واستقام ربان الأسرة
تمد ( فاتن ) يدها المرتعشة لترفع (مظروفاً) وجدته قد وضع تحت الباب
وتنظر إليه بدهشة وحيرة مربكة ، إنه لزوجها الدكتور (عبد الحميد) وبعنوانه ، ثم
تعطيه له بصمت ينبئ عما يدور في نفسها من تساؤلات ...
ينظر الدكتور للمظروف ، وقد انقبضت أسارير وجهه ، ويقول : غير معقول ،
نفس عنواننا ، وباسمي أيضاً **** ! *** .
ويفض الغلاف ، ويتمتم قائلاً في دهشة :
- عجباً ، إنه من ابني سامر ! ****************�� �*********** .
ويغوص في خواطره المبهمة :
كيف اهتدى سامر إلى منزلي هذا ؟ ... لقد مضى على زواجي من (فاتن)
خمس سنوات وما عرّفت أحداً به ...
خواطر كثيرة .
- وهل تزوجت إلا من أجل الراحة والاستجمام ؟ ! ثم يقول باستغراب :
- وماذا يريد سامر ؟ ! لقد كنت في منزلهم أمس ، أخذت لهم حاجتهم من
الطعام والأدوات المدرسية ! !
ولا يعير (د . عبد الحميد) كلام زوجته أي انتباه ، إنه مشغول بالرسالة
انشغالها بسرية بيتها وعدم معرفة العنوان حتى من أولاد زوجها !
وتدافعت الخواطر السريعة إلى (د . عبد الحميد) حالما رأى رسالة (سامر) :
- هل ألم بأحد إخوته خطر ؟
-أم هل يريد تحديد موعد خطبة أخته ( سلمى ) ؟ !
-أم أن صاحب البيت قد طالبهم بأجرته ؟ ! .
وفي بضع دقائق كانت الحقيقة تتضح وتظهر جلية بعد قراءة الرسالة ، فقد
جاء فيها :
والدي الحبيب :
كم أبهجتنا زيارتك لبيتنا أمس ، وكم سررت لسماع صوتك العذب يتردد صداه
في منزلنا ، وغبطت أشقائي الصغار أنك ناجيتهم ، ثم سارعت للخروج من الحمام
متلهفاً لرؤيتك ، وإذا بي أجد البيت قد امتلاء طعاماً ، وأشياء كثيرة - جزاك الله
خيراً - .
ولكني للأسف ما وجدتك ، فقد وضعتها وغادرت المنزل بسبب أشغالك
الكثيرة - كما ذكرت والدتي حفظها الله - .
كم كنت أتمنى أن تخصص لنا من وقتك ، وأن تجعل لنا نصيباً من يومك
لنحظى برؤيتك ، ونستمتع بحلو حديثك ، وجميل نصحك - لا حرمنا الله منك -
ولا أكتمك أني ما إن رأيت الطعام الوفير إلا وقلت في نفسي :
- يا سبحان الله ! وهل يظن والدي أن السعادة في الطعام الوفير ، والمتاع
الزائل ؟ ! .
يا والدي العزيز : سامحك الله ! إن الأغنام - وهي لا تهتم إلا بأكلها وشربها
- يتفقدها صاحبها باستمرار .
أتمنى أن نلقاك قريباً ، أباً رؤوفاً كما كنا نعهدك من قبل . ونحن لن ننسى يا
والدي الحبيب حقوقك علينا ، وارتباطك السعيد الذي حجبته عنا سنوات عدة .
لن نكون عثرة تحول دون سعادتك ، وسنبقى أبناء بررة . تحياتنا إليك وإلى
حرمك المصون . وتحيات والدتنا الوفية إليكما .
و لدك : سامر
تنظر ( فاتن ) إلى ( د . عبد الحميد ) وهو يقلب الرسالة وما يزيد عن أن
يطويها ويضعها في جيب جلباب النوم الذي كان يلبسه .
وأما ( سامر ) فكثيراً ما يتحدث مع أمه التي أمضت عمرها تتمنى اليوم الذي
ينتهي فيه زوجها (
عبد الحميد ) من دراسته ، وطال ما أضناها في تأمين الجو
الدراسي المناسب له . إنها الآن بعد تخرجه تستعيد الماضي ، تتمنى لو دامت تلك
الأيام ، حينما كانت أحوالهم المادية بسيطة ، إلا أنهم كانوا ينعمون بالمودة
والاستقرار .
وأما ( د . عبد الحميد ) فعندما أحس بتحسن مركزه العلمي والاجتماعي ، وأنه
قد حصل على شهادة ( الدكتوراه ) بدأت الأفكار تتوالى عليه :
- إنه في وضع اجتماعي مرموق ، ويحبذ أن تكون زوجته كذلك حتى
تستطيع أن تمثله في المجتمع .
- وهذه ( المرأة الطيبة الساذجة ) كما كان يسميها ، هل يليق بها ذلك ؟ !
هاهو سامر ولدها وقد علمته الأحداث ، يفتح قلبه لها ويعاتبها على ما ظنه
تقصيراً منها أدى بوالده إلى البحث عن امرأة أخرى ، وبنبرات خافتة حانية قال لها :
- لماذا يا أمي لم تكملي دراستك ؟ ! وأنت تعلمين أن زماننا زمان العلم
والثقافة ؟ ! وتتنهد (أم سامر) بحرقة وألم دفين ، والدمعة تلمع في عينيها وهي
تجيب :
- والله يا بني ما قصرت ، لقد بذلت قصارى جهدي في إقناع والدك لأتابع
تعليمي ، وما كنت ألقى منه إلا السخرية والاستهانة بمطلبي .
لقد كان وضعنا الثقافي متقارباً عند زواجنا ، فإذا به ينمي ثقافته ، ويهملني أنا
أم أولاده وشريكة حياته ، فأصبح البون بيننا شاسعاً .
ثم تعلق بتجرد وموضوعية تحكي واقعها المرير :
- حقاً ، كم بين بدائية الثقافة وبين الدكتور في الفلسفة من بون شاسع ! فما
الذي أوصله إلى ذلك ؟ !
- لا أريد أن أصفه بالأنانية حين فكر في مصلحته فقط وتعلم على حساب
راحتنا ومصالحنا ، لكنه على كل حال تناسى أنني زوجته التي فشل حتى في
تعليمها . كم كان يهزأ بالكبيرات اللائي يذهبن للدراسة ويقول (وربما يقصد الحاجة
أم ممدوح بالذات وقد قاربت الخمسين من عمرها) :
- تصوري عجوزاً شمطاء ، تتوكأ على عصاها بيد ، وتحمل (شنطة كتبها)
بيدها الأخرى !
ثم يقهقه ساخراً ... وما كانت ضحكاته تلك لتؤثر فيّ ، قلت له :
- أليس ذلك أفضل من بقائها أمية ؟ ! تتعلم القراءة والكتابة ، بدلاً من أن
ترى جميع الصفحات سواداً ، لاشيء عليها إلا طلاسم لا تفهمها . ثم إني لست
بعمر الحاجة إنها بعمر والدتي !
رد علي بازدراء ، وهو يرمقني بطرف عينه :
- تريدينني مثل الأحمق ( حازم ) الذي يوصل بيده زوجته إلى المدرسة في
المساء ، شأنه في توصيل أولاده في الصباح ؟ !
ثم يردف قائلاً باستعلاء :
- إنه فارغ ! وماذا وراءه من عمل ؟ !
وتزيل (أم سامر) عن ولدها ( الغبش ) وتجلي الحقيقة بقولها :
- لا والله ما كان فارغاً ، إنه رغم أعماله الكثيرة ، يجد أن من واجبه
تخصيص وقت لأسرته ، وهاهي زوجة ( حازم ) الآن في الجامعة ، وقد نفضت
عنها أميتها ولحقت بركب الحضارة ...
يقولون يا بني : وراء كل عظيم امرأة **** ! !
أما علم هؤلاء أن هذا يعني أيضاً ، أن أمام كل امرأة رجل ينير لها الطريق
ويمهد لها السبيل ؟ !
ثم تفطن لواقعها ، وتقول بتعقل :
- من حق والدكم أن يتزوج ، سواء لأنه أصبح عالي الثقافة وامرأته شبه أمية
، أو لأدنى سبب رآه ، وليس له أن يكون الزواج سبباً في تهربه من المسئولية ،
والبعد عن تبعات الأولاد . أين العدل الذي أوجبه الإسلام ؟ ! أم ظن أن العدل في
الطعام والشراب فقط ؟ !
وتدخل سلمى لتخبرهم عن سخط شقيقها (سعيد) وخروجه من المنزل ، فيهب
سامر واقفاً ، ليلحق بأخيه ، يبحث عنه بين المتسعكين والتافهين ... وتفلسف سلمى
ذلك بقولها :
- هذا نتاج الحرمان من عطف الأب ورعايته ... !
ويقع قولها كالقذيفة على قلب أمها ، فتنفجر باكية ...
وتقبل سلمى على أمها ، معانقة مقبلة لوجنتيها ، تخفف عنها وتقول لها :
- أبقاك الله يا أمي ، وجزاك عنا خير الجزاء ، إذ لولا صدرك الحنون ،
وحدبك الدؤوب علينا ، لما علم إلا الله سبحانه ما سيحل بنا ...
ثم تقول ناقدة وحانقة :
- يحبون تكثير النسل ... ! أو ما علموا أنه قد لا يزيد إلا في غثاء السيل ...
! أو ليس للتربية ونوعية النشأة عندهم أهمية ؟ !
وتتذكر الأم أن من واجبها التقريب بين الأب وأولاده ، فتقول لابنتها في
رضى واستسلام :
- الحمد لله ، إن والدك يختلف عن غيره من الناس ، انظري أسرة ( النزَّال )
كم يعاني أولاده من الضيق والضنك ، بينما يتمتع والدهم وزوجته الجديدة بأبهى
المتع ، وينعمون بأثمن الرياش وأعظم المسرات .
وتجيبها سلمى وكأنما لدغتها عقرب :
- كفانا الله الشر أن يكون والدي مثل (النزَّال) أو أن تكوني أنت مثل زوجته
الأولى ...
لقد وصل بها الأمر أن دست السم في طعام أرسلته له سراً ، واكتشف الأمر ،
وقيدت الجانية إلى السجن ...
وتنصب سلمى من نفسها قاضياً حين تقول :
- لقد كان الأجدر أن يسجنون الأب تأديباً له على ما فرط في حقها وبسبب
ظلمها وظلم أولاده ! !
وتردف الأم :
- الحمد لله أنكم لستم كأولاده ، فلا يكاد السجن يفرغ من أحدهم : هذا بتهمة
الاحتيال ، وذاك للاقدام على الانتحار ، وآخر للنشل ...
وفيلسوفة البيت (سلمى) تعلق بثقة بالغة :
- طبعاً ... الحرمان العاطفي والشعور بالظلم ينميان الميول العدوانية .
فالحمد لله الذي عوضنا بصدرك الحنون يا خير أم .
تقول ذلك وتنهال على يد أمها لثماً وتقبيلاً .
وأما ( د . عبد الحميد ) فلم يهداً له بال ولم يقر له قرار . إنه كلما تذكر
الرسالة عاد إلى قراءة سطورها ليجد الحقيقة أمامه واضحة : إنهم أولاده ، مهما
هرب أو تهرب ... إنها زوجته مهما تعالى أو استعلى ... إنهم واقعه الذي يجب أن
يتعامل معه ... ثم إنه واجبه الديني قبل كل شيء … (العدل) ، به تستقيم الحياة
ويوضع كل شيء في نصابه ... وماذا لو تعكر مزاج ( فاتن ) بعض الشيء ؟ ! فإن
كانت تحبه حقاً فستقدر وضعه ، وإلا فلا خير فيها ... ! !
وإذا تبين لديه ذلك قرر مفاتحتها ومرافقتها لزيارة أسرته ... وبعد جلسات
معدودة ، قضاها مع ( فاتن ) بين أخذ ورد صارت ( فاتن ) أخيراً طائعة راضية ،
تشتري لابنته (سلمى) عقداً جميلاً لتحلي به صدرها بمناسبة خطوبتها ... وانتعش
فؤاد (أم سامر) بعد أيام قاحلة عانت فيها الكثير ... والتأم شمل الأسرة فعاد للبيت
إشراقه وبهجته ، وفرح (سامر) وأشقاؤه بإخوتهم الصغار (أولاد فاتن) وأصبحوا
يلاعبونهم ، ويركبونهم الأراجيح ويشترون لهم اللعب والهدايا والحلويات ...
يستمعون إلى أناشيدهم الشجية ويحكون لهم القصص الممتعة .
لقد عادت البسمة إلى شفاه الجميع ، والكلمات الطيبة إلى أفواههم ، والأنس
والسرور أصبح يغمر كيانهم .
وأحلى الساعات وأحبها إلى قلوبهم ، عندما تجتمع أسرتهم الكبيرة بمرحهم
الحبيب وروحهم المتآلفة .
هاهي قد استقامت حياتهم عندما استقام ربان أسرتهم ، وثاب إليه رشده ،
وحقق ما يطلبه منه ، ربه : (العدل) .
________________________
مجلة البيان
العدد 21
تمد ( فاتن ) يدها المرتعشة لترفع (مظروفاً) وجدته قد وضع تحت الباب
وتنظر إليه بدهشة وحيرة مربكة ، إنه لزوجها الدكتور (عبد الحميد) وبعنوانه ، ثم
تعطيه له بصمت ينبئ عما يدور في نفسها من تساؤلات ...
ينظر الدكتور للمظروف ، وقد انقبضت أسارير وجهه ، ويقول : غير معقول ،
نفس عنواننا ، وباسمي أيضاً **** ! *** .
ويفض الغلاف ، ويتمتم قائلاً في دهشة :
- عجباً ، إنه من ابني سامر ! ****************�� �*********** .
ويغوص في خواطره المبهمة :
كيف اهتدى سامر إلى منزلي هذا ؟ ... لقد مضى على زواجي من (فاتن)
خمس سنوات وما عرّفت أحداً به ...
خواطر كثيرة .
- وهل تزوجت إلا من أجل الراحة والاستجمام ؟ ! ثم يقول باستغراب :
- وماذا يريد سامر ؟ ! لقد كنت في منزلهم أمس ، أخذت لهم حاجتهم من
الطعام والأدوات المدرسية ! !
ولا يعير (د . عبد الحميد) كلام زوجته أي انتباه ، إنه مشغول بالرسالة
انشغالها بسرية بيتها وعدم معرفة العنوان حتى من أولاد زوجها !
وتدافعت الخواطر السريعة إلى (د . عبد الحميد) حالما رأى رسالة (سامر) :
- هل ألم بأحد إخوته خطر ؟
-أم هل يريد تحديد موعد خطبة أخته ( سلمى ) ؟ !
-أم أن صاحب البيت قد طالبهم بأجرته ؟ ! .
وفي بضع دقائق كانت الحقيقة تتضح وتظهر جلية بعد قراءة الرسالة ، فقد
جاء فيها :
والدي الحبيب :
كم أبهجتنا زيارتك لبيتنا أمس ، وكم سررت لسماع صوتك العذب يتردد صداه
في منزلنا ، وغبطت أشقائي الصغار أنك ناجيتهم ، ثم سارعت للخروج من الحمام
متلهفاً لرؤيتك ، وإذا بي أجد البيت قد امتلاء طعاماً ، وأشياء كثيرة - جزاك الله
خيراً - .
ولكني للأسف ما وجدتك ، فقد وضعتها وغادرت المنزل بسبب أشغالك
الكثيرة - كما ذكرت والدتي حفظها الله - .
كم كنت أتمنى أن تخصص لنا من وقتك ، وأن تجعل لنا نصيباً من يومك
لنحظى برؤيتك ، ونستمتع بحلو حديثك ، وجميل نصحك - لا حرمنا الله منك -
ولا أكتمك أني ما إن رأيت الطعام الوفير إلا وقلت في نفسي :
- يا سبحان الله ! وهل يظن والدي أن السعادة في الطعام الوفير ، والمتاع
الزائل ؟ ! .
يا والدي العزيز : سامحك الله ! إن الأغنام - وهي لا تهتم إلا بأكلها وشربها
- يتفقدها صاحبها باستمرار .
أتمنى أن نلقاك قريباً ، أباً رؤوفاً كما كنا نعهدك من قبل . ونحن لن ننسى يا
والدي الحبيب حقوقك علينا ، وارتباطك السعيد الذي حجبته عنا سنوات عدة .
لن نكون عثرة تحول دون سعادتك ، وسنبقى أبناء بررة . تحياتنا إليك وإلى
حرمك المصون . وتحيات والدتنا الوفية إليكما .
و لدك : سامر
تنظر ( فاتن ) إلى ( د . عبد الحميد ) وهو يقلب الرسالة وما يزيد عن أن
يطويها ويضعها في جيب جلباب النوم الذي كان يلبسه .
وأما ( سامر ) فكثيراً ما يتحدث مع أمه التي أمضت عمرها تتمنى اليوم الذي
ينتهي فيه زوجها (
عبد الحميد ) من دراسته ، وطال ما أضناها في تأمين الجو
الدراسي المناسب له . إنها الآن بعد تخرجه تستعيد الماضي ، تتمنى لو دامت تلك
الأيام ، حينما كانت أحوالهم المادية بسيطة ، إلا أنهم كانوا ينعمون بالمودة
والاستقرار .
وأما ( د . عبد الحميد ) فعندما أحس بتحسن مركزه العلمي والاجتماعي ، وأنه
قد حصل على شهادة ( الدكتوراه ) بدأت الأفكار تتوالى عليه :
- إنه في وضع اجتماعي مرموق ، ويحبذ أن تكون زوجته كذلك حتى
تستطيع أن تمثله في المجتمع .
- وهذه ( المرأة الطيبة الساذجة ) كما كان يسميها ، هل يليق بها ذلك ؟ !
هاهو سامر ولدها وقد علمته الأحداث ، يفتح قلبه لها ويعاتبها على ما ظنه
تقصيراً منها أدى بوالده إلى البحث عن امرأة أخرى ، وبنبرات خافتة حانية قال لها :
- لماذا يا أمي لم تكملي دراستك ؟ ! وأنت تعلمين أن زماننا زمان العلم
والثقافة ؟ ! وتتنهد (أم سامر) بحرقة وألم دفين ، والدمعة تلمع في عينيها وهي
تجيب :
- والله يا بني ما قصرت ، لقد بذلت قصارى جهدي في إقناع والدك لأتابع
تعليمي ، وما كنت ألقى منه إلا السخرية والاستهانة بمطلبي .
لقد كان وضعنا الثقافي متقارباً عند زواجنا ، فإذا به ينمي ثقافته ، ويهملني أنا
أم أولاده وشريكة حياته ، فأصبح البون بيننا شاسعاً .
ثم تعلق بتجرد وموضوعية تحكي واقعها المرير :
- حقاً ، كم بين بدائية الثقافة وبين الدكتور في الفلسفة من بون شاسع ! فما
الذي أوصله إلى ذلك ؟ !
- لا أريد أن أصفه بالأنانية حين فكر في مصلحته فقط وتعلم على حساب
راحتنا ومصالحنا ، لكنه على كل حال تناسى أنني زوجته التي فشل حتى في
تعليمها . كم كان يهزأ بالكبيرات اللائي يذهبن للدراسة ويقول (وربما يقصد الحاجة
أم ممدوح بالذات وقد قاربت الخمسين من عمرها) :
- تصوري عجوزاً شمطاء ، تتوكأ على عصاها بيد ، وتحمل (شنطة كتبها)
بيدها الأخرى !
ثم يقهقه ساخراً ... وما كانت ضحكاته تلك لتؤثر فيّ ، قلت له :
- أليس ذلك أفضل من بقائها أمية ؟ ! تتعلم القراءة والكتابة ، بدلاً من أن
ترى جميع الصفحات سواداً ، لاشيء عليها إلا طلاسم لا تفهمها . ثم إني لست
بعمر الحاجة إنها بعمر والدتي !
رد علي بازدراء ، وهو يرمقني بطرف عينه :
- تريدينني مثل الأحمق ( حازم ) الذي يوصل بيده زوجته إلى المدرسة في
المساء ، شأنه في توصيل أولاده في الصباح ؟ !
ثم يردف قائلاً باستعلاء :
- إنه فارغ ! وماذا وراءه من عمل ؟ !
وتزيل (أم سامر) عن ولدها ( الغبش ) وتجلي الحقيقة بقولها :
- لا والله ما كان فارغاً ، إنه رغم أعماله الكثيرة ، يجد أن من واجبه
تخصيص وقت لأسرته ، وهاهي زوجة ( حازم ) الآن في الجامعة ، وقد نفضت
عنها أميتها ولحقت بركب الحضارة ...
يقولون يا بني : وراء كل عظيم امرأة **** ! !
أما علم هؤلاء أن هذا يعني أيضاً ، أن أمام كل امرأة رجل ينير لها الطريق
ويمهد لها السبيل ؟ !
ثم تفطن لواقعها ، وتقول بتعقل :
- من حق والدكم أن يتزوج ، سواء لأنه أصبح عالي الثقافة وامرأته شبه أمية
، أو لأدنى سبب رآه ، وليس له أن يكون الزواج سبباً في تهربه من المسئولية ،
والبعد عن تبعات الأولاد . أين العدل الذي أوجبه الإسلام ؟ ! أم ظن أن العدل في
الطعام والشراب فقط ؟ !
وتدخل سلمى لتخبرهم عن سخط شقيقها (سعيد) وخروجه من المنزل ، فيهب
سامر واقفاً ، ليلحق بأخيه ، يبحث عنه بين المتسعكين والتافهين ... وتفلسف سلمى
ذلك بقولها :
- هذا نتاج الحرمان من عطف الأب ورعايته ... !
ويقع قولها كالقذيفة على قلب أمها ، فتنفجر باكية ...
وتقبل سلمى على أمها ، معانقة مقبلة لوجنتيها ، تخفف عنها وتقول لها :
- أبقاك الله يا أمي ، وجزاك عنا خير الجزاء ، إذ لولا صدرك الحنون ،
وحدبك الدؤوب علينا ، لما علم إلا الله سبحانه ما سيحل بنا ...
ثم تقول ناقدة وحانقة :
- يحبون تكثير النسل ... ! أو ما علموا أنه قد لا يزيد إلا في غثاء السيل ...
! أو ليس للتربية ونوعية النشأة عندهم أهمية ؟ !
وتتذكر الأم أن من واجبها التقريب بين الأب وأولاده ، فتقول لابنتها في
رضى واستسلام :
- الحمد لله ، إن والدك يختلف عن غيره من الناس ، انظري أسرة ( النزَّال )
كم يعاني أولاده من الضيق والضنك ، بينما يتمتع والدهم وزوجته الجديدة بأبهى
المتع ، وينعمون بأثمن الرياش وأعظم المسرات .
وتجيبها سلمى وكأنما لدغتها عقرب :
- كفانا الله الشر أن يكون والدي مثل (النزَّال) أو أن تكوني أنت مثل زوجته
الأولى ...
لقد وصل بها الأمر أن دست السم في طعام أرسلته له سراً ، واكتشف الأمر ،
وقيدت الجانية إلى السجن ...
وتنصب سلمى من نفسها قاضياً حين تقول :
- لقد كان الأجدر أن يسجنون الأب تأديباً له على ما فرط في حقها وبسبب
ظلمها وظلم أولاده ! !
وتردف الأم :
- الحمد لله أنكم لستم كأولاده ، فلا يكاد السجن يفرغ من أحدهم : هذا بتهمة
الاحتيال ، وذاك للاقدام على الانتحار ، وآخر للنشل ...
وفيلسوفة البيت (سلمى) تعلق بثقة بالغة :
- طبعاً ... الحرمان العاطفي والشعور بالظلم ينميان الميول العدوانية .
فالحمد لله الذي عوضنا بصدرك الحنون يا خير أم .
تقول ذلك وتنهال على يد أمها لثماً وتقبيلاً .
وأما ( د . عبد الحميد ) فلم يهداً له بال ولم يقر له قرار . إنه كلما تذكر
الرسالة عاد إلى قراءة سطورها ليجد الحقيقة أمامه واضحة : إنهم أولاده ، مهما
هرب أو تهرب ... إنها زوجته مهما تعالى أو استعلى ... إنهم واقعه الذي يجب أن
يتعامل معه ... ثم إنه واجبه الديني قبل كل شيء … (العدل) ، به تستقيم الحياة
ويوضع كل شيء في نصابه ... وماذا لو تعكر مزاج ( فاتن ) بعض الشيء ؟ ! فإن
كانت تحبه حقاً فستقدر وضعه ، وإلا فلا خير فيها ... ! !
وإذا تبين لديه ذلك قرر مفاتحتها ومرافقتها لزيارة أسرته ... وبعد جلسات
معدودة ، قضاها مع ( فاتن ) بين أخذ ورد صارت ( فاتن ) أخيراً طائعة راضية ،
تشتري لابنته (سلمى) عقداً جميلاً لتحلي به صدرها بمناسبة خطوبتها ... وانتعش
فؤاد (أم سامر) بعد أيام قاحلة عانت فيها الكثير ... والتأم شمل الأسرة فعاد للبيت
إشراقه وبهجته ، وفرح (سامر) وأشقاؤه بإخوتهم الصغار (أولاد فاتن) وأصبحوا
يلاعبونهم ، ويركبونهم الأراجيح ويشترون لهم اللعب والهدايا والحلويات ...
يستمعون إلى أناشيدهم الشجية ويحكون لهم القصص الممتعة .
لقد عادت البسمة إلى شفاه الجميع ، والكلمات الطيبة إلى أفواههم ، والأنس
والسرور أصبح يغمر كيانهم .
وأحلى الساعات وأحبها إلى قلوبهم ، عندما تجتمع أسرتهم الكبيرة بمرحهم
الحبيب وروحهم المتآلفة .
هاهي قد استقامت حياتهم عندما استقام ربان أسرتهم ، وثاب إليه رشده ،
وحقق ما يطلبه منه ، ربه : (العدل) .
________________________
مجلة البيان
العدد 21