بلاك بيري والزوج المطيع أخبار الشبيبة

    • بلاك بيري والزوج المطيع أخبار الشبيبة

      أحمد إبراهيم

      شجرة إن اقتطعت هناك في الصين فهي تنتج الكهرباء، وإن اقتطعت هنا في لبنان فهي قد تُشغل الحروب وتقصف المحطات وتطفئ الكهرباء

      كنت واقفا في القطار الكهربائي المزدحم، أتصفح جريدة وأخفي بين صفحاتها معالم وجهي بما على الذقن من غزو البياض، والقطار كان انطلق توا نحو روتردام ليقطع مسافة 90 كيلو مترا من امستردام في هولندا، ولاح لي في إحدى صفحات الجريدة عنوان بارز أن (امرأة عربية يجلدها زوجها لأنها استخدمت بلاك بيري.!) فأخفيت الصفحة خلسة عن قرّاء لغة الضاد إن كانوا على ظهر القطار، وتفاجأت في جواري بهمسات شابين صغيرين يناقشان موضوع الزواج باللهجة الشامية، يبدو أنهما في شهر العسل، ثم وتفاجأت أكثر عندما لاحظت في يد كل منهما آخر موديل بلاك بيري.

      قررت أن "أتغدّى بهما قبل أن يتعشيا بي"، خاصة لو كانا قد لاحظا عنوانا كنت أخفيه، فاقتحمت عليهما بتحية شعبية كنت قد سمعتها في بلاد الشام: (على عافية.. من فين الشباب؟).. "ياهلا عمّي، إحنا من لبنان..!" ردّت الفتاة والشاب يوافقها رأيها بابتسامة عريضة كان يهز معها البلاك بيري نحو نافذة القطار.

      وكان عليّ استغلال فارق السن، واستعراض كامل قواي الخمسينية قبل أن يتوقف القطار بروتردام، فقلت وأنا أمسح لحيتي الخفيفة: "هل تسمحا لي يا شباب وأنتما تحملان بلاك بيري أن أفترض أن إسرائيل كانت قد وضعت جهاز بلاك بيري على تلك الشجرة التي اقتطعت أغصان منها في لبنان قبل أسابيع فاقتطعت بذريعتها رؤوس وأعناق قيادات وأفراد من الجيش اللبناني، ثم وهل نفترض افتراضا آخر (بينما هو واقع وليس افتراض) أن الموساد كان قد استخدم هذا الجهاز في دهاليز بلادي الآمنة، لتصل اليد الآثمة إلى عنق محمد المبحوح في إحدى فنادق دبي العامرة؟

      ثم وإضافة لهذا، ألا تعتقدان، وهو اعتقادٌ واقعي لا افتراضي، أن الشجرة التي انشغلنا بها أخيرا في لبنان، فاشغلتنا عن الدنيا بإسرائيل وطائراتها الغازية، قد عرفت طريقها إلى النفايات اللبنانية، وما أكثرها تلك النفايات الزراعية لبنانية وعربية، لكن وبنفس ذلك اليوم الذي كان اللبنانيون يمسحون دماء شهداء الجيش اللبناني ويتخلصون من نفايات تلك الشجرة، كان قد أعلن في الصين أنها شغلت أول محطة لتوليد الطاقة المتجددة بالنفايات الزراعية، فـأصبحت الصين قادرة منذ ليلتها -ليلة غزت فيها إسرائيل لبنان بذريعة نفايات تلك الشجرة- قادرة على تشغيل محطتها الأولى المنتجة لمائة وثمانين مليون كيلوواط كهرباء في الساعة باستهلاك 200 ألف طن من النفايات الزراعية كالوقود، وتنتج بجانب الكهرباء أيضا 100 ألف طن من الكربون دايويكسايد، و600 ألف طن من الكبريت (sulfur)، و600 طن من الأتربة الغبارية الصديقة للبيئة..! ولا أستبعد أنه في تلك الليلة ذاتها كانت ربع بيروت ونصف بغداد وكل غزة تنام بلا كهرباء إلى جوار ملايين الأطنان من النفايات والنفايات الزراعية..!

      فقالت الفتاة مندهشة: معقولة كل هذا وهي شجرة، بل ونفايات شجرة..!

      قلت: نعم يا ابنتي كل هذا وهي شجرة لكنها إن اقتطعت هناك في الصين فهي تنتج الكهرباء، وان اقتطعت في لبنان فهي قد تُشغل الحروب وتقصف المحطات وتطفئ الكهرباء.

      وبعد أن شعرتُ أني حسمت المعركة لصالحي وكسبت الشابين الصغيرين إلى جانبي بدبلوماسية، فتحتُ لهما الجريدة على الصفحة التي كنت أخفيها عنهما، وأنا أتربص لما بين أناملهما من ثالث (لعله الشيطان) قائلا: ما رأيكما بهذا الخبر عن زوجين عربيين وثالثهما (بلاك بيري) وأنتما زوجان عربيان ألا تعتقدان أن ثالثكما أيضا هو (نفس الشيطان)..!

      وتشدّقتُ مرة أخرى قبل أن يتحدثا مستغلا حداثة سنهما بسلسلة من الاستعراضات الجديدة، قائلا، عندما كنت صغيرا كانت أمي -يرحمها الله- تضع في جيوبي قبل الخروج من عتبة البيت وريقات من الآيات القرآنية والمأثورات العقائدية تقرؤها وتنفخ على وجهي وصدري، ثم تجبرني أن أضع يدي على صينية من طحين الصدقة تتركها على عتبة الباب قبل أن أضع قدماي خارجها، وتكون قد وضعت في حقائبي وجيوب ملابسي المبخّرة قطيعات من الخبز العربي الناشف المطبوخ بزيت الزيتون عليه حبيبات من السمسم النابلسي، طقوسٌ كانت تعتبرها المرحومة زادا للسفر.

      ولكنني اليوم وقبل السفر ألجأ إلى جوجل غذاء للسفر وفيس بوك عشاء بعد السفر، وها قد خاضت جوجل معركتها الشرسة مع الصين، فأنتجت الأخيرة الأخت الكبيرة الرديفة لجوجل، كما وقد تخوض معركة أخرى أشد منها شراسة مع الفيس بوك، لتسابق الأحداث من الحقول الزراعية الى الشبكة العنكبوتية فتسبقها هنا وهناك، سواء بتحويل مخلفاتها الزراعية الى طاقات متجددة، أو بتحويل صخورها الجبلية الى شفرات ناطقة تُعرّفنا بفتيان الصين وفتياتها كما تفعلان أنتما على ظهر هذا القطار عبر البلاك بيري، لكنكما رغم كونكما لبنانيان ستبقيان رهينا شركة (أر أي إم ريل موشن الكندية المنتجة لأجهزة بلاك بيري) لها ما يبررها إن زودتكما الخدمة أو قطعتها عنكما لأنها مرجعيتكما الوحيدة، بينما الصين تبقى مرجعيتها الصين ثم الصين.

      يبدو أن روميو لبنان المجاور لفتاة أحلامه لم يعد يتحمل مناوراتي على حبيبته بهذا القدر من التشدق والاستعراض، فخرج عن صمته منفعلا: اسمع يا عم، ما المشكلة في بلاك بيري كان في يدك أو في أيدينا؟ وهي عُدّة تعطينا معلومة متى وأين وكيف نريدها؟ ومتى كان الحصول على المعلومة جريمة؟ ومن له حق الحصول على المعلومة أولا؟ الوطن أو المواطن؟ وإن عجز أحدهما ونجح الآخر في الحصول عليه، فهل النجاح بحد ذاته جريمة؟ أم أنه مجرم لاحقا إن أخفاها عن من أحقّ بها؟

      وجدتُ نفسي أمام هزيمة مؤكدة إن لم أغير الموضوع.! فأسرعت إلى القول: يا عزيزي لا يهمنا بلاك بيري لأنها في النهاية شركة أكثر ما يعنيها هو حساب الأرباح والخسائر، وإن كانت على حساب شعوب وبلدان وأمنها واستقرارها، الأمن واستقرار الوطن يجب أن يهمنا كمواطنين ومسؤولين على امتداد الوطن الكبير، وأنا هنا على ظهر هذا القطار مجرد أداة تعبير وجد نفسه أمام مواطن عربي جلد زوجته بسبب هذا الجهاز، ثم وجد نفسه أمام مواطن عربي آخر يحمل نفس الجهاز، ويسمح لزوجته نفس الجهاز؟!

      فقال الفتى نعم هذه فتاتي ومحاولة التعايش معها لا تختلف عن محاولة تعايشنا معا بهذا الجهاز أو بأي جهاز آخر قد يقتحم الأسواق، إننا نخطئ إذا توهمنا أن الحب متعة بلا ثمن، إن الزواج شركة يتفق على رأسمالها الزوجان، فعليهما أن يزيدا رأس المال كلما توسعت الشركة، والشريكان ينجحان بالإيمان على مسيرة ثنائية لا تقبل القسمة إلا على اثنين: الهناء يتقاسمانه، والشقاء يتقاسمانه، كما نحن الآن نتقاسم هذا القطار فنحقق الهدف، كذلك أنا وزوجتي وهذا الجهاز نتقاسمه، يخطئ من يتوهم بأن وجود جهاز بلاك بيري قد يغيّر من إنسان، ويخطئ أكثر من يتوهم بأن سحبه قد يغيّره.


      ¨°o.O ( على كف القدر نمشي ولا ندري عن المكتوب ) O.o°¨
      ---
      أتمنى لكم إقامة طيبة في الساحة العمانية

      وأدعوكم للإستفادة بمقالات متقدمة في مجال التقنية والأمن الإلكتروني
      رابط مباشر للمقالات هنا. ومن لديه الرغبة بتعلم البرمجة بلغات مختلفة أعرض لكم بعض
      المشاريع التي برمجتها مفتوحة المصدر ومجانا للجميع من هنا. تجدون أيضا بعض البرامج المجانية التي قمت بتطويرها بذات الموقع ..
      والكثير من أسرار التقنية في عالمي الثاني
      Eagle Eye Digital Solutions