهما نحو المربيةِ الصغيرةِ العزيزةِ أن يعيناها بنفوذهما الاجتماعي على تحقيقِ أملها، والاشتغالِ بمدرسةٍ للأطفالِ قريبة من منزلهما.. ولكنّ العجيب في أمر (أيدا) أنّها بمجردِ أن عرفت أن الموضوع قد دخل حيّز التنفيذ ، غيّرت رأيها فجأة وراحت تُعارض وترفض دون إبداء أي أسباب مقنعة وبإلحاح على (أيدا) في قبول الوظيفة تدهورت صحتها بشكل ملحوظ ، فكانت تنتابها حالات إغماءٍ عنيفة جدا وبلا أدنى داعٍ ،بجانب الصداع القاتِل الذي يرفض أن يتركها ، ثم المغص الشديد الذي يصيبها بعنفٍ يكادُ يفقدها صوابها وكثيرا ما يدفعها إلى أن تصرخ كأنها قد أُصيبت بالجنون..

      وكان يُخيّل لـ (مسز درايفرز) أن مربية أطفالها يتيمة الأبوين محرومةً من الأهل والأقاربِ بدليلِ وحدتها الشديدةِ ، وعدم اتصالِها بأي إنسانٍ خارِج البيت الذي تعمل فيه حتّى ولو بالمراسلةِ ، كذلك كانت تعرفُ أنّها لا تملكُ من المالِ سوى المرتبِ الضئيلِ الذي تتقاضاهُ منها ، لذلك اصطحبتها إلى الأطباءِ على نفقتِها ولم تبخل عليها بمالٍ وإن كثر في سبيلِ علاجِها ، غير أنّ الأطباء أجمعوا على أنّها سليمة من جميعِ الأمراضِ العضويّةِ ونصحوا بعرضِها على طبيبٍ نفسي..

      ولقد اختارت (مسز درايفرز) هذا الطبيب الذي تعرفهُ وتثق بهِ ، وطلبت إليهِ أن يتولّى حالتها ، ولا يضنُّ بجهدٍ ، أو وقتٍ في سبيلِ الوصولِ إلى حقيقةِ علّتها ، وتعهدت أن تقومُ هي بجميعِ النفقاتِ المطلوبةِ لهذا العلاج..

      ومن حُسنِ الحظِّ أن (أيدا) قبلت عن طيبِ خاطرٍ أن تلجأ إلى الطبيبِ المذكورِ، ولم تتخلّف ولو لمرّة واحدة عن مواعيد الجلساتِ التي يُقرّرها لها ، وهذا في حدِّ ذاتِهِ عامِلٌ مساعِدٌ على نجاحِ العِلاجِ النفسي ، ولكنّها رغم ما كان يبدو في سُلوكِها من ثقةٍ تامةٍ بِهِ ، ظلّت تقاومُ العِلاج النفسي مدّةً طويلة ، وتُعانِد في فتحِ قلبه لطبيبها سنتين كاملتينِ قبل أن يتمكّن من معرفةِ قصّتها الحقيقيّة بأكملِها ، وينجح في العُثورِ على العقدةِ النفسيّةِ التي أوشكت أن تقضي على عقلِ (أيدا) وهي ما زالت في السابعةِ عشرة من عمرها...

      كانت (أيدا) الابنةُ الوحيدةُ لأبوين يتمتّعان بقدرٍ وافِر من الجاهِ والمال ، لكنهما في تدينهما لدرجةِ التزمُّتِ الشديدِ ، لا يؤمنانِ إلا بحرفيّةِ النصوصِ الدينيّةِ ، ولا يسمحانِ لتفكيرهما ، وتصرفاتِهما بأن تُسايِر روح العصرِ ، ويتطورا بتطوّرِ مقتضياتِ الحياةِ المتجدّدةِ..ولمّا لم يكن لهما من الذريّةِ سوى (أيدا) فقد ركّزا عليها فلسفتهما ، وأحاطاها منذُ بدايةِ حياتِها بنطاقٍ حديدي من الصلابةِ والجُمودِ ، ومنذُ تفتّحت عيناها على الحياةِ وهي تجدُ نفسها ممنوعةً بتاتا من الضحكِ بصوتٍ عالٍ ، والإفراط في المرحِ والجري بحجّةِ أنّهُ سُلوكٌ ماجِن لا يتمشّى مع وقارِ التديُّنِ.
      وفي صباحِ الأحدِ من كلِّ أسبوع اعتادا أن يقوداها معهما إلى الكنيسةِ لتحضر القُدّاس كلّهُ من بدايتهِ إلى نهايتِهِ ، ثُمّ يعودان إلى البيتِ لتقضي بقيّةِ النهارِ حبيسةً بين الجدران، ولا تخرج منهُ إلى حديقةِ المبنى حيثُ يقضي أطفالُ الحي يوم عطلتهم الأسبوعيّةِ في مرحٍ جماعيٍّ سعيد.
      وكانت لا تشترك في أيِّ رحلةٍ ترفيهيّةٍ لأنّ الأحد هو اليومُ المقدّسُ في نظرِ والديها ، وينبغي أن يخلو من جميعِ الأنشطةِ الترفيهيّةِ ، وحتّى الطعام كان بسيطا متقشّفا ..لا لأنّ الوالدين لا يملكان القدرةِ على الإنفاقِ ، ولا بسببِ البخلِ والتقتيرِ ، بل لإيمانهم بأنّ التنويع فيهِ وصنع اللذيذِ منهُ يتعارض تماما مع روحِ التقشّفِ التي تبني الشخصيّة الأصيلة في تديّنها .
      وانقضت السنواتِ الأولى من حياةِ (أيدا) تحت الضغوطِ المخالفةِ تماما لطبائِع الطفولةِ السليمةِ ومتطلباتِها.
      وكان يحدُثُ أحيانا أن يفرغ صبرها فتتذرع بالشجاعةِ ، وتسأل عن الحكمةِ في أن تحرم هي وحدها دون أبناء الحي من لذاتِها ومن المُتعِ البريئةِ ، فيكون الجواب دائِما بأنّ (الأحد) يومٌ لهُ قداستهُ الدينيّة ، وينبغي على المؤمنين الحقيقيّين من أحبابِ الله وخلصائِهِ أن يُمضوه في التأمُّلِ الوقورِ ، ثمّ أن كثيرا من الأطفالِ الذين تراهم يمرحون في حديقةِ المبنى شريرون ينقصهم الضمير الحي والأخلاق الكريمة ، ومن الخطرِ على أيِّ فتاةٍ فاضلةٍ أن تصحبهم أو تتمثّل بهم في تصرّفاتِهم.
      وتُدهش (أيدا) لهذا الكلام وتتساءل فيما بينها وبين نفسها عن كنه الخطر الذي يكمُنُ قي صُحبةِ أولئِك الصِغارِ المرحين الظرفاء ، وما هو نوعُ الشرِّ الذي يحتمل أن يضمروهُ لمثلها؟!
      وتطوف بذهنها مثل هذه الأسئلةِ مرارا وتكرارا ، ولا تجرؤ على الإفصاحِ عنها ، لأن أهلها الحريصين على سعادتِها قد علّموها أنّ تقبّل أوامرهم قضيّة لا تحتمل الجدل ، وأن تُسلّم لهم قياد حياتِها ينظّمونها لها بلا مناقشةٍ أو اعتراض.
      وكبرت (أيدا) واشتد عودها على هذا النحوِ ، وأصبحت بمُضيِّ السنينِ صبيّةً ذكيّةً جميلةً تفوقُ زميلاتها و زملائِها ، غير أنّ سياسة والديها لم تتغيّر كما ينبغي أن يحدث ، بل العكس فدخولُ (أيدا) في مرحلةِ الصبا والمراهقةِ دفع والديها إلى مزيدٍ من التشدُّدِ ، حمايةً لها من الجموحِ المألوف في فترةِ العمرِ التي تمرُّ بها ، وبقدرِ ما كانا يحبّانِها ، ويسهرانِ على راحتِها ،كانا في ذاتِ الوقتِ يقسوانِ عليها من حيث لا يدريان ، ومثلا لذلك أنّهما كانا يحرمانِ عليها ارتداء الملابس الحديثة ، المناسبة كالتي تلبسها مثيلاتها البنات ، ويفرضانِ عليها الفساتين الفضفاضة التي تصلُ أطرافها إلى ما تحت الركبتينِ، وبذلك تبدو بين الأخرياتِ غريبةً شاذّة ، وتُقاسي من زملائِها و زميلاتِها لاذع السخريةِ ، وتحتملُ كلّ هذا العذاب وهي راضيةً صامتة ، هذا غير حرمانها من ممارسةِ جميع الأنشطةِ المدرسيّة التي تجري عادة في نِطاقِ الدراسةِ وخارجها ، مثل رحلات المعسكرات الطيفيّة والحفلات الجماعيّة ، فكان زُملاؤها و زميلاتها يستمتعون بوقتهم في حين تبقى في البيتِ أو يصطحبها والدها برفقةِ واحدة او اثنتين من بناتِ الأصدقاءِ الموثوقِ بتديّنِهن إلى الشاطئ أو السينما ، الأمر الذي يختلف في آثرهِ تماما عن استمتاع الشباب بدونِ الحرجِ والضيقِ والتكلّفِ التي تفرضها عليهم صحبة الكبار.
      وبدخول (أيدا) مرحلة الشباب أصبحت لديها القدرة أحيانا على مقاومةِ الاتجاهاتِ الدينيّة المتطرّفة المفروضة عليها ، فكانت تجمع شجاعتها في بعضِ الأحيان وتواجه والديها بامتعاضها ، وتناقشهما في حكمة القيود التي يُكبّلانها بها ، فيخيّل إليهما أنّ ابنتهما الحبيبة الوحيدة التي ذلا غايةِ جهودهما في تربيتها تطوي صدرها على إلحادٍ شرير ، ولابد أن يكون ذلك لأن الله قد أراد أن يُعاقبهما على أخطاء ارتكباها دون قصد..
      وبعد أن يستغفرا ربهما ألف مرةٍ على ما تقدّم منهما وما تأخّر يعمدان إلى بثِّ الذُعرِ في نفسها بما يقصّانهُ عليها من أبشعِ القصصِ عن الرِّجالِ وما جبلوا عليهِ من النوايا القذرةِ الشريرةِ ، وكيف أنّهم يتظاهرون بالخيرِ ويتسلّحون بالعواطِفِ النبيلةِ الكاذِبة لكي يوقعوا بالساذجاتِ الطيباتِ مثيلاتها ، ثم يلقون بهن في أسواقِ الرقيقِ الأبيضِ حيثُ يبيعونهن لتجّارِ البغاءِ و مُلوكِ الرذيلةِ فنشأت (أيدا) على الاعتقاد بأنّ الرجل ذئبٌ شرير ، وأنّ الاتصال به دمارٌ أكيد ، وأنّ طريقُ السلامةِ في الابتعادِ عنهُ والانعزالِ التامِّ عن أيِّ فرصةٍ للاتصالِ بِهِ في أيِّ مجالٍ كان.

      وكانت (أيدا) إلى هذه اللحظة قد ضربت بسهمٍ موفورٍ من التفوّقِ العلمي ، وحان الوقت لأن تُفكّر في العمل الذي تحب أن تعيش منهُ في المستقبلِ ، غير أنّ والديها تناسيا حقّها في اختيارِ المجالِ المناسِبِ لميولِها ، و قررا دون العودةِ إلى رأيها أن يُلحقاها بعد انتهاءِ الدراسةِ الثانويّةِ بمعهد لمعلماتِ مدارسِ رياضِ الأطفال لكي تقضي حياتها برفقةِ الصغارِ الأبرياءِ بعيدا عن المجالاتِ الأخرى العامرةِ بأخطارِ الكبارِ.

      ومن هُنا بدأت المشاكل تُنذِرُ بالإنفجارِ القريب...
      ولم تفكّر أبدا في هذا الطريقِ المهني ، ولا تُحبُّ أن تسلكهُ على الإطلاق ، وأملها الوحيد أن تتخصص شؤون المكتباتِ حيثُ الأعمال الأدبيّةِ والفنيّةِ التي تلائِم هوايتها الطبيعيّة ، وتُشبِعُ ميولها التوّاقةِ إلى الارتقاءِ في عالمِ القلمِ والفكر.

      وكانت المبادرةِ الأولى لعصيانِها أن رفعت رأسها لمواجهةِ أهلِها ، وأبت بكلِّ عِناد أن تُعّدّ نفسها لمهنةِ تدريسِ الأطفال، وظلّت متمسّكة برأيِها لا تحيد عنهُ رغم طولِ المناقشاتِ ومحاولاتِ الإقناعِ.

      ولم يمضِ وقت حتّى اكتمل الانفجار، إذ عادت (أيدا) ذات يومٍ على حينِ فجأة ومعها شابٌّ ممتاز من كافّةِ الوجوهِ ، على خُلقٍ عظيم وكفاءةٍ طيّبة ، متعلّم مهذّب وقور ، وكانت قد تعرفت به بدونِ علمِ أهلها لدى بعض الأصدقاء الذين تتردّد عليهم خفيةً..ثمّ تطورت المعرفة إلى حبّ شديد ، ولكنّهُ حبٌّ شريف لا يخرج مطلقا عن حدودِ الوقارِ، ولا يستهدف سوى أقدس روابط الحياة وهي الزواج ، بدونِ تفريطٍ سابق أو ممارسةِ حريّاتٍ قد اعتاد عليها الشباب الأمريكي .

      قدّمت (أيدا) جورج إلى والديها وطلبت موافقتهما على زواجها به ، لكنهما رفضا بمنتهى الإصرار ،و ركبا رأسيهما بغايةِ العناد ، لا لنقائِص في الشابِّ تعيبهُ وتُقلّل من أهليتهُ لمشاركةِ هذه الفتاة الطيّبة الحياة ، بل لأنّه ينتمي إلى مذهبٍ مسيحي يختلف عن مذهبِ أسرتهم ويؤدي فرائِض دينه في كنيسة غير كنيستهم ، وطال الحوارُ والنقاشُ حول هذا الموضوع.

      وحاولت (أيدا) من جانبها أن تقنعهما بخطأ التفرقة بين مؤمنٍ و مؤمن، فالكلُّ أمام الله سواء ، ومن التزمّتِ الأعمى أن يُحكم عليها بالحرمانِ من السعادةِ مع شابٍ مع هذا الإمتيازِ لمجردِ اختلافِ مذهبه ، لكنّ الكلام ذهب هباء ، وظلّ الأبوانِ على عنادهما ، ومعارضتهما غير المنطقيّة وغير المستساغة.

      وبدون أيِّ سبب أو مبرر تظهر على الفتاة _التي عاشت حياتها مثلا للصحّةِ والعافية _ أعراض مرضيّة ، حار الأطباءُ في تشخيصها ، وخابت العقاقير المختلفة في علاجها ... من ذلك صداع رهيب لا يرحم رأسها لا بالليلِ ولا بالنهارِ.. و أرقٌ عنيف يحرمها لذةِ النومِ ، وتقلّصاتٍ في أحشائِها تُسبّب لها ما لا قِبل لها بِهِ من الأوجاعِ الشديدة .. وبتأثيرِ هذهِ المتاعِب فقدت ( أيدا) شهيتها للطعامِ ، وامتنعت عن الأكلِ ، فأصابها الهزلِ والضُعف ، ونحل جسدها فوق نحولِهِ الأصلي..

      وذات صباحٍ استيقظ الأبُّ والأمُّ ليجِدا أن ابنتهما المُطيعةِ دائِما، قد جمعت حوائِجها بالليلِ ، وهربت من البيتِ ، ومن رسالةِ مقتضبة تركتها لهما عرفا أنّها ذهبت مع صديقها الشاب إلى غيرِ رجعة ..
      وطلبت إلى والديها ألا يبحثا عنها ، إذ ليس في نيّتها أن تعودُ إليهما أو تبقى على أيَّ صلةٍ بهما.

      ومع ذلك حاول الأبُّ والأمُّ أن يبحثا عن ابنتهما الوحيدة العزيزة ، ولم يتركا وسيلةً للاهتداءِ إليها ، ولكن جهودهما خابت تماما ، واختفت (أيدا) كما تختفي الإبرةِ في أكوامٍ ضخمةٍ من القشِّ..

      وبعد أن أفضت (أيدا) إلى طبيبها النفسي بقصّةِ حياتها كاملةً، صارحتهُ أيضا بما فعلتهُ بعد أن هربت مع ( جورج) من بيتِ أسرتها ، فبالرّغمِ من أنّهما اتفقا على الزواجِ بعد ثلاثةِ أيّامٍ ، واستخرجا الرخص والتصاريح الرسميّة الضروريّة لذلك ، وجدت نفسها لسببٍ لا تدريهِ تغوي خطيبها بها ، وتقدّم له نفسها ملحّةً في الإتصالِ الجنسي به قبل أن يجمع العش بينهما في إطار الدينِ والحلال.

      وضعف ( جورج) بدافِع حبّه ، وحقّق لها رغبتها ، ولكنّهُ فوجئ في الصباحِ التالي ، بهربها منهُ واختفائِها من حياتهِ ، دون أن تترك كلمة ترشدهُ إلى سببِ هجرها المفاجئ ، ولا المكان الذي يمكن أن يجدها فيه.

      وبعد تسعة أشهر وضعت ( أيدا) صبيا صغيرا في أحدِ المستشفياتِ المجانيّة ، و رفضت أن تُفضي لإدارةِ المستشفى باسم والده ، وبمكان أسرتها وأسرته ..كما أنّها بدت نفورا شديدا من الصبي لدرجة أنّها أبت أن تراه أو ترضعه بعد الولادةِ ، وكتبت تنازلا عنهُ لإحدى مؤسساتِ التبنّي ، وطلبت أن يخفوا عنها اسم الأسرة التي تتبنّاهُ لكي تقطع الطريق بينها وبينهُ إلى الأبدِ.

      ولقد حاول الباحث الاجتماعي للمؤسسة أن يقنعها بغيرِ ذلك ، كما ألحّ في معرفةِ الأسبابِ التي تدعوها إلى التمسُّكِ بهذهِ الشُروط ، ولكنّها اختارت الصمت التّام ، ولم تشأ أن تنطق بكلمة واحِدة في هذا الموضوع.

      وكان من عجيب التغييرات التي أصابتها بعد ذلك أنّها بعد أن كانت تكره تربية الأطفال ، وتعليمهم راحت تبحث عن وظيفة مربّية لهم حتّى عثرت على أسرة (مسز درايفرز) وأبدت عطفها على الأطفالِ ، وشغفها بهم ما يتعارض تمام مع اتجاهها نحو طفلها ، والأعجب من ذلك أن أبدت لمخدومتها رغبتها الشديدة في احترافِ مهنة التدريس بمدارس الأطفال ، على عكسِ ما كانت تريده أيّام وجودِها مع أُسرتِها ، ومعارضتِها العنيفة لرغبةِ والديها في احترافِ تدريسِ الأطفالِ.

      *********



      يقولُ الطبيبِ النفسي الذي تولّى علاجها :
      أن ( أيدا) مثلٌ واضِح لضحايا الصراعات النفسيّة التي تُصيبُ الفتيات في مقتبلِ حياتهن ، فتملأُ صدورهنّ بالعنفِ الذي يلقي بهنّ في أتون الإجرام والخطيئة.. فهذه الفتاة مثل غيرها من ضحايا تزمّت الأهل لجأت بدافع الرغبةِ والتحدّي إلى تحطيمِ نفسها ، متصوّرةً أنّها بذلك تحطّم قيود الاستبداد التي يكبّلها بها والديها ، وتنتقم منهما لحرمانها من الاستمتاعِ بطفولتِها ، وصِباها ، ومسايرةِ روح العصرِ التي يعيشُ فيها زُملائِها ، و زميلاتِها .. فمثيلاتِ ( أيدا) من البناتِ الطيّباتِ لا يخطئن رغبةً في الخطيئة ، ولكن بدافِع التحدّي والانتقام.

      وبتأثيرِ الصراعِ النفسيِّ الدفين أصابتها الأمراضُ الغامِضة أولا ، ثمّ هربت مع خطيبِها .. ومع أنّه كان من السهلِ عليها أن تُقنع( جورج) بتغيير مذهبهِ ، وما كان ليرفض ذلك على الإطلاقِ نظرا لسماحتِهِ وتعلّقهِ الشديد بها ، ولكن العُقد المتمكّنة من عقلِها الباطِن ، دفعتها إلى عدمِ الالتجاءِ إلى هذا الأسلوبِ العادي الأخلاقي ، و زيّنت لها دون أن تدري أن تنتقم من والديها ، بإبقائِه على مذهبِهِ الديني ، وبتقديمِ نفسها له قبل الارتباطِ الشرعي..

      ويقولُ الطبيبُ أيضا :
      أنّ (أيدا) بمجرّد أن حقّقت انتقامها ، فأفاقت في صباحِ اليومِ التالي فجأة على قُبحِ ما فعلته، وتحرّكت مشاعِر التديّنِ الأصيلة في نفسها ، ودفعها الندم الشديد إلى كراهية الرّجلِ الذي انصاع لرغبتِها حين أرادت أن تتخذهُ أداةً للانتقامِ .. واعتبرت هذا الرّجل هو الجاني عليها ، و رغبة في أن تُعاقِبهُ بالمثلِ على الاشتراكِ فيما لا يرضي الله .. هربت من حياتِهِ ، وقطعت كلّ صلةٍ بهِ ، وضيّعت عليه فرصةِ الزواجِ منها لإصلاحِ الخطأ.

      واتسع حقد ( أيدا) على نفسِها ، وشمل الطفل أيضا ، فرأت من خلالِ ثورةِ الندمِ التي انتابتها أن تعاقبهُ هو الآخرِ ، بالتخلّي عنه في ساعةِ حقدٍ ، ومرارة ، وتمسّكت بضرورةِ تركه لمؤسساتِ التبنّي لكي يكونُ حرمانها منه هو العقاب الذي تستحقّهُ ، بل والعقاب الذي يستحقّهُ أبوهُ أيضا الذي تحوّل في ذهنها من أداة لانتقامِها إلى شريكٍ بغيضٍ في الجريمةِ المنافيةِ تماما لتعاليمِ الدينِ ، و أُصولِ الأخلاق.
      وغلبها إحساسها بالذنبِ نحو والديها ، واختلطت بمشاعرِ الأمومةِ في نفسِها ، فلجأت إلى الرغبةِ في تربيةِ ، وتعليمِ الأطفالِ الآخرينِ .. أولادِ الحلال..الذين جاءوا إلى هذه الدُّنيا مطهّرين من وصمةِ الخطيئةِ التي تلوّثُ ابنها ..

      فكان موقٍفُ (أيدا) من نفسِها ذا شقّين :
      موقفُ المذنبُ المؤمن ، وموقِفُ القاضي الملتزم بإنزالِ أقصى العقاب على المذنبين.
      ويؤكّد الطبيب أنّه عندما أفلح في الوصولِ إلى عقدةِ ( أيدا) وأمكنهُ بالعلاجِ الطويلِ أن يطفو بهذهِ العقدةِ من أغوارِ العقلِ الباطِنِ إلى أنوارِ العقلِ الواعي ، رأت الفتاة الحقيقة أمامها سافرةً ، واضحة ، فعادت إلى طريقِ العقلِ والحكمةِ ، وكان أولُ ما فعلته أنّها رضيت بينها وبين والديها، من ودٍّ وفرحةٍ مغتبطة بأن تصل والديها ، وتتصل بـ (جورج) ، وكتبت ترشدهُ إلى مكانِها ، وتزوّجت بهِ لفورِها .. كما أنّها استردّت طفلها من المؤسسة، وأغدقت عليه كل ما يطويه صدرها من حنانٍ وحبّ ، ورحمةٍ ، وعاشت معه ومع أبيهِ وكأنّها تحلّقُ في سماء الهناءِ اللانهائي..وذهبت عنها جميع أمراضها ، واستعادت صحتها ، كما أبدت نفورِها من تعليم الأطفال ، و التحقت بعملٍ في المكاتِب العامة ، لتحقّق من خلاله طموحا إلى مستقبلٍ أدبّيٍ مرموق..

      ويمكننا أن نلخّص أخطاء الوالدين في النقاطِ الآتية:
      أولا: أنّهما فرضا عليها منذُ بدايةِ حياتِها قيودا دينيّة ، وأخلاقيّة لا تُسايرُ روح العصرِ ، وبذلك حرماها من أن تعيش مثل غيرِها من أبناءِ جيلها، وأفسدا حياتها بمشاعِر أقوى من أن تحتملها.

      ثانيا: أنّهما رسما الرّجل لها في صورةِ الوحشِ الأناني ، الذي يعيش ليدمّر حياة الفتاةِ البريئة ، ويورثها الخزي ، ممّا دفعها إلى التوحّشِ هي أيضا في الانتقامِ من خطيبها ، والإساءةِ إلى طفلها.

      ثالثا: أنّهما لم يراعيا ميولها الخاصّة في الدراسةِ ، فصمّما على أن تتخصّص في تعليمِ الأطفالِ ، الأمر الذي كانت تكرهه ، وترغبُ في طريقٍ مهني آخر يختلفُ تماما عنه.

      ويختتمُ الطبيب النفسي كلامهُ بأنّ ( أيدا) كانت سعيدة الحظ لأنّها صادفت امرأة فاضِلة مثل ( مسز درايفرز) التي ساعدتها بالمالِ ،والحبِّ ، والرّعايةِ على التخلّصِ من مرضها النفسي ، على عكسِ آلافٍ غيرها ممن تعرضن لنفسِ المتاعِبِ ، ولم يجدن العون ، فتحطّمن نهائيّا ، إمّا بالتدهورِ في مهاوي الرذيلةِ ، أو قضاءِ بقيّةِ حياتهنّ بين أسوارِ المستشفياتِ العقليّة?





      المصدر : مدونة بدرية العامري


      ¨°o.O ( على كف القدر نمشي ولا ندري عن المكتوب ) O.o°¨
      ---
      أتمنى لكم إقامة طيبة في الساحة العمانية

      وأدعوكم للإستفادة بمقالات متقدمة في مجال التقنية والأمن الإلكتروني
      رابط مباشر للمقالات هنا. ومن لديه الرغبة بتعلم البرمجة بلغات مختلفة أعرض لكم بعض
      المشاريع التي برمجتها مفتوحة المصدر ومجانا للجميع من هنا. تجدون أيضا بعض البرامج المجانية التي قمت بتطويرها بذات الموقع ..
      والكثير من أسرار التقنية في عالمي الثاني
      Eagle Eye Digital Solutions