إدراكات متأخرة ..
لقد طالت عزلتي طويلاً ..
تُدركُ أن عزلتك تجاوزت المدى المسموح لها ــ وفق رؤيتك التفاؤلية لحياتِك ــ عندما تتجاوزُ الأيَّامَ الخَمسة في فراشك، وأنتَ لم تقم بأيِّ التزامٍ كانَ من أجلِ أيِّ مخلوقٍ بشريٍّ في هذه الأرض، فقط أنتَ وأنت تذهب بشكل لا نهائي من وإلى الحمَّام، مُعتقداً أنَّ الوسخَ الذي أكلتَه سينتهي. في مثل هذه الحالات تتمنى، وتقول بحسرة:
ليتني أعرف جسدي جيدا ..
ما هو التسمم؟ بصدق ما هو؟ أليس من المفترض أنّ هناك كمية من الشيء المسمم، وهذه تدخل إلى أمعائك عبر بطنك، وتسبب لك آلاماً حادةً للغاية. ستقول في نفسك، إنَّ الطعام السيء سوف يخرج بالإسهال، وبعدها ستعود الأشياء إلى طبيعتها، وتنسى أن مستعمرات هائلة من البكتيريا سوف تتعامل كما لو كانت عمالة مهاجرة في أمعائك، عَمالة ترفض الخروج وتؤسس عائلات وتربيها على عادات وتقاليد أمعائك. ربما لو منحتها فرصة لأيامٍ أخرى سوف تتحول مع الوقت إلى بكتيريا نافعة لا يمكن أن يمشي قولونك العصبي بدونها، ولكن الألم فوقَ احتمالِك، والألمُ هو الذي يدفعك بالخروج من عزلتك، لأداء مهمَّة واحدة فقط لإنسانٍ في هذا الكون، أنت !!
في المستشفى هُناك دائما تلك الممرضة الملول.
لماذا يصورونها في الأفلام هكذا؟ ممرضة ملول تفرقع لبانة وردية. ألا يدركون أن وظيفة الممرضات قاسية وشاقَّة بما فيه الكفاية، قاسية لدرجة أن الذي يدخل معهد التمريض قد دخل مكرهاً لعدم وجود شواغر أخرى. هل تتخيلون كيف يمكن أن يعمَّ إحساس الشعور بعدم التقدير عشرات الأشخاص في مكانٍ واحدٍ. كُل الممرضات يحدقن فيك وأنت تصل إلى المركز الصحي غير قادر على الوقوف، إنَّه الألم شعرَ بالتهديد، وإنَّها تلك الحاضنات البكتيرية التي أطلقت جرس الإنذار داخل جسدك، إنها العَمالة المهاجرة من البيئة الخارجية، عبر شطيرة كنتاكي تركتها أسبوعاً في الثلاجة، إنَّها هي التي تطلق جرس الإنذار خوفاً من القادم، وما أفزع القادم. يطلب منك الموظف الذهاب مباشرة للطوارئ، وهي غرفة بها ثلاثة أسرة، تَقول في دماغِك لا بدَّ أنَّ علاجَك سيكون مجانياً، فأنت في حالة طارئة. تسألك الممرضة عن الأعراض، وتخبرها فوراً بأنك مصاب بتسمم غذائي لم تعتن به منذ ثلاثة أيَّام. تخرجُ ويأتي طبيب هندي لطيف يلبس قلادة على شكل جيتار. تسأله:
ـ هل تعزف الجيتار؟
يجيبك هو بابتسامة صغيرة: نعم .. أتعلم في معهد صغير في الحيل.
بدهشة تقول له: في الحيل، معقول كنت أبحث عن مكان مثل هذا ..
يكلم الممرضة بالأردية ثم يجيبك: لا بأس سأعطيك الرقم لاحقا ..
يأمر لك الطبيب بسقاية، فتحضر الممرضة السقاية لك. ومع أنَّك تعرف أنها ثقبت يدك من قبل إلا أنَّك تقشعر عندما تراها تحضر الإبرة. من الأفضل ألا تكون الإبر المقدر لها أن تضرب بلاستيك السقاية ذات نهايات معدنية مدببة، هذا يخيف المرضى ذوي القلوب والأمعاء الضعيفة مثلي.
كُنت أتخيل البكتيريا التي في معدتي كما في فيلم [آفاتار] .. السائل المضاد الحيوي ينطلق في دمائي بمجنزرات هائلة، وبرشاشات ليزرية متطورة، بينما البكتيريا البدائية التي استوطنت جوانب أمعائي الدقيقة تقذفه بالسهام. دقائق فقط ويخفُّ الألمَ، وتشعر بالحسرة أن تركتَه يستمر لثلاثة أيام كاملة بينما كان عليك أن تبادر بالعلاج فوراً. حسناً لديك الآن ألف شعور بالذنب في وقتٍ واحد، لقد سفهت بأمِّك للأسبوع الثاني، ومن الأفضل أن تعتقد أنَّك سفهت بها على أن تعرف أنك أصبت بالتسمم للمرة الثانية خلال هذا الشهر. صدقني، من الأفضل ألا تبدي أعذارا لأمِّك، دعها تأخذ عنك فكرة أنك ولد عاق، أو سيء، ولا تدعها تقلق حتى الموت لأنَّك تريد عذرا تردُّ به على إخوانك الذين يغارون قليلا من حبِّها لك.
&&&
هل تدركون تلك الغصة التي تشعرون بها
عندما يقول لكم من تحبونه أنه حاولَ الانتحار؟
يا إلهي. ثمَّة من جعل الحزن جميلاً، وثمَّة من جعل الموت هدفاً. هؤلاء الأغبياء موجودون في كلِّ مكان يرددون بضاعتهم الجذامية البشعة. يدخلون في كلِّ مكان يشيع فيه الفرح مثل الأشباح المتشحة في السواد في فيلم ملك الخواتم، ويبصقون ويتقيؤون مرق مأكولات بحرية، بها بقايا من العظام والسمك. هؤلاء الحمقى هم السبب، إنَّك تشعر أنَّك أنت السبب، وإلا كيف لحبيب لك أن يحاول الانتحار وأنت بعيد؟ وتبدأ بجلد نفسك بقوَّة، إنَّه أنت السبب ألم يكن يتصل بك آلاف المرَّات ولا ترد عليه، ألم تتصل بك زوجته وتسألك إن كان بخير، ألم تسمع عن إصابة ولده الصغير بالإنفلونزا وبقائه في المستشفى لعدة أيام. كلُّ شيء يقول لك أنَّك أنت السبب، وأنَّه كان يمكنك أن تحول دون ذلك، ولكن ما حدث حدث، وها هي فجوة هائلة في القلب تسبب لك الكثير من الحزن الذي عليك أن تقاومه.
الحزن موجود، فقط عندما تشعر أنه ليس عليك مقاومته تكون شخصا اكتئابياً..
تتخيلُ ماذا لو كنتَ أنت الواصل الأول في مكان انتحار. ترى شابَّا يافعا وسيماً يقفُ على السطح ويريد أن يلقي نفسه، من المؤكد أنك تلقائيا ستحاول المساعدة حتى لو لم تكن لك خبرة في ذلك، رغبتك في المساعدة أقوى من حكمتك تجاهها.
تجلس بعيدا وتقول له بهدوء: هل يمكنني أن أجلس ..
ينظر إليك بيأس: لقد جلست أصلا لماذا تطلب إذني ..
وأنت تقترب قليلا: فقط آمل ألا يزعجك ذلك ..
وهو يحذرك: لا تقترب أكثر .. ولماذا أنزعج؟ سأموت على أية حال ..
تتوقف عن الاقتراب وتحدق في السماء: ولماذا تريد الموت؟ هل يمكنني أن أسأل ..
يحدق فيك باستغراب: كل شيء مشروح في الرسالة، لا تتعب نفسك بمعرفة السبب.
تلتفت نحوه: رسالة؟
يقول لك: نعم رسالة ..
تقول له باستخفاف: معقول كتبت رسالة ثم ذهبت لتنتحر في مكان بعيد؟
يقول لك بضيق: وماذا في ذلك؟
تصمت حتى يسيطر عليه الفضول: هييييه أنت يا هذا قل وماذا في ذلك؟؟
تقول له بهدوء: هممم .. لا شيء ..
يحايلك: قل هيا .. قل وإلا سألقي بنفسي ..
تقول له باستهزاء: لا تهددني بإلقاء نفسك، إن أردت الموت مت لسبب كبير، وإلا كنت أنت ووجودك في الأرض صغاراً.
يصرخ فيك: أنت لا تعرف عما تتحدث، الذي مررت به لم يكن سهلا؟
تقول له بغيظ: ماذا حدث لك؟ هل مات أبوك وأمك في حادث طائرة؟
يقول لك بحسرة: لا ..
هل أنت مصاب بسرطان من الدرجة الرابعة في الدماغ؟
يقول لك بغيظ: يا ريت ..
ماذا إذن؟
يرد عليك: لقد فصلوني من العَمل ..
تلتفت نحوه: فقط؟؟
يرد عليك بغضب: لعلك لا تعرف كم هو صعب أن تكون مبرمج حاسب آلي في مايكروسفت؟
ترد عليه: لا أعرف كم هو صعب، ولكنني أعرف أنه لا يقضي الإنسان كل وقته في عمله.
يجيبك بغضب: أتراك تعتقد أنني حصلت على وظيفة في جوجل ببساطة؟
تقول بعفوية: جوجل، واو ,, أعشق هذه الشركة ..
يقوم ويقف على الحاجز: نعم .. كلكم تحبون الشركة .. لا تدركون أية ضغط يصاب به العاملون بها .. نعم .. نعم .. جوجل .. جوجل .. الشركة الإله ..
تكتشف أنَّك نسيت إستراتيجيتك فتعود لها: حسنا .. وفصلتك جوجل .. وماذا في ذلك، العالم مليء بالأعمال ..
يصرخ فيك: أيها الغبي .. لم أعمل في جوجل، ولكنني حصلت على عرض عَمل هُناك ..
تقول: طيب وماذا في ذلك؟؟
يجلس جلسة من يريد أن يشرح لك شيئا: انظر يا صاحبي، أنا كنت طالبا نابها، عملت في مايكروسفت أصمم لها بعض الأشياء وأنا طالب في الجامعة، ثم حصلت على وظيفة كاملة بعد التخرج، أنهيت الماجستير وحصلت على جائزة عالمية، ثم حصلت على عرض من شركة جوجل، اكتشفت أنني وقعت عقد احتكار مع مايكروسفت ويجب أن أدفع عشرة ملايين دولار إن أردت الاستقالة منها، والآن لا أستطيع تحقيق حلمي بالذهاب إلى جوجل.
تتأمل وجهه، ثم تقول بغضب: تو موه هذا الخنث؟ تريد تنتحر عشان عشرة ملايين دولار.
يتأملك كمن فُجِئَ بالجملة: أيها الغبي ألم تسمع ما قلته لك .. أقول لك حلم حياتي ..
تقول له: ولماذا تريد مني أن آخذك بجدية؟
يقول لك: لأنني أريد أن أنتحر ..
تجيبه بغيظ: ها أنت مستعد لإلقاء حلم حياتك من فوق عمارة طويلة.
يهم بالقفز فتبادر بالحديث: ولكن لحظة يا صاحبي ..
يقول لك: ماذا هُناك؟
تقول له بدعابة: ما بك مستعجل، ستموت على أية حال .. اعطنا فرصة لنحكي ..
يجلس باستسلام: حسنا قل ما لديك، ولكن سأفقز قبل أن يطلع النهار، لا أريد أن أقع على ربة منزل في طريقها للعمل.
تقول له: لماذا لا تعمل كوميديا؟
بدهشة يسألك: كوميدي؟ أتقصد أهرج فيضحك الناس مني؟
تشرح له بجدية: لا لا .. أقصد ذلك الشخص الذي يقول الحقيقة فيضحك منها الجميع رغم أنَّها مؤلمة، شخص بوضعك يمكنه أن يخترع آلاف النكات عن أحلام البشر الغبية..
يتكئ بيده خارج السور وينصت لك باهتمام: كيف تقصد؟
تقول له بجدية: انظر، أنت الآن تريد أن تموت، حسناً لا أجادلك في أنَّه من حق الإنسان أن يقفز من فوق عِمارة ما دام لا يقع على رأس أحدهم. ولكن تخيل طوال حياتك والناس يتمنون أن يكونوا أنت، طوال حياتهم ينظرون للأول للدفعة ثم لصاحب الوظيفة الجيدة في مايكروسفت، أي السيارات لديك؟
يقول بخجل: بورش كايين؟
تقول له بغيظ: بورش كايين؟ ولم أوصيت بها؟
يقول: إلى أخي الصغير؟
تفقد أعصابك: حسناً تريد أن تنتحر وتريد أن تعطي بورشك لأخيك الصغير، أيها الأحمق ألا تريد أن تشتري له سيارة أخرى. أنا قدمت من مكان اسمه عُمان، هُناك البشر لا ينتحرون إلا لأسباب حقيقية.
يبدو كمن يحاول تأمل وجهك في الظلام: أوه .. نعم .. كنت أشعر أن لهجتك غريبة، أرجوك لا تقل لي أنَّك مسلم، هذا ما أنا بحاجة إليه، مسلم يقنعني بعدم الانتحار ..
تضحك: يا أخي دع عنك الأديان، نحن لسنا في لحظة دين نحن في لحظة إنسانية.
يقول لك باستغراب: [لحظة إنسانية] هذه الجملة جميلة، هيا أكمل أنا أنصت لحديثك.
تقول له باستفاضة: حسنا انظر .. فاتَك أن تكون مهندسا في جوجل، وقد وقعت عقدا مع مايكروسفت يمنعك من استخدام مخترعاتك خارجها، حسنا إما أن تكون مهما للغاية فتدفع لك جوجل الملايين العشرة، أو أن تكون لا تساوي الملايين العشرة ولكن جوجل تريدك، معناه أن راتبك يتراوح بين المليونين والثلاثة في السنة، هل هذا صحيح؟؟
يقول لك: مليون ونصف .. لا تنس ليس لدي خبرة ..
تواصل: حسنا مليون ونصف هذا مبلغ هائل. يمكنك دائما أن تعيش به أفضل الحياة، لماذا بدلا من الانتحار لا تجرِّب شيئا جديداً، لماذا لا تحاول البدء بالكوميديا، اذهب للحانات، واكتب مجموعة نكات عن حياتك وستجد الناس يضحكون، الكوميديا هي الشيء المختلف الآن. صدقني هذا أفضل من الموت.
يبدأ الناس بالتجمع وتسمع صوت شرطي يتحدث عبر البوق: إن كنتَ تحت التهديد فارفع يدك.
يتأمل كلانا الشرطة الواقفين بالأسفل، والجمهور الذي بدأ يزيد عدده. أصرخ في الشرطة أنني أحاول مساعدته فيأمرونني بالابتعاد. أهم بالابتعاد فيصرخ فيهم أنني لو ذهبت فسيلقي نفسه.
أجلس مكرهاً، فيلتفت لي بابتسامة خفيفة: الانتحار عذر ملائم لإبقاء الناس يتحدثون لك، هيا ليس لدي وقت كثير، يجب أن تقنعني بهذه المغامرة قبل أن أختتم مغامرتي كليا.
تتحدث بسرعة: نعم نعم .. الكوميديا، عليك أن تذهب للحانات، وتكتب النكات التي نجحت، ثم تطورها، ثم تحافظ عليها، ثم تعطيها شيئا منك، شيء لا يستطيع الآخرون تقمصه، صحيح أن النكتة الجيدة هي التي يمكن أن تقرأ، وتسمع، وتُشاهد، ولكن النكتة الجيدة تسرق بسهولة، عليك اختراع نكت عائدة لك فقط، تستخدمها حتى يصدر لك [دي في دي] أول به مجموعة من تجربتك الكوميدية.
يقول لك: حسنا وماذا لو نفذت النكت؟
تقول له باستغراب: وهل الحياة تتوقف؟
يقول لك: طبعا لا .. الحياة لا تتوق....
يدرك أن وقع في فخ فيردف بسرعة: ما عدا حياتي ..
تشعل سيجارة: حسنا ها أنا أنتحر أيضا، ولكن بطريقتي الخاصة ..
ينظر لك بازدراء: مدخن غبي ..
تقول له بغيظ: أيصدر هذا الكلام من شخص يحاول الانتحار؟
يقول لك: هل تعتقد أن حياتي مهمة؟؟
تقول له: نعم
يقول: لماذا؟
تقول: ليس لأنك إنسان، آلاف يموتون دون علمي، ولكن ببساطة لأنني لا أريد أن تخزن ذاكرتي مشهد رجل ينتحر.
هو: حسنا .. ما دمت تعتقد ذلك .. إن وعدتك بألا ألقي نفسي فهل ستترك السجائر؟
تقول: ماذا؟؟ ماذا تقول؟
هو بابتسامة ساخرة [بينما شرطي أسود يطلب منه النزول]: عدني أن تترك التدخين نهائياً ..
تلقي بالسيجارة بلا اهتمام: حسناً، لقد نجحت فعلا في إيجاد سبب يجعلني أتمنى أن تلقي بنفسك.
يلوح بقدميه من على الحاجز: حسنا أرأيت .. هُناك جانب فكاهي في كل شيء ..
تقول له بانتصار: أرأيت ها هي الكوميديا قد بدأت تخرج منك ..
ينظر لك بشك: إنك تجاملني ..
أقول له: لا لا .. هيا .. ابدأ .. دائما الكوميديا تبدأ بسرد حكاية هيا ابدا .. ذات يوم بينما كنت أريد الانتحار .. تعرفت على شخص عُماني فوق العِمارة ..
يسألك: ماذا يعني عُماني؟؟
تقول له بغيظ: عُمان هذه البلاد الذي آتي منها أيها الأحمق .. أكمل الحكاية ..
يحاول هو المواصلة: آآآ آآآ ... همم .. بينما كنت أريد الانتحار ذات يوم، تعرفت على إنسان هندي ليس من الهند. كانت لهجته غريبة وكان يدخن سجائر مثل سجائر العاهرات، كان بديناً وغير حليق وبدا شكله وكأنه مصاب بالتسمم، وعندما شاهدته أدركت أنه ليس أنا من علي أن أنتحر، يجب عليه هو أن ينتحر ..
تفرط منك ضحك هائلة: أيها اللعين .. كل كوميدي جيد هو إنسان نذل ..
يضحك حتى تفرط الدموع من عينيه: يا إلهي، إن هذا ممتع .. هل فعلت هذا من قبل؟ هل تفعلون الكوميديا في عُمان؟
تقول له بحزن: للأسف الشديد لا، هل تصدق أن الحانات لدينا للرجال فقط، أعني مسموح دخول النساء ولكن بسبب المجتمع النساء لا يدخلن؟
يحدق فيك: معقول؟
تقول له بسرعة: وتخيل كل النساء لدينا يلبسن عباءات سوداء، ومن المستحيل أن ترى بنتا طوال حياتك تلبس ثوبا قصيرا إلا إن كانت طفلة، أو كانت مدرسة وقع لها حادث سيارة فتشلحت.
يتكئ بيده الثانية وراء الحاجز: يا إلهي .. هذا محزن بصدق، وماذا تفعل هُنا في بريطانيا؟
تقول له بهدوء: أنا في زيارة صيفية مع أصدقائي، يدرسون في بريستول ..
يضحك: جدتي من بريستول، من المؤكد أنك لو تعرفت عليها فستحبك .. إنه تحب غريبي الأطوار مثلك .. من أين قلت لي أنت؟ من عومين؟؟
تقول بغيظ: إنها عمااااااااااان .. وهي بلادٌ بجانب دبي ..
يتأمل السماء وهو يقول لك: لقد ذهبت لدبي مرة واحدة، مارست الجنس مع عاهرة روسية بألف دولار في الليلة، يا إلهي إن العاهرات غاليات هُناك. قل لي يا عُماني هل لديك صديقة؟
أقول له بخوف: صديقة؟ ماذا تقصد؟
يميل برأسه كمن يشجعك على الحديث: صديقة، همممم .. أليس لديك سرير تشترك فيه مع امرأة؟
تميل برأسك للخلف: نعم للأسف .. فأنا متزوج ...
يضحك حتى يكاد يقع فيتمسك بالحاجز بقوة: إنَّك لعين، يجب عليك أنت أن تقوم بهذه الكوميديا التي تنصحني بها .. هل حاولت ..
تميل أنت للخلف وتبدأ بسرد ما لديك: هممم .. ماذا أقول لك، أنا مهووس بكل هؤلاء الكوميديين، مهووس بهم أكثر مما كنت مهووسا بالشعراء، أتمنى فعلا لو يمكنني فعل الكوميديا في بلادي، ولكن لسبب ما كل شيء ممنوع ومحرَّم. أحاول فقط الكتابة عن المحرم كتمهيد لإثارة الضحكات به، ولكن ما يبدو أن الحديث عن المحرم أصبح عاديا بينما حل المحرم أصبح غير ممكن، ولكن ماذا يمكن أن أقول بلادي ولا أستطيع أن أخلصَ منها، ولكن كإجابة على سؤالك، نعم فعلت وقدمت عدة وصلات عندما كنت أسافر فقط، أعني لا أعرف ماذا يحدث لي عندما أكون خارج عُمان، أريد أن أكون شخصية أخرى.
هو بتساؤل: قلت لي أنك تكتب، ماذا تكتب؟
بخجل: شعر ــ قصة ..
هو: يا إلهي سوف ألقي بنفسي من هُنا .. أنتم .. يا إلهي .. أنتم الكتاب ..
أقول له: لا عليك، أعرف .. قلها .. مثيرون للأسى والحزن ..
يبدأ الحديث بانفعال: أختي الصغيرة التي درست الفلسفة والأدب القديم في لندن سببت لي الجنون، هل تعرف أن كل شيء لديها يجب أن تكون لديه صفة ما لا يمكن للبشر مثلي فهمها. اففف أكرهها تلك العاهرة ..
تضحك بصوت عالٍ فيلتفت لك: ماذا؟
تقول: لقد وصفت أختَك بالعاهرة؟
يقول لك: وماذا في ذلك، إنها عاهرة ..
تقول له: نحن في عُمان لدينا صلات مختلفة بالمرأة، نحن نشعر أن علينا دائما الحفاظ عليها درة مكنونة، والحفاظ على سمعتها، من المستحيل أن تسمع هذه الكلمة تخرج من شخص عُماني. فقط للعلم لا أكثر ..
يلتفت لك: حسناً هل لي أن أسألك .. لماذا صعدت إلى هُنا؟
ترتبك فيعيد السؤال مرات: الآن انتبهت أنت أول الواصلين، كيف عرفت أنني هُنا؟
تقول له بخجل: لقد صعدت للسبب نفسه ..
ينزل من على الحاجز مشدوها فتسمع الصرخات أسفل والتصفيق .. لا يعبأ بكل هذا فيقترب منك فتهدده بالقفز لو اقترب أكثر ..
يقف من بعيد، ثم تسمع الجمهور في الأسفل متسائلا، وصوت الشرطي الأسود يقول: بحق الله، من منكما الذي يريد قتل نفسه.
ترفع يدك، فترتفع الأصوات: بعضهم يقول بصوت عالٍ [ألق بنفسك أيها الباكي].. بمعنى ألق بنفسك أيها الباكستاني.
يسألك بأسى: معقول كل هذا الحب للحياة وصعدت هُنا لتقتل نفسك؟
تقول له بلا مبالاة: لا أدري، لست مؤمنا بالأقدار ولكن ربما هو القدر الذي سمحَ لنا باللقاء الآن.
يسألك وهو يقترب بحذر: ماذا ستفعل الآن، أرجوك لا تقل لي ستلقي بنفسك ..
أقوم من على الحاجز: لن ألقي بنفسي، ولكن بشرط.
هو: ما هو؟
أنت: عدني أنك ستستقيل غدا من مايكروسفت وسنبدأ معا فرقة للعروض الكوميدية..
هو: أعدك، هيا لا تلق بنفسك يا عوميني ..
أنت: يا إلهي .. قلت لك عُمااااااااااااني [وأنت تقوم عن الحاجز]
تقومان من الحاجز ويسألك هو: ماذا الآن؟
تمشي باتجاه الباب والشرطة تقتحمه، وتقول له: سوف نتفاهم بعد خروجنا من السجن ..
&&&
يمكنك بعدها أن تتخيل الحياة تتخيل بعد خمسين سنة، في بيتٍ من بيوتِ كبار السن في الولايات المتحدة، ممرضة سوداء تجلب لك الشاي، وجوارَك صديق لك يدخن السيجارة الوحيدة المسموحة له في اليوم. تقول له بغيظ: ألا تعطيني نفساً؟
يقول لك: لقد وعدتني بأن تترك التدخين تلك الليلة، هل نسيت؟
تتأمل المكان .. بيت لكبار السن، وذاكرة لأيام طويلة قضيتها مع صديق كنتما تريدان الموت ذاتَ يوم. لعله حمد الغيثي كان مصيبا، الحياة فعلا قد لا تنتهي برصاصة، ولكن من المحتمل أنك تسقط وتذوي عضواً عضواً، نعم هذا هو الجَميل في الحياة، أن تعيشها حتى يفشل جسمك في تحملها.
أقول له بلغة إنجليزية ذات لهجة جنوبية واضحة: يا لك من شخص حقير ..
يجيبك بلغة إنجليزية تحمل لهجة شرق آسيوية: F u
تسأله: وماذا يعني فو؟؟
يضحك وأنتما تتذكرا عرضا من العروض قدمتماه في لاس فيغاس بحضور السفير العُماني الذي ارتبكَ عندما عرف أنَّ هذا الأربعيني هو من رعايا بلادِه.
تراه يدخن السيجارة .. وينفثها وأنت تتذكر تلك الليلة التي صعدت فيها لتلقي نفسك من على السطح.
&&&
المرة الأولى لك في بريطانيا، وكل شيء يبدو غريباً. لا يعرف الأصدقاء في بريستول أنَّك أردتَ السفر هُنا لأنَّ العِمارات في عُمان ليست عالية. عندما تريد أن تنتحر بإلقاء نفسك من علٍ، عليك ألا تختار عمارة طويلة جداً، فمن المؤكد أن رعبَك في لحظة السقوط سوف يكون هائلا، وسوف يكون أكبر عذاب تعرضت له في حياتك، وكذلك لا تلق نفسك من عمارة قصيرة فتنجو وتعيش مشلولا باقي العُمر، كن وسطيا في قرارات الانتحار.
لم ألتق بــ [ديفد] مصادفةً، وإنما فعلاً كنت قد اخترت تلك العِمارة لأنها بدت ملائمة لموت عشوائي، سمائلية يموت في شوارع بريستول بالمملكة المتحدة، أي حتفٍ ها، وأي موت. موت يليق بشاعر اكتئابي، أو باكتئابي يكتب الشعر.
كان يمكنني أن أخترع لكم [فلاش باك] سريع سوف يكمل لكم المناطق الناقصة في الخيال الذي وضعته لكم، لسبب ما يبدو هذا أمراً صعباً. فلا أنتَ أنتَ، ولا أنتم أنتم، كُل ما في الأمر ثمَّة دوران عبثي لهذه الأرض، ووجود مخيف للعشوائية التي تأبى الأدمغة فهمها، سيحاول ألف منتحر إقناعكم أنَّه انتحر لمشاكل الكون، بينما هي مشاكل نفسِه التي سببت له كل هذا.
عندما يحاول أحدُكم الاقتراب من الموت، دعوه يقترب، سيعرف أي شيء بشع هو. ولكن لا تدعوه يقترب كثيراً، دعوه فقط يعرف كم هو مؤلم ومقزز أن تهجر حياتَك دون أن تحاول خوض حرب من أجل تغييرها. أشبه بمن يقرر الاستقالة بعد عشرين سنة من الوظيفة، أما كان عليه البدء مبكرا في خياراتٍ أخرى، مع ذلك ستشعر بالسعادة له لأنَّه ــ وإن كان تأخر عشرين سنة ــ فقد أرادَ أن يكون له شرف المحاولة، نعم هذا بالنسبة لنا نحن العرب، المحاولة شرف، ولكي تبقي هذا الشرف، عليك أن تبقى محاولاً.
&&&
عندما تشعرُ أنك كدت أن تخسر حبيباً، تشعرُ أنَّك تفعل الكثير من الأخطاء في حق نفسك، أولها بقاؤك في وظيفتك، ثمَّ بقاؤك في بلادِك، ثم بقاؤك في سكنك، ثم بقاؤك لوقت طويل في غرفتك. شعورُك أنك كنت أن تكون السبب في فقدان عزيز لك، يكفيك لكي تستيقظ وتنتبه إلى الغفوة التي كنتَ فيها.
ليست حبوب الاكتئاب ما أنت بحاجة إليه، وليس البقاء طويلاً أمام الحاسب الآلي، ليس ممارسة الجنس مع العابرات، ليس الحب، ليس الزواج، ليس الوظيفة، ليس الأصدقاء، ليس أي شيء، أنت بحاجة إلى جنون هائل، بحاجة إلى مغامرة هائلة، بحاجة إلى شيء مختلفٍ غير متوقع تكسر به نمط الأشياء الذي أضحى متوقعا بشكل يثير الغيظ، بحاجة إلى ذلك البريطاني الذي أراد الانتحار في الوقت نفسه الذي أردت أنت قتل نفسك فيه، بحاجة إلى ذلك الصديق الذي ستعرفه غفلةً، تلك المرأة التي لم تتوقعها، والتي كانت تشاهدك من بعيد وتكتفي بالصمت، بحاجة إلى اتصال يحمل لك خبرا سعيدا، بحاجة إلى تغيير جذري، وبالقدر الذي أنت خائف فيه من التغيير، تدرك أنك ستكون سببه. ليست المشكلة فقط تراكب شطائر الكنتاكي في الثلاجي، وليست المشكلة وجود رائحة في الثلاجة، كما أن المشكلة ليست أن الأصدقاء كلهم يتعايشون معك، المشكلة أنَّك حتى هذه اللحظة تؤجل البدء، تؤجل البدء بجنونك، تؤجله لآلاف الأشياء، تؤجله ويبدو مع الوقت أنَّه لن يبدأ أبداً، وتبدو هذه الأشياء التي فعلتها في الجانب، فعلتها لتسلية الوقت حتى يبدأ جنونك، تبدو أنها هي الجوهرية، بينما الحقيقة الصادمة أنك لم تفعل شيئا، لم تترك بصمة، لم يكن لك أثر، غير موجود، عدم، وهم، عبث في هذا الكون الشاسع. ليست المشكلة أنك تريد أن تكون شيئا، المشكلة أنك لا تريد أن تكون لا شيء .. هذه هي المشكلة ..
&&&
المجازات ليست قتلٌ للوقت فحسب
ولكنها قتلٌ للنفس ..
وللذاكرة ..
وللأحلام ..
&&&
ذاتَ يوم ستتمنى لو كنت في السابعة والعشرين مرة أخرى ..
ذاتَ يوم ..
المصدر : مدونة معاوية الرواحي
¨°o.O ( على كف القدر نمشي ولا ندري عن المكتوب ) O.o°¨
---
أتمنى لكم إقامة طيبة في الساحة العمانية
---
أتمنى لكم إقامة طيبة في الساحة العمانية
وأدعوكم للإستفادة بمقالات متقدمة في مجال التقنية والأمن الإلكتروني
رابط مباشر للمقالات هنا. ومن لديه الرغبة بتعلم البرمجة بلغات مختلفة أعرض لكم بعض
المشاريع التي برمجتها مفتوحة المصدر ومجانا للجميع من هنا. تجدون أيضا بعض البرامج المجانية التي قمت بتطويرها بذات الموقع ..
والكثير من أسرار التقنية في عالمي الثاني Eagle Eye Digital Solutions
رابط مباشر للمقالات هنا. ومن لديه الرغبة بتعلم البرمجة بلغات مختلفة أعرض لكم بعض
المشاريع التي برمجتها مفتوحة المصدر ومجانا للجميع من هنا. تجدون أيضا بعض البرامج المجانية التي قمت بتطويرها بذات الموقع ..
والكثير من أسرار التقنية في عالمي الثاني Eagle Eye Digital Solutions