أما زال شعر أبيك أسود يا حمد؟ - جديد وليد النبهاني

    • أما زال شعر أبيك أسود يا حمد؟ - جديد وليد النبهاني

      أما زال شعر أبيك أسود يا حمد؟




      (1)


      أبي لا يملك ثمن شراء سيارة. إنه فقير. ليس مثل أبيك. شعر أبي أبيض. وشعر أبيك أسود. أنت تقول إن شعر أبي يشبه شعر جدك. لكني لم أر جدك. أنا لم أر جدي أيضًا. أنا أشعر بالحر الشديد في البيت. ولا أشعر بالحر في الصف. في الصف مكيف تبرع به أبوك. لقد قلت لي إنه يملك دكانا كبيرا يبيع فيه مكيفات كثيرة. أبي لا يملك دكاناً. يقول إنه لا يستطيع المشي كثيرا إلى مكان بعيد. تقول أمي إنني يجب أن أذاكر. أنا أصدق أمي كثيرا. وأحب المدرسة. فيها أستطيع أن أملأ غرشتي بالماء. وأن أتبرد في المكيف قبل أن أعود إلى البيت. أحب الباص كذلك لأني أستطيع أن أرى الشارع فيه. لم أر الشارع حين ركبت سيارة جارنا. كان بطني يؤلمني فخبأتني أمي في حضنها وهي تمسك الألم من كل أنحاء جسمي. حين تعافيت سألت أبي لماذا لا تشتري سيارة؟ نظر إلي طويلا حتى استطعتُ أن أرى صورتي في عينيه. في اليوم التالي جاء لي بموتر. لم أفرح كثيرا. أبي يكذب أحيانا. إنه يستطيع المشي. عمي سعود العرج لا يبيع في دكانه المواتر. ولا بد أن أبي قد ذهب إلى دكان بعيد حتى يشتري لي الموتر. عمي سعود العرج يبيع الأسكريم والمينو. لن آكل من المينو الذي يعطيه لي. تقول أمي إن المينو يجلب الدود في البطن. مع ذلك كثيرا ما أذهب إلى دكان عمي سعود العرج. وكثيرا ما أكلت المينو من دكانه لكن الدود لم يمشي في بطني إلا في تلك المرة. ربما كانت أمي تكذب أيضا مثل أبي. لا بد أن يكون لدينا سيارة. لا أريد الموتر. سوف أبيعه في المدرسة. ولن آكل المينو بعد اليوم في البيت. سوف أدسه في مخباتي وآكله في الفسحة. لن أشتري السنتوب والكوفي والبطاطس في الفسحة. سأوفر فلوس المدرسة لأشتري بها سيارة لأبي. وفي رمضان سأصوم. لن أكون كلب الرمضان بعد الآن كما يسميني أبي. ولن أخبر أمي بأني صائم. لقد قال لي أبي بأني حين أبدأ في الصيام سأريحه من عناء دفع فلوس المدرسة في رمضان. إن جعت سأذهب إلى سدرة الوادي وآكل من نبقها. وسأفطر في المسجد. أعرف أن الكبار لن يجعلوني أفطر معهم. يظنونني مثل أبي كلب الرمضان. سأغنم لهم القهوة. وحين يذهبون للصلاة سأفطر من بقاياهم. علي قبل ذلك أن أدس قوطي لبن كي أفطر به.

      (2)


      كم أكره هذه المدرسة! إنها مليئة بالحر في الصيف وبالبرد في الشتاء. لولا انتقالك مع أسرتك إلى قرية أخرى لتبرع أبوك بالمكيفات في هذه المدرسة. كم أكره البيكاب أيضًا! إنها تملؤنا بالغبار الشديد حين نركبها في طريقنا إلى المدرسة. لماذا بنوا هذه المدرسة بعيدًا عن بيتنا؟ لماذا فضلوا أن يبنوها عند المقبرة؟ إن هذه المدرسة سيئة. يقولون إن الجن يسكن الحمامات. لذلك فهي مظلمة دائما. لم أعد أحمل معي غرشة الماء. إنهم يضعون الثلاجات أمام مبنى تلك الحمامات المخيفة. لو كان لأبي سيارة لحملني إلى مدرستكم دون أن أحتاج إلى ركوب البيكاب المغبرة. إن الشيء الوحيد الذي يصبرني على البقاء في هذه المدرسة هي صفية. أحبها كثيرا. لو رأيتَها لأحببتَها أنت أيضاً. مع جمالها فإنها فاشلة في الدراسة. لماذا تصف أمي صفية بأنها بنت سيئة؟ هل لأنها جميلة أم لأنها فاشلة؟ كم يحيرني هذا الأمر! أسماء بنت ذكية لكنها ليست جميلة. لماذا لا تصفها أمي أيضا بأنها سيئة؟ أمي نفسها جميلة لكنها ليست سيئة. إنها تغسل لي ثيابي المتوسخة من أثر البيكاب في الفلج. تغسلها جيدا حتى لكأنها صارت أشد بياضا من لحية أبي. هل السبب في الصابون الذي يبيعه عمي سعود العرج؟ لم يعد عمي سعود يعطيني المينو والأسكريم كما كان يفعل سابقاً. إنه يعطيني الصابون ولا يسجل في دفتره حساب الصابون كما يفعل مع الكثيرين. لا بد أن أبي يستطيع المشي ليدفع ثمن الصابون. لا بد أن أمي تكره صفية لأنها تظن أنها ستشغلني عن الدراسة. ما زلت متفوقا كما كنت. لعلك تذكر في المدرسة السابقة حين رأيتَ أستاذ مصطفى يدخل في نفس الحمام الذي دخلت فيه أبلة كريمة. وعندما خرج منه كان ضرسه الذهبي قد سقط. لماذا أخذت الأبلة ضرس الأستاذ؟ هل ستصنع منه خاتما ذهبيا؟ أنا أيضا أريد أن أدخل في نفس الحمام الذي تدخله صفية. لولا ما يقال عن الجنية التي تسكن الحمامات لدخلتُ معها. ليس لدي ضرس ذهبي. وصفية بالتأكيد لا تريد خاتما ذهبيا تصنعه من ضرسي. لكن ماذا لو رأتنا أسماء؟

      (3)


      مات سعود العرج. مات كمدا على (بابوه) الذي سرق دكانه. منذ أن جاء سعود العرج ببابوه من الهند والدكان في حالة جيدة. على الأقل بابوه لا يصبّر الناس كما كان يفعل سعود العرج. ارتاح سعود العرج من إرهاق البيع في دكانه وانشغل بشيخوخته يلعب الحواليس مع الشياب ويرزف معهم. استطاع بابوه أن يجمع أموالا طائلة من عمله في ذلك الدكان الصغير. حتى إنه كان يبيع الخمور فيه. وليس كما كان يفعل سعود العرج الذي كان يموّل السكارى بالكولونيا. أمي تذهب إلى سوق مطرح تشتري منه الأقمشة وتبيعها للحريم بالتجزئة. بعد إصابته بالسكري صار أبي عبئا عليها. إننا ننتظر موته في أية لحظة. بعد أن فشلتُ في إنهاء الثانوية بتفوق ازداد قلقي على مصيرنا. لن أشتري سيارة. لم يفعلها أبي قبلي لضعفه وربما لفقره. ما زلت أحتفظ بالموتر الذي اشتراه لي من دكان سعود العرج يوم أن طلبت منه أن يشتري لنا سيارة. رحلات أمي إلى مطرح صارت كثيرة. إنها تنفق معاش الضمان على أتعاب التاكسي وشراء تلك الأقمشة. لم يعد لدينا ما يؤكل. أصوم اضطرارا في أكثر الأوقات. جل ما أخشاه أن أبيع مؤخرتي كما فعلها آخرون في نهاية الأمر. يقولون إن البنات في مسقط يعطين أفخاذهن للمزارعين الهنود. أليس كذلك؟ وأنا هنا حين أجد عملا ما في مزرعة أحدهم لم ترمق إلي بنت بنظرةِ شفقة. صفية تزوجت ذلك الأسمر الذي كان يخدم أباها. لولا جنية الحمام لأعطتني فخذها بدلا من ذلك الأسمر. يقولون إن أسماء صارت مديرة كبيرة وربما ستصبح وزيرة قريبا. لولا قبحها لأعطيتها شفتيَّ وقبلتها بنهم. لقد بدأ الشعر الأبيض يملأ رأسي دون أن أفعل شيئاً. انظر إلى رأسي جيداً. تأمله كبنت تتمرأى. العمر يمضي ويأكلني كما يفعل المتق بالنخيل. انظر إلى شعري واحكم بنفسك. لا أرى بياضاً في رأسك. لا بد أن مكيفات أبيك الكثيرة تجعلك مرتاحاً بلا هم يشيب رأسك. أحقاً أبوك صار جَـدّاً؟ إذن تزوجتَ أيها الملعون! لماذا لم تقل لي من قبل؟ هيّا اخلع كمتك لأرى أثر الشيب في رأسك أنت أيضاً. لا لا تفعلها. إني أمازحك وحسب. ضع كمتك على رأسك وقل لي: أما زال شعر أبيك أسود ياحمد؟



      وليد النبهاني





      المصدر : مدونة وليد النبهاني