تقاتلُ الأخيار/
سرد عن تنافس الأنماط الإصلاحية في عُمان
أهلا بكم يا أصدقاء، أتمنى فعلاً أنَّكم بخير، ومن المؤكَّد أن الطقسَ في طريقِه للتحسن، مما سيجعل نفوسكم في هذه الأيَّام أكثر سعةً، ومما يجعلُ أيامَكم أكثر اتساعاً، وربما رغمَ زحام الطريق وأنتم ذاهبون لأعمالِكم كلَّ صباح لن ينال من مزاجِكم الطيِّب، ففي نهايةِ المَطاف لعُمان صيفٌ حارٌ للغاية وشتاء صيفي لطيف.
&&&
وددتُ اليوم أن أشارككم هذا التفكير بخطٍّ مقروء، تفكيرٌ عن عُمان بالدرجة الأولى وما تؤول إليه الأمور في هذه البلاد الصغيرة، المحتشدة بآلاف الأشياء المتداخلة. ينبغي أن نحددَ بدايةً شيئا مهما وجوهرياً للغاية، وقبل الدخول في الحديث عن الكتابة، وعن الأنماط الإصلاحية وعن الرؤى التي ينطلق منها الإصلاحيون في عُمان فإنَّ علينا بدايةً أن نتفق اتفاقاً عريضاً للغاية، وهو أننا لسنا بخير كما نتمنى، وأنَّ طموحَنا الوطني أعلى من الذي يحدث، وأن عقولَنا تقولُ لنا أن بعض جوانب القصور، وبعض جوانب الخطأ تاريخية، وزمانية، أو أزلية أو متأثرة بما لا يمكنُ لنا أن نتدخلَ فيه مُباشرةً، مؤثرات مثل الدين، ثقافة المجتمع، الوضع السياسي العالمي، طريقة تداول السلطة، وإلى آخره من المؤثرات التي تدخل في تكوين وفي تنظيم أية دولة في العالم.
&&&
ها نحن في القرن الحادي والعشرين، في السنة العاشرة بعد الألفين ميلاديةً. في بلادٍ اسمُها سلطنة عُمان يحكمها سلطان اسمه السلطان قابوس. بعدَ أربعينَ عاماً من التنمية ظهرت مجموعةٌ من الأخطاءِ التي يريد المجتمع تجاوزَها، أو بعض الأخطاء التي يريد المجتمع الإبقاء عليها. ظهرت كذلك فئات أو أقليات صغيرة من المجتمع تتشاطرَ رؤيةً محددة، ولديها رغبة داخلية عَميقة في فعلِ شيء من أجل ما يمكن أن أطلقَ عليه [الخير العام] وفي خضم هذه الرغبات، وعندما ندخل للتفاصيل سيحدث الاختلاف في هذه المُقاربات الإصلاحية حالات خلاف وتنافس، قد تبدو للمفكر الذي يريد فهمَ كلِّ شيء أمرً طبيعياً، أما بالنسبة لهذا الذي يودُّ أن يكون عاملاً من عوامل التغيير، والذهاب للخير الأعمِّ فإنَّ البقاء ومُشاهدة ما يحدث من بعيد والاكتفاء بتسجيل ملاحظات في دفترٍ صغير [من أجل التاريخ]، إن هذا الفعل يعتبر ــ أو على الأقل أعتبره أنا ــ ضرباً من ضروب السلبية والإحجام، ولا تقلُّ المساءلة أمام الأخلاق والتاريخ فداحةً بشأنِه عن ذلك الذي كان يمارس السوء العلنيَّ، كالفساد أو الخداع، أو إماهة القضايا الشخصية في القضايا العامَّة، كحالةِ وزيرٍ فاسدٍ مثلا، فمحاكمته أمام التاريخ أو الرأي العام أو القضاء ستكون هي الحدث المحوري الذي ينال الذكر والانتشار، ولكنَّ في الداخل ثمة قملات صغيرة هي التي كانت تيسِّر لمثل هؤلاء العملَ، وهي التي كانت تمدهم بالتغطية، وهي التي كانت تمارس سوءا أكثر بشاعةً ربما من السوء المُباشر، والأمثلةُ في ذلكَ كثيرةٌ سواء في التاريخ العام، أو في تاريخِ عُمان.
&&&
حسناً ماذا أصبحَ لدينا هُنا، أصبحت لدينا مجموعة من المنظومات الصغيرة التي تتفاعل داخل المنظومة الكَبيرة، وفي حالةِ عُمان أصبحت لدينا منظومة مؤسسية اسمها [الحكومة] وتتفاعل داخلها منظومات أخرى مثل [المنظومة الدينية ــ المنظومة القبلية ــ المنظومة الحاكمة] ومؤخرا لسنواتٍ بسيطة فقط أصبحت منظومة مؤسسات المجتمع المَدني هي المُشارك الأخير في هذا الجهد، ولسبب ما يبدو لي غامضاً اقترنت منظومة العَمل المدني حتى هذه اللحظة بالمنظومة الثقافية في عُمان، طبعا هذا في الجمعيات التي تحمل الطابع الثقافي، أو تلكَ التي يكون مكونها الرئيسي المثقفون العمانيون. فأصبحَ بذلك لدينا
1. العَمل العام، وتديرُ الحكومة نسبة مئوية كبيرة للغاية منه، وتساهم الحكومة في تنظيمه وصنع قراراته وتحييد بعض أنماطِه، بل ومكافحة بعض أنواعِه.
2. العَمل الفردي الخاص: وهي المشاريع الإنسانية، وقد يكون أيا منا مشروعاً فردياً غير مرتبطٍ بأيةِ أجندة تتبع [1 أو 3] كحال مثلا الطبيب الذي يعتبرُ دراسته مشروعه الفردي، ومن المؤكد أنَّه يتأثر بالعمل العام وقرارات العامل العام، مثلا قرارات وزير الصحة، ولكنَّه رغمَ ذلك يؤدي واجبَه بإخلاص ويشعر بالرضى عن نفسه مما يجعله غير متدخل في نقد سياسيات الوزارة، أو في قراءة ما يحدث في محيطه الصغير، كحال الموظف الساكت والذي ما إن أعطيَ عملا أنجزَه وعاد إلى لعب الورقة على شاشة الجهاز، هؤلاء الذين يروق لي أن أنعتهم باسم [مالئي الفراغات].
3. العَمل القائم على تجويد العَمل العام، وهي العَملية النقدية التي تحدث في أية دولة، وغالباً ما يكون ذلك بسبب نخبة من المتأثرين بالعَمل العام، ويريدون تغيير ما يحدث لأسباب [فكرية ــ شخصية ــ أيدلوجية ــ سياسية] وهُنا تتعدد الأسباب والدوافع والمُنطلقات، ولكن بشكلٍ عامٍّ هؤلاء هم الذين يمثلون مثلا في الدولة الأجهزة الأمنية، والشرطة، والرقابة المالية، والذين يمثلون في المجتمع النشطاء، أو المعارضين، أو أصحاب الرؤية السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية المختلفة، ولا أعني بالثقافية هُنا ثقافة القص والشعر، وإنما الثقافية كثقافة عيش ومأكل ومشرب ولغة وعادات وتقاليد، فهؤلاء الفريق الأخير الذي حتَّمت سيرورة الدولة العُمانية ظهورَهم، وحتَّمت صيرورة الأشياء تفرق أنماطهم، واختلاف غاياتهم.
&&&
لا أريد أن أقعَ في فخِّ التعميم الأحمق، فأقول أنَّ الذي يحدثُ في عُمان هو شرٌّ مطلقٌ وأن الحالة الحكومية والاجتماعية العُمانية تسير بنا إلى الهاوية، كما لا أريد أن أقع في فخ التطبيل الأعمى وأقول أن النهضة العُمانية وصلت إلى الحدود التي تتلاءمُ مع طموحِنا الوطنيِّ. كأي إنسانٍ طموح في هذه الأرض فإنَّ أحلامَ التنمية تتجاوزُ تماماً الذي يحاولُ القائمون على إدارة التعبير عن الشأن العام تلقيمَه للبشر، من حقنا أن نحلمَ بعُمان كبيرة، شاسعة الأطراف، ممتدة، بها خط قطار، ومترو، وبها نقل بحريٌّ وبها استثمارات أجنبية مفتوحة، وبها وضع قانوني يكفل الحرية والعدالة للجميع، وبها حكومة مفصولة السلطات تفعِّل دور الرقابةِ فيها، كما من حقنا كمواطنين أن نحلمَ بدولةَ مدنية متكاملة، وبعملٍ عام لا فساد فيه، أو على الأقل لا فساد يذهب بدون عِقاب فلا بد من وجود الفساد ضمن منظومة الخير والشرِّ الموجودة في العَالم. أحلامُنا كعُمانيين وطموحُنا يتجاوزُ خطة عُمان [20/20] يتجاوزُ الرؤى الفردية لمجموعة من الوزراء العُمانيين الماسكين على رقابِ الوضع الحاليِّ، والراغبين تَماماً في إبقاء الوضع كما هو عليه، تتجاوزُ الشعور بالرضى عن الوضع الحالي، وتتمنى وجودَ دولة متكاملة قوية، مسلحة عسكرياً بما يكفل حمايةَ منجزاتها، ومسلحة ثقافيا بما يكفل لثقافة المجتمع الاستمرار والذهاب للأمام من أجل تسويق المشروع العُماني الكَبير عالمياً، المشروع الذي نحلمُ به أن تكون هذه البلاد مستقلةً اقتصادياً وبيئيا، مستغلة استغلالا يصب في مصلحة العُمانيين، موزعةً بالقسطاس المستقيم بين قطاع خاص وعامٍ، مهيأة للمشاركة العامَّة، ومفعلةَ الجهات المعنية بالتشريع ومفصولةً من حيث القضاء، بلادٌ وإن يكن حاكمها سلطانٌ فليس من الضروري أن تكون بلاد الفرد الواحد أو المشهد الواحد، ولكن بلاد متعددة تقبل بالثقافات جَميعاً، وترفض التشدد والغلو، وترفض الرؤى العنصرية، وترفضُ التدخل في شؤون الآخرين، كما ترفض أن يتدخل أحدٌ في شؤونِها من أجل مصالحه الاقتصادية أو السياسية، أحلامُنا التي تخصُّ عُمان كبيرةٌ مثل انتمائنا لها، وفي اللحظةِ التي يقررُ أحدُنا فيها أن هذا الحلم غير مشروع، حينَها يمكننا أن نتحولَ إلى كائناتٍ شرسة للغاية وندافع عن حقنا في الطموح، وعن حقنا في بذل الجهد والوقت من أجل الوصول إليه.
&&&
تزخر هذه البلاد بثرواتٍ هائلة، ودعوا عنكم الثروة النفطية، ثمَّة ثروات غير منتبه إليها مثل ثروة وجود مجتمع حقيقي متأسس تاريخياً بشكلٍ جيِّد، وكذلك وجود انتماء حقيقي للأرض العُمانية من قبل الذين يعيشون في هذه الأرض، وثروة مثل الجلد والصبر الذي تمتاز به الشخصية العُمانية، والقدرة على العيش في أصعب الظروف.
والحقُّ يقال فقد كانت هذه الطبيعة النمطية العُمانية عاملاً مُساعدا بشدة في تأسيس الدولة العُمانية الحديثة، فعلى الرغم من المشكلات التي واجهتها الدولة في بداية العهد، كالحرب على الشيوعية في ظفار، أو تصفية بقايا الوجود الإمامي في الداخلية، ولاحقاً تصفية بقايا العَمل السياسي القومي أو اليساري المدعوم من قبل مفكري الداخل، أو المؤيد من قبل الخارج، استطاعت الدولة العُمانية باستخدام وسائلها، وباللجوء إلى أصدقائها من تثبيت حكم السلطان قابوس، ومن البدء في التنمية من السنوات الأولى لعهد جلالته. تمَّ خلال هذه السنوات عملٌ رائع للغاية من المجحف ألا يتمَّ ذكرُه في سياقِه التاريخي كعمل تنموي، وخلال السنوات وقعت الحكومة العُمانية في مجموعة من المآزق والأخطاء، بعضها تسبب بها ميلُها لكفة دون أخرى، والبعض الآخر سببه تاريخي حتى النخاع ولا علاقة للبلاد فيه سوى أنها وقعت في تبعاتِه، أحداث مثل الحرب في المنطقة، أو التدخل الأمريكي، أو الحالة العربية البائسة. معَ ذلك مشت البلاد بخطواتٍ وئيدة لتثبتَ للعالم أجمع أن الرسالة الرئيسية لها هي رسالة السلام، والإنسانية، ومع أنني ــ كما قلتُ لكم ــ لا أستطيع أن أجزمَ إن كانَ المأمول قد وُصلَ إليها، إلا أن طموحَنا كمواطنين دائما أكبر من الذي تحقق، وكعُمانيين من حقنا الشرعي أن نأملَ أكثر، وأن نحلمَ بالمزيد، لا من أجل مصالحِنا الفردية، نعم الهامش الفردي موجود، فالذي يعيش في دولة غنية يصبح هو نفسه غني جزئيا، والذي يعيش في دولة غير فاسدة يصبح هو تلقائيا ناجياً من الفساد، فالأمور نسبية في هذا المجال، ولكن في سياق الكتابة، أو في سياق العمل الاجتماعي العام فإن النسبة الفردية يجب أن تتضاءل أمام المشروع العام، أي يجب ألّا يكون مشروعك الخاص أو ألا تكون لمشروعك الخاص النسبة المئوية الأكبر من عَملك، فإن كانت النسبة المئوية من عملك تميل إلى مصلحتك الخاصَّة فابشر تَماما بالوقوع في ما وقع فيه الأولون، وأبشر تَماما بأن تصبح وصمة عارٍ أخرى في مجتمعك كحال مجموعةٍ من المتسلقين الذي نجحت الدولة عبر السنوات بالتخلص من بعضهم، والمتسلقون هُنا ليسوا جَميعا ــ كما قد يفهم البعض ــ متسلقين لأهداف مثل الربح المادي، ولكنَّ بعضهم يلتصق بالدولة من أجل أيدلوجيا يؤمن بها ويريدُ للبلاد كاملة أن تخضع لها ولرؤاها كحال الجماعات الدينية في عُمان، أو من يلتصق بالدولة لأهدافٍ قبليةٍ يريد بها أن يصنع مجداً لقبيلتِه دون القبائل الأخرى، وأن يصنع تاريخا سياسيا لها من الصفر بالاعتماد على قوة الدولة وثرائها، وآخرٌ سيريد أن يلتصق بالدولة لمدِّ السيطرة الاقتصادية ضمن عائلة اقتصادية محددة، أو آخر يأخذ الأمر من منظوره المذهبي، ولكم أن تعرفوا ما أقصده وربما تعرفون الأسماء التي لن أذكرها في هذا المقال، ولكنها كتبت ونوقشت ودرست وقام أكاديميون غربيون بدراستِها، وعلى الرغم من أن تلك الدراسات خاضعة تَماما للنقد الحقائقي وقابلة للخطأ إلا أن الأمور نسبيةً كما قلت لكم، ولذلك من المنطقي أن تحمل نسبة من الصواب كما تحملُ نسبة من الخطأ.
&&&
نسبة التخلي عن القيمة الفردية:
تحدثت سابقاً عن هذا الموضوع، وربما لم أتمكن حينَها من استخدام المجازات الملائمة لإيصال هذه الفكرة. الفرد أينما كان وأيَّا من كان له قيمته الفردية التي ينطلقُ منها ويتفاعل مع العالم بها. والقيمة الفردية قد تكون مجزأة إلى مجموعة من القيم المختلفة، مثلا أن تكون أكاديميا فتلك قيمة فردية، ولكن أن تكون أكاديميا وشيخ قبيلة فتلك قيمة فردية مضاعفة بنظرة المجتمع، ولكن أن تكون مثلا [خادماً] وأكاديميا تحمل درجة الدكتوراة فمن الطبيعي أن تتجه إلى تأكيد قيمتك عبر عملِك الأكاديمي، وتتجاهل القيمة الفردية الاجتماعية القَبلية لأنَّك لا تملكُها. لا أتحدث في سياق عنصري هُنا، ولكن القيمة الفردية في عُمان تعيش أبشع مآزقها في هذا العهد الحكومة بعدما اختلَّت الصفات المدنية التي أسستها الدولة منذ بدايتها. القيمة الفردية التاريخية تكمن مثلا في إنجازات أجدادِك، وفي ماضيك التليد، ولذلك ترى كثيرين في عُمان ينطلقون منها، فالعدالة الاجتماعية في منظورِهم هي العدالة التي تعطيهم ما يستحقون، وهم يرون أنهم يستحقون الكثير لأن ماضيهم يحفل بمن أعطى البلاد الكثير، فهم يطلبون [بكل بساطة وأسف] المقابل من التاريخ، وإن كان جدُّك في سنةٍ من السنوات محارباً فسيأتي هذا الذي من أحفادِه لكي يحاول الاستفادة من هذا التاريخ، والدولة العُمانية في هذا الجانب تتفاعلُ معه بطريقة الإسكات والعطاء، والولاء بالعطاء ليست مقاربة حكومية حديثة، ولكنها قديمة قدمَ ا لتاريخ.
حسبما يمكنني أن أقولَ، تعيش القيمة الفردية في عُمان مآزق عديدة، ربما سببها الرئيسية نشوء ثقافة مجتمعية جامدة، وكذلك محاربة أنماط النقد، العَمل الذي انتهجته الدولة لأسباب سياسية في البدء بهدف تثبيت النظام الحاكم، ومن ثمَّ مارسَته مجموعة من الشخوص الحكومية بغرض نيل الرضى الاجتماعي. يمكنني أن أقول أن آخر ثغر لهؤلاء، أعداء النقد والحرية كان الفعلة الشنعاء التي قامَ بها الادعاء العام والتي تمثلت باستدعاء الصحفيين وتوقيعهم على تعهدات بعدم الإساءة لرموز الوطن، فالقانون يقول لنا أن في الوطن [رمز واحد] محمي قانونا واجتماعيا، وكما ينص النظام الأساسي للدولة فالسلطان هو رمز الوحدة الوطنية واحترمُه واجب وأمرُه مُطاع. حسناً يبدو أن الدولة راجع حساباتِها منذ تلك الفترة، وتدخلَ جلالة السلطان في الأمر وتم إيقاف المهزلة قبل أن تستشتري.
عليَّ أن أقرَّ في هذا السياق أن الحرية التي ننعمُ بها اليوم في الإنترنت ما كانت إلا نتيجة جهودٍ حثيثة وسعي متواصلٍ وتضحياتٍ متصلة قامَ بها مجموعة كبيرة من البشر الذين استخدموا الكتابة لإيصال رؤاهم للناس، هؤلاء الذين ربما يجب علينا أن ننصفهم إن درس واقع حرية التعبير في عُمان، وهؤلاء هم الذين مهدوا الطريق من استدعاءات الكتاب وتوقيعهم على التعهدات إلى العالم الجديد الذي أصبح فيه الصوت الناقد حقيقةً واقعة يُتعاملُ معها في سياقِها، ألا وهو سياق [الرأي الآخر] الذي أطلقَ جلالة السلطان كلمته الشهيرة في جامعة السلطان قابوس عنه، وأنه لا مجال لمصادرة الفكر، حسناً يبدو لي أن لتلك المقولة دوراً كبيراً في تصعيد العَمل الكتابي الناقد، وفي تكوِّن وتبلور هذه الرؤى، واتخاذ البعض أنماطا إصلاحية تهدف أولا وأخيرا إلى الخير العام. بالطبع لا يمكن أن أطلقَ هذا الكلام على مصراعيه، فأيضاً يوجد هؤلاء الذين ركبوا الموجة من أجل حُسن الذكر، أو من أجل تغطية مشاكلهم الشخصية، أو من أجل الوصول إلى حالة من الشعبية تسمح لهم بالتفاوض مع الدولة من باب [تفاوض القوي مع القوي] أو هؤلاء الذين استنسخوا أنماطا موجودة في مصر والعراق والمغرب ومارسوها بعدما اقتلعوها من جذورِها مع عدم وجود التناسب المنطقي بين رؤيتهم الإصلاحية، وبين الواقع في عُمان، على أية حال هذا مجال خصب لمن يريد دراسة رسالة ماجستير عن تطور حرية التعبير في عُمان، وله أن يتتبع كيف كانت وكيف أصبحت، وكيف انتقلت عُمان الحديثة [مبشرة بولادة عُمان الجديدة] من ثقافة الجواني وثقافة التهديد والنفي الوظيفي إلى تقبِّل حقيقة وجود هؤلاء [وابتلاعِها] بالغصب، بالطبع ثمة عدد كبير من هؤلاء تمَّ إخراسُهم بالعطاء، والحقُّ يقال فإن بعضهم كان يسعى لذلك سعياً حثيثاً ويعتقدُ أنَّ إثارة الفوضى واللغط حولَه ستمهد لاحقا لعملية الشراء، العَملية التي يقومُ بها عادةً جماعة من اللوبى الاقتصادي المتنفذ، أو مجموعة من الصحفيين المستفيدين جدا من الوزراء، وفرقوا هُنا بين الاستفادة من الوزراء والاستفادة من السلطان مُباشرة، جلالة السلطان يكرم البعض لأنه يعتقد أنهم أحسنوا، وهذا الإكرام يحمل صفة قانونية كونَ تصرفات السلطان غير خاضعة للرقابة الإدارة والمالية، ولكن الوزراء لهم طريقة أخرى في تقريب البعض، سبائك الذهب، والتذاكر المجانية، وتصاريح مختلفة تقدمها الوزارات المختصة، فضلاً عن وجود تدخلات فنية في بعض شؤونِهم الخاصَّة. الأمر الذي يمكننا تماما أن نعتبرها [فساداً] بالمفتشر. عموماً مثل هؤلاء موجودون عالمياً منذ الأزل، وهذا النوع من البشر [ليس محيراً] إنَّه يحتاجُ إلى ثمنٍ لمبادئه والبعض مستعد لدفع هذا الثمن له، الميزة في الأمر أن هؤلاء لا يمكن احترامهم وبالتالي أي جهد يقومون به باسم الإصلاح سيكون جهدا خالياً من القيمة وبالتالي غير مؤثر إطلاقاً.
&&&
نأتي إلى مسألة القيمة من الناحية الإصلاحية. حتى هذه اللحظة يعتبر البعضُ العَمل الاجتماعي الإصلاحية مانحاً للقيمة، ويطالبُ كلَّا من المجتمع والحكومة الاعتراف بقيمة هذا العَمل. بالطبع يجب أن نكون منصفين فلا مجال للأنانية البشرية أن تكون صفراً في هذا المجال، البعض يركب هذه الموجة انقيادا أعمى، والبعض يركبها لأنَّ لديه أهداف واضحة في الشأن العام، والبعض يمارسها لأنَّ لديه حزمة من الأفكار يريدُها أن تكون مقبولة وممارسة، ولا يريد لها أن تبقى خفية ومسكوتاً عنها، والبعض يريد أن يسجل نجاحا للتاريخ وإنجازاً للوطن، والبعض يريد أن يسجل نجاحا لنفسه وإنجازا للوطن، والبعض يريد النقود، والبعض يريد النفوذ، والذي لديه القوة يبحث عن المال، والذي لديه المال يبحث عن القوة، تعددت الأسباب والنتيجة واحدة، ثمة فعل إصلاحي عام، ولكن من المنطقي أن نقول أنه ليس دائما [نبيلاً، ومُنكراً لذاتِه] بل ربما الرغبة نفسها في العَمل الإصلاحي كانت لسبب تجربة شخصية، أو من باب [المجتمع الذي لا يغيرك، حاول تغييره]، وهُنا سندخل في عالم نفسية الإنسان الشاسع والذي يصعب حصره صعوبةً بالغة.
&&&
أقوى الأنماط الموجودة في عُمان، أنماط الحكومة وسياقِها المفاهيمي، ومن المؤسف أنَّ بعض المنتمين إليها يمارسون بشاعةً ليس لها نظير في التصدي للرأي الآخر، فمنذ فترة ليست بالقصيرة ومجموعة الإصلاحيين في أيِّ وزارة يتعرضونَ لأبشع أنواع التمييز الوظيفي، ويُهانون ويساء إليهم، بل وربما يُكاد لهم، وهؤلاء الذين يستجيبون للنمط العام، والذين يأخذون الأمور بطريقة [الوزير قرار السلطان، ولا نقاش في قرارات السلطان] ويعتقدون أن قرار الوزير مشابه لقرار السلطان، هؤلاء هم الذين يفسح لهم المجال وهم الذي يتولون إدارة الشؤون العامَّة في الظلِّ، وهم المورِّد الحقيقي للقمل الذي يلتصق بالفاسدين، وهم الذين يمررون رسائلهم المنتمية لكل شيء قبل أن تنتمي للوطن.
&&&
دائماً المُراهنة في العالم أجمع تكون بالاعتماد على الكتابة. أعني هؤلاء الذين يسطرون رؤاهم الإصلاحية ويخاطبون بها الرأي العام، وهؤلاء الذين يتمكنون من الحفاظ على قيمتهم الحقيقية، المتمثلة في فعلهم الصالح، وفي معرفتهم هم الذين يتمكنون من بث الرسائل الإصلاحية. في عُمان أكثر المنظومات ترتيبا وتنظيماً هي المنظومة الدينية، ومع المآخذ الشديد عليها، ولا سيما تصالحها مع العنصرية التي يتعامل بها المجتمع العُماني مع السود، فإنَّ المنظومة الدينية استطاعت بزواجِها الكاثوليكي مع السلطة أن تمرر رسائلها وتحافظ على استمراريتها، وبالطبع الدولة لم تكن غبية عندما اعتمدت عليهم ولا سيما في تلك البدايات التي كان التيار القومي، واليسار العالمي في أوجِّه، ولذلك تم التواضع بين الطرفين، تصمت المؤسسة الدينية عن أخطاء الجهاز الحكومي، ويمنح الجهاز الحكومي المال والحال والقوة لهؤلاء من أجل الوصول للمجتمع، بالطبع حتى أسفر ذلك عن التنظيم الشهير، والذي قامت فيه الدولة بإيقاف استشراء التدين الإباضي الممنهج حتى لا يتحول كل العُمانيين إلى أعداء للطحان، أو إلى مشاريع لحية وعمامة ونسيان للحياة الدنيا، فالدعوة الدينية كانت في خضم قوتها لا تقل إقصائية وقمعية مع من يخالفها، ويمكننا أن ندخل في جدل شديد هُنا، ولكن لا جدال مع من يرى نفسه متحدثا باسم الحقيقة، ولا يمكنُ أن يبرر تصرفاته إلا أنَّها من أجل الحقيقة، وسيرفض الاعتراف أنَّه كان أداةً بيد الدولة لحاجة سياسيةٍ قابلة للانتهاء ذات يوم. ربما الأمر ليس كذلك، ولكن هذا ما تقوله الصورة الكبيرة.
من الجانب الآخر بدأ المجتمع بإفرازِ مجموعة من البشر، وهذه ضرورة اجتماعية أن يظهر من الناس من ينادي بحقوق القبائل مثلاً، فالقبلية مفيدة بالنسبة له، وليس كما كان في السابق كان شيخ القبيلة يعاني من ضرورة وفائه لحاجات الناس واعتنائه بهم، وبدأ من ينادي بمدنية الدولة، ومن ينادي بضرورة تطبيق ومراجعة القانون، وبدأ من يمرر رسائل نقدية شديدة اللهجة للحكومة، الأمر الذي لم نعتد عليه مع شيوع ثقافة التعبد بالمنجزات وتأليه الشخوص.
&&&
إنَّ أي إنسان له علاقة مباشرة أو غير مباشرة مع أي جهد إصلاحي في هذه البلاد يجب أن يسلح نفسه بقدر كبير من الإيجابية، لأنَّ الحالة المتأزمة التي تصيب الجَميع تنعكس عليهم من واحدية السلوك الممارس عليهم وإقصائيته، فمثلما لا ترى الدينيين يقفون في صفِّ الليبراليين، كذلك الليبراليون [عدا هؤلاء الذين يأخذون بمنطلق عدو عدوي صديقي] لا يفعلون ذلك.
المؤسف فعلاً أن هذا النتاج من الرغبات الإصلاحية، والذي يعكس سخط المجتمع الشديد بما يحدث، وكذلك عجز الدولة عن الوفاء بمتطلبات العيش الكريم للمواطنين، وكذلك غياب الرؤية الواضحة لما سيحدث، والاكتفاء بالغناء والتغني بالمنجز ليل نهار، من المؤسف أنَّ هذه الرغبات وهؤلاء الأشخاص أصبحوا يتنافسون مع بعضهم البعض. فالذي ينطلق من مقاربتِه الإصلاحية من مسألة شرعية السلطان، سيرفض الإصلاحي الذي يؤمن بحكم آل سعيد، بالنسبة لهذا الذي ينطلق من النظرية الديمقراطية الغربية فسوف [يحترق] فعلاً هذا الذي يقرُّ صراحةً، أنه مع حكم آل سعيد لعُمان. وهذا المشحون بالرغبة في أن تتحول عُمان لدولة ملكية دستورية، يتفرعنُ على من؟ يتفرعنُ على من هم مثله والذين لم تصل بهم أفكارهم لهذه المقاربة، فتراه عوضاً عن الإنصات المشترك إلى ما فيه الخير العام، يمارسُ إلغاءً تامَّا للآخر، ويمارسُ أمراضَه العامَّة والخاصَّة عليه. وكذلك هؤلاء الذين يؤمنون بالإصلاح من الداخل، يلغون هؤلاء الذي يعترفون بالرقابة الدولية على عُمان، ويرونَ أنَّ اللجوء إلى أي منظمة من منظمات حقوق الإنسان هو أمر يمسُّ سيادةَ البلاد. شخصياً مع أنني لا أثق كثيراً بنشاطات المنظمات الخارجية، وبالذات الأمريكية منها، ومع أنني موقن تماما أن منها من له هدف نبيل ومبادئ يريد إشاعتها في العالم، فإنَّ عدم رغبتي في الانجرار في لعبة يتحدث فيها أحدهم من خلالي يجعلني أحجم عن الثقة بهم، ولكن لا يعني هذا ممارسة سلوكا إقصائيا يتم تخوين كل من يتعامل مع الرقابة الدولة كحقيقة واقعية. المؤسف فعلاً أن أصحاب الرؤية الإصلاحية يقتتلون فيما بينَهم، وبينما نتناسى الحقيقة المؤلمة أنَّ عُمان تعيش فعلاً مرحلة مخاضٍ صعب، ربما سينتج مرحلة مظلمة للغاية بعد وفاة السلطان قابوس بن سعيد، لا يزال التقاتل وتسويق المشاريع الإصلاحية للسلطة هو القائم، هذا يسوق مشروع للسلطة من داخل السلطة، وهذا يسوق مشروع ضد السلطة لكي [يركِّعها] وبالطبع لو ضعفت السلطة كثيرا فمن المحتمل أنها ستقبل، بينما المجتمع في خبرٍ كان من كل هذه الجهود.
لست هُنا أضرب أمثلةً معيَّنة، وإنما أحاول جاهدا أن أبقي الأشخاص بعيداً عن هذه المقالة، ولكن السلبية وعدم قبول الصوت الآخر قد بدأ يدفع بنا إلى خسارات اجتماعية فادحة، خسارات لأناس كان يمكنهم أن يقدموا الكثير ولكنهم احترقوا في معركة التأطير والإلغاء التي تمارسها النخب العُمانية على بعضها البعض.
أعتقد فعلاً أن الأمر بحاجةٍ إلى لحمة وطنية يجتمع فيها كل أصحاب الرؤى، ويتفقون فيها على الخطوط العريضة للعمل الوطني، العَمل الوطني الاجتماعي العام المسموح به قانوناً بالطبع. هذه اللحمة الوطنية هي التي يمكنُ أن تجعل من المجتمع فاعلاً، وهي التي يمكنها أن تخرجَ به من جموده القائم.
&&&
قد تبدو لنا بعض الأشياء خيالية وحالمة، ولكن فعلاً يجب علينا أن نأخذ الموجود بإيجابية ونحاولُ تطويره بدلا من العودة دائما إلى نقطة البدء. التحلي بالإيجابية وبالشجاعة في إبداء وجهات النظر ضروري للغاية، وكذلك أيضا التحلي بالقبول واحترام وجود الآخر. ومهما حاولنا التخفي وراء أستار التقية، فإنَّ مصير ذلك الانكشاف ذات يوم في اللحظة التي تذعن للمرء القوة، أو يذعن للقوة، فيظهر للناس ما اختفى طويلاً داخلَه.
يمضي السلطان قابوس بالحكومة إلى مرحلة أخرى، تمتاز بالثبات، وبينما أخطاء المرحلة تتراكم، وبدلاً من أن يستيقظ المجتمع من غفوته، ويتوقف عن الإنصات إلى صوتِ الإصلاح القائم على خير خاص، فإنَّ الإصلاحيين أيضا يتقاتلون على المصداقية والشرعية، ويسوقون مشاريعَهم أيضا بطريقة قد يكون بعضها لا أخلاقي، وبدلا من العَمل من أجل الخير العام وفق الرؤية الخاصَّة دون إنكار للآخر، وبدلا من التكامل في العَمل بين المختلفين في الرؤية، نرى هذا التنافس القائم، ونسأل الله فقط ألا تكون عُمان الضحية القادمة للفوضى بعدما يرحلُ عنها السلطان قابوس.
مرَّة أخرى يا أصدقاء، بالقدر الذي نسخط فيه على هذه البلاد، أو على الفساد الذي بها، أو نفرح بالإنجازات التي تقوم بها، أو التصرفات الحكيمة، نحن عُمانيون أولاً وأخيراً، وما دمنا عُمانيين فلنكن كما تستحق عُمان، فهي تستحق منا الكثير، ولن نخلصَ منها لمجرَّد أن طائفة اعتقدت أن الخلودَ لها، وأنَّ القوةَ لها. كلنا يمكن أن نكون إصلاحيين، لو أصلحنا أمتارنا المربعة التي علينا إصلاحها، كلنا يمكن أن نساهم في ذلك بأن نكون إيجابيين وأن ننصت للآخر ونفهمه، ونعرف أن ثمة حدودا للحريات الشخصية، وحدوداً للمفاهيم الخاصَّة، وكذلك خطوطاً حمراء في قيمنا وفي رؤانا، إلا أن هذا لا ينسحب بالضرورة على الجَميع، وبالتالي فإن التنازل لن يكون قيميا بقدر ما يكون عملياً. وهذا من أجل بلادٍ تتسعُ للجميع، وبها مختلفون في التفكير، مثلما هم مختلفون في اللون وفي بسطة العقل والجسم. الخيِّرُ ختاماً هو الذي لا يخدعك باسم شيء ما من أجل أمرٍ آخر بداخله، الخيِّر هو الذي يصدقك القول، مهما كان هذا القول موجعا ومؤلما، وقليل من الألمِ ليس كثيراً على بلادٍ بأكملها.
ودمتم في حب عُمان..
المصدر : مدونة معاوية الرواحي
¨°o.O ( على كف القدر نمشي ولا ندري عن المكتوب ) O.o°¨
---
أتمنى لكم إقامة طيبة في الساحة العمانية
---
أتمنى لكم إقامة طيبة في الساحة العمانية
وأدعوكم للإستفادة بمقالات متقدمة في مجال التقنية والأمن الإلكتروني
رابط مباشر للمقالات هنا. ومن لديه الرغبة بتعلم البرمجة بلغات مختلفة أعرض لكم بعض
المشاريع التي برمجتها مفتوحة المصدر ومجانا للجميع من هنا. تجدون أيضا بعض البرامج المجانية التي قمت بتطويرها بذات الموقع ..
والكثير من أسرار التقنية في عالمي الثاني Eagle Eye Digital Solutions
رابط مباشر للمقالات هنا. ومن لديه الرغبة بتعلم البرمجة بلغات مختلفة أعرض لكم بعض
المشاريع التي برمجتها مفتوحة المصدر ومجانا للجميع من هنا. تجدون أيضا بعض البرامج المجانية التي قمت بتطويرها بذات الموقع ..
والكثير من أسرار التقنية في عالمي الثاني Eagle Eye Digital Solutions