
لا يمكنني أن أشعر بالملل من تأمل البحر، أتذكر هروبي من المدرسة لفعل ذلك، أشاهد القوارب تأتي وتذهب، سلال الأسماك يحملها البحارة ليعرضوها للبيع مباشرة على الشاطئ، جمهور يجتمع حول القوارب وتسمع الأرقام باللغة الهندية ويتنافس المشترون على أنواع من السمك، البحارة يفصلون مجموعة من الهوامير عن البقية ثم يعرضونها للبيع بشكل منفصل وخلال عشر دقائق ينتهي الأمر ليتكرر بعد ساعة أو ساعتين مع مجموعة أخرى من القوارب وصيد جديد، في بعض الأيام لا يكون هناك أي صيد لأن البحر هائج منذ أيام ولا يخرج في هذا الجو إلا قلة من الناس.
هذه الصورة بتفاصيلها الكثيرة التي لم أذكرها لم تعد موجودة لأسباب مختلفة، انتهت علاقتي بالبحر منذ وقت طويل ولم أعد أذهب إلى هناك إلا مرة كل عامين أو أكثر، افتقد البحر الذي عرفته ويزعجني ما يسميه البعض تطوراً وتنظيماً وهو كذلك فعلاً لكن للتنظيم جانب آخر هو إنهاء نمط حياة وتفاعل اجتماعي بين فئات مختلفة من الناس وإغلاق أبواب الرزق على مجموعة منهم لأن الخروج للبحر أصبح أكثر تعقيداً كما يراه البعض أو أكثر كلفة كما يراه آخرون.
اليوم ذهبت لمنطقة ميناء زايد لإنهاء عمل ما وفي الطريق مررت بالسوق هناك وكنت أحمل معي الكاميرا لكي أصور، أردت التوقف هناك لأنني لم أزر هذا السوق منذ سنوات وأريد أن أرى ما لا أراه في المراكز التجارية، الأسواق الشعبية التقليدية يجب أن تبقى لأنها في رأيي تعطيني شعوراً بوجود البركة، أناس يفتحون محلاتهم كل صباح وينتظرون رزقهم ولم يعرفوا من الدنيا ما نراه في المراكز التجارية التي لا شك أنها جميلة نظيفة منظمة لكنها بلا روح ولا بركة وفوق ذلك غالية الثمن.
في السوق الشعبي يمكنك أن تلتقي بالباعة وتتحدث معهم وتجلس معهم وتشرب الشاي معهم ولن يزعجهم ذلك بل على العكس هم يحبون ذلك، هذا جزء من ثقافة السوق الشعبي، أن يكون هناك علاقة أوثق وأمتن بين البائع والمشتري تتحول إلى شبه صداقة أو حتى صداقة، بالطبع لا يمكن تكوين هذه العلاقة من زيارة واحدة بل بعد زيارات عدة، قارن هذا بما يحدث في المحلات الكبيرة حيث أنت تتعامل مع مؤسسة وليس أفراد وليس بينك وبين أي عامل في المحل علاقة تزيد عن الشراء والاستفسار عن المشتريات، الوجوه تتغير وتتبدل فلا يمكن أن تبدأ علاقة ثم يتطور الأمر ليصبح عدم الاكتراث هو الأساس، أريد أن أشتري والسلام.
في السوق الشعبي يمكنك أن تمارس رياضة تخفيض السعر لأقل حد ممكن، بالطبع يجب أن يكون وجهك لوح كما يقولون - عذراً على اللفظ - ويجب ألا تخجل من المجادلة على دراهم قليلة، شخصياً أفضل فعل ذلك مرة واحدة فأسأل البائع "كم سعرها؟ وبكم ستعطيني؟" مرة واحدة كافية لتخفيض سعر أي شيء بقدر لا بأس به، هذا التفاعل الحي بين البائع والمشتري لا تجده في المحلات الكبيرة، السعر محدد وادفع بدون نقاش.
بالطبع الأسواق الشعبية ليست مجرد مكان للبيع والشراء بل تزيد على ذلك أن تكون مكاناً لاجتماع الناس والتفاعل الاجتماعي بين فئات مختلفة منهم، وجود مقاهي وكراسي وطاولات تحيط بهذه المقاهي أمر ضروري، وجود ممرات واسعة لا تدخلها السيارات أيضاً أمر ضروري، وجود مناطق مفتوحة وأخرى مغطاة أراه كذلك أمر مهم ويعطي روحاً للسوق ... أنا في الحقيقة أصف السوق المركزي القديم في أبوظبي الذي للأسف لم يعد موجوداً والبديل قد لا يكون مختلفاً عن المراكز التجارية من ناحية وجود علامات تجارية عالمية معروفة ... ما الفائدة؟
سوق الميناء ليس كما وصفته لكنه اليوم كان بالنسبة لي حديقة ملاهي، هل جربت مرة أن تصطحب أطفالاً لمحل ألعاب ثم بعد ساعة طلبت منهم أن يخرجوا؟ هل جربت أن تجبرهم على الخروج والناس من حولك يحدقون فيك لأنك تتصارع مع أحد الأطفال الذي يصرخ بأعلى صوته باكياً ... كنت كالطفل الذي دخل محل الألعاب عندما دخلت إلى السوق، كنت أريد رؤية كل شيء وأن أبقى هناك إلى الأبد.
في البداية ألقيت نظرة على أنواع من الفخار، أوعية طويلة لزراعة النباتات وأخرى واسعة عميقة لنفس الغرض، عمود يحمل فوقه جرة، وجرة حفر في جانب منها حفرة لوضع النقود وتأتي بألوان حمراء وخضراء، رأيت دمية بشعة وأخرى أكثر بشاعة، رأس حصان وتمثال لقطط وسلاحف وضفادع وغيرها من المخلوقات.



ثم رأيت محل تحف فوقفت عند بابه ولم يكن أحد بالداخل، دخلت وبدأت أنظر في البضائع، محلات التحف الإيرانية منتشرة في أبوظبي وستجد فيها بضائع جميلة تستحق أن تضع بعضها في بيتك، هذا المحل كان يحوي أنواعاً من السجاد بعضها غالي السعر، هناك خزفيات بأشكال وأنواع وهناك صناديق مصنوعة من الخشب وعلينا نقوش دقيقة صغيرة جميلة وتأتي بأحجام مختلفة، كنت أمسك بالصناديق وأنظر في تفاصيلها العجيبة، التفت للخلف لأسلم على البائع الذي دخل لتوه، بدأت حديثاً معه عن إيران والأماكن الجميلة فيها فذكر أصفهان وطهران ثم تحدثنا عن السجاد ثم عن الصناديق الصغيرة، ذهبت لقسم من المحل يحوي صناديق صنعت من مادة لم أعرفها، سألته وإذا هي عظام الجمل! أحد هذه الصناديق كان صغير ومزخرفاً برسومات فارسية لرجال يركبون الخيل، اتصلت بداوود لكي يأتي ويشاهد، رأيت صندوقاً للأقلام مصنوعاً من عظم الجمل، الصناعة دقيقة والزخارف رسمت باليد وسعرها ليس رخيصاً لكنها جميلة، لو لم يخبرني البائع أنها مصنوعة من عظم الجمل لظننت أنها من الرخام.
رأيت صحوناً صنعت من النحاس وطليت بألوان وخارف عجيبة، رأيت بلاطاً مزخرفاً يباع بالقطعة وليس بالمتر المربع كما أعرف، ذكرت للبائع من البداية أنني لا أنوي الشراء لكنني أريد الآن الشراء، منذ أن كتبت عن العاطفة في التصميم وأنا أبحث عن شيء جميل أضعه في غرفتي بدلاً من الكآبة التي أحيط بها نفسي الآن وقد وجدت ما أريده في محل التحف هذا، كان من الصعب أن أخرج دون أن أشتري شيئاً لكنني خرجت على أمل العودة لاحقاً.


داوود رأى محلاً لبيع الأشجار والزهور فذهب إلى هناك ولحقته كأنني اكتشفت قسماً جديداً في محل الألعاب، رأيت نباتات كثيرة عرفتها في الهند، أنا وداوود نشترك في حب الأشجار ومعرفة ثمارها وأوراقها والورود ومنافع بعضها، اشترى داوود شجرتين وأنا كنت أتجول بكاميرتي أصور الورود.


لم يكن لدينا مزيد من الوقت لذلك عدنا للسيارة وفي الطريق رأيت نموذجاً لسفينة تقليدية، مثل هذه النماذج تراها في منازل بعض الناس لكنني أشعر بأنها غير متقنة الصنع وأنه يمكن صنع نماذج أكثر دقة وإتقاناً، بالطبع الكلام مجاني وسهل، لا أظن أن صنع هذه النماذج الخشبية أمر سهل.

بعد ذلك رأيت ما نسميه في الماضي "الخرس" وهو وعاء من الفخار لحفظ الماء أو يستخدم لحفظ أطعمة مختلفة، إذا استخدمته لحفظ الماء ستجد أن الخرس يبرد الماء ويجعله عذباً، هذا تبريد طبيعي لا يضر كما يحدث مع تبريد الثلاجات.

كانت هذه جولة سريعة في سوق شعبي لم أكتفي من التجول فيه، أتمنى فقط ألا تندثر الأسواق الشعبية ليبنى مكانها بنايات زجاجية حديثة عالية لا روح فيها، أسواقنا الشرقية بعشوائيتها وبساطتها يمكنها أن تكون وسيلة جذب للسياح، لا أظن أن السائح الأوروبي أو الياباني يريد رؤية ما يراه في بلده بل هو يبحث عن شيء مختلف يعطيه فكرة عن ثقافة البلد، فلنحافظ على أسواقنا الشعبية.
المصدر : مدونة عبدالله المهيري
¨°o.O ( على كف القدر نمشي ولا ندري عن المكتوب ) O.o°¨
---
أتمنى لكم إقامة طيبة في الساحة العمانية
---
أتمنى لكم إقامة طيبة في الساحة العمانية
وأدعوكم للإستفادة بمقالات متقدمة في مجال التقنية والأمن الإلكتروني
رابط مباشر للمقالات هنا. ومن لديه الرغبة بتعلم البرمجة بلغات مختلفة أعرض لكم بعض
المشاريع التي برمجتها مفتوحة المصدر ومجانا للجميع من هنا. تجدون أيضا بعض البرامج المجانية التي قمت بتطويرها بذات الموقع ..
والكثير من أسرار التقنية في عالمي الثاني Eagle Eye Digital Solutions
رابط مباشر للمقالات هنا. ومن لديه الرغبة بتعلم البرمجة بلغات مختلفة أعرض لكم بعض
المشاريع التي برمجتها مفتوحة المصدر ومجانا للجميع من هنا. تجدون أيضا بعض البرامج المجانية التي قمت بتطويرها بذات الموقع ..
والكثير من أسرار التقنية في عالمي الثاني Eagle Eye Digital Solutions