فضل الله: المرجع الروحي للمقاومة ورجل الفقه المنفتح
د. سعيد الشهابي
7/14/2010

'لا أطلب الا زوال الكيان الصهيوني'، كان آخر المواقف غير المعلنة قبل ان يستسلم للموت). هذه العبارة وردت في تقرير وكالة انباء رويترز يوم وفاة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله، نقلا عن طبيبه بمستشفى 'بهمن' في بيروت.
ألا يكفي ذلك لفهم دوافع التحرك الكثيف للقوى الضاغطة الصهيونية ضد من يطلق كلمة مدح او ثناء لهذا الرجل؟ كيف يمكن فهم دوافع الحملة ضد فرانسيس جاي، السفيرة البريطانية لدى لبنان بعد ان عبرت عن احترامها له في رثاء قصير خطته بيديها بعد رحيله؟ لماذا اتخذ القرار العاجل بفصل أوكتافيا نصر، المحررة المسؤولة عن تغطية منطقة الشرق الاوسط بقناة 'سي ان ان' بعد ان عبرت عن تقديرها للسيد؟ وما الذي دفع الكاتب البريطاني المعروف، روبرت فيسك، لوصفه بانه 'رجل جاد ومهم ساهمت خطبه حول الحاجة للاحياء الروحي والعطف في بث الخير أكثر من اي شخص آخر في بلد تهيمن عليه الشعارات'؟. فاذا كان فضل الله رقما صعبا في حياته، فان غيابه لم يسهل مهمة المعجبين به. واذا كان الغربيون، وبعضهم في مواقع متقدمة ومن النخب السياسية والمهنية، يدفعون ثمن 'اعجابهم' او 'تقديرهم' لهذا الرجل، فما الذي حداهم لذلك، وهم يعلمون ان القوى الضاغطة الصهيونية لمثلهم بالمرصاد؟
لماذا يبقى فضل الله بعبعا بعد رحيله، كما كان في حياته؟ ما الذي يميز شخصيته عن الآخرين؟
وهل يملك سوى الكلمة سلاحا؟ هل ان تلك الكلمة أقوى من القنابل والصواريخ التي استهدفته شخصيا ولم تفلح في إخماد صوته؟
ما الذي أزعج القوى الغربية في خطاب الرجل خصوصا ان فيه ما يتناغم مع بعض ما يرفعون من شعارات، خصوصا حول حقوق المرأة ولغة التسامح والحوار؟ أية انسانية هذه التي تصادر حرية الرأي، فتمنع المسؤول من طرح رأيه ازاء شخص يقدره ان يعجب به؟ وربما الأهم من ذلك: من هو عالم الدين الذي يرتضيه الغرب ممثلا عن المسلمين ومعبرا عن آراء الاسلام وقيمه ومبادئه؟ ان قراءة حياة السيد فضل الله، بكامل فصولها منذ ان دخل ميدان الاسلامي الحركي في الخمسينات، تعني قراءة تطور العلاقات بين الغرب والعالم الاسلامي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، مرورا باحتلال فلسطين والحقبة الاستعمارية واكتشاف النفط، وصولا الى صعود ظاهرة 'الاسلام السياسي' الذي كان فضل الله واحدا من اعمدتها. بل يمكن القول انه كان من أوائل من طرح تنظيرات ورؤى للصحوة الاسلامية المعاصرة، في فترة ما بعد الامام حسن البنا، متزامنا مع سيد قطب والمودودي والسيد محمد باقر الصدر، وصولا الى الثورة الاسلامية في ايران بقيادة الامام الخميني. وبالتالي فاذا كان الثلث الاول من حياته يعتبر فترة النشأة والبناء الاساس للفكر الحركي لديه، فقد قضى ثلثي حياته الاخيرين حاضنا للصحوة، مؤطرا لحركتها، ودافعا لتعميقها وانتشارها، من خلال كتبه التي ناهزت السبعين في شتى المجالات.
ترجل الفارس بعد ان أثخنت جسده المتعب جراحات الاعداء ومشقة السير الطويل، وأسلم الروح لبارئها وهو لما يكمل المشوار، وأي مشوار ذلك الذي بدأه على انغام الحروب والاحتلال، وما زلت تؤرقه حتى يوم رحيله. وكما كان في حياته، مثيرا للجدل بسبب مواقفه ورؤاه، على اصعدة السياسة والفقه والفكر، فقد بقيت تلك الاثارة متواصلة حتى بعد رحيله. وما استهداف من تفوه بإطرائه من الغربيين الا مؤشر لتلك الاثارة. وما صمت بعض اقرانه عن قول كلمة وفاء بعد ان غيبه اللحد، الا جانب آخر لتلك الاثارة. فما طبيعة هذا الرجل الذي يمدحه بعض المحسوبين على معسكر 'الأعداء' ويبخل عليه الاقربون منه بكلمات مديح مماثلة؟ العظماء موضع اثارة للجدل، ويبدو ان المرء لا يكون ذا موقع مرموق الا اذا كانت افكاره خارقة للمعتاد وخارجة على المألوف. وهذا يقتضي شجاعة لا تتوفر لدى أغلب الناس. فالمجاملة والمسايرة وربما 'النفاق' من مستلزمات العيش في نظر البعض، ومثل هؤلاء لا يترك أثرا ملموسا على محيطه، فيعيش ويموت انسانا عاديا على هامش الحياة. الابطال هم الذين يتخذون القرارات والمواقف التي لا تعجب الجميع، فارضاء الناس غاية لا تدرك، وخوض الاهوال من شيم الشجعان الذين لا يرون خطرا على حياتهم أكبر من الموت. والموت احيانا قد يبدو أقل المخاطر التي تنتظر هؤلاء الشجعان. فكيف هو شعور المناضلين الذين يتعرضون لصنوف التعذيب بمباضع الجلادين؟ ألا يصل الحال ببعضهم الى مطالبة سجانيه بانهاء حياته للانتهاء من الألم الذي لا يطاق او الاهانة التي لا يستطيع تحملها؟ وماذا عن المبتلين بامراض مؤلمة جدا، ألا يبلغ الامر ببعضهم لاختيار الموت بديلا عن تلك الحياة المؤلمة؟ والألم النفسي لا يقل عن الالم الجسدي، ولذلك فما أكثر الذين ينتحرون بعد ان يعجزوا عن تحمل الأذى النفسي.
لقد عاش السيد محمد حسين فضل الله آلاما من أصناف شتى: فكرية وسياسية، شخصية وجماعية، على مستواه كواحد من ابناء الامة، وعلى مستوى المجتمع (بل المجتمعات) التي كانت تنتظر منه الارشاد والتوجيه والموقف. فكيف كانت نفسيته في الثامن من آذار (مارس) 1985 وهو يسمع الانفجار المدمر الذي هز ضاحية 'بئر العبد' بتفجير قنبلة كانت تستهدف القضاء عليه وقد زرعها عملاء وكالة الاستخبارات الامريكية بدعم دولة عربية؟ ماذا كان شعوره وهو يستمع لأرقام الضحايا ترتفع كل لحظة حتى تجاوزت الثمانين؟ وتتكرر محاولات تصفيته تباعا طوال العقدين اللاحقين لتبلغ أبشع صورها في مثل هذه الايام من تموز (يوليو) 2006. فاذا بالطائرات والصواريخ الاسرائيلية تنهال على الضاحية الجنوبية بقصف وحشي، استهدف في اولى عملياته منزل السيد فضل الله ليحيله ركاما. ونجا السيد من ذلك العدوان ولكنه أبى ان يترك المدينة المنكوبة، وفضل ان يبقى مع شعبه، شاهدا وشهيدا على العدوان والارهاب الذي كان يجري برعاية الدول الكبرى. جريمته، في نظر اعداء الامة انه، كما ذكر الكاتب الصحافي باتريك فورستيه (Patrick Forstie) لم يتنكر لمن يسعى لتحرير ارضه: 'إذا كان السيد فضل الله قد أعلن دائماً أنه ضد العمليات الانتحارية، فهو ليس ضد العمليات 'الاستشهادية' التي هي واحدة من أركان الإسلام الشيعي'. ان تمسك فضل الله، ليس ككاتب او محلل او مفكر، بل كمرجع ديني تترك رؤاه وفتاواه آثارها على اتباعه، وما اكثرهم، بموقف واضح ازاء مفهوم 'الشهادة' جعله مستهدفا من اعداء الامة الذين يصرون على احتلال ارضها واستضعاف ابنائها، اذ يقول: 'الشهادة ليست موتاً، إنما هي في الأساس عمل روحي طوعي، لأن القضية أهم بكثير من الحياة'.
هذا التقعيد لمفهوم الشهادة، خصوصا في هذا الزمن الذي يسعى المتغربون فيه للتخلي عن المبادئ والقيم في مقابل احتضانهم من قبل الغرب، لم يعد مقبولا نظرا لتأثيره السلبي خصوصا على من الاحتلال الصهيوني في فلسطين. وبالاضافة لمفهوم الشهادة في الاسلام، فان موقفه من مفهوم آخر بدأ الغربيون يستعملونه بشكل سلبي، مرفوض ايضا. ففي السنوات الاخيرة اصبح الاعلام الغربي يطلق مصطلح 'الجهاديين Jihadists' على كل من يؤمن باستعمال القوة لمواجهة العدوان، ايا كانت الظروف. ودخل هذا المصطلح بقوة في الاعلام الغربي ضمن عناوين 'الارهاب'. اما السيد فضل الله فيقول: 'ربما تحدّث الغربيون عن مسألة الجهاد في الإسلام بشكلٍ سلبي واعتبروها وسيلةً من وسائل العدوان وتدمير الإنسان. إننا نقول إن الجهاد في الإسلام تماماً كما هو الكفاح في كل الحضارات، هو عمليةٌ دفاعية ووقائيّة'.
هذه الرؤى الفقهية حسمت موقف الغربيين تجاهه. وهذا الموقف لم يقتصر على الحصار الفكري والسياسي والامني، بل تعداه الى الفعل الأمني الذي استهدف حياته مرات عديدة حيث بدأ بمتفجرة بئر العبد قبل ربع قرن، وتواصل بدون توقف حتى وفاته. كان واضحا في ربع القرن الأخير انه كان محدود الحركة، قليل السفر، لاعتبارات عديدة اهمها الجانب الامني. فمنذ تفجير مقر قوات المارينز الامريكية والقوات الفرنسية في بيروت في 1983، اصبح الغرب مقتنعا بانه هو الذي بارك تلك العمليات، ودعمها. فبدأت الاستخبارات الامريكية تعد الخطط لاغتياله بتوجيه من الرئيس الامريكي آنذاك، رونالد ريغان. التحقيقات التي اجريت لاحقا لكشف الجهة المخططة لتلك الجريمة أكدت ضلوع الـ (سي آي آيه) فيها. ويذكر الصحافي اللبناني عمار نعمة في صحيفة 'السفير' (13/7/2008) 'ان الحاج عماد مغنية هو الذي قام بمتابعة مسؤولية التحقيق في محاولة الاغتيال التي استهدفت سماحة السيد فضل الله في بئر العبد والتي أودت بحياة العشرات من الشهداء'. ويمكن القول ان تلك الجريمة أحدثت استقطابا في العلاقة بين 'الاسلام الحركي' وفق تعبير السيد نفسه والتدخلات الامريكية في المنطقة، دعما للاحتلال الاسرائيلي. بل ربما يمكن اعتبار ذلك البداية الحقيقية لنشوء المقاومة الوطنية الاسلامية اللبنانية ضد 'اسرائيل' التي كانت قد اجتاحت لبنان في 1982 مستهدفة الوجود الفلسطيني بزعامة السيد ياسر عرفات. والملاحظ ان المواقف السياسية والفقهية للسيد فضل الله توسعت دائرتها منذ ذلك الوقت، واصبح رقما اساسيا في مشاريع ثلاثة متوازية: الصحوة الاسلامية الناهضة في العالم الاسلامي، والمقاومة ضد الاحتلال، والفقه الديني المتجدد الذي اصبحت له امتدادات في السياسة ومفاهيم المقاومة والجهاد. وتوسعت اهتمامات السيد فوسع آفاقه من مؤلف وامام جماعة وجمعة، الى مرجع روحي لقوى المقاومة. وانطلق مجددا في مسار جديد متصل بمشروع الوحدة الاسلامية والانفتاح على الآخر. وعلى مدى ربع القرن اللاحق، تحولت شخصيته الى رمز لعدد من الامور:
اولها: المشروع الوطني اللبناني اذ اصبح جهة اساسية لبلورة معالم لبنان الجديد الذي تحول الى بلد مقاوم، يبحث كافة الاساليب المتاحة للانتهاء من استحقاقات الحرب الاهلية. وحظى السيد تدريجيا باهتمام القادة اللبنانيين خصوصا انه كان يدعو لتجاوز آثار الحرب الاهلية اللبنانية وبناء الجسور بين مكونات لبنان، بكافة انتماءاتها الدينية والمذهبية والعرقية.
ثانيها: المشروع التحرري الذي تمثله قوى المقاومة في المنطقة، خصوصا لبنان وفلسطين، وهو السبب الاهم لاستهدافه من قبل القوى الغربية. ووفر له اهتمامه بهذا المحور فرصة التواصل مع رموز التحرر من قادة حركات وعلماء وكتاب واعلاميين. وكان اهتمامه بقضية فلسطين ودعم المقاومة بعدا ثابتا في شخصيته، الامر الذي وفر له احتراما بين كافة الفصائل الفلسطينية.
ثالثها: المشروع الاسلامي، وتجلياته السياسية والحركية بما في ذلك دعم الجمهورية الاسلامية والحركات الاسلامية الممتدة بطول العالم الاسلامي وعرضه.
رابعها: المشروع الوحدوي الذي وجد اصداء له بتأسيس 'تجمع العلماء المسلمين' في لبنان، والمؤتمرات التي حضر بعضها ورعى بعضها الآخر. وقد اصدر في ذلك مقالات وكتبا تؤصل قيم التقريب والحوار والوحدة، خصوصا في مجال الحوار مع الآخر كالمسيحيين.
خامسها: المشروع الانساني وهو جانب من تطور الفقه الاسلامي المعاصر. وقد تميز السيد بفتاواه التي ترعى التعدد المجتمعي فاصدر فتواه الشهيرة بطهارة غير المسلم، معتبرا ان النفس الانسانية طاهرة بذاتها، وليست نجسة. كما اهتم بالمرأة والشباب واولاهما من الاهتمام ما جعلهما يعتبرانه 'مرجعا روحيا' لهما بدون تردد او تحفظ.
سادسها المشروع الرعوي اذ نجح في تأسيس مبرات خيرية ومستشفى ضخما ومؤسسات خيرية واسلامية ومدارس ومعاهد للتعليم المهني، بالاضافة الى مشروع التعليم الديني الذي يرعاه لتخريج علماء دين قادرين على حمل مهمة البيان والتلبيغ والارشاد. هذه الامور جعلته رمزا حيويا لجماهيره الملتفة حوله، التي وجدت فيه دفء الاحتضان وحنان الأبوة.
سابعها: المشروع الفقهي الذي نجم عنه حوزة علمية واسعة تخرج العلماء والفقهاء. وربما الاهم من ذلك نزعته نحو التجديد الفقهي وتحرير الفقه من شوائب عديدة، كالرتابة والجمود وتقديس الماضي بدون قراءة ناقدة للتاريخ، والتعامل مع العلم والتكنولوجيا كعوامل مساعدة في تحديد الموضوع وتسهيل مهمة اصدار الحكم، وتنقية الدين من الموروثات والتقاليد لللتمييز بين ما هو 'إلهي مقدس' وما هو 'بشري خاضع للتدقيق والمحاكمة'.
هذا المنحى التجديدي وفر للسيد مريدين كثيرين خصوصا في فئات الشباب والنساء وفي اوساط غير المسلمين من دبلوماسيين واعلاميين. ولكنه في الوقت نفسه أسس لحصار من المؤسسة الدينية التقليدية التي عارضت منهجه في الاجتهاد والفقه، خصوصا دعوته لتنقية الدين مما علق به من موروثات غير ثابتة على اسس من الحديث او الاجتهاد او الفقه، وربما كانت انعكاسات لثقافات وعادات موروثة، وليست من الثوابت.
ودعا الى اعادة النظر في التاريخ والحديث لتنقيتهما مما علق بهما من اجتهادات بشرية. هذا المنحى كان جديدا على المؤسسة الدينية خصوصا في الدائرة الاسلامية الشيعية، الامر الذي أحدث ارباكا وصل احيانا الى مستوى التكفير والطعن في النوايا. ولوحظ غياب اي نعي للسيد محمد حسين فضل الله من المؤسسة الدينية سواء في النجف الاشرف العراقية، ام مدينة قم الايرانية.
هذا الغياب الملحوظ ربما خفف منه اللغط الدائر حول الاشخاص من غير المسلمين الذين أطلقوا تصريحات أعادت السجال حول مفاهيم كانت في عداد الثوابت خصوصا حرية التعبير التي يبدو انها دائرة تضيق عن اطراء المحسنين وذم المسيئين. والصراع هذه المرة ليس بين السيد فضل الله والغرب، بل ان وفاته أخرجت السجال من المحيط الاسلامي الخاص وأوصلته الى الدوائر الغربية نفسها. وهذا جانب من اسرار صدق الموقف والثبات على المبدأ والصمود بوجه العدوان والطغيان والاستبداد.
كان فضل الله انسانا انفصل بروحه وكيانه عن عالم الزيف والنفاق وازدواج المعايير، ليحلق في عالم القيم والنقاء والصفاء، وهذا ما لا يدركه غير العارفين، الذي كان، بدون شك، واحدا من أقطابهم.
' كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
وضعوني في اناءٍ ، ثُمَ قالوا لي ... تأقلم
وأَنا لَستُ بماءٍ ....
أنا مِن طينِ السماءِ ،
واذا ضاقَ انائي بِنُمِوي .. .. يتحطم
</I>
د. سعيد الشهابي
7/14/2010

'لا أطلب الا زوال الكيان الصهيوني'، كان آخر المواقف غير المعلنة قبل ان يستسلم للموت). هذه العبارة وردت في تقرير وكالة انباء رويترز يوم وفاة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله، نقلا عن طبيبه بمستشفى 'بهمن' في بيروت.
ألا يكفي ذلك لفهم دوافع التحرك الكثيف للقوى الضاغطة الصهيونية ضد من يطلق كلمة مدح او ثناء لهذا الرجل؟ كيف يمكن فهم دوافع الحملة ضد فرانسيس جاي، السفيرة البريطانية لدى لبنان بعد ان عبرت عن احترامها له في رثاء قصير خطته بيديها بعد رحيله؟ لماذا اتخذ القرار العاجل بفصل أوكتافيا نصر، المحررة المسؤولة عن تغطية منطقة الشرق الاوسط بقناة 'سي ان ان' بعد ان عبرت عن تقديرها للسيد؟ وما الذي دفع الكاتب البريطاني المعروف، روبرت فيسك، لوصفه بانه 'رجل جاد ومهم ساهمت خطبه حول الحاجة للاحياء الروحي والعطف في بث الخير أكثر من اي شخص آخر في بلد تهيمن عليه الشعارات'؟. فاذا كان فضل الله رقما صعبا في حياته، فان غيابه لم يسهل مهمة المعجبين به. واذا كان الغربيون، وبعضهم في مواقع متقدمة ومن النخب السياسية والمهنية، يدفعون ثمن 'اعجابهم' او 'تقديرهم' لهذا الرجل، فما الذي حداهم لذلك، وهم يعلمون ان القوى الضاغطة الصهيونية لمثلهم بالمرصاد؟
لماذا يبقى فضل الله بعبعا بعد رحيله، كما كان في حياته؟ ما الذي يميز شخصيته عن الآخرين؟
وهل يملك سوى الكلمة سلاحا؟ هل ان تلك الكلمة أقوى من القنابل والصواريخ التي استهدفته شخصيا ولم تفلح في إخماد صوته؟
ما الذي أزعج القوى الغربية في خطاب الرجل خصوصا ان فيه ما يتناغم مع بعض ما يرفعون من شعارات، خصوصا حول حقوق المرأة ولغة التسامح والحوار؟ أية انسانية هذه التي تصادر حرية الرأي، فتمنع المسؤول من طرح رأيه ازاء شخص يقدره ان يعجب به؟ وربما الأهم من ذلك: من هو عالم الدين الذي يرتضيه الغرب ممثلا عن المسلمين ومعبرا عن آراء الاسلام وقيمه ومبادئه؟ ان قراءة حياة السيد فضل الله، بكامل فصولها منذ ان دخل ميدان الاسلامي الحركي في الخمسينات، تعني قراءة تطور العلاقات بين الغرب والعالم الاسلامي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، مرورا باحتلال فلسطين والحقبة الاستعمارية واكتشاف النفط، وصولا الى صعود ظاهرة 'الاسلام السياسي' الذي كان فضل الله واحدا من اعمدتها. بل يمكن القول انه كان من أوائل من طرح تنظيرات ورؤى للصحوة الاسلامية المعاصرة، في فترة ما بعد الامام حسن البنا، متزامنا مع سيد قطب والمودودي والسيد محمد باقر الصدر، وصولا الى الثورة الاسلامية في ايران بقيادة الامام الخميني. وبالتالي فاذا كان الثلث الاول من حياته يعتبر فترة النشأة والبناء الاساس للفكر الحركي لديه، فقد قضى ثلثي حياته الاخيرين حاضنا للصحوة، مؤطرا لحركتها، ودافعا لتعميقها وانتشارها، من خلال كتبه التي ناهزت السبعين في شتى المجالات.
ترجل الفارس بعد ان أثخنت جسده المتعب جراحات الاعداء ومشقة السير الطويل، وأسلم الروح لبارئها وهو لما يكمل المشوار، وأي مشوار ذلك الذي بدأه على انغام الحروب والاحتلال، وما زلت تؤرقه حتى يوم رحيله. وكما كان في حياته، مثيرا للجدل بسبب مواقفه ورؤاه، على اصعدة السياسة والفقه والفكر، فقد بقيت تلك الاثارة متواصلة حتى بعد رحيله. وما استهداف من تفوه بإطرائه من الغربيين الا مؤشر لتلك الاثارة. وما صمت بعض اقرانه عن قول كلمة وفاء بعد ان غيبه اللحد، الا جانب آخر لتلك الاثارة. فما طبيعة هذا الرجل الذي يمدحه بعض المحسوبين على معسكر 'الأعداء' ويبخل عليه الاقربون منه بكلمات مديح مماثلة؟ العظماء موضع اثارة للجدل، ويبدو ان المرء لا يكون ذا موقع مرموق الا اذا كانت افكاره خارقة للمعتاد وخارجة على المألوف. وهذا يقتضي شجاعة لا تتوفر لدى أغلب الناس. فالمجاملة والمسايرة وربما 'النفاق' من مستلزمات العيش في نظر البعض، ومثل هؤلاء لا يترك أثرا ملموسا على محيطه، فيعيش ويموت انسانا عاديا على هامش الحياة. الابطال هم الذين يتخذون القرارات والمواقف التي لا تعجب الجميع، فارضاء الناس غاية لا تدرك، وخوض الاهوال من شيم الشجعان الذين لا يرون خطرا على حياتهم أكبر من الموت. والموت احيانا قد يبدو أقل المخاطر التي تنتظر هؤلاء الشجعان. فكيف هو شعور المناضلين الذين يتعرضون لصنوف التعذيب بمباضع الجلادين؟ ألا يصل الحال ببعضهم الى مطالبة سجانيه بانهاء حياته للانتهاء من الألم الذي لا يطاق او الاهانة التي لا يستطيع تحملها؟ وماذا عن المبتلين بامراض مؤلمة جدا، ألا يبلغ الامر ببعضهم لاختيار الموت بديلا عن تلك الحياة المؤلمة؟ والألم النفسي لا يقل عن الالم الجسدي، ولذلك فما أكثر الذين ينتحرون بعد ان يعجزوا عن تحمل الأذى النفسي.
لقد عاش السيد محمد حسين فضل الله آلاما من أصناف شتى: فكرية وسياسية، شخصية وجماعية، على مستواه كواحد من ابناء الامة، وعلى مستوى المجتمع (بل المجتمعات) التي كانت تنتظر منه الارشاد والتوجيه والموقف. فكيف كانت نفسيته في الثامن من آذار (مارس) 1985 وهو يسمع الانفجار المدمر الذي هز ضاحية 'بئر العبد' بتفجير قنبلة كانت تستهدف القضاء عليه وقد زرعها عملاء وكالة الاستخبارات الامريكية بدعم دولة عربية؟ ماذا كان شعوره وهو يستمع لأرقام الضحايا ترتفع كل لحظة حتى تجاوزت الثمانين؟ وتتكرر محاولات تصفيته تباعا طوال العقدين اللاحقين لتبلغ أبشع صورها في مثل هذه الايام من تموز (يوليو) 2006. فاذا بالطائرات والصواريخ الاسرائيلية تنهال على الضاحية الجنوبية بقصف وحشي، استهدف في اولى عملياته منزل السيد فضل الله ليحيله ركاما. ونجا السيد من ذلك العدوان ولكنه أبى ان يترك المدينة المنكوبة، وفضل ان يبقى مع شعبه، شاهدا وشهيدا على العدوان والارهاب الذي كان يجري برعاية الدول الكبرى. جريمته، في نظر اعداء الامة انه، كما ذكر الكاتب الصحافي باتريك فورستيه (Patrick Forstie) لم يتنكر لمن يسعى لتحرير ارضه: 'إذا كان السيد فضل الله قد أعلن دائماً أنه ضد العمليات الانتحارية، فهو ليس ضد العمليات 'الاستشهادية' التي هي واحدة من أركان الإسلام الشيعي'. ان تمسك فضل الله، ليس ككاتب او محلل او مفكر، بل كمرجع ديني تترك رؤاه وفتاواه آثارها على اتباعه، وما اكثرهم، بموقف واضح ازاء مفهوم 'الشهادة' جعله مستهدفا من اعداء الامة الذين يصرون على احتلال ارضها واستضعاف ابنائها، اذ يقول: 'الشهادة ليست موتاً، إنما هي في الأساس عمل روحي طوعي، لأن القضية أهم بكثير من الحياة'.
هذا التقعيد لمفهوم الشهادة، خصوصا في هذا الزمن الذي يسعى المتغربون فيه للتخلي عن المبادئ والقيم في مقابل احتضانهم من قبل الغرب، لم يعد مقبولا نظرا لتأثيره السلبي خصوصا على من الاحتلال الصهيوني في فلسطين. وبالاضافة لمفهوم الشهادة في الاسلام، فان موقفه من مفهوم آخر بدأ الغربيون يستعملونه بشكل سلبي، مرفوض ايضا. ففي السنوات الاخيرة اصبح الاعلام الغربي يطلق مصطلح 'الجهاديين Jihadists' على كل من يؤمن باستعمال القوة لمواجهة العدوان، ايا كانت الظروف. ودخل هذا المصطلح بقوة في الاعلام الغربي ضمن عناوين 'الارهاب'. اما السيد فضل الله فيقول: 'ربما تحدّث الغربيون عن مسألة الجهاد في الإسلام بشكلٍ سلبي واعتبروها وسيلةً من وسائل العدوان وتدمير الإنسان. إننا نقول إن الجهاد في الإسلام تماماً كما هو الكفاح في كل الحضارات، هو عمليةٌ دفاعية ووقائيّة'.
هذه الرؤى الفقهية حسمت موقف الغربيين تجاهه. وهذا الموقف لم يقتصر على الحصار الفكري والسياسي والامني، بل تعداه الى الفعل الأمني الذي استهدف حياته مرات عديدة حيث بدأ بمتفجرة بئر العبد قبل ربع قرن، وتواصل بدون توقف حتى وفاته. كان واضحا في ربع القرن الأخير انه كان محدود الحركة، قليل السفر، لاعتبارات عديدة اهمها الجانب الامني. فمنذ تفجير مقر قوات المارينز الامريكية والقوات الفرنسية في بيروت في 1983، اصبح الغرب مقتنعا بانه هو الذي بارك تلك العمليات، ودعمها. فبدأت الاستخبارات الامريكية تعد الخطط لاغتياله بتوجيه من الرئيس الامريكي آنذاك، رونالد ريغان. التحقيقات التي اجريت لاحقا لكشف الجهة المخططة لتلك الجريمة أكدت ضلوع الـ (سي آي آيه) فيها. ويذكر الصحافي اللبناني عمار نعمة في صحيفة 'السفير' (13/7/2008) 'ان الحاج عماد مغنية هو الذي قام بمتابعة مسؤولية التحقيق في محاولة الاغتيال التي استهدفت سماحة السيد فضل الله في بئر العبد والتي أودت بحياة العشرات من الشهداء'. ويمكن القول ان تلك الجريمة أحدثت استقطابا في العلاقة بين 'الاسلام الحركي' وفق تعبير السيد نفسه والتدخلات الامريكية في المنطقة، دعما للاحتلال الاسرائيلي. بل ربما يمكن اعتبار ذلك البداية الحقيقية لنشوء المقاومة الوطنية الاسلامية اللبنانية ضد 'اسرائيل' التي كانت قد اجتاحت لبنان في 1982 مستهدفة الوجود الفلسطيني بزعامة السيد ياسر عرفات. والملاحظ ان المواقف السياسية والفقهية للسيد فضل الله توسعت دائرتها منذ ذلك الوقت، واصبح رقما اساسيا في مشاريع ثلاثة متوازية: الصحوة الاسلامية الناهضة في العالم الاسلامي، والمقاومة ضد الاحتلال، والفقه الديني المتجدد الذي اصبحت له امتدادات في السياسة ومفاهيم المقاومة والجهاد. وتوسعت اهتمامات السيد فوسع آفاقه من مؤلف وامام جماعة وجمعة، الى مرجع روحي لقوى المقاومة. وانطلق مجددا في مسار جديد متصل بمشروع الوحدة الاسلامية والانفتاح على الآخر. وعلى مدى ربع القرن اللاحق، تحولت شخصيته الى رمز لعدد من الامور:
اولها: المشروع الوطني اللبناني اذ اصبح جهة اساسية لبلورة معالم لبنان الجديد الذي تحول الى بلد مقاوم، يبحث كافة الاساليب المتاحة للانتهاء من استحقاقات الحرب الاهلية. وحظى السيد تدريجيا باهتمام القادة اللبنانيين خصوصا انه كان يدعو لتجاوز آثار الحرب الاهلية اللبنانية وبناء الجسور بين مكونات لبنان، بكافة انتماءاتها الدينية والمذهبية والعرقية.
ثانيها: المشروع التحرري الذي تمثله قوى المقاومة في المنطقة، خصوصا لبنان وفلسطين، وهو السبب الاهم لاستهدافه من قبل القوى الغربية. ووفر له اهتمامه بهذا المحور فرصة التواصل مع رموز التحرر من قادة حركات وعلماء وكتاب واعلاميين. وكان اهتمامه بقضية فلسطين ودعم المقاومة بعدا ثابتا في شخصيته، الامر الذي وفر له احتراما بين كافة الفصائل الفلسطينية.
ثالثها: المشروع الاسلامي، وتجلياته السياسية والحركية بما في ذلك دعم الجمهورية الاسلامية والحركات الاسلامية الممتدة بطول العالم الاسلامي وعرضه.
رابعها: المشروع الوحدوي الذي وجد اصداء له بتأسيس 'تجمع العلماء المسلمين' في لبنان، والمؤتمرات التي حضر بعضها ورعى بعضها الآخر. وقد اصدر في ذلك مقالات وكتبا تؤصل قيم التقريب والحوار والوحدة، خصوصا في مجال الحوار مع الآخر كالمسيحيين.
خامسها: المشروع الانساني وهو جانب من تطور الفقه الاسلامي المعاصر. وقد تميز السيد بفتاواه التي ترعى التعدد المجتمعي فاصدر فتواه الشهيرة بطهارة غير المسلم، معتبرا ان النفس الانسانية طاهرة بذاتها، وليست نجسة. كما اهتم بالمرأة والشباب واولاهما من الاهتمام ما جعلهما يعتبرانه 'مرجعا روحيا' لهما بدون تردد او تحفظ.
سادسها المشروع الرعوي اذ نجح في تأسيس مبرات خيرية ومستشفى ضخما ومؤسسات خيرية واسلامية ومدارس ومعاهد للتعليم المهني، بالاضافة الى مشروع التعليم الديني الذي يرعاه لتخريج علماء دين قادرين على حمل مهمة البيان والتلبيغ والارشاد. هذه الامور جعلته رمزا حيويا لجماهيره الملتفة حوله، التي وجدت فيه دفء الاحتضان وحنان الأبوة.
سابعها: المشروع الفقهي الذي نجم عنه حوزة علمية واسعة تخرج العلماء والفقهاء. وربما الاهم من ذلك نزعته نحو التجديد الفقهي وتحرير الفقه من شوائب عديدة، كالرتابة والجمود وتقديس الماضي بدون قراءة ناقدة للتاريخ، والتعامل مع العلم والتكنولوجيا كعوامل مساعدة في تحديد الموضوع وتسهيل مهمة اصدار الحكم، وتنقية الدين من الموروثات والتقاليد لللتمييز بين ما هو 'إلهي مقدس' وما هو 'بشري خاضع للتدقيق والمحاكمة'.
هذا المنحى التجديدي وفر للسيد مريدين كثيرين خصوصا في فئات الشباب والنساء وفي اوساط غير المسلمين من دبلوماسيين واعلاميين. ولكنه في الوقت نفسه أسس لحصار من المؤسسة الدينية التقليدية التي عارضت منهجه في الاجتهاد والفقه، خصوصا دعوته لتنقية الدين مما علق به من موروثات غير ثابتة على اسس من الحديث او الاجتهاد او الفقه، وربما كانت انعكاسات لثقافات وعادات موروثة، وليست من الثوابت.
ودعا الى اعادة النظر في التاريخ والحديث لتنقيتهما مما علق بهما من اجتهادات بشرية. هذا المنحى كان جديدا على المؤسسة الدينية خصوصا في الدائرة الاسلامية الشيعية، الامر الذي أحدث ارباكا وصل احيانا الى مستوى التكفير والطعن في النوايا. ولوحظ غياب اي نعي للسيد محمد حسين فضل الله من المؤسسة الدينية سواء في النجف الاشرف العراقية، ام مدينة قم الايرانية.
هذا الغياب الملحوظ ربما خفف منه اللغط الدائر حول الاشخاص من غير المسلمين الذين أطلقوا تصريحات أعادت السجال حول مفاهيم كانت في عداد الثوابت خصوصا حرية التعبير التي يبدو انها دائرة تضيق عن اطراء المحسنين وذم المسيئين. والصراع هذه المرة ليس بين السيد فضل الله والغرب، بل ان وفاته أخرجت السجال من المحيط الاسلامي الخاص وأوصلته الى الدوائر الغربية نفسها. وهذا جانب من اسرار صدق الموقف والثبات على المبدأ والصمود بوجه العدوان والطغيان والاستبداد.
كان فضل الله انسانا انفصل بروحه وكيانه عن عالم الزيف والنفاق وازدواج المعايير، ليحلق في عالم القيم والنقاء والصفاء، وهذا ما لا يدركه غير العارفين، الذي كان، بدون شك، واحدا من أقطابهم.
' كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
وضعوني في اناءٍ ، ثُمَ قالوا لي ... تأقلم
وأَنا لَستُ بماءٍ ....
أنا مِن طينِ السماءِ ،
واذا ضاقَ انائي بِنُمِوي .. .. يتحطم
</I>