القصة الكاملة لاعتقالي ومحاكمتي وعودتي إليكم جديد بن دارس

    • القصة الكاملة لاعتقالي ومحاكمتي وعودتي إليكم جديد بن دارس

      (1)







      قبل أن تقرؤوا تفاصيل القبض علي والتحقيق معي:-


      هذا الموضوع الجديد الذي أكتبه دون أن أدري ما يخبئه القدر لي؛ هل أعود إلى أسرتي الصغيرة لأقبل أولادي محمد وعبدالله والصغيرة "روضة" التي أهديها هذا المقال الذي اسرد فيه تفاصيل القبض عليّ مساء السابع والعشرين من يناير!! أم أن القدر قد رسم لي طريقا يقلب حياتي رأسا على عقب!!


      إليك يا روضة: إليك أيتها الطفلة التي لم تكمل السنة والنصف تأتي إليّ راكضة كلما دقت الساعة الثانية والنصف ظهرا ما بعد الدوام، حيث تسمعين صوت المفاتيح أضعها في الدرج فتهرعين إليّ تطلبين مني أن أرفعك عاليا فتضمي قدميك على خصري كأنك تعانقينني بعد غياب المساء السابق والصباح اللاحق..


      لقد انتظرتك سبع سنوات عجاف بعد ميلاد أخيك الثاني عبد الله، أتت أختك "مريم" لكنها خرجت من الحياة قبل اسبوع من ميلادها؛ خرجت جثة مأواها الجنة، فقد تسبب في موت أختك خطأ إداري بمركز صحي ومستشفى حكومي قبل ثلاث سنوات، فلم تر مريم النور أبدا، سلمت أمري لله حيث حرمني القدر من أول ابنة لي تلاعب أخواتها.. وأتيتي أنتي يا روضة لتعيدي إليّ البسمة من جديد فتملئين المنزل صراخا بعدما كبر محمد وعبدالله..


      وكلما هممت في الخروج مساء ورأيتيني البس الدشداشة فإنك تسارعين إلى لبس حذائك تريدين اللحاق بي يا روضة باكية مبتسمة ترافقيني إلى حيث أذهب...


      لكن صباح الثلاثاء يا روضة فيه قرار مصيري؛ إما أن أعود إليك حاملا جسدك الصغير إلى حيث نسير بعيدا، أو أتوارى عن الأنظار لتبكين الفراق وأبكي البعاد عنك يا صغيرتي...



      حتى الآن بالكاد تنطقين كلمة "أبي" أو "بابا" لكن متى عدت إليك فسوف أسمعها مني يا عزيزتي الصغيرة، وإن لم يكتب لي ذلك فموعدنا في مكان وزمان يقدره المولى عز وجل...








      (2)




      تشير لساعة السابعة والنصف مساءا تقريبا،، يدق جرس المنزل، كنت أجلس مع ابن خالتي الذي جاء يزورني بعد عودتي مع أسرتي من تايلند في رحلة عائلية استجمامية قبل ثلاثة أيام.. كنت قد طرحت موضوعا جديدا باسم (ما بين الباتونج وحديث خاطف مع فرانسوا) عصر ذلك اليوم، على أن أضيف بعض الحلقات في المساء، غير أن زيارة ابن خالتي المفاجئة جعلتني أجلس معه أدردش عن الرحلة الأسرية التي استمتع بها الأولاد، دون أن أعرف أنه بعد لحظات فإنني سوف أحرم منهم (11) يوما...


      تحركت إلى حيث الباب لأشاهد شخصين لأول مرة. بعد السلام قدم لي أحدهما ورقة مكتوب عليها أمر بالتفتيش والقبض عليّ. اعتقد أن الأمر مزحة فقمت أدقق في الورقة لأجدها صادرة من الإدعاء العام وفيها ختم أصلي وتوقيع. وما هي إلا لحظات ليقدم لي الشخص الأول بطاقته الشخصية التي حملت هوية صادرة من الشرطة، وليخبرني بأنه ملازم واسمه فلان بن فلان الفلاني.. ومع هول المفاجأة وحتى الصدمة لم أحفظ اسمه، حيث أنه طلب مني مباشرة التوجه إلى حيث جهاز الكمبيوتر وعدم لمس أي شيء أو تحريك أي شيء.


      كيف إذن عرف ذلك الضابط - والذي بدا لي في غاية الأدب والاحترام - أنني كنت متواجدا في المنزل في تلك اللحظة بالذات؟،، فقد كان مهذبا طوال الساعتين اللتين قضاهما في منزلي مع ستة أفراد وامرأة لم أعرف بوجودها إلا لاحقا - وكان شديد الاعتذار في كل خطوة يخطوها قائلا لي بأنه متأسف لذلك الفعل لكنه عمله ويجب أن يؤديه.... كنت قد اتصلت بشركة النورس في مشكلة معينة، فأخبرني الموظف بأنه سوف يبعثون لي شخصا يحاول حل المشكلة (الانترنت) في المنزل، ولم تمضي سوى نصف ساعة ليأتيني اتصال يسألني عن مكان منزلي. اعتقدت أن الموظف من النورس فأعطيته كيفية الوصول إلى منزلي. وما هي إلا دقائق إلا ويكون الضابط وزميله أمام منزلي...








      (3)






      أخذت الضابط إلى الطابق الثاني حيث جهاز الكمبيوتر السطحي لدي، أمرني بألا أحرك أي ساكن وألا ألمس أي شيء في الجهاز بل أطفئه حالا. كما أمرني بأن أحمل نفسي بعيدا عن طاولة المكتب المنزلية، حيث أقدم زميله على التفتيش الدقيق وحجز كل قرص ممغنط (سي دي) سواء كان في الطاولة أو حتى في بقية غرف المنزل. وفي كل مرة فإن الضابطين كانا في قمة الأدب وهما يستأذناني في التفتيش، وأن ذلك جزء من عملهما ولكنهما يعتذران على ذلك التصرف...


      أسلوبهما الطيب في التعامل في بداية قضيتي الشائكة لم يجعلاني أتحدث إلا القليل. فهما كمأموري الضبطية القضائية من حقهما بل ومن الواجب عليهما التعامل مع الشخص المتهم بمجرد صدور مذكرة التفتيش والقبض.


      ومع بدء ذهني في استيعاب ما يحدث معي فقد بدأ السكري يرتفع لدي وكذلك الضغط، سارعت إلى أقرب ثلاجة متناولا قنينة الماء لأطفئ الضما الذي غاتبني هو الآخر على غرة. ويبدو أن قنينة واحدة لم تكن كافية خاصة أن التفتيش كان دقيقا. وما إن انتهى التفتيش في المكتب إلا ويبدأ تفتيش دقيق في الغرف الأخرى. بدأ بعض الأفراد يزدادون، ورأيت بينهما امرأة يستأذنني الضابط أن تقوم بتفتيش غرفة النوم والملابس الخاصة بزوجتي. وبطريقة متزنة ومهنية جدا استأذنتني هي الأخرى على أن أدلها على غرفة النوم والملابس...


      كان هناك سؤال آخر حول ما إذا كانت لدي أجهزة أخرى للكمبيوتر فأرشدت السائل إلى غرفة أطفالي الذين زودتهم بذلك الجهاز ليفيدهم في دراستهم، وان كانت الألعاب هي الأكثر استخداما من قبلهم!!! كما أرشدتهم إلى جهاز اللابتوب والذي كان متواجدا في الغرفة السفلى. وعندما نزلت إلى هناك تفاجأت بوجود عدد يزيد على الستة من الأفراد. سلمّ عليّ كل فرد وبتحية الإسلام والسؤال عن العلوم والأخبار أيضا وبشكل ودي جدا. فقط طلبوا مني التعاون الكامل لإنهاء المهمة في أقصر وقت. وبعد ساعتين من التفتيش قيل لي أنني لا بد أن أرافقهم. سألهم ابن خالتي عن المكان فردوا عليه بأنه سوف يكون في مقر قيادة الشرطة بالقرم...


      كنت قبل يوم واحد قد أخذت محمد وعبدالله إلى نزوى لإكمال بقية إجازة المدرسة بعد عودتنا من تايلند. وعندما أتى إلينا هؤلاء الأفراد لم تكن زوجتي أيضا متواجدة في المنزل، ومن حسن الحظ أن ابن خالتي كان الوحيد المتواجد (باستثناء الشغالة وروضة أيضا)، فكان هو نقطة التواصل طوال فترة الاحتجاز. وقبل أن أذهب معهم فقد اجتمعنا جميعا وطلبوا مني أن أوقع على كشف أو جرد فيه كافة المحتجزات (3 أجهزة كمبيوتر + أقراص صلبة + أجهزة ذاكرة فلاش + أكثر من 120 شريط ممغنط) ورغم أن الكثير من تلك الأشرطة ليس لها علاقة بقضيتي خاصة أن بعضها أشرطة سي دي أصلية للأجهزة وأخرى لها خصوصيتها) إلا أنه تم مصادرتها لحين أن يقول القاضي كلمته يوم الثلاثاء ..








      (4)






      لما خرجت من المنزل تفاجأت بوجود أكثر من خمس سيارات أمام منزلي، قيل لي بأن أمتطي أحدهن مع عدد من الأخوة متجهين إلى حيث يشاءون. كان الضابط مسرعا لدرجة أن الكاميرات المرورية كانت تصدر الوميض واحدة تلو الأخرى.. ومع ذلك فكان هناك نوع من الحوار الودي والضابط يجوب الشارع الرئيسي العام. كانت هناك دردشة حول الانترنت وحول الكتابات.. كانوا لطيفين جدا معي في هذا الحوار مع تكرار الاعتذار بما حدث لي، ولم أكن أشعر بأية ضغينة أو أي فعل يسئ إليّ...


      دخلت مركز القيادة بالقرم، وبعد إجراء بعض الأمور الإدارية فقد طلبوا مني أن أتوجه إلى غرفة مضاءة إضاءة جيدة.. كان المكيف يعمل وكأنه لم يتم إطفائه منذ الصباح، الغرفة كانت باردة جدا لدرجة جعلتني أرتعش من البرد، ونحن في "عز" الشتاء فلماذا التبريد أصلا؟



      انتظرت حوالي عشر دقائق ليدخل عليّ شخص عرف فيما بعد أنه ضابط حاصل على شهادة الدكتوراه.. هذا الضابط لا تفارقه الابتسامة وبشكل ينشرح لها الصدر،، إنسان مهني جدا، ومحترف جدا،، لم أجد منه إلا كل احترام وتقدير... كما وجدت فيه الذكاء الحاد واستيعاب الموضوع بشكل جيد. فهو لم تكن لديه حتى مذكرة فيها الأسئلة المتلاحقة، بل كان يسألني مباشرة من ذهنه وبدون الرجوع إلى ورقة مثلا. وكأنه قد حفظ الاستجواب دون أن تغيب عنه شاردة أو واردة.. كانت كفاءته واضحة جدا في التحقيق.. تلك الخصال المهنية وحتى الأخلاقية أدخلت الارتياح في بالي فجعلتني أتحدث معه وكأنه صديق أعرفه من بعيد، لم يكن متكلفا في الطرح، ولم يكن يصر على موقف في تلك اللحظة، فمتى سألني سؤال ولم أعطته الإجابة التي يبغيها فإنه يعيد السؤال في اليوم التالي وبطريق مختلفة وذكية في نفس الوقت..


      وبرغم قضيتي هذه لكنني أحي بلادي في وجود أشخاص مثل الدكتور المقدم الذي كان مهنيا في تعامله اللطيف معي وفي حواره الرائع وفي أخلاقياته العالية وفي مهنيته التي قربت التعامل معي وجعلتني اعترف بتفاصيل الحدث دون أن أتعرض لأي نوع من التعذيب أو القسوة كما اعتقدت..


      وقد صارحت المحقق الدكتور بذلك قائلا له بأنني كنت أتوقع وجود الصفع والتكفيخ والصراخ والإرهاب البدني وحتى النفسي، لكن ذلك لم يحدث. فقد كانت معاملته لي في قمة الرقي وفي قمة المهنية، صحيح أن عمله يتطلب الاعتراف من المتهم بشكل أو بآخر، وصحيح أنه لا بد من استخدام اساليب المراوغة وحتى التغرير، لكن تلك الأساليب لم أجدها ما تحط من كرامة الإنسان أو تهين قدره أو تسلب حقوقه...








      (5)




      كما بدا لي فإن الضابط المقدم الدكتور قد رسم إستراتيجية لمحاولة إقناعي بالاعتراف حول الأمر الذي يدور في باله. ففي الليلة الظلماء والتي استمر فيها التحقيق حتى ما بعد الحادية عشر مساء فإنه لم يدخل مباشرة في صلب الموضوع. فقد وجهت إليه سؤالا: ما هي تهمتي؟ ولماذا أنا محتجز لديكم؟ لم يكن يعطيني الدكتور ردا مباشرا، بل ظل يحاور في الإجابة لعدة أيام، أي لم أكن أعرف تهمتي بالضبط سوى أنها "مخالفة قانون تنظيم الاتصالات"...


      بداية التحقيق ركز على مشواري في الكتابة، والذي تعرفونه، ومن ثم التركيز حول الكتابة في المنتديات الالكترونية (كيف ولماذا) إلى أن دخلنا في سبلة العرب والقضية التي أدت بسببها إلى إغلاق السبلة، ومن هم الأصدقاء الذين تعرفت عليهم أثناء وجود سبلة العرب، وهل استمروا الأصدقاء بعد غياب سبلة العرب، ومن هم أصدقائي الانترنتيين الآن!! بالطبع أعرف الكثير من الأصدقاء؛ بعضهم التقيت بهم او تواصلت معهم هاتفيا، في حين بقي البعض الآخر مجهولا لغاية اليوم، ولا أعرفهم سوى بأسمائهم المستعارة، وهناك من خاطبته للتواصل لكنه تحفظ واحترمت رأيه حتى وإن كان مشرفا معي في سبلة السياسة والاقتصاد..


      بعد الانتهاء من التحقيق سألني الضابط عن وجبة العشاء، فطلبت منه بعض "السندويشات"، لكن "الشهية" كانت قد سدت في تلك الليلة. ذلك أن الضابط قرر استكمال التحقيق في صباح اليوم التالي. بإشارة منه أمر أحد الأفراد بأن يأخذني إلى المكان.. قادني ذلك الشخص إلى طابق علوي إلى حيث رأيت مجموعة مسلحة من الأفراد بلباس عسكري، سلموا عليّ بتحية طيبة، وبعد ذلك طلب أحدهم مني بأن أخلع دشداشتي وبقية ملابسي وألبس لباسا أزرق (أوفراول). لم أكن أتصور نفسي أن ألبس ملابس السجين!!!


      بعدما لبست ذلك اللباس قادني أحد الأفراد الحامل السلاح والواضع إحدى يديه على مسدسه طوال الوقت إلى غرفة لا يزيد طولها على عرضها وبمقياس 3 أمتار تقريبا، وبسقف عالي يخرج منه ضوء لم يتوقف طوال فترة احتجازي (11 يوما). بداخل تلك الغرفة "دوشق" بسيط مع شرشف صوفي واحد لتغطية نفسي والآخر للصلاة فيه..


      الغرفة كانت باردة ببرد شتاء يناير، الوسادة كانت بسيطة وبالكاد استند عليها وأنا جالس خلال تلك الفترة. كان الدوشق والسرير ملاذي للجلوس والنوم والتفكير وحتى قراءة القرآن،، وحتى احتساب العروق والشرايين والشعر، حيث لم اكن لدي ما أفعله. فقد حرمت من الحياة الخارجية بكل معنى.. تلك الليلة لم أذق فيها النوم لعدة أسباب من بينها وجود إزعاج وبصوت عالي صادر من غرفة المراقبة. لا أدري بالضبط ما هو المقصود من ذلك الصوت الذي بقي ينطق بصوت بشري أحيانا أو على شكل أصوات معادن وكأنها "صفاري" تتضارب وتتعارك معا، أما الصوت البشري فكان يرتفع حدة وينخفض، يتواصل مدة خمس دقائق ثم ينقطع ثم يبدأ عاليا،، وهكذا دواليك. هذا غير الصدمة التي لم أفق منها إلا بعد أيام: كيف أصبحت سجينا؟ لماذا أدفع هذا الثمن؟ ما هي تهمتي؟ كيف يتم القبض عليّ؟ من هم الذين أمروا بالقبض علي!!








      (6)






      كذلك لم أستطع النوم في تلك الليلة بسبب الضوء الساطع على عيني. فأنا لم أتعود أن أنام مع الضوء والضجيج، أي لا بد أن تكون الغرفة مظلمة وهادئة وإلا جافاني النوم.. ونظرا لعدم وجود ساعة في يدي فلم أكن أعرف التوقيت، حيث اختلت "ساعتي البيولوجية" فلم أستطع التمييز بين الليل والنهار إلا اللهم عندما يطرق السجان الباب يخبرني بأن موعد صلاة الصبح او العصر مثلا، وعندئذ أعرف التوقيت التقديري.. وفي صباح ذلك اليوم وكالعادة أردت الذهاب إلى الحمام - أعزكم الله – لقضاء الحاجة لكن قيل لي أنه لا بد أن انتظر، حيث اتضح لي أنني لست السجين الوحيد في عنبر يتكون من ثلاث غرف، ويبدو أنهم لا يريدوننا أن نتعرف على بعض، لذا لزم الأمر الانتظار حتى ينتهي أحدهم من استخدام دورة المياه الوحيدة وكذلك مكان الاستحمام (أي السباحة).


      ما إن أتى دوري أردت أن استحم إلا أن الماء ينزل باردا وكأنه قادم من ثلاجة، انتظرت طويلا عل الماء الساخن يأتي لكنه أبى وعاند طوال الأحد عشر يوما.. حاولت مرة أخرى وثالثة أن أجلب جسدي النحيل إلى ذلك الماء الصقيع لكن أصبت برعشة فذهبت إلى السجان مستفسرا بعفوية عن الماء الساخن، فأجابني بطريقة ذكية: انتظر لحين الساعة الحادية عشر صباحا لتحصل على الماء الساخن..



      عدت في ذلك الوقت (كنت قد خضعت للجلسة الثانية من التحقيق والتي سوف أذكرها فيما بعد) فرحا بأن الماء الساخن سوف يأتي. ذهبت مرة أخرى وفتحت الصنبور الخارجي منتظرا الماء الساخن، وبعد انتظار أتى بعض الماء الساخن ولفترة وجيزة جدا، ولم يكن ساخنا أصلا بقدر ما كان فاترا وكأنه مرّ على أنبوب تعرض للشمس لفترة قصيرة.. هذه المرة قمت أقفز وأحك جسدي بقوة عله يولد حرارة داخلية تجعلني أدخل وأنا غامض العينين وسط ذلك الماء البارد؛ حيث لم أستطع أن أواجه الضابط وأنا غير مستحم. ها أنا اعيد إلى الرقص في الحمام لعل حرارة جسدي التي تولدت من الرقص تتفاعل مع الماء البارد فتستطيع أن تخلق سخونة تحميني من ذلك البرد كي لا أصاب بزكام حاد كما يحدث لي من حين لآخر..


      وقد استمرت معاناة الماء البارد كل يوم، مع تأقلم بسيط لجسدي لذلك الوضع. وكنت ألبس بعض الملابس الداخلية داخل الافراول، وكان هناك اعتراض من مأموري الحبس، لكن شرحت الأمر للضابط المقدم قائلا له أن الجو البارد في غرفة الحجز والماء البارد سوف يتسببان في مرضي، فوافق على إبقاء ملابسي الداخلية..








      (7)






      كانت ابتسامة الضابط الدكتور جاهزة صباح اليوم التالي. كنت مستحيا أن أقترب منه لأنني لم أستطع أن أجعل الماء البارد يلامس جسدي الذي بقي على طبيعته الإنسانية التي تأبى إلا أن تغير زيوتها ومخرجاتها. ربما شعر هو الأمر كونه متمرس ويستطيع قراءة لغة الجسد التي تكاد تفضح المتهم، فغرفة التحقيق الباردة تضيف هي الأخرى سطوتها. والمحقق وكما قال لي وكما بدا عليه أيضا أنه يقضي أيامه ولياليه في التحقيق لدرجة أنه يبقى ساهرا إلى ما بعد الحادية عشر مساء كما حدث معي في ليليتين. ربما أشفق على ذلك الوضع الذي يتطلب من المحقق ترك أهله وأسرته والتعامل مع المتهمين المجرمين والمتهمين الأبرياء وهو يقضي ساعات الليالي معه بعيدا عن أسرته الصغيرة التي تنتظره. فهذا المحقق في النهاية مواطن له عائلته التي تنتظره كل مساء أيضا..


      في اليوم الثاني كان التوجه قد ابتعد عن سبلة العرب ومن ثم سبلة عمان ليعرج إلى منتدى فرق، حيث أنني لاحظت إصرار الضابط على أن أتطرق إلى كتاباتي في منتدى فرق بشكل موسع، وهو هنا يرسل لي رسالة واضحة لكن بشكل مبطن مفادها أن مخالفتي لقانون تنظيم الاتصالات ليست في سبلة عمان رغم أن عشرات المواضيع موجودة بها، بخلاف كتابتي في فرق والتي تقترب وتبتعد بحسب الظروف. كما أنني أشرت إلى أنني أكتب أيضا في منتدى الحارة، لكن الضابط المحقق لم يبدى اهتماما كبيرا بذلك المنتدى أيضا.


      طلب مني أن أتوسع في شرح ما اكتبه في فرق، كما سألني عن الأسماء المستعارة التي استخدمها!! فقلت له أن لدي اسمان فقط: بن دارس وعلي الزويدي. ولماذا تكتب بالاسمين؟ لأنني دخلت النت بالمسمى الأول، لكن بعدما عرفتني الغالبية باسمي الحقيقي فضلا عن ظهور أشخاص بأسمائهم الحقيقية فإنني غيرت ذلك المسمى في سبلة عمان. أما في منتدى فرق فقد كتبت باسمي الحقيقي منذ أول يوم سجلت فيه.


      خلال ساعات التحقيق الصباحية ركز الضابط على الأسماء المستعارة التي قد أكون أختفي فيها، وحاول بشكل أو بآخر أن يستخلص مني أي اعتراف مفاده أن لي أسماء أخرى. لكن الحديث دخل طريق مسدود. وكلما غير أسلوبه معي كلما وجدت أن ذلك الأسلوب غير مجدي.. وفي كل الأحوال لم ينتقص من كرامتي أو يهينني أو يلقي عليّ أية كلمات نيابية أو كلمات مبتذلة. بل كان يطلق عليّ كثيرا "أبو محمد" أو "أبو روضة".. وفي ذلك اليوم بادر يخبرني بكافة المعلومات عني، وكأنه قد درس ملفي حياتي جيدا؛ كان يعرف ابني محمد وأن عمره 13 سنة، ويعرف عبدالله وان عمره 10 سنين تقريبا، وبالطبع روضة. كما قال لي أنه كان يعرف أننا اتجهنا إلى تايلند في بداية شهر يناير، وكان بالإمكان توقيفنا عن الرحلة لكنهم راعوا الظرف الأسري والذي تم التخطيط له منذ ديسمبر، وأنه أيضا عرف متى عدنا، وانتظروا ثلاثة أيام لحين الاستقرار...



      هل كانت الإدارة العامة للتحريات والتحقيقات الجنائية على علم بكل خطوة أخطوها؟ هل كان هاتفي مراقبا؟ هل مازال هاتفي مراقبا؟ إنها أسئلة لست بحاجة للإجابة عليها بقدر ما عرفت أنني كنت تحت المجهر - وربما مازلت. وإلا فكيف يعرفون كافة تحركاتي وسفرياتي حتى الأسرية منها وكيف عرفوا أنني كنت متواجدا في المنزل في الساعة السابعة والنصف مساء الخامس والعشرين من يناير؟


      لا أدري إن كان الادعاء العام قد صرح للتحريات بمراقبة مكالماتي الهاتفية. فما أعلمه أن المادة (30) من النظام الأساسي للدولة تتكفل بالحرية الخاصة بالمخاطبات الهاتفية. ربما يوجد كل شيء في ملفي الجنائي والذي ظل ناصعا طوال الأربعين سنة الماضية. إذ لم ادخل حتى مكتب الوالي مشكيا عليه، ولم أتشاجر مع أحد، ولم أدخل مركزا للشرطة أيضا..








      (8)




      ودعني الضابط الدكتور في اليوم الثاني بابتسامته المليحة دون أن يحقق مراده ورغم محاولاته الودية بإقناعي بالاعتراف بأنني أشارك أيضا بأسماء أخرى في موقع فرق بالتحديد إلا أنه لم يوفق في ذلك فكان أن طلب إعادتي إلى حيث أقبع في تلك الغرفة المعزولة عن العالم الخارجي، حتى أن جدرانها قادرة على إخفاء صوت الأذان..


      قضيت اليوم الثالث بأطوله أبحلق في الجدران الخضراء وأحاول أن أسمع أي صوت بشري من قريب فلا أسمعه أبدا... مر الصباح والظهر والعصر والعشاء إلى أن سمعت مفاتيح الباب وهي تحدث أصواتا وكأن السجان لم يستطع الاستدلال على المفتاح الخاص بغرفتي. وأخيرا فتح الباب وقال لي السجان المدني أنني مطلوب في الأسفل، أخيرا وبعد مضي أكثر من 40 ساعة سوف يسمح لي بالخروج من تلك الغرفة الانفرادية. لكن ما حدث كان غير متوقع – على الأقل من قبلي!!!


      ما إن لبست نعالي فإذا بسجان عسكري طلب مني أن أقف ويدي إلى الأسفل لأفاجأ بأنه يلبسني قناعا أسودا طويلا وصل إلى أرجلي. كان ذلك مفاجأة أدخلت الهول في بالي بل وأرعبتني، دارت في بالي في تلك الثواني مخاوف ربما سبق أن تجسدت في مخيلتي من كثرة مشاهدتي للأفلام العربية المرعبة مثل (احنا بتوع الاتوبويس لعادل امام أو ما وراء الشمس لسعيد عبد الغني) أو ربما لبعض الروايات التي قرأتها مثل رواية "شرق المتوسط" لعبد الرحمن منيف أو رواية Damage Done لذلك الاسترالي الذي تعرض للتعذيب في السجون التايلندية. حيث تصورت أنني سوف أذهب إلى غرفة يتم فيها تعذيبي بغرض انتزاع الاعتراف مني كوني قد رفضت أن اعترف بشيء أصلا لم أكن أعرف تهمته. وتصورت أنه سوف أتعرض للسب والشتم وحتى إهانة الكرامة.


      ها هو السجان يقتادني خطوة خطوة. يحاول المسكين أن يسارع الخطى لكنني وقد تعطل البصر لدي لم أكن أرى ما هو أمامي، وكان وجهي ينظر إلى قدماي عليّ أستطيع أن أرى شيئا من الأرض التي أمشي عليها. خطواتي كانت أبطأ من سلاحف رأس الحد، وعندما وصلنا إلى ما يبدو أنه سلم أو درج فقد بدأت أهبط ذلك الدرج والعسكري ماسك ذراعي بقوة حتى لا أتدحرج فيتم معاقبة ذلك العسكري المسكين الذي بدى لي طيبته، فقد كان يعتذر أيضا على تصرفه لكنها "الأوامر" التي تجبره على ذلك التصرف. وفي السلم استغرق الأمر عدة دقائق حتى أهبط بسلام وإلا كانت إحدى غرف مستشفى "خولة" القريبة هي الأقرب للنوم فيها بدلا من الغرفة الانفرادية.






      (9)




      ما إن أدخلني العسكري الغرفة إلا وخلع مني ذلك القناع الأسود الطويل، تنفست الصعداء عندئذ، فقد عرفت أنني في نفس الغرفة التي سبق أن تم التحقيق معي فيها طوال اليومين الماضيين؛ هذا يعني أنني لن أتعرض لأي تعذيب أو سب أو قذف!!..


      انتظرت حوالي عشر دقائق لحين قدوم شخص آخر مع المقدم الدكتور، عرفت مظهره لكنني نسيت اسمه، سلمّ عليّ هو أيضا بابتسامة عريضة وانتبه أنني لم أتذكر اسمه، فعرفني بأنه وكيل أول ادعاء عام وأنه هو الذي حقق معي في قضية الوهيبي في أغسطس المنصرم..



      بعد التحية وبعض الأحاديث الودية قال لي وكيل الادعاء العام أنه سوف يساعدني في تجاوز محنتي هذه إذا تعاونت معه أيضا. وبشكل مفصل قال: هل تذكر قضية الوهيبي؟ هل حدث شيئا لك؟ فأجبته بنعم في السؤال الأول وبـ لا في السؤال الثاني. رد عليّ: اطمئن، خلاص أنته طلعت من تلك القضية ورايحين نحفظها إذا تعاونت معنا هذه المرة...


      كلام وكيل الادعاء العام طمئنني في تلك اللحظة، فبالفعل لم يحدث شيئ من شهر أغسطس لحد شهر يناير (أي أكثر من نصف سنة) ويعني ذلك أنه كان يقف معي في قضيتي مع الدكتور الوهيبي. لكن اكتشفت فيما بعد أنه استخدم ذلك الأسلوب كنوع من الإغراء ليجعلني أتحدث في القضية الثانية والتي حتى حينه لم يوفق الدكتور المحقق في التوصل إلى أي شيء. وكما تعلمون فقد برزت قضية الوهيبي في آخر لحظة لأحاكم أيضا فيها بتهمة مخالفة قانون تنظيم الاتصالات المادة 61 البند الرابع.








      (10)




      بالتأكيد يتحدث كل من الدكتور المحقق مع وكيل الإدعاء العام - كما أخبروني - خارج جلسات التحقيق، وبالتأكيد كان المحقق قد أخبر الوكيل بأنني لم اعترف بشيء حتى حينه، لذا فقد أتى الوكيل بدفتر صغير فيه أسئلة محددة ومن زاوية أخرى بخلاف الزاوية أو الزوايا التي استخدمها الدكتور المحقق..


      فقد بدأ وكيل الادعاء العام معي موجها سؤاله عن البرامج التي أقوم بإنزالها من الانترنت.. من خلال الشد والجذب وجدت أن لديه معرفة كمبيوترية جيدة، فأخبرته بتلك البرامج، وبالطبع لست منزها عن الأخطاء، ولي حياتي الخاصة أيضا، ومن هنا أتى الاعتراف مني بأنني الذي قمت بنشر وثيقة مجلس الوزراء. لم يكن هناك تصديق في البداية وإنما كان الأمر يدور حول أنني ربما أتستر على شخص وبالتالي ألقي اللوم على نفسي كنوع من الإيثار، ولكن الذي حصل هو بالفعل كما قلت. قمت بشرح الكيفية التي نشرت فيها الوثيقة!!



      لماذا نشرت وثيقة يا علي تعلم أنها مصنفة سريا؟


      فرددت عليهم – كما رددت على نفس السؤال الذي وجهه لي فضيلة القاضي بالمحكمة أمام الحاضرين – بأنه الموضوع شد انتباهي أن يكون مجلس الوزراء بجلالة هامته يضع شروطا تحد من حرية التعبير في برنامج هذا الصباح. كيف حصلت على الوثيقة؟ تم تأجيل الإجابة على هذا السؤال إلى جلسة أخرى...


      كانت هناك جلسة أخرى مع الضابط يحاول معرفة كيفية وصول الوثيقة إليّ، ولأن وكيل الادعاء انشغل في الأيام التالية فإنه لم يحضر الجلسات اللاحقة بل اقتصر الأمر على قيام الدكتور المحقق بعدة جلسات مركزا فيها على معرفة مصدر تسريب الوثيقة، حيث أنني في البداية ولمدة أسبوع أنكرت مصدر تلك الوثائق..


      كنت قد طلبت من المحقق الدكتور التواصل مع زوجتي، فلم يسمح لي معللا أنني أصبحت في حالة لا تسر الصديق ولا العدو، فقد طال ذقني وظهر الشعر الأبيض الذي كنت أخفيه خاصة أن شعري ينمو بسرعة، ولم يكن يسمحوا لي بالحلاقة رغم وجود أدواتها في أغراضي الصغيرة التي جلبتها معي ليلة القبض عليّ. ومع إصراري على المقابلة ومع إصرار ابن خالتي وتواصله الدائم فقد سمحوا لي فقط بالتحدث مع زوجتي بعد ثلاثة أيام من الاحتجاز، وهي في الأصل لم تكن تعرف مكان حجزي لأن ابن خالتي لم يخبرها. فظلت تبحث عني في كل مركز، وما أصعب على المرأة أن تفعل ذلك وهي لا تعرف زوجها سوى أنه محتجز في مكان ما ومصيره مجهول خاصة أنها غير مواطنة...






      (11)




      في الليلة الثالثة والتزاما بالقانون فقد قام وكيل الادعاء العام بطباعة الاعترافات والأسئلة وطلب مني التوقيع عليها، كما فعل الضابط المحقق في وقت سابق. وقد قرر أن يتم حبسي احتياطيا مدة أسبوع، وقد أخبرني الوكيل فيما بعد أنه يريدني أن أبقى في الحبس مدة شهر بأكمله لأن ذلك في صالحي، حيث جرت العادة أنه في حالة ارتكاب الجنح يتم سجن المتهم شهرا، ليكتفي القاضي فيما بعد بذلك الشهر، أي أنه من الأفضل أن أقضي من حياتي (30) يوما بعيدا عن العالم الخارجي!! فكان ردي له: أنت لم تحبسني في الهيلتون أو الشيراتون لأظل أستمتع بتلك المدة بعيدا عن أهلي وأصدقائي..


      اليوم الرابع تصادف يوم الأربعاء، أتى إلي المقدم في نهاية الدوام يريدني أن أبوح له بمصدر الوثيقة، وكنت قبل ذلك قد سألت وكيل الادعاء العام عن التهم الموجهة إليّ وعن القانون الذي ينطبق عليّ؛ حيث أنني كنت أريد أن أعرف عقوبات ذلك القانون وأنا في الحبس الاحتياطي لأعرف ما ليّ وما عليّ، فذكر لي الوكيل أنه سوف يزودني بنسخة من قانوني تنظيم الاتصالات وأسرار الوظيفة والأماكن المحمية. وعلى الرغم من أنني أعرف أنني مخالف لقانون تنظيم الاتصالات لكن لم أكن أعرف أنني مخالف للقانون الأخير. ولذا فضلت الصمت وعدم الاعتراف – في البداية لأن ذلك القانون وان كانت غرامته بسيطة إلا أن مدة الحبس قد تصل إلى الثلاثة سنوات. ونظرا لعدم وجود دليل لدى الادعاء العام يفيد بمصدر الوثيقة فإنني التزمت الصمت مدة أسبوع بأكمله، ففي النهاية فإن المواطن أو المتهم من حقه الدفاع عن نفسه بالآلية التي يراها مناسبة..






      (12)




      بقيت طوال يومي الخميس والجمعة لوحدي (29 و30 يناير). بحسبما عرفت فإن عضو أو وكيل الادعاء العام يظل منهمكا في القضايا طوال الأسبوع وحتى ساعة متأخرة من الليل. فيأتي مساء الأربعاء ليتجه لزيارة أهله لغاية الجمعة ليعود وكله حيوية ونشاط يمارس عمله الذي تم تكليفه به. التقيت به في مكتبه في المساء أيضا (المرة الأولى في قضيتي مع الدكتور الوهيبي، والمرة الثانية أثناء قيامه بتسليمي ورقة الاستدعاء إلى المحكمة الابتدائية)، وفي الفترة المسائية كنا نبقى لأكثر من ساعة، وبصراحة كنت أحسده على الحيوية التي يتمتع بها في فترة المساء والتي تمتد وتتواصل منذ الصباح بلا انقطاع، هو من الشباب المخلص في عمله والذي يؤديه وفق القانون. ولست هنا لأحكم على ذلك العمل، لأن القانون هو الذي بحاجة إلى تعديل وإلى إعادة نظر وليس الشخص المشرف الذي ينفذه... أي لم أجد سوى الهمة والنشاط في عضو الادعاء العام رغم طوال ساعات العمل التي قلما يتحملها الكثير منا.


      مرّ اليومان وكأنهما دهر، ففي الوقت الذي اقضي فيه "الويك أند" مشاهدا الأفلام السينمائية في المنزل أو في السينما أو هنا وهناك فإن أول ويك أند قضيته في الحبس كان صعبا جدا،،، كان انفراديا وانعزاليا، ورغم أن الضابط الدكتور قد طلب مني أن اتصل به في اي وقت أطلب فيه أي شيء آو أية خدمة لكنني أيضا وجدته بحاجة إلى راحة مع أسرته التي يبتعد عنها طوال عمله، فعمل المحقق يأخذ الكثير من وقت أسرته، ومن حياته الاجتماعية أيضا مع أصدقائه وبقية عشيرته.. وبسبب ذلك الفراغ الكبير طوال اليومين فإنني طلبت من الدكتور المحقق السبت التالي بأن ينقلني إلى زنزانة جماعية، فرد علي ضاحكا: هل تريد أن تجلس مع تجار المخدرات والمجرمين؟ فقلت له إن العزلة أصعب بكثير من الاختلاط، فهؤلاء العتاهية يبقون بشر مثلنا بحاجة إلى كيان اجتماعي يخفف عنهم خطأهم الذي قد اقروا به وربما ندموا عليه كثيرا، وأن القاضي هو الذي يقرر مصيرهم....






      (13)




      وإليك يا ابني البكر محمد ذو الثلاث عشر سنة ربيعا...


      إنه يوم الاثنين: يوم البيتزا....


      ما إن أعود من الدوام إلا وتأتي إليّ مسرعا بألا أحجز نفسي في الساعة السابعة مساء لاتصل بـ"بابا جونز" حيث أشتري لك ولإخوانك من ذلك المحل عرضه المغري؛ واحدة لك بأكملها والأخرى للأسرة كلها.. يلتهم جسدك النحيل تلك البيتزا وكأنك تجهز نفسك لصيام الدهر...


      وإن ولىّ الاثنين ولم تجدني أمامك فاطمئن يا ولدي فلن ابتعد كثيرا، المسافات بيني وبينك قد لا تتعدى سجن الخوض، ذلك السجن الذي أردت أنت أن تدخله بعفويتك يوما ما لأنك لا تريد أن تذهب إلى المدرسة وتتعلم ما يتعلمه الآخرون في الصف السابع. لقد فرحت أنت يا ولدي عندما زرنا يوما مركز الخوض لإنهاء معاملة تتعلق بحادث سير، وقد شك الشرطي أن تكون أنت الذي قدت السيارة. ذلك الشرطي عندما رأى طولك العملاق رغم صغر سنك - اعتقد أنك قمت بقيادة سيارة أمك فاصطدمت بها في حائط المنزل، واعتقدت أنت أن الشرطي سوف يسجنك لتفرح كثيرا لأنك سوف تبتعد عن المدرسة... يا له من عجب يا صغيري: تريد أن تدخل السجن لتهرب من المدرسة...


      وإن كان سجن الخوض ليس ببعيد، فالسجن المركزي القابع في "سرور" بسمائل ليس ببعيد أيضا، فهو قريب من صديقي العزيز "عبد الحميد الجامعي" السمائلي القادم بعربيته الفصيحة ليأتي لي بحبات "الفرض" ومع حبات من البرتقال مستأذنا السجان ليسمح له بأن أقتات مما خرجت به الأرض الطيبة من رحمها.. وربما يزورني "معاوية الرواحي" ذلك السمائلي أيضا والذي "تم قرصه" ليكتب "هذونة" قد يتراجع فيها في آخر لحظة...


      إنك يا محمد قد لا تأكل البيتزا كل اثنين ولمدة تقصر أو تطول بحسب ضمير القاضي الإنساني، لكن رزقك في الأرض قد حسبه لك المولى عز وجل، ذلك الرزق قد كتبه لك رب العزة لحاضرك ولمستقبلك، ربما لم أكن قد أمنت مستقبلك كما يفعله الكثير من الآباء... ليست لي تجارة أورثها لك... وليس لي إرث بنكي يغنيك من طلب الناس... كل ما أخلفه لك كلمات متبعثرة سوف تجدها في جريدة عمان وجرائد أخرى وفي سبلة عمان ومواقع أخرى أجمعها في كتاب عله يراؤه الآخرون...


      سوف تكبر يا محمد ويكبر عقلك بعدما كبر جسمك النحيل قبل أوانه،،،، أبوك له قدره في حياته،، والدك أخذ من الدنيا نصيبه،، قد يشاركك فيما تبقى من عمره،، وقد تبقى وحيدا تتربى مع عمومتك وعماتك الصغار في نزوى...


      عندما سألك أحد استاتذك في المدرسة الأسبوع المنصرم: هل أنت ابن علي الزويدي الذي يكتب عنه هذه الأيام؟ لم تعرف أن تجب بقدر ما أجبت بعفوية غير مدركة...


      وسوف تعرف يا ولدي محمد..


      أنا أباك لم يكن خائنا للأمانة...

      ولم يكن خائنا للوطن...


      ولم يسئ إلى أحد...


      إن تم سجن والدك فهو شرف في صدره وفي صدرك..


      إن "عايرك" تلميذ في مدرستك بأن أباك سجين وسوف يكون خريج سجون فاصبر واكتم غيضك...


      وإن هجرك جار أو صديق لك لأنه لا يتشرف بمعرفتك فارفق بحالك، فدوام الحال من المحال...


      تذكر يا ابني:


      سوف أجلب لك البيتزا ولو بعد حين....








      (14)






      بحسب معلوماتي البسيطة فإنه يتوجب على الإدعاء العام إكمال التحقيق مع المتهم وليس أية جهة أخرى، وكنت قد وجهت سؤالا إلى كل من الفاضل/ وكيل الادعاء العام وإلى الدكتور المحقق الذي يعمل في الإدارة العامة للتحريات والتحقيقات الجنائية حول دور كل واحد منهما في قضيتي، فردا عليّ بأنهما يكملان بعضهما البعض.. وكما ذكرت سابقا فإن وكيل الادعاء العام لم يحضر بعض جلسات التحقيق كونه مشغول جدا كما صرح أمامي الدكتور المحقق..


      أراد الدكتور معرفة الكيفية التي وصلتني خلالها الوثيقة. ذكرت له في البداية أنها وصلتني عن طريق البريد كوني صندوق بريدي – وحتى هاتفيمنشور في دليل الهاتف. ولذكائه في الأمر لم يقتنع، حيث قال لي أن المجتمع العماني لم يصل إلى هذا المستوى من التفكير ليرسل لشخص وثيقة سرية بالبريد العادي وبدون أية إشارة إلى مرسلها.. وهكذا استمر التحقيق لمدة أسبوع يدور في حلقة مفرغة. هو يحاول استخلاص المعلومة وأنا أنكرها دون وجود دليل على الفعل.. ومع مرور الأيام التي زادت من تقلص حريتي وطال شعري الذي بدأ يخيفني كلما نظرت إلى المرآة الموجودة في دورات المياه بالطابق الأرضي التي ألجا إليها كلما طلبت مني طبيعتي الإنسانية ذلك، كل ذلك قادني إلى شعور بالإحباط خاصة أن وكيل الادعاء العام سبق أن ذكر لي أن من صلاحياته القانونية حجزي مدة شهر وبكل بساطة.. لماذا أقضي هذه المدة؟ وإذا كانت في الأصل تهمتي جنحة فلماذا أعاني من الحبس الانفرادي علشان جنحة؟


      الحرية أمر لا نشعر به إلا إذا خسرناه، كالصحة التي هي تاج في رؤوس الأصحاء لا يراها إلا المرضى.. هي الحرية تاج لا نتحسس به إلا إذا تم تقييده. فما بالكم بالحبس الانفرادي حيث يعيش الفرد لوحده مع همه وغمه، لا يستطيع حتى أن يتحدث مع أحد. أحيانا كنت أستغل الفرصة وأنا اتعامل مع السجان المدني أو السجان العسكري لأتحدث معه ولو بضع دقائق لأشعر بأن لساني مازال ينطق. أتذكر مرة سماع أصوات تشجيعية عرفت من نبرتها أنها تخص مباراة كرة قدم، ولما حان الوقت للتحدث مع ذلك الشاب العسكري فقد انتهزت الفرصة لأتحدث عن المباراة، والتي كانت للسلطنة مع إحدى الدول الآسيوية فقد تنفست قليلا الصعداء معه، فهو الآخر تجده يؤدي واجبه على أكمل وجه لكنه أيضا إنسان ويشعر بالملل كونه يقبع في غرفة المراقبة دون وجود ما يفعله إلا القليل..


      ما عجبني في الضابط الدكتور أيضا أنه شخص لم يكن يعرف الكلل أو الملل في التحقيق. فإذا لم يوفق معي في هذا الأسلوب للاعتراف فإنه يتركني في شأني لأعود إلى غرفة الحبس ليستدعيني في ظهر اليوم التالي مستخدما معي أسلوبا آخر.. أحيانا لا تكون مدة التحقيق أكثر من عشر دقائق.. يكرر لي السؤال: كيف حصلت على الوثيقة؟ فأخبره كما فعلت في الجلسة السابقة: عن طريق البريد. فيقول لي: أنا غير مقتنع بتاتا لكن على راحتك. ويتركني.... أحيانا يستخدم كلمات أكثر غلظة مثل: لا نريدك أن تستخف بعقولنا أو تستعبط علينا. فنحن نعرف ما تعرفه لكننا نريدك أن تقوله وتعترف به علشان تكون الأمور في صالحك وتحسب لك.. نحن نعرف من هو علي الزويدي ونعرف قدراته الفكرية والعقلية ونعرف كيف يفكر، فساعدنا نساعدك..



      وفي كل الأحوال، كانت تلك الابتسامة ساحرة وتزداد سحرا يوما بعد يوما، لا أظنها سوى ابتسامة فهم الواجب والمسئولية الملقاة على عاتقه، فمطلوب منه كضابط تحقيق أن يستخلص الأقوال والاعترافات بكافة الطرق القانونية المتاحة، فهو بنفسه أخبرني أنه لا يمكن أبدا أن يستخدم وسيلة التعذيب كونها ممنوعة محليا وحتى دوليا، وبالتالي تبقى مساحة استخلاص الاعترافات ضيقة وتنحصر في الأساليب الفكرية والنفسية فقط والتي قد يعجز القانون عن إدانتها...






      (15)






      الإستراتيجية الجديدة التي نجحت في إقناعي بالاعتراف تمثلت في قيام الدكتور المحقق بأن هناك خلل في الإجراءات التي أدت إلى وصول الوثيقة إليّ، وأنه والجهات المعنية تقف مهتمة جدا بمعرفة ذلك الخلل لإصلاحه بالطرق المناسبة، أي هناك من يقر أن الوثيقة لم يكن من المفترض أن تصلني بأي شكل من الأشكال خاصة أنها صادرة من مجلس الوزراء، فكيف تصل إلى موظف عادي؟ كان الدكتور ذكيا في محاولاته اللامتناهية والمستمرة في إقناعي بأنه ينبغي عليّ أن أدلهم على ذلك الخلل حتى لا يتكرر مرة أخرى وحتى يحسب أيضا في صالحي وفي سجلي الوطني...


      ومع إصرار كل من زوجتي وابن خالتي وإصراري فقد سمح لي الضابط بمقابلتهما بعد مضي ثمانية أيام من الاحتجاز.. كان اللقاء مؤثرا وفي حضور الضابط بالطبع، كنت لابسا الأفراوول الأزرق بذقني الطويل وشعري الأبيض المنفوش، وفي حالة لم يألفها الأهل ولا الأقارب، حتى أنا خفت من شكلي عندما نظرت إلى نفسي في المرآة.. كان اللقاء مزيجا من البكاء والعتاب والصبر وطلب التعاون، فالمرأة تحكمها العاطفة، والموقف سيد الحالة. لم تكن تلك الحالة تشكل دعما معنويا لي وإنما نوع من التصادفية العاطفية التي تريد أن تخرج من قوقعة الحدث وفي أقرب فرصة ممكنة..






      (16)




      أما أنت يا ابني عبدالله...


      لم ترث الطول مني بل ظللت قصير القامة، لكن تعلقك بي بان أطول من قامتك...


      أنت يا عبدالله تأتي إلي طالبا "اللعبة"، ولقد أتيت بألعابك كلما سافرت إلى الخارج..


      اليوم أنا موقوف عن السفر منذ أن عدنا معا من شانجماي وكوخ تشانج وباتايا وبانكوك.. فقد سحبوا عني جواز سفري وبطاقتي الشخصية، بل أصروا أن يكفلني عماني مثلي ببطاقته وجوازه ايضا.. لدرجة أنني لا استطيع حتى ان أذهب إلى شارع "الدفاع" بأبوظبي لأشتري لك تلك اللعبة المميزة التي لا أجدها في السلطنة..


      لا ادري يا بني إن أتى الغد وأتيت إلى مكتبي بالمنزل تطلب الدباسة والورقة البيضاء لـ"تشخبط" فيها "شخابيط" الطفولة، وتكون رساما تنافس ريشة "دافنشي" أو "فان كوخ". ولا ادري يا "عبود" إن كان القدر سوف يجمعني في كل مساء وأنت تأتي ببراءتك الطفولية تطلب مني المائة بيسة التي أصبحت لا تشتري لك حتى "قوطي ديو"، ولا ادري أيضا إن القدر سوف يسمح لك بأن تسحب مني هاتفي خلسة وتلعب فيه ألعابا حتى أنا لا أعرف كيف ألعبها...


      في سنك الذي لم يصل العاشرة فإنك لا تدري إذا اختفى أبوك فماذا يعني الاختفاء بالنسبة لك!! ربما تفتقد الأب الذي ترفع ضغطه كلما شاهدك تمتنع عن الأكل وتفضل بدله "الايس كريم" او "التشبيس" فطلب منك أن تمد يدك اليمنى لتأكل مما رزقنا المولى عز وجل من رزق.. وأبوك الذي يزعل عليك كلما خالفت أمره فركضت بعيدا عن خيزرانه، وتعود إليه فيكون قد هدأ من روعه، فتبتسم في وجهه. أو عندما يضربك لأنك كسرت شيئا في المنزل فتطلق صريخك عاليا، وما هي إلا لحظات فترتفع ضحكاتك عالية، في طفولتك يا ولدي براءة وصفاء منزهة من الحقد والغل ممن يؤدبك لتكون ذو أخلاق في المجتمع...


      وأنت وأخوك الطويل تكسران وتخربان وتشخبطان في المنزل،، كم وكم ارتفع الضغط لإصلاحكما، لكنها الشقاوة التي مررت بها صغيرا،، عندما أسأل من الذي فعل هذا، تقول لي: حموّد البادي، فيرد حموّد: عبود البادي... تجعلونني أضحك كثيرا وأتذكر زميلي "البادي" فأقول في داخلي: هذا "البادي" وراي واري حتى في البيت:متفكر: بالتأكيد أحدكما "ابتدأ" بالعراك أو التخريب، وأحدكما "بدأ" القتال والمصارعة التي أتت إليكما من "سبيس تون" أو "ام بي سي ثري"..


      أما إذا رجعت يوم الثلاثاء من مدرستك التي يتأخر فيها الباص دائما فوجدت أبيك وقد اختفى ببدنه فتذكر يا ولدي انه لن يختفي بوجدانه... أبوك يا عبدالله صوّر حياتك في باله كلما سافر وكلما اغترب، بل وكلما خرج من المنزل، لكن إن أتى الدجى يوم الثلاثاء فتذكر يا "عبود" أن أبيك راجع إلى منزلك يبحث عنك.. وأول مكان يبحث عنك فيه هو ذلك "المقن" الذي تجلس فيه مختبيا تلاعب ديكا ودجاجة أو عصفورا أصررت على أبيك ان يشتريها لتكبر وتبيض بدلا من الألعاب التي كثيرا ما تكسرت بين يديك بعد انتهاء البطارية. أما الدجاج والعصافير فألعب معها وتذكر والدك بأنه هو الآخر تربى مع هذه المخلوقات الصغيرة التي تدخل البهجة وهي تصرخ طالبة الأكل وربما الحرية.. وكثيرا يا عبود ما أخرجت تلك المخلوقات من قفصها وجلست تداعبها في "حوش المنزل" إلى أن هربت طيرانا إلى حيث وجدت الحرية...


      لذا ياولدي عبدالله..


      كتلك الطيور بداخل قفص المنزل فإنها سرعان ما ترى الحرية، أو تكون قربانا يضحى بها لتدخل بطون المحظوظين بها... هذا واقعي يا ولدي الصغير، إن كنت أنا في قفص بسبب الكلمة فسوف أخرج من ذلك القفص كالطير أطلق عناني في سماء الحرية، وكالطائر أيضا أعود إلى عشي ولو بعد حين أجد فيه أسرتي الصغيرة وأعود إلى الوطن العزيز أجد فيه أسرتي الكبيرة من أصدقاء ومعارف وأخوة وأخوات تلازموا معي في قضيتي فإن خرجت عنهم فسوف أعود إليهم ولو بعد حين...








      (17)




      في اليوم الثامن وبعد عدة استراتيجيات استخدمها الدكتور الذي - وللأمانة - جاء بها بتفاني وإخلاص فقد نجح في إقناعي نفسيا بأن أخبره بمصدر الوثيقة: مقر عملي. بحكم عملي ذلك الوقت كمدير بالوكالة فقد كنت في الخارج ولما عدت إلى مكتبي وجدت مجموعة كبيرة من المعاملات المتراكمة بحاجة إلى البت فيها سواء توقيعها أو توزيعها أو إجرائها بنفسي. ونظرا لضيق الوقت لم أكن اهتم برسائل التداول التي ترافق كل رسالة صادرة من مكتب الفاضل/ المدير العام، أو حتى من مكاتب إدارية أخرى..


      قرأت الأوراق التداول على عجل حتى وصلت إلى الأسس التي وضعها مجلس الوزراء الموقر. دار في بالي العديد من الأفكار من بينها نشر ملخص تلك الأسس، لكن وكما نعلم خاصة في هذا المنبر الكل يطالب بالدليل، والكل يكذب الكاتب وإنما يحتاجون إلى ما يثبت صحة ذلك الادعاء. أن تنشر معلومة أو حديثا عن شخص او مؤسسة تتهمه مثلا بالفساد ليس بالأمر السهل، حيث ان هناك من يتربص بك ويعتبر ذلك تشهيرا بدون دليل.. وعند نأتي بالدليل تكون المصيبة أكبر..


      وكما قلت أمام عدالة المحكمة وأمام المحقق من أن سبب نشري كان في إطار فكري بحت، بمعنى أن الوثيقة كانت عن ضوابط جديدة صادرة من مجلس الوزراء لبرنامج إذاعي يتبع دائرة صغيرة تتبع مديرية عامة تتبع وزارة لها سيادتها.. كل هذه التسلسلات الإدارية تتبع مدير، مدير عام، وكيل وزارة، ثم وزير، على التوالي. وكموظف أتعامل بذلك التسلسل الإداري أدرك أن الضوابط والأسس يمكن أن يصدرها المدير العام أو الوكيل، وأقصى درجة وظيفية الوزير فقط.. فقد تعاملت مع قانون الطيران المدني والذي صدر بمرسوم سلطاني سامي ومع لائحته التنفيذية والتي صدرت بقرار وزاري فضلا عن قواعد وأسس يوقع عليها المدير العام أو الوكيل فقط..






      (18)




      للتأكد من حقيقة من قلت كانت الخطوة الأخيرة هي التأكد مما قلته، فاتجه المحقق إلى مقر عملي وقابلوا المسئولين، وقد تحقق صحة ما قلته.. وأتى في اليوم التالي الفاضل/ وكيل الإدعاء العام يسجل أقوالي واعترافاتي في محضر رسمي قمت بالتوقيع عليه.. شعرت بارتياح تلك الليلة فنمت نوما عميقا، وكلي أمل بالخروج من تلك الضائقة...


      ومع ذلك كان هناك أكثر من احتمال بعد تلك الاعترافات خاصة أن وكيل الادعاء بدأ وكأنه يريد أن يتراجع عن أقواله فيما يخص قضية الدكتور الوهيبي. ومع ذلك كان هناك الأمل إما بحفظ قضية الوثائق أو التوصل إلى تسوية مع مجلس الوزراء أو بالطبع إحالة ملف القضية إلى المحكمة. في نهاية دوام يوم الأربعاء الرابع من فبراير أتاني خبر الإفراج لكن بكفالة. اعتقدت أن الكفالة مالية لكن كان المقدم قد اتفق مع ابن خالتي أن يأتي معه جواز سفره وبطاقته الشخصية.. ويحملني في سيارته.. لما قدمت إلى المنزل كانت مفاجأة لزوجتي أن تجدني أمامها وإن كان شعري الأبيض قد ظهر طويلا وشعر رأي منفوشا وجسمي نحيلا.. لكن المظهر ليس هو الجوهر...


      من الخامس والعشرين من يناير وحتى الرابع من فبراير 2009 كنت حبيس الكلمة الحرة نتيجة فعل اعترفت بخطئه قانونيا وبصحته فكريا...







      (19)






      والدي العزيـــز


      سميت ابني الثاني باسمك "عبدالله" ربما لأكفر خطاياي في حقك كوالد لم يعرف حق الأبوة إلا عندما صار أبا.


      لكم وكم علمتني دروسا في الشقاء وفي الحياة الضنك التي قاسيتها أنت في الطفولة،، وفي الغربة،،، وحتى في العمل.... تخبرني دوما عن حب أبيك - الذي حمل اسم رسول الإنسانية جمعاء - لك، فبحبه العفوي - وذات ليلة - يكاد يأكل الرمل من شدة الجوع لتقتات أنت من فتات الأرز البارد الذي بالكاد يسد رمقك. كنتما في صحراء قاحلة وفي الطريق إلى "سرور" يبحث هو عن لقمة العيش قادما بك على قدميه ليحفر لك حفرة صغيرة تقيك من قسوة يناير القارصة، فيضم جسده الطويل بجسدك النحيل محتميا من قسوة الطبيعة بردا وجوعا... إنها قصة لن يصدقها من ولد ما بعد السبعين.. قصة معاناة أسرة أصغيرة مع أسرة أكبر...


      وفي غربتك والتي امتدت إلى خمسة عشر عاما،، عاملوك كـ"كولي" في بلاد خليجية نتقاسم معها اللغة والتاريخ والجغرافيا والعادات وفوق ذلك سماحة الدين الإسلامي. ومع ذلك بقيت أنت أيها العماني مرفوع الراس عالي الهمة ورافع قامتك تنتظر الفرج. وقد أتى الفرج في 21 يوليو 1970 فهرعت مسرعا إلى بلادك ترفع رايته وتقبل ترابه وتحتضن عشيرته... وعندما عدت بدأت حياتك من الصفر وببعض "قروش" و"روبيات" جمعتها في غربتك لتبدأ مشوارك من جديد، ولتولد من جديد ليرزقك الله عز وجل المال والبنين..


      وفي عملك وقبل أن تتقاعد أبى ذلك المسئول إلا أن يلصق بك تهمة ويحقق معك بالأيام لمجرد أن قام احد الوافدين سكيرا بتكسير بعض أجزاء المصنع الذي كنت تعمل فيه،،، فحققوا معك ليل نهار لأنك أردت ان تتحدث باسم "العمال" فاعتبر البعض أن ذلك يشكل عصيانا على السلطة، ولما لم يجدوا ضدك الدليل نقلوك من عملك حفظا لماء الوجه، ويا له من وجه اغبر كشر أنيابه وكشف ساقيه العارية، وربما نقلك من عملك السابق إلى عملك اللاحق كان رحمة بك، حيث قربك من منزلك وأهلك وعشيرتك.. وحيث أتى مسئول آخر يطلب منك أن توقع على فواتير مشتريات بعشرات أضعاف السعر الذي وجدته في السوق، فرفضت، فوافق المسئول من دونك... ولما قيل لك تقاعد مبكرا فقد فعلتها لتبقى بين أولادك الصغار والكبار ترشدهم وما هم بمرتشدين...


      وها أنت يا والدي تبكي حزنا عندما عرفت - من الغير - أن ابنك قد يذهب إلى "سرور" ويختفي عنك،، تبكي أمامي وتدمع مقلتيك وتقول لي: يا ولدي اترك عنك هذه الأشياء،، خليهم في حالهم،، اكتب وامدح كل مسئول في الدولة،، اكتب وامدح كل عمل قامت به الحكومة،، هذه الحكومة أعطتنا الكثير يا ولدي،، كنا فقراء أذلاء في الخليج والآن أتى السلطان ليرفع رأسنا وينتشلنا من الفقر... يا علي يا ولدي البكر،، لا تكن جاحدا بالنعمة،، الشيمة اترك ما أنت عليه،،، ماذا سوف تجني من هذه الكتابة... أنا يا ولدي استحييت أن أذهب إلى السوق لأن ابني قد انسجن (11) يوما... ماذا أقول لأصدقائي عندما يكون ابني سجينا؟


      ها أنت يا والدي تذهب إلى المحامي تعرض عليه بيع منزل لك لكي يخرج ابنك من محنته ولكي يفعل ذلك المحامي ما يبرئ به ابنك، فيرد عليك المحامي: ابنك على حق. ابنك لم يخطئ في حق الوطن،، ابنك أدافع عنه وسوف يدافع عنه كل مواطن تربى على خير قابوس... وتذكر يا أبي عندما قال لك ابن خالك الملتزم أن علي على حق وأن التاريخ سوف يسجل ذلك الحق... إن أخطأ علي فخطأه بمقدار حبه للوطن، وبمقدار حبه لزميله المواطن، وبمقدار حبه لتحقيق غايات أسمى للوطن والمواطن...


      يا أبتي..... لا تبكي في حبك لعلي ،،،، بل افرح في حبكما للوطن،،، وللمواطن،،،، إن كان لعلي نصيب من الحرية فهذا قدره الذي هو ماض فيه... كما قلت لك يا أبتي في آخر زيارة لي أنني لن أتوقف عن الكتابة،، أنني لن امدح هذا المسئول أو ذاك،،، وأنني سوف استمر فيما أنا عليه،،، تعلمت دروسا من أخطاء كثيرة، وهذه الدروس التي تجعلني أشق الطريق من جديد،، قد تكون تلك الطريق وعرة بوعورة جبال الحاجر الشرقية أو على علو جبل شمس لكن سوف نجتازها - بإذن الله - كما اجتزت أنت مرارة الأيام ما قبل السبعين....


      سوف أعود إليك يا أبي ولو بعد حين... سوف أعود لأصلح ما أفسده الزمن بيننا،، وما حاول أن يفسده المقربون من ود وتلاحم....








      (20)




      أنت يا وطني العزيز....


      كنت الأول دوما، وتظل الآخر دوما...


      قبل أن أتوجه إلى قاعة المحكمة هذا الصباح....


      سوف أعود إليك مطلقا عناني قلمي وكيبوردي...

      قد أعود بحريتي قبل نهاية صباح الخير،،، وقد يكون قبل نهاية هذا الشهر،،، وقد يكون قبل نهاية العام،، وقد يكون قبل نهاية العقد...


      لكن حتما سوف أعود....


      إلا إذا قال القدر كلمته عندما ينطق جل وعلى: كن فيكون...


      كم أعشقك أيها الوطن... يشرفني خدمتك في الأرض الفسيحة أو في زنزانة صغيرة...


      فأن سجنت فسوف أسجن في داخل الوطن، لن أكن مغتربا عنه،،، وسوف أسجن مع المواطن،،، وسوف يكون السجان هو مواطن أيضا،، وسوف يكون زائري هو مواطن،، وسوف يكون حارسي هو مواطن...


      وإن استنشقت نسيم الحرية مرة أخرى فهو من أكسجين الوطن، وإن شربت عصير الحرية فهو من فاكهة الوطن،، وإن استسغت طعم الحرية فهو من نبات الوطن،،، فهوائي وشرابي وغذائي كله من خيرات الوطن...


      الوطن هو شعب .... الوطن هو أرض .... الوطن هو حكم.... الوطن هو سيادة....


      الشعب هو العماني


      والأرض هي عمان


      والحكم هو جلالة السلطان


      والسيادة هي استقلال السلطنة


      العماني هو الأخ والصديق والمسئول والزميل والقريب والصاحب...


      والأرض هي مسقط ونزوى وصلالة وصحار وعبري وخمس وخمسين ولاية أخرى..

      والحكم هو جلالته الذي أخرجنا من ثالوث الجهل والفقر والمرض..


      والسيادة هي العزة وهي المكانة في داخل العالم الصغير وهي الفخر بذلك الجواز ذو الخنجر والسيفين....


      فكم وكم أحبك يا وطن...


      سوف أعود لأكتب لك يا وطن...


      سوف أعود عاجلا أو آجلا...





      (21)




      لم يكن ذلك "الثلاثاء" في الحادي والعشرين من ابريل عام 2009 يوما عاديا، فقد كان فيه يتحدد مصيري بمواصلة الكتابة بحرية الكلمة أو البقاء في زنزانة صخرية مقرونة الجدران.. وها هي السنة تمر، فتعود الذكريات؛ ذكريات مناسبة وجدت فيها الصديق وقد هرب والبعيد وقد اقترب. وجدت فيها وزير اتصل بي يهنئني ووزير آخر ارتفع لديه الضغط لأنه خسر القضية التي اعتقد أنها قضيته.


      تعود بي اللحظات حيث ودعت "روضة" صباح ذلك الثلاثاء آنذاك، وإن كانت تغط في سبات عميق، لكن روضة اليوم أصبحت تناديني بكلمة "بابا" بل أنها أصبحت تدلعني بكلمة "عليوي". في ذلك الصباح من ثلاثاء ابريل 2009 صحوت مبكرا، ذهبت إلى المرآة أقطع تلك الشعيرات البيضاء التي نمت بسرعة لأخفيها عن أنظار الأهل والأصدقاء لأبدو شابا يعارك (47) عاما قضاها وسطهم.. وقبل أن أودع المرآة تعاركت وكأي موظف يتعارك كل صباح مع ذلك "المصر" الذي يأبى أن يبدو متناسقا في خيوطه وألوانه. حاولت جاهدا أن "اضبطه" لكن فكري يدور في تلك القاعة التي سوف تكتض بالقادمين والمسافرين والعابرين في سنن الحياة ورحلاتها الأرضية والجوية.






      (22)




      وصلت قاعة المحكمة الابتدائية بالحيل مبكرا، اعتقدت أنني سوف أكون أول الواصلين، تفاجأت ذلك الصديق الذي هو الآخر قدم من خارج مسقط مع صديق آخر له، وما هي إلا دقائق ليأتي صديق آخر وثالث ورابع. عندئذ شعرت أنني لست لوحدي في تلك القضية. قدم موسى الفرعي وقدم "تنور" وقدم عبدالحميد الجامعي وقدم "زمران" وقدم "سيف القلم" وقدم آخرون عرفت بعضهم وعرفني بعضهم. وقبيل بدء المحاكمة تقدم شخص طويل القامة استطعت بصعوبة أن أعرفه بعدما وجدت تشابه بينه وبين شخص أعرفه جيدا، عرفني بنفسه على أنه المهندس الأستاذ مازن الطائي والذي كتب عن ذلك اليوم أيضا في موضوع تم نشره في الحارة وأعدت نشره هنا في سبلة عمان.



      كانت الأستاذة طيبة المعولية قد حضرت أيضا. وكان الأخ "أبوعماد" قد قدم من صلالة ليكون من ضمن الحاضرين في القاعة الصغيرة التي دخلت فيها أفراد الشرطة بشكل غير معهود كما عرفت فيما بعد. وأخيرا أتى ذلك السرب من الزملاء في رحلة البحث عن حرية الكلمة؛ أي أعضاء الجمعية العمانية للكتاب الأدباء، كان هناك سليمان المعمري وآمنة الربيع سالمين وسعيد الهاشمي الذين وجدت منهم الدعم المعنوي. أما العزيز ناصر البدري فقد كان في بريطانيا، وتصادفت إجازته القصيرة للدراسة محاكمتي فحضرها هو الآخر. وخلاصة القول في الحاضرين: لم أكن أتوقع ذلك الحشد من الأخوة والأخوات وهم قادمون حتى من خارج مسقط في الصباح الباكر وقد تركوا أعمالهم وأشغالهم، في حين تخلف عن الحضور أعز الأصدقاء وأقرب الأهل.








      (23)




      لما نادى المنادي بالدخول إلى القاعة تسابق الأخوة ليصطفوا في الكراسي المعدودة العدد. اصطف الشرطة أيضا. تم توجيهي بضرورة الدخول إلى الزنزانة الحديدية العالية الارتفاع والمغطاة بحديد من السقف أيضا، وقد علق أحد الأخوة ليزيل عني التوتر فيما بعد بأنه ليس بإمكانك حتى الصعود إلى الأعلى والخروج منها. يكاد الدم يتجمد في عروقي ويرتفع "الاندريالين" عندما أوصد الحارس تلك الزنزانة ليعلن قبضه – مرة أخرى – على حريتي. هذه المرة قد لا يكون هناك خروج منها. صمت الحاضرون عندما أعلن الحاجب على حضور فضيلة القاضي خالد الهلالي، ووقفوا أيضا. اعتقدت من الوهلة الأولى بأنه سوف ينطق بالحكم ويريحني من عذاب الانتظار لشهور عديدة. لكن القاضي الذي أخرج أوراقا وبسمل بإسمه تعالى لينطق كلاما أصبح يشرح الصدر وهو يتحدث عن مفهوم الحرية والكلمة المسئولة. عندما هبط الضغط وهمد الاندريالين وشعرت للحظات بأنني سوف أخرج من تلك الزنزانة بعدما ينتهي فضيلته من قراءة الحكم مباشرة.



      بعد الانتهاء من الكلمة التي أشاد بها الحاضرون، بدأ ينطق بالحكم؛ القضية الأولى والتي كان الدكتور محمد الوهيبي شاكيا فهي فقد نطق بالبراءة. عندئذ صفق الحاضرون بشدة وسط استنكار أفراد الأمن. وشعرت بارتياح شديد وكأنه هم زال من كاهلي للحظات لم أذق فيها طعم الراحة منذ الصباح الباكر. يأتي نطق فضيلة القاضي بالحكم الثاني والذي لم أتفاجأ به كثيرا لأنني وضعت عدة احتمالات سوف أتحدث عنها لاحقا حول ذلك الحكم. لكن كلمات الحكم وهو ينطقها القاضي جاءت في بادئ الأمر بشكل ظنت فيه زوجتي بأنه سجن، فصرخت وسط ذهول الحاضرين بشكل أحرجني أمامهم. تدارك فضيلته ذلك المواقف فقال للحاضرين بأن السجن لعشرة أيام فقط وقد قضاها وبالتالي لن يتم سجنه مرة أخرى، أما بقية الأيام فهي مع وقف التنفيذ والتي كانت عشرين يوما فقط، بالإضافة إلى غرامة وقدرها مئتين ريال ومصادرة الأجهزة المستخدمة في أداة الجريمة. ولما هم السجان اقتيادي للحبس فقد نبه القاضي عليه بأنني قضيت عقوبة السجن في وقت سابق وبالتالي ليس لدي ما أوديه سوى الغرامة. أخرجني السجان من الزنزانة وطلب مني أن أتوجه إلى قاعة أخرى وجدت فيها ترحيبا من أخوة لم أعرفهم أخبروني وهم يعملون في المحكمة بأنهم كانوا يتابعون قضيتي عن كثب وأنه يتوجب عليّ فقط دفع الغرامة. لم أكن أحمل النقود فناديت أحد الأصدقاء الذي كان قد حضر من ولاية الرستاق وطلبت منه المبلغ فقال أنه سوف يتجه إلى أقرب آلة للصرف الآلي ليجلب لي المبلغ المطلوب. وأنا أنتظر نادتني أحد الأخوات لكن الموظف هناك امتنع عن أن أن أحادثها. عرفت فيما بعد بأن تلك الأخوة والتي تمثل مدير لشركة لأحد الأصدقاء قد جلبت معها عدة آلاف من الريالات لدفع الغرامة التي اعتقدوا أنها سوف تتجاوز الألفي ريال، خاصة أن الدكتور الوهيبي كان قد طالب بسبعين ألف ريال كتعويض له.






      (24)


      أخيرا خرجت من المحكمة لأفاجأ بوجود شلة من الأصدقاء تنتظرني بالتهاني والتبريكات، حضن وتقبيل وعناق لم أشعر بحرارته سابقا مثلما شعرت به في تلك اللحظات. وقف الأعزاء في طابور وكأنهم ينتظرون السلام على وزير قريب تم تعيينه مؤخرا. ولأن المحكمة قد امتلأت واكتظت بآخرين فقد كان أحبائي ينتظرونني خارج المحكمة وفي الشمس التي بدأت توزع حرارتها على جلودهم وأجسادهم. لم تمر اللحظات إلا ويأتي ذلك المذيع العماني ليسجل لقاء سريعا لقناة الحرة، ولم تمر اللحظات التالية وإلا وتعمل الكاميرات الشخصية لترفع لقطات الإفراج إلى "اليوتيوب". لم أكن أعرف كيف أعانق هذا أو أقبل ذاك!! فالذين حضروا أرادوا لي الخير في كل لحظة بل وجدت من يقول لي أن قلبه كاد أن ينفطر وهو يسمع فضيلة القاضي ينطق بالإدانة، فقد اعتقد أن الإدانة تعني السجن لسنوات طويلة – كما كتبت عنها منظمة الخط الأمامي ووجهت رسالة إلى المقام السامي بضرورة التدخل حتى لا يكون الحكم جائرا في حقي. وما إن بدأت الأخوة يتسامرون ومن ثم ينصرفون في حالهم أبى البعض إلا أن ينفرد بي ليسألني عن شعوري في كل لحظة من لحظات نطق الحكم ولحين الخروج من ذلك المأزق. على أنني لمحت شخصا أسمر البشرة واقفا تحت شجرة أراد من تحتها أن يبتعد عن ذلك التجمهر. لم أكن أعرفه في البداية، تحدثت إليه فعرفت أنه "زمران" ذلك الكاتب المشاكس الذي ربما يكون واحد من أكثر الذين تعرضوا للحظر في سبلة عمان، ومع ذلك يعود إلى مشاكسته وأسلوبه المبطن في النقاش، وهناك من لا يفهم ما يقصده زمران إلا إذا تعمق في شخصيته الأدبية المضادة.


      أصر ثلاثة من الأصدقاء أن يأخذونني بعيدا من شحنة صباح ذلك الثلاثاء في الحادي والعشرين من ابريل 2009. كنت قد قدمت من المنزل بصحبة أحدهم الذي أتى من الرستاق إلى منزلي ليأخذني إلى المحكمة في الصباح الباكر، بخلاف أول وثاني مرة للمحاكمة حيث استخدمت سيارتي ليقيني بأنني سوف أعود إلى منزلي بعد الجلسة، أما في جلسة النطق بالحكم فلم أكن أعرف ما إذا كانت هناك عودة أو لا عودة. قرر الأصدقاء الثلاثة أخذي إلى "سيتي سنتر" حيث نحتسي شيئا ساخنا يزيد سخونة الموقف. عرفت فيما بعد أن قريبي "الدكتور" كان قد ذهب إلى أقرب آلة للصرف النقدي وجلب معه نقود الغرامة. وحتى اليوم لم أستطع إقناعه بإعادة المبلغ إليه. ما إن جلسنا في "الكوفي شوب" إلا وتنهال عليّ الاتصالات بشكل أحرجني مع أصدقائي. إذ لم استطع أن أجلس معهم لحظة دون أن يرن الهاتف مع وجود مكالمة في الانتظار، وثالثة، ورابعة. يا له من شعور طيب ونبيل وأنا أتلقى مكالمات من أشخاص يعرفوني بأنفسهم أول مرة. وسط المتصلين كان والدي والذي صاحب المكالمة بكاء لم أستطع من خلاله أن أفهم ما يقوله. إنها مشاعر الأبوة تتجلى في عمقها رغم الهوة التي صاحبت علاقتي معه طوال السنين لخلاف إيديولوجي وسلوكي معه. ورغم وجود من "يخربون" علاقتي بأبي طوال السنين وبالتالي تكون بين مد وجزر، إلا أن قضيتي ذابت كل ذلك "التخريب" بل وصمدت بشكل خرساني مسلح إزاء من يحاول أن يلقي التهم بالخيانة ويبلغ بها ذلك الوالد المتقاعد الذي لا يريد سوى كيل المديح للحكومة رغم كافة زلاتها وأخطائها، ففي نظره فإن الانجازات التي أخرجته وأخرجت أكثر من مليوني عماني من ثالوث الجهل والفقر والمرض أهم بكثير من منغصات حالية وآتية قد تقود الوطن إلى طريق تتفشى فيه البطالة والجريمة والفساد إن لم تفعل القيادة العليا شيئا جذريا يغير ملامح ذلك الطريق...






      (25)


      قضيت ذلك الثلاثاء عصره ومساؤه في الرد على الاتصالات التي لم تنقطع، وكنت قد نويت أن أطرح موضوع الحكم في سبلة عمان لكن تفاجأت بأن العضوة "أزيتا" والتي أصبحت فيما بعد زميلة مشرفة لنا قد طرحت موضوع النطق بالحكم بعد دقائق من النطق به، كما أن الصديق والزميل السابق "القائد الأعلى" قد طرح نفس الموضوع بعدها بدقائق، فتم دمج الموضوعين معا، وفي منتديات عمانية كثيرة مثل "فرق" و"الحارة" طرح نفس الموضوع. كانت بالنسبة لي فرحة عارمة لم أقاومها إلا بدمعة تنزل من مقلتي وأنا أتصفح الموضوع الذي وصل إلى أكثر من (15) صفحة أول ما فتحته في سبلة عمان. التقيت فيما بعد بأخوة أسروا لي بأنهم عطلوا أعمالهم لانتظار الخبر بأن يتم نشره في سبلة عمان، فبالنسبة لهم فإن الحكم بالبراءة أو حتى الإدانة البسيطة ليس انتصارا لعلي الزويدي وإنما انتصارا لحرية الكلمة وحرية التعبير وحرية النقد والفكر. فالزويدي لم يسرق أو يختلس أو يفسد في الأرض وإنما نشر وثيقة صادرة من مجلس الوزراء صادرت حرية التعبير عن الرأي في برنامج جماهيري أحبه الشعب والتف حول المذيع المبدع خالد الزدجالي. وعليه فإن الحكم وهو يصدر كما هو إنما يسجل انتصارا أبيضا في تاريخ الكلمة الحرة حتى وإن كانت هناك إدانة. فليس هناك ميزان يمكن أن يعدل بين مجلس الوزراء والذي يمثل الحكومة بأكملها وبين موظف بسيط ليس له من يسنده سوى ذلك المواطن البسيط مثله، وبين كلمة القاضي الذي قال أنه لا سلطان على القضاء.

      أما الأربعاء الذي تلي النطق بالحكم فقد سجل هو الآخر سمة شرف لي. فأول ما دخلت المكتب وقبل أن أحتسى كوبا من الشاي فقد أتى ذلك المدير وبصحبته أربعة من الزملاء وهو يعانقوني ذلك العناق الحار وكأنني قد ودعتهم لسنين طويلة. ولم تأت الساعة الثامنة في ذلك اليوم المشرق بشمسه إلا وصرخ الهاتف وهو يرن من هذا الزميل ومن ذلك الأخ ومن ثالثهم صديقهم ومن رابعهم أخوهم ومن خامسهم زميلتهم. أما سادسهم فقد كان وزيرهم.. نعم هذا ما حدث. فقد اتصل بي في البداية أحد المدراء يقول لي أن "معاليه" يريد أن يكلمني. اعتقدت أنه يقصد وزير النقل والاتصالات الذي وقف في غير صفي. لكن المتصل قال أنه وزير آخر يسأل عن رقم هاتفي النقال. اعتقد في البداية أن هذا المدير "يقس عليّ"!! ولم تمضي لحظات على المكالمة مع المدير إلا ويأتيني اتصال من "رقم مميز". صحيح أنه حتى الموظف المسكين المهووس بالأرقام قد يكون قد اشترى رقما مميزا إلا أن ميزة الأرقام أيضا تعطى لمن لهم نفوذ بالدولة. بعد السلام، قال لي معاليه عن اسمه، وتعرفت بالفعل على صوته كوني قد سبق أن تحدثت معه وقابلته في أمر ما. وقال لي بأنه وزملاء وزراء آخرين كانوا يتابعون القضية وأنه يهنئني على البراءة وعلى الحكم المخفف بالإدانة ويتمنى لي التوفيق في حياتي المهنية.








      (26)


      مرت الأشهر على تلك المحاكمة، التقيت فيها بعدة أشخاص صارحوني فيها بأشياء لم أكن أعرفها عن قضيتي. ومن بينها ما جعلني أتأمل فيه، وربما ما قيل لي تم ذكره لعمار المعمري الذي كتب موضوعا عن ذلك في مدونته وتم نشره في أكثر من موقع. الأمر يتعلق بمجلس الوزراء الذي عقد جلسة خاصة لمناقشة أبعاد القضية التي خرجت من القطر العماني لتتناولها منظمات حقوقية (مثل منظمة الخط الأمامي وأكثر من خمسين منظمة جمعت تواقيعها في وثيقة تطالب فيها الحكومة العمانية بإخلاء سبيلي من منطلق حرية التعبير عن الرأي)، وكذلك قناة الحرة، ووكالة رويتر التي تغذي مئات الصحف العالمية الأخرى. كان في مجلس الوزراء رأيان: رأي يرى أنه ينبغي سحب القضية من المحكمة حتى لا تأخذ القضية أبعادا أكثر من حجمها الطبيعي، وبالتالي قد تضر بسمعة السلطنة والتي لا تجلب إليها أية أخبار حول حقوق الإنسان المتمثلة في حرية التعبير عن الرأي، وكذلك فإن العقل والمنطق يقول أن الخطأ في الأصل هو التداول المنتشر للوثيقة والتي لا تمثل سرا كبيرا أضر بمصالح السلطنة أبدا، وبالتالي يجب سحب القضية خاصة أن "علي الزويدي" قد نال جزاه من خلال الحبس الاحتياطي. لقد تبنى هذا الرأي معالي أمين عام مجلس الوزراء والذي رأى من الحكمة ما صدق فيما بعد؛ ولو سحبت القضية آنذاك لما حصل من تصعيد إعلامي سواء في الصحف العالمية أو تلفزيون قناة الحرة أو في مجلس حقوق الإنسان بجنيف. أما الرأي الآخر فيرى مواصلة سير القضية في المحكمة ليقرر القاضي ما يراه مناسبا، وقد أصر على هذا الرأي وزير النقل والاتصالات كونه رئيس الوحدة التي أعمل فيها، وبالتالي يجب أن أنال العقاب الذي استحقه بسبب تسريبي لتلك الوثيقة السرية. كما رأى أن التسريب في حد ذاته هو إخفاق في إدارته وبالتالي تحميله مسئولية لم يكن هو سبب فيها، وعليه يتحمل الزويدي هذه المسئولية!!

      كان من المفترض أن يعلو صوت العقل والمنطق على الصوت المرتفع الذي يستخدمه الدكتور وزير النقل والاتصالات. لكن الصوت المرتفع هو الذي علا وسما، وقد حصل "خميس العلوي" على مناصريه في مجلس الوزراء الموقر بأنه يجب أن تظل القضية في المحكمة وعدم سحبها. لقد فكر العلوي بتفكير العقاب الخاص وليس بتفكير المصلحة العامة. وظن العلوي أن الزويدي سوف يبقى بعيدا عن الأنظار لسنين طويلة وهو محبوس لا يستطيع أن يكتب كلمة في أي مسئول. ولم لا والزويدي الشخص المزعج غير المرغوب فيه والذي تحدث عن مناقصات "ثوج التراب" بمطار مسقط الدولي. وعليه يجب تأديبه وبالقانون لأنهم لم يستطيعوا تأديبه في المرة السابقة وعندما نشر ذلك المقال. ويكفي أن الزويدي قد ذهب إلى محكمة القضاء الإداري شاكيا وإن كان قد خسر القضية لكنه "تجرأ" أن يشتكي برئيس الوحدة. وفي الحقيقة لم استغرب من موقف خميس العلوي في مجلس الوزراء وهو يرفض بل ويصر على عدم سحب القضية، فهو الشخص المعروف عنه بالتصلب في الرأي حتى على المستوى الإداري. فإذا أراد موضوعا يراه صائبا فإنه يفرض رأيه حتى على وكلاء الوزارة الأربعة بغض النظر إن كان رأيه أو ذلك الموضوع صائبا من الناحية القانونية أو الإجرائية.

      قبل أن أكتب ما ذكرته أعلاه كنت قد جلست مع أحد الأخوة والذي نصحني بعدم كتابة ذلك في النت كونه أي العلوي رئيس الوحدة التي أعمل فيها. فقلت لهذا الأخ: لماذا إذن اكتب عن مكي ومقبول ووزراء آخرين ولا أكتب عن الدكتور خميس العلوي؟ فأنا في النهاية مواطن أكتب ما أراه وليس ما يراه وزيري. إن كان لمكي أو للعلوي حق فليأخذه مني وإن كنت مخطئا في كلامي فليحاسبني كمواطن وليس كموظف. فأنا لم أقصر في وظيفتي وفي أدائي بل العكس وبإشادة وبشهادة الجميع ممن يعمل في مجال شئون الطيران المدني. لكن لا يعني بألا أكتب عن الدكتور العلوي كوزير مسئول عن واحدة من أهم الوزارات المعنية بالبنية التحتية للدولة والتي تشرف على أربع قطاعات هامة وهي الاتصالات والنقل البري والنقل الجوي والنقل البحري. لقد عملت في الطيران المدني منذ أكثر من عشرين سنة، وشهدت تغيير ستة وزراء وستة وكلاء وستة مدراء عامين، ولا أدري هذه المرة ما إن كان الدكتور خميس العلوي هو الذي سيبقى أم أن القدر هو الذي سوف يبعدني عن الطيران المدني الذي عشقته وإن كان دخولي فيه ليس عن رغبة وإن بسبب بعثة مفروضة عليّ!!



      يتبـــــــع










      المصدر : بن دارس


      ¨°o.O ( على كف القدر نمشي ولا ندري عن المكتوب ) O.o°¨
      ---
      أتمنى لكم إقامة طيبة في الساحة العمانية

      وأدعوكم للإستفادة بمقالات متقدمة في مجال التقنية والأمن الإلكتروني
      رابط مباشر للمقالات هنا. ومن لديه الرغبة بتعلم البرمجة بلغات مختلفة أعرض لكم بعض
      المشاريع التي برمجتها مفتوحة المصدر ومجانا للجميع من هنا. تجدون أيضا بعض البرامج المجانية التي قمت بتطويرها بذات الموقع ..
      والكثير من أسرار التقنية في عالمي الثاني
      Eagle Eye Digital Solutions