هو مجرد حرفٌ زاجل أينما حلّ لاتكترثوا بما يحتله منكم ..
سيمضي كما حطّ بـ هدوء وَ حبْ
...
سيمضي كما حطّ بـ هدوء وَ حبْ
...
(( البقاء أمنية ضالة ))
كنا سائرتين باتجاه مقهى مركز التدريب الذي يجمعنا على عادتنا اليومية ، حين فاجئتني بسؤال غريب :
- كيف هي ؟ اللحظة ما بعد اللحظة الأخيرة ، أتشبه الأولى ؟ أم أنها ترويها ؟
أصابتني الحيرة وقلت :
- لا أعرف ..! أجبتها ببطء مستنكرةً هذا الفيض المفاجىء الطاغي على الصوت .
وبدأت من جديد حديثاً طويلاً ، لم ألتقط معظمه بسبب اضطرابها ..
ثم همست فجأة بانفعال :
- صدقيني ، إنها ما يُشبه المؤامرة على أنفسٍ لا تفقه هذه الأبعاد
عليكِ أنتِ أن تصدقيني ! إنني كالمتورطة بشيء ما ، لا أعرف كنهه
تكاد الحيرة تقتلني ، هو شيء لا أصِلُه بإدراكي وأعجز تماماً عن فهمه
بل إنّ كل محاولاتي البائسة لربطه بما يدور حولي تنتهي إلى الفشل !
تأوّهت بصوتٍ عالٍ فجأة كمن أوهنه الركض ثم جابهتني قائلة :
- أتظنين أنني مُصابة بـ لعنةٍ ما ؟؟
أوليستِ السماء التي تُظلّني هي ذاتها تُظلّ من حولي ؟
ألسنا نتنفس ذات الهواء ؟ ونشرب ذات الماء ؟
وقبل أن أبادر إلى إجابتها ، أكملت قائلة :
- هو ذاك ، ملعونة أنا ولا بد !
وأكملت بتمتمات لم أفهم منها شيئاً .. وحين فكرت اقتراح تغيير المكان ، عادت للحديث بقوة قائلة :
- أشعر بفيض هائل من الأفكار والأسئلة ، تهاجمني في كل ليلة .
إنها تحاصرني ، وتظل تلتف حولي كأفعى ضخمة ، هل تفهمينني ؟
تأملتُها بهدوء .....
صديقتي قصيرة القامة ، نحيلة .. لها عينان واسعتان جميلتان ، تتميزان بصفاء نادر ..
لكني في تلك اللحظة بالذات كنتُ كأنني أشاهدهما لأوّل مرة !
كانت تتطلّع إليّ بنظرة يختلط فيها الاستجداء واللوم ، كأنما تريد منّي التقاط المتساقط من كلماتها
غير القادرة على اللحاق بالمعنى في ذهنها المضطرب !
شدّت على ساعدي ، وهي تتابع حديثها قائلة :
- لست أعرف !!!
إنما الحياة تبدو معضلة كبيرة لا حلّ لها !
كما أنني غير متأكدة إن كنتُ قد توصلّت لفهم ما يجري فعلاً في خضمّ الأفكار التي تلح عليّ
لأفكَ شفرتها ، لأجعلها مُسلّمة لا مفرّ منها ، أو مُسالمِة تمدّ يدها بغصن سكينة . ولابدّ لي !!
لابدّ لي من قرار أتخذه ، رغم الخيبة والإحباط في كل مرة أفشل فيها في طرد فكرة طرأت ،
أو استبدال عقلي بسواه ، لا تستعمره الأفكار الضالّة ..
كانت تتحدث .. وأنا أشعر بغرابة تتفاقم على ملامحي ..حتى بدأت أشك فعلاً إن كانت هذه التي أمامي
هي ذاتها صديقتي التي أدرس معها منذ ما يقارب الـ خمسة أعوام !!
كنتُ لا أعرف إلى أيّ مدىً يمكن أن تصل بحديثها الغريب هذا ،
وكدت أواصل أفكاري حولها لولا أنها فاجئتني بأن قطعت الطريق عليّ
ووقفت قبالتي فجأةً ، وقالت بهدوء غريب :
- توهمتُ ذات مرّة أنني انتصرت ، وطردت هذه الأفكار للأبد ، التمست الصبر وقررتُ معاكستها
والعودة إليّ بحركة مراوغة ، ثم أنحرفتُ عنها تماماً لأقوى زاوية ألتقطها منها ، فأستطيع فهمها
سريعاً، مُرفِقةً بذلك وصفاً سريعاً من خلال يدها التي تحركها في الهواء أمام ناظري ..
ثم عادت فجأة للوقوف بجانبي ، ووضعت كلتا كفيّها على وجهها وتابعت بصوت دبّ فيه الحزن فجأة :
- إنما كل ذلك كان بلا فائدة ، أبداً بلا فائدة .
صمتت قليلاً ، ثم تابعت بأسى واضح :
- بالله عليكِ أخبريني أنتِ ، ماذا ستفعلين لو وجدتِ نفسكِ فجأةً أمام حالة من الودّ البارد تغمركِ ،
دون جهدٍ منكِ أو إرادة ؟ وإياكِ ومحاولة إقناعي بأنها محاولة داخليّة تستنفرها النفس لعقد هدنة
مع الأشياء والناس من حولي ، فهي محاولة فاشلة تماماً ...
وها أنا أخبركِ أنه رغم السكون الذي يعمّني نتيجة هذا الودّ الطارىء الذي غمرني ،
إلاّ أنني وبكامل وعيي ، أخذتُ أوّجه لنفسي كل اتهامٍ ممكن وغير ممكن !
ودون الالتفات إلى الإشارات التي تبعثها أعماقي ، أو الإضاءات التي تُسقطها على كوامني
بأنّ تلك الأفكار التي اعتقدت لفترة من حياتي أنها ذات أمنيات مُعلّقة لم أعشها كما يجب ، ولذلك
لم أعقد لها اتفاق هُدنة مع الزمن ، ورحتُ أتساءل : ماذا كان سيحدث لو أنّي منذ البدء أدرتُ لها
ظهري ولم أمنحها الفرصة لتغوص فيّ هكذا ؟؟
كان الأسى قد اكتمل على وجهها .. وكنتُ قد بلغت تقريباً أقصى ذهولي !
وكنتُ أعرف أنها الآن ترمي بأسئلة حائرة ولا تنتظر مني جواباً .. ورغم ذلك قاطعتها وقلت لها :
- يا عزيزتي ، كل هذه أوهام لا وزن لها أمام حياة قائمة بكل ما فيها ، بحلوها ومرّها
لماذا تجرفين نفسكِ تجاه محالٌ على إدراكك القاصر ؟ حتماً أنتِ لا تريدين قلب حياتكِ
أو خسارة طموحكِ لخاطر فكرة ضالّة كما وصفتها الآن .
كانت تبدو غير مكترثة بتاتاً لحديثي ، وعيناها الغائمتان تدوران في المكان بلا هدف محدد ،
وكنتُ في قرارة نفسي أدرك أن حديثي لها يُشبه محاولة ملء الوعاء المثقوب بالماء !
.........
كان صباحاً مميزاً بشمسه المُشرقة ونسماته اللطيفة ، ورائحة الحياة التي تنبعث من كل شيء ولكل شيء ..
أسرعت خطاها فجأة .. والتفتت لي بابتسامة مبعثرة قبل أن تختفي في زحام المتدربات ..
حتى علمتُ في اليوم التالي بانتحارها ، ومفارقتها الحياة .
روح؛
13/11/2010
13/11/2010