(1)
أكثر من ثماني سنوات مرت وأنا لم أزر تلك البلد،، فقد كانت آخر زيارة لي في يوليو 2001 حيث أدرس علوم السلامة الجوية، وكنت قد أخترت مادة العوامل البشرية في أخطاء المراقبة الجوية بالسلطنة وذلك لأطروحة الماجستير، وكان الاتفاق مع المشرف على الاطروحة عميد الكلية البروفيسور "الدكتور ريتشي". كان الاتفاق على أن أبدأ الجانب النظري أو ما يسمى (المراجعة الأدبية Literature Review) بالجامعة على أن أعود إلى السلطنة لأكمل البحث الميدني. عندما كنت على وشك العودة للبلاد ناداني الدكتور ريتشي في مكتبه طالبا مني أن أفكر في أمر ما وألا أرد عليه إلا بعد مشاورة نفسي...
لم يخطر ببالي أن الدكتور ريتشي يدعوني للإقامة بالولايات المتحدة. كيف ذلك يا دكتور؟ رد عليّ قائلا أنه تابع تحصيلي الدراسي بالجامعة والذي تفوقت في كل مواده، وأن الجامعة على ارتباط وثيق مع الوكالة القومية للطيران والفضاء (ناسا) وكذلك مع شركة "رايثيون" التي زودت السلطنة بأجهزة المراقبة الجوية (كما ورد في بحثي). وهذه المؤسسات وأخرى تدفع ملايين الدولارات في شكل منح grants للمؤسسات التعليمية التي تقوم بالبحوث والابتكارات تساعد تلك المؤسسات في الارتقاء بعلوم الطيران والفضاء. ولأن الجامعة التي كنت قد درست فيها البكالوريوس والماجستير متخصصة في علوم الطيران (تخريج الطيارين، مهندسي الطيران، المراقبين الجوين، الإداريين الفنيين، الخ)، فقد رأى الدكتور ريتشي أنني سوف أنضم إلى الطاقم "الأجنبي" الذي تستقطبه الجامعة من المتفوقين الأجانب للعمل بالولايات المتحدة مع توفير بيئة عمل ممتازة...
(2)
ويبدو أن الدكتور ريتشي قد جهز نفسه لاقناعي بالبقاء بالولايات المتحدة للعمل فيها والاستفادة من كافة الامتيازات؛ فقد ذكر لي أن الجامعة قد حصلت على منحة بأكثر من عشرة ملايين دولار من شركة رايثيون التي تدرس تحسين الأداء البشري عند تعامل المراقبين الجويين مع أجهزتها وبرامجها (السوفتوير)، وحيث أن هذه الشركة عالمية فهي مهتمة بالعنصر البشري غير الأمريكي، وتريد استقطاب عناصر خارجية قادرة على دراسة الأمر بشكل علمي منهجي حتى تتمكن من إدخال أية تعديلات على أجهزتها كلما لزم الأمر، ولأن سوق المراقبة الجوية عالمي فهو سوق تنافسي شرس تتدخل فيها شركات أوروبية كثيرة، وبالتالي يجب أن تبرز هذه الشركة الأمريكية، والتي تنافسها أيضا شركات أمريكية أخرى، نفسها ودورها في ذلك السوق. هذا من جهة، أما من جهة أخرى فأنا المستفيد أيضا، حيث سوف أتمتع بامتيازات عالية في الرواتب وحتى الجنسية. ناقشته في بعض الأمور، ولأنه كان قد جهز نفسه للنقاش فقد كانت اجاباته غير مترددة وكأن أسئلتي كانت متوقعة.. ومع ذلك فقد أصر على ألا أعطيه رأيي الذي أبديته من البداية بالرفض...
من ضمن الأمور التي أوضحها لي أن الكثير من الأجانب قد أتوا إلى الجامعة التي راقبت أداؤهم فاستقطبتهم أو أوصت بهم لشركات أو مؤسسات أخرى. بل وذكر لي بعض الأسماء، من بينها الدكتور "فاروقي" ذلك الايراني الذي كنت قد درست مادة الكترونيات الطائرات لديه، والأستاذ محمد السنوسي" ذلك الليبي الذي فضل الهرب من تعسف النظام في بلاده، فضلا عن ذكره لأسماء أستاذة أجانب كنت قد درست على أيديهم بعض المواد. ولم ينسى أن يقول لي أنه هو أصلا من مهاجري أيرلندا!!
بل ذهب إلى ابعد من ذلك قائلا أن هناك أسماء لامعة من العرب أنفسهم يعيشون في الولايات المتحدة، من بينهم الدكتور اسامة الباز الذي أظهر مدينة "ارم ذات العماد" عن طريق وكالة ناسا. كيف عرف الدكتور ريشتي عن الباز؟ والدكتور احمد زويل الذي كرمه حسني مبارك لما رجع إلى مصر حاملا جائزا نوبل بعدما كان نكرة في بلاده قبل أن يذهب للدراسة ومن ثم العمل بأمريكا..
حاولت مجادلا الدكتور أن الذين ذكرتهم قد هاجروا البلدان العربية إما لظروف اقتصادية أو سياسية أو ظروف الحرب. ونحن في السلطنة نعيش في بلد مستقر اقتصاديا وسياسيا وأمنيا، فلماذا أهجر بلادي لأعيش في بلادكم، رد علي: ببساطة لأنه ليس لديكم مجال للبحث العلمي يمكن أن تطبقوا من خلاله تلك العلوم التي تتعلمونها في بلادنا. فنحن نعرف - والحديث للدكتور ريتشي - أنكم لم تصلوا إلى مرحلة تطبيق العلم الحديث بشكله الصحيح، صحيح أن الكثير منكم يدرسون مختلف التخصصات ويحصلون حتى على شهادات الدكتوراه من بلادنا ومن بلدان أخرى، لكن ما ان ترجعوا بلادكم إلا وتعيشون في نظام بيورقراطي يتقل مواهبكم ولا يجعلكم تستفيدون بما درستموه لدينا...
(3)
كان ردي على الدكتور ريتشي بشيء من اللباقة، فرغم الاغراءات في الرواتب الذي يقابله أكثر من ستة أضعاف راتبي إلا أنني وجدت أن الوطن لا يباع، ترابه أغلى من ذلك "الذهب الأخضر"، وسحنته السمراء أفضل من بشرتهم الحمراء التي تطغى المادة عليها فلا تهتم بقيم ولا أخلاق ولا مبادىء، صحيح أن العلم لديهم أمر مقدس، وأن هناك أمور كثيرة نتمنى لو نطبقها في بلادنا إلا أن المفاضلة هي لصالح الوطن ولصالح البلاد الذي عملني صغيرا، فبماله ذهبت إلى الولايات المتحدة. لم أكن أتخيل يوما ألا أرى نخلة بلادي وهي تنبت رطبا أصفرا أو أحمرا، وألا أرى الوادي الأبيض وهو يزمجر بين الصخور، وألا أرى فلج "دارس" وهو يسقي الزرع والحرث.. لقد سقتني بلادي بمائها واحتضتني بهوائها وأدفئتني بحنانها وغمرتني بعطفها، فكيف أفكر بدولارات غيرها وأنسى فضلها وخيرها، وفوق ذلك ناسها وشعبها؟ صحيح أنني التقيت بالعديد من العرب الذين أصبحوا يعيشون الآن في الولايات المتحدة، لكن ظروفهم تختلف باختلاف شعوبهم، فمنهم من اضطهده الحاكم قبل المحكوم، ومنهم من لم يستطع أن يسد رمق أولاده، ومنهم من ضربت القنبلة منزله، ففضلوا الخروج من ديارهم ليأتوا بها إلى أمريكا. نعم هكذا يفعلون، فقلما تجدا عربيا وقد انسلخ عن عروبته وحتى دينه، لقد كان هناك مجتمع عربي مصغر في المدينة التي أعيشها سواء للدارسين أو المقيمين..
قررت إذن أن أعود إلى الوطن...
نعم عدت إليه، لكن بعد عشرة أيام كانت هناك قضية حوكمت بسببها... فبعد وصولي إلى السلطنة بعشرة أيام يتم استدعائي في قضية عرفت عند التحقيق أنها تختص بكتابتي لموضوع بسبلة العرب فيه تشهير بدون وجود أدلة.. اعترفت بخطائي. لا أحد منا يريد أن يقال عنه سارق حتى ولو سرق خزائن الدنيا، ليس لدي دليل مادي، ما كان لدي مجرد كلام سمعته من أكثر من شخص، فتسرعت في طرح الموضوع والإساءة إلى ذلك المسئول، لم أكابر على الخطأ لأن الكلام أثناء التحقيق كان مقنعا..
لكن فكرت في الأمر من زاوية أخرى: فرحان أنا بالعودة إلى الوطن حاملا معي الآمال والطموحات، لأدخل في دائرة التحقيق بعد عشرة أيام من العودة، وبعدما رفضت عرضا ربما قبله البعض..
الأمر هان عليّ من جهة آخرى، فرغم أن فضيلة القاضي أسمعني كلاما "جارحا" عن الوطنية التي قال أنني تنكرتها لأنني شهرت بذلك المسئول الذي خدم الدولة أكثر من 20 عاما، إلا أنني وجدت أن المحققين أدوا دورهم بشيء من النبل والأخلاق وحتى التعاطف معي. لم أستنكر عملهم آنذاك، فقط استنكرت التوقيت، يعني كانوا مستعجلين زيادة من اللازم.
(4)
وبعد خروجي من دائرة التحقيق وتعهدي بعدم اثارة الموضوع على الملأ عدت إلى المكتب بالطيران المدني لأكمل البحث الميداني الذي ساعدني فيه الزملاء في إنجازه، إنه أمر يثلج الصدر عندما وجدت تجاوبا منقطع النظير، بل أن بعض الزملاء من تبرع بمعلومات قيمة أفادتني في سير البحث بأسلوب منهجي. وبعدما انتهيت منه بعثته بالايميل إلى الدكتور "ريتشي" الذي منحني فيه درجة الامتياز. بل وعاود الدكتور كرته في محاولته لإقناعي بالعودة إلى الولايات المتحدة إلا أنني كررت اعتذاري من جديد. فرحت كثيرا بذلك الانجاز، صحيح أنني فشلت في أمور كثيرة في الحياة إلا أنني استطعت أن أنجح هذه المرة، فقدمت نسخة من البحث لأحد المسئولين والذي لم يقصر في ركن ذلك البحث في الأدراج، فبعض مضي عدة أشهر ذهبت إليه متابعا البحث الذي كانت فيه بعض التوصيات لتحسين الأداء بالمراقبة الجوية فعرفت أن البحث أصبح مصيره مجهولا،، مرت السنوات لتأتي شركة استشارية أجنبية تقدم توصيات أوردتها أنا وزملاء آخرون في بحوثنا، ولتتقاضى تلك الشركة عشرات الآلاف من الريالات..
ماذا حصلت أنا على ذلك البحث؟
1) رسالة شكر من الدكتور وزير التعليم العالي سابقا (رئيس مجلس الدولة حاليا) على التفوق.
2) مكافأة براتب أساسي (لم تصل 400 ريال) من الطيران المدني.بعدها عدت إلى وظيفتي لأعمل كما كنت قبل الحصول على الماجستير، ولتذهب تكاليف البعثة التي تكفلت بها جامعة السلطان قابوس بالتعاون مع وزارتي الخدمة المدنية والتعليم العالي، أدراج الرياح..
صحيح أنه كانت هناك استفادة شخصية لي واستفادة جزئية في مجال العمل، لكن ليست بالصورة التي اعتقدتها أو تصورتها...هل المشكلة في النظام البيورقراطي الذي لا يقدر حامل الشهادات العليا؟
أم في حسد بعض المسئولين مغبة تفوق هذا الخريج عليهم وترقيته ليصبح هو المسئول بعدما كان المرؤوس؟
(5)
كان من المفترض أن أذهب إلى الولايات المتحدة في سبتمبر من العام المنصرم وذلك في رحلة عمل تتعلق بالطيران العماني. تقدمت لطلب تأشيرة الدخول "الفيزا" عن طريق حجز موعد لي بالسفارة الأمريكية بمسقط من خلال موقعها بالانترنت فقط. ذهبت في اليوم المقرر لتقديم الأوراق ومن ثم إجراء مقابلة شخصية، كانت الاسئلة عامة، لكن في نهاية المقابلة أبلغني المسئول أنه يعتذرون عن تلبية طلبي هذه المرة، وسوف يقومون بمخاطبتي بالايميل أو هاتفيا لما تكون التأشيرة جاهزة بعدما يأتي الرد من واشطن في غضون ستة إلى ثمانية أسابيع على الأكثر. استغربت من الأمر، فزملائي بالعمل كانوا يحصلون على التأشيرة في اليوم التالي، زميل واحد فقط استغرق اسبوعين في الحصول عليها. فلماذا يحدث ذلك معي؟
راحت عليّ المهمة.... بعدما مرت الأسابيع الستة بعثت بايميل إلى السفارة وكان الرد لبقا في الاعتذار، اتصلت بعد اسبوع وبعد أسبوع آخر وبعد أسبوع ثالث.. انتهت الأسابيع الثمانية، وكان الرد سلبيا في كل مرة.. بعد ذلك لم أتابع الموضوع لأن المهات الرسمية انتهت. وبعد ذلك دخلت أنا في قضيتي مع الوهيبي ومع مجلس الوزراء وتم سحب جواز سفري منذ أول يوم دخلت السجن (من يناير وحتى ابريل).. ولم أتابع موضوع التأشيرة مرة أخرى مطلقا لأنه لم يكن لها حاجة ولأنني اعتقدت أن قضيتي الأخيرة سوف تشوشر عليّ أكثر. فأنا بدون قضية لم أحصل على التأشيرة، فكيف سوف أحصل عليها وقد دخلت السجن وأدنت في قضية سياسية المغزى؟؟
لكن أتاني اتصال من احدى الأخوات "العمانيات" بالسفارة الأمريكية في شهر مايو تخبرني بأنه قد تم الموافقة عليّ للسفر إلى الولايات المتحدة، وأن التأشيرة صالحة لمدة سنتين قادمتين. فقلت لها لكن ليس لي حاجة بها الآن. فقالت لي بأنني ربما أحتاج إليها...
وبالفعل أتت الحاجة إليها، لكن هناك من حاول منعي من السفر معتقدا أن سبب تأخيري للحصول على تلك الفيزا هو أنني "عملت عمايل" حتى في أمريكا، وأنهم سوف يحتجزونني في المطار لما أصل إلى هناك... رددت عليه بأن سجلي نظيف حتى وإن كنت قد سجنت في السلطنة، فلم أفعل شيئا يغضب أحدا، وكل ما أكتبه هو آراء، وحرية كتابة الآراء مكفولة بالمادة (19) من حقوق الانسان وبالمادة (29) من النظام الأساسي للدولة وبالتعديل الأول من الدستور الأمريكي.وهكذا سافرت إلى الولايات المتحدة يوم الجمعة الثاني من أكتوبر لمدة عشر أيام أروي أحداثها هنا....
(6)
كانت الرحلة طويلة جدا، فمن مسقط وإلى أبوظبي وإلى امستردام والانتظار خمس ساعات، ومن ثم السفر أكثر من عشر ساعات إلى مدينة سياتل بولاية واشنطن (وهي غير العاصمة واشنطن). وأنا في الطائرة أتذكر كيف أن الولايات المتحدة أصبحت صاحبة أكثر الدول في العالم جدلا بين الشعوب، فمن ناحية لا يكاد يكون شخص قد زارها أو درس فيها إلا وأحب فيها الكثير سواء في العلم او المعاملة أو التقدم، ومن ناحية أخرى، وكلما تذكرنا كيف ارتكبت أمريكا وترتكب جرائم الحرب في الشعوب العربية منها والعالمية..
تذكرت احدى حلقات المسلسل السوري "مرايا" للفنان القدير "ياسر العظمة" وهو ضد كل شيء أمريكي، لكن كان يصر في نهاية الحلقة أن تلد زوجته في أمريكا حتى يحصل الولد على الجنسية الأمريكية، تذكرت كيف الكثير يكره أمريكا لما تفعله اسرائيل في العرب وبمباركة أمريكية خلال كافة إداراتها سواء لفورد أو كارتر أو ريجان أو بوش الأب أو كلينتون أو بوش الابن أو اوباما.. وتذكرت كيف يفرح العرب كثيرا عندما يتعين رئيسا أمريكيا جديدا، ليكون ذلك الرئيس "أشر خلفا لشر سلف" إن صح عكس المثل الدارج "خير خلف لخير سلف" فنحن فرحنا بالأمس ليكون اوباما الرئيس خلفا لبوش الذي كان أشر سلفا من كيلنتون..
وتذكرت أن جورج بوش الابن كان قد دخل التاريخ الأمريكي كأسوأ الرؤساء وباعتراف الكثير ممن قابلتهم خلال تواجدي بسياتل. حرية التعبير لديهم تعطيهم الحق في نقد الرئيس حتى وإن لم يستطيعوا تغيير سياسته، لقد عارض الكثير من الامريكيين الحرب على العراق وعلى افغانستان بعد أن عارضوا الحرب على فيتنام والتدخل السافر من قبل امريكا في حياة شعوب العالم على عقبات التاريخ الحديث.. ولقد قال لي أحدهم أن بوش أصبح الآن في مزبلة التاريخ الأمريكي..
كما أن أمريكا سياسيا قد اكتسبت سمعة سيئة مع حلفائها ايضا، فلا يكاد بوش يزور دولة إلا وتكثر المظاهرات ضده، وإن كان "الزيدي" قد رماه بالنعال فلم يصبه فهناك صحف أجنبية نعتت بوش بأبشع الألقاب وهو يزور بلادها - من منطلق حرية التعبير التي يتشدق بها هو الآخر.. إذ لم يكن ضيفا مرغوبا فيه حتى في بريطانيا أو فرنسا أو أية دولة آسيوية، ربما جبن بعض الرؤساء مجاهبته لكن الوحيد الذي استطاع الصمود في وجهه هو "شافيز" الفنزويلي و"كاسترو" الكوبي الذي صمد ضد أي رئيس أمريكي طوال ما يربو من نصف قرن إلى أن بدأ القدر يقول كلمته في صحته، ويرثه أخوه راؤول وهو حيا يتبع نفس السياسة الكاستروية.
(7)
كالعادة أثناء قيامي بالمهمات الرسمية، يستقبلني شخص في المطار يحمل اسمي في لوحة صغيرة، لكن في مطار "تاكوما" بمدينة سياتل اضطررت البحث بعض الشيء عن اسمي فلم أجده، لكن سبق ان أبلغت بأن سائق شركة البوينج يرتدي قميصا أحمرا عند بوابة القادمين. أخيرا لمحته. قدم لي التحية وحمل عني الشنط باتجاه السيارة الكبيرة التي توفرها الشركة لزوارها.
كانت تحيته كالتالي:-
Welcome to Seattle, the land of Boeing and Microsoft
أهلا بك في سياتل: أرض البوينج ومايكروسوفت فقلت له أهلا وسهلا..
طاف بي السائق خلف مصنع البوينج لصناعة الطائرات، شاهدت طائرة الطيران العماني من على بعد.. بعد حوالي عشرة أميال (16 كيلومتر) ألزمت الإشارة السائق أن يتوقف، وبدافع الفضول نظرت على جانب الطريق لأرى سيارة استغربت من شاهدت بداخلها.
لم أصدق..هل من المعقول؟
هل من الممكن؟
إنه هو بشحمه ولحمه..
هو الذي لا يمكن أن أدخل الكمبيوتر دون أن أطوف على برامجه..هو الذي أصبح أغنى رجل في العالم..لكن السيارة صغيرة، ولا تليق به، ورقمها "دفش". لما ركزت فيها وجدتها من نوع "فورد فوكاس" وهي بحجم تويوتا كورولا..
سألت السائق بدافع الحيرة والفضول: أليس ذلك السائق "بيل جيتس". رد عليّ مبتسما نعم هو!! رددت عليه بالانجليزية You are kidding me أي أنت تمزح معي. فقال هو بالفعل بيل جيتس. هل من المعقول أن يقود أغنى رجل في العالم سيارة لا يزيد سعرها على الستة آلاف ريال؟
حاولت مسرعا أن أخرج هاتفي لأشغله وأصوّر بيل جيت وهو يقود تلك السيارة الصغيرة. لكن كان الهاتف مغلقا وقمت بتشغيله، وبعدما اشتغل كان جيتس قد انعطف ناحية اليمين مبتعدا عن نظري..تأملت الموقف كثيرا......
(8)
أغنى رجل في العالم يسوق سيارة الرجل الفقير!!!
في حين يتنافس أغنيائنا على اقتناء أغلى السيارات، وأفضل أرقام السيارات، فسيارات "رولز رويس بنتلي أو سيلفر جوست" أو "مايباخ" عرفها أغنياؤنا، ولا يستطيع فقراؤنا حتى تذكر اسم تلك السيارات. على أن الأغنياء في بلادنا ينقسمون إلى قسمين: هؤلاء الذين يحجزون سياراتهم من المصانع مباشرة ويعيشون حياة البذخ والقصور ومع ذلك يحاربون الفقير في رزقه وبعثاته ووظيفته وحتى رقم سيارته، وأغنياء آخرون تجد الواحد منهم وكأن "دشداشته" لفقير حتى "راتب الشئون" لا ينفع معه.
في مسقط حيث يعيش علية القوم من الأغنياء وفي خارج مسقط يعيش "أثرياء الفقر" أي الذين يتظاهرون بالفقر فيحسن عليهم الشخص لكنهم يمتلكون العقارات و"الرهائن" والايجارات التي تدر عليهم آلاف الريالات الشهرية، وقد لا يعرف أحد عنهم شيئا إلا بعد وفاتهم..وها هو بيل جيتس يؤسس أكبر مؤسسة للأعمال الخيرية مع زوجته "ماليندا" وبميزانية تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات لتشمل برامج صحية ومنح دراسية واستثمارات داخلية وخارجية تفيد المجتمع وتنهض به..
gatesfoundation.org/annua...tatements.aspx
لكن ماذا يفعل هؤلاء بأموالهم؟ لا شيء سوى زيادتها، حيث أن التراب لن يملأ جوفهم أبدا، فتجدهم يكدسون الذهب الأخضر والأصفر ويتاجرون في الذهب الأسود في بورصات نيويورك وطوكيو، أما أثراء الفقراء، فلا يسمعون عن فقير يبحث عن قرض عن طريق "رهن" منزله أو دكانه إلا وقصدوه. لقد أحل بعضهم "الرهن" لأنه تجارة لكن تلك التجارة ما هي إلا امتصاص لمال المحتاج الذي قد يضطر إلى تسليم منزله للمسترهن لأنه عجز عن السداد..
لا نعمم على الجميع، فهناك المرحوم سعود بهوان الذي غمر عطفه وماله كل موعز بالسلطنة، وربما هناك آخرون لا تعرف شمالهم ما تنفق يمينهم، لكن نعرف بشيء من التوكيد أن الأثرياء بالسلطنة قلما يتبرعون، اذ يأخذون الكثير من الوطن والمواطن (من خلال احتكار خدماتهم وسلعهم) ودعم الحكومة لهم ولا يردون إلا النذر اليسير..
(9)
ولا يسعنا أيضا إلا أن نشكر "بيل جيتس" على اختراعه الويندوز والاكسبلورر الذي استطعنا أن نتعرف على بعضنا البعض في هذه الشبكة العنكبوتية التي أدخلتها الولايات المتحدة إلى بيوتنا من خلال اختراعها وحتى تركيبها في السلطنة...
فقبل السفر كنت قد أبحرت الانترنت من منزلي لأبحث عن فندق ذو سعر جيد يجعلني أوفر بعض النقود التي يجب أو أصرفها بحسب قائمة المشتريات التي أعطتني إياها أم العيال ومن بينها شراء لابتوب لهذا الشقي الصغير "عبود" وأن أشتري جهازا آخر لي خاصة أن فضيلة القاضي كان قد حكم عليّ أيضا بمصادرة "الأجهزة المستخدمة في الجريمة".قبيل وصولي الفندق سألت سائق البوينج عن أقرب محل لبيع الأجهزة الالكترونية بما في ذلك الكمبيوترات، فأخبرني بأن ذلك المحل الذي أعطيته اسمه بعيد نوعا ما عن مكان إقامتي، وأنه يمكنني شراء أي شيء عن طريق الانترنت..
أخبرته أنني على علم بذلك، فالتجارة الاكترونية لديهم متقدمة وكنت أستخدمها حتى عندما كنت أدرس الماجستير. فإذا أردت أن تشتري لابتوب لماركة معينة مثل "ديل" فما عليك سوى زيارة موقعهم بالانترنت واختيار الموديل المناسب مع امكانية اضافة أي خيار آخر والدفع ببطاقة الائتمان وسوف يصلك الجهاز الى منزلك في غضون اسبوع. وأصلا سر نجاح "مايكل ديل" المؤسس لهذه الماركة أنه بدأ باستخدام الهاتف المجاني ومن ثم الانترنت، ولم يكن يلجأ إلى "الرجل الوسيط" أي المحلات التجارية إلا مؤخرا وفي نطاق ضيق جدا..قال لي السائق أنه مستعد أن يوصلني إلى ذلك المحل فورا لأنه مشغول فيما بعد وأن الشركة لا تمانع في توصيل زبائنها للتسوق أينما أرادوا الذهاب.
كنت قد السفر أن أبحرت في موقع ذلك المحل الضخم واخترت بعض الموديلات الأحدث والتي لم ترد إلى السلطنة بعد. عندما وصلت إلى هناك وجدت العديد من الموديلات الحديثة جدا لدرجة أن بعضها أصبح يكاد يكون جاهزا لتركيب "ويندوز سيفن" عندما تطل علينا بعد أيام فقط، وسعر تلك الأجهزة هناك يكاد يصل إلى النصف. ولأن "حقوق الملكية الفكرية" محفوظة لديهم فإنه يتوجب عليّ أن أشتري البرامج المكافحة للفيروسات وبرامج الاوفيس والبرامج الأخرى كل على حده. فكرت قليلا: إذا كان الأمر كذلك، فسوف أدفع مئات الدولارات لتك البرامج، أما اذا انتظرت ورجعت إلى السلطنة وذهبت إلى المستر "جبار سينج" فسوف أدفع خمسة أو سبعة ريالات فقط ولن تعرف وزارة التجارة والصناعة أنني انتهكت الملكية الفكرية!!!
(10)
وأخيرا حصلت على اللابتوب الجديد، بسرعة توجهت إلى الغرفة بالفندق. ذلك أنه وعندما حجزت الفندق بالانترنت فقد وجدت أن من ضمن التسهيلات هي الانترنت المجاني في كافة أنحاء الفندق وبدون قيود على التنزيل.. ولأنني أحب التنزيل كثيرا، فقد قضيت معظم الوقت فاعلا ذلك وبسرعة عالية جدا. بالطبع سعة التنزيل غير محددة. أخيرا خرجت من احتكار عمانتل واختها عمانموبايل وصديقتها النورس. فهذه الثلاث تقدم نفس الخدمة التي جربتها جميعا، وبأسوأ الأسعار، وبمحدودية التنزيل.. جربت السرعة العالية التي تدعيها الثلاث وكلها كلها تضليل في تضليل، ليست هناك سرعة تصل إلى أكثر من سبعة ميجابيتس في الثانية، بل أنها أصلا لم تصل إلى نصف ميجا. وفي هذه الأيام بالكاد تصل إلى 100 كيلوبيتس.
على العموم، قادني الفضول لمعرفة أسعار خدمات الانترنت الحالية بمدينة سياتل. انظروا إلى أحد اعلانات الشركات التي تقدم خدمة الانترنت:-
أ) بسرعة 1 ونصف ميجا يكون السعر 15 دولار أي حوالي ستة ريالات في الشهر فقط.
ب) بسرعة 7 ميجا يكون السعر 25 دولار أي حوالي تسعة ريالات في الشهر.
ج) أما بسرعة 12 ميجا فيكون السعر 47 دولار فقط، أي حوالي 17 ريال في الشهر..
dsl4seattle.com/qwest/qwest-internet.html
بالطبع حجم التنزيل غير محدد.
آخر اشتراك لي الآن في عمانموبايل هو لأعلى لتنزيل وهو 35 جيجا وبسعر يزيد على الستين ريال، ولأنني أتجاوز ذلك الحجم فإن الفاتورة تتجاوز المئة ريال أيضا... ولا أدري ما إذا كانت هيئة تنظيم الاتصالات تراقب برامج الشركة (عماموبايل وحتى النورس) وهي تحتسب حجم التنزيل. فأحيانا أشك أنني تجاوزت ذلك الحجم.. وأرى أنني أدفع ثمنا لا يقابله الخدمة التي اشتركت فيها.وحتى عندما لجأت إلى النورس مشتركا في خدمتها للجيل الثالث التي سبقت عمانموبايل بسنة على الأقل فلم أجد الأفضل، اذ لديها باقتان فقط: إما تنزيل بحجم 10 جيجا أو بحجم 100 جيجا، والأخيرة بسعر يزيد على المئة ريال (من الأفضل شراء كورولا بذلك المبلغ) كما أن السرعة التي وعدت بها النورس وهي أكثر من سبعة ميجابيتس في الثانية أيضا كانت مخادعة، ورغم أنني قدمت عدة شكاوى لخدمات النورس لكن لم أجد الحل المقنع لديهم، فانسحبت من الخدمة، وهي ليس أفضل من عمانموبايل. بالطبع عمانتل هي التي تغذي النورس بخدمة الانترنت، فلا تتوقع الأفضل. ولهذا السبب فأسعار النورس أيضا غير معقولة..أملنا هو عندما تدخل النورس شبكة الانترنت بنفسها وليس كما هو في الوقت الحالي الذي تقوم فيه بالاعتماد كلية على شبكة عمانتل.. بالتأكيد الأسعار سوف تكون الأفضل، لكن بالطبع ليس بالصورة التي وجدتها في الولايات المتحدة...
(11)
كان يوم الأحد بالنسبة لي يوم استراحة من عناء السفر الطويل، ولأنني سبق أن زرت المدينة منذ أكثر من (15) وعندما كانت السلطنة تشارك في ملكية طيران الخليج، فقد توجهت إلى ذلك المكان السياحي المشهور "إبرة الفضاء Space Needle"، ذلك المكان الذي يرتفع أكثر من ستين طابقا وبه مطعم يمكن للزائر تناول وجبة خفيفة أو ثقيلة فيه بعدما يدفع (16) دولارا للصعود إليه. وبسبب وجود طابور طويل يتخلله صراخ الأطفال المبتهجين بالصعود، وصراخ مراهقين علهم يجدون حبا في اكتشاف الطبيعة أو ربما انتحارا للتخلص من حياتهم المزحومة بزخم الحياة العصرية كما فعلها ثلاثة منهم في السابق بذلك المبنى الذي أصبح الآن محصنا ضد المفكرين في إنهاء حياتهم، فإنني التففت إلى مكان آخر شدني إليه بعدما وجدت أنه لدي متسعا من الوقت أقضيه كيفما أشاء وبدون وجود أي شخص يعكر عليّ مزاجي..
كان ذلك المكان هو مجمع تجاري يجمع بين بيع الأشياء الجديدة والمطاعم التي يرتادها الأمريكيون ليل نهار، فهم شعب متخم وشهيته للأكل مفتوحة، على أن المكان لا يخلو من الكلاب التي يحبها هؤلاء والتي تكاد أن تكون صاحبتني عدة أيام (لي وقفة مفصلة في ذلك)، ما شدني في المجمع التجاري (المول) هو وجود عرض فلكوري لفرقة "كرواتية" أتت في ذلك اليوم المفتوح لكرواتيا. كما كان هناك الكتب المعروضة، والأكل، وبالطبع الأزياء والرقص الشعبي والغناء.
وقد التف الشعب الأمريكي وكأنه يريد أن يعرف الكثير عن ذلك الشعب الذي شهد إبادة المسلمين في البوسنة والهرسك، وربما هو أيضا عانى من ويلات الحروب واغتصاب السلطة والنزاع المسلح بعد انقسام يوغسلافيا، وظهور البوسنة والهرسك ومعاناة المسلمين وانتهاك حرمات المسلمات. نعم لقد انتهت الحرب عام 1995 بتطهير عرقي شمل ملايين المسلمين في تلك البلدان، وها هم اليوم يريدون العيش في سلام. تأملت ذلك الموقف المسالم بعدما عادت الذاكرة إلى النصف الأول من التسعينات، حيث كانت قناة الجزيرة تنقل لنا الحدث ليفجعنا نحن المسلمين عندما نرى كيف أن الضعيف ينتهك ويغتصب ولا منادي منا، بل مستنكر وشاجب ومندد إلى أن تدخل العالم الغربي أكثر ما تدخلنا نحن فانتهت الحرب ومات من مات واستشهد من استشهد، فنسى العرب والمسلمون وربما تناسوا تلك الحرب الذي يقارب انتهاؤها من الخمسة عشر عاما. وكثير من يرجع سبب تلك الحرب إلى الفتنة بسبب الكراهية المقيتة. أفليست الفتنة أشد من القتل؟
(12)
كان للجزء الأخير من ذلك اليوم الأحد أن أقضيه في ذلك الميدان الذي انصهر فيه الصيني مع الافريقي مع الأوروبي مع التايلندي والمكسيكي وحتى مع العربي. فقد شاهدت عشرات الأسر والتي يبدو أنها قد هاجرت من بلادها بحثا عن حياة افضل. ومن بعيد لمحت "الحجاب" على رأس أكثر من فتاة دون أن أرى من "يبحلق" أو يشاهدها بشكل غير لائق. حيث وفرت لهم البيئة للعيش بسلام. على أن ذلك المجتمع ليس مثاليا أيضا. فظاهرة بما يسمى "الكراهية العرقية Racial hatred" موجودة أيضا، اذ يكفي أن تكون صينيا أو عربيا ليتم ملاحقتك وحتى سبك او مضايقتك، وهذا يختلف من مكان لآخر، وإن كان القانون سوف يحكم لصفك. ربما لأن سياتل تقع في ولاية واشطن وهي الولاية التي تقع في أقصى الشمال الغربي للولايات المتحدة، وتكون قريبة من آسيا من ناحية المحيط الأطلسي. وبالتالي نجد الصينين وحتى التايلنديين بكثرة.
ما ان انتهيت من تلك "اللفة" إلا وقررت أن أنهي اليوم بالصعود إلى "ابرة الفضاء Space Needle" لما وصلت إلى منصة التفرج على المدينة التي بانت مكشوفة بالكامل فقد تأملت في أشياء كثيرة ربما نسيتها أو تناسيتها في عالم المادة قبل عالم الجوهر. صحيح أنني سبق ان صعدت إلى "امباير ستيت بيلدج" بنيويورك و"سيرز تاور" بشيكاغو وحتى "برج ايفيل" بباريس، إلا أنني سبق أن صعدت "النخلة العوانة" أيضا. فعندما تصعد إلى الأعلى تجد نفسك وكأنك في القمة، ربما يصابك الغرور لأنك في القمة، لكن قد يقودك ذلك الوضع إلى أن تتأمل ما في الكون، تتأمل كيف هي الحياة بكل مكوناتها وكيانها وكينونتها؛ كيف هذا التناغم بين الشجر والبشر والطير والفضاء، كيف للإنسان أن يعيش وهو يقطع الشجر ليبني بيتا بدلا من أرض خضراء، وكيف يغزو الأرض وحتى الفضاء وكيف يكون في القمة وأحيانا في القاع..
عندما تنظر إلى الأسفل من ذلك الارتفاع الشاهق تستصغر الأشياء، وربما تستصغر الخلق، وكيف من الناس من يستصغر بل ويحتقر الآخرين، أنت الآن في القمة بسبب "ليفت" رفعك للأعلى، لكن بعد لحظات سوف تكون مرة أخرى في الأرض مثلك مثل الآخرين.. هذا ما جعلني أتأمل وأنا أرى كيف للإنسان أن يستعلى على الآخرين وحتى يحتقرهم.. فكم من مسئول كان موظفا عاديا محبوبا لدى الجميع، ولما أصبح وكيل وزارة أو وزيرا فقد استعلى فظنهم أنه "الرب الأعلى" في تلك الوزارة. ظن أن كلامه يجب أن يكون مطاعا، وأنه فوق المحاسبة، نسي وتناسى ذلك الوزير أو الوكيل أن هناك من يراقبه، وأنه لو غمضت عين المراقب، فإن عين الخالق عز وجل لن تغمض.. تذكرت مشهدا أثرا في نفسي كثيرا من المسلسل العربي الذي يتحدث عن فضيلة "محمد متولي الشعراوي" وكيف ولما كان في قمة عطائه ووزيرا فقد دخل إلى مسجد وقام ينظف أرضية الحمام، ولما خرج سأله صاحبه، فرد عليه فضيلته: تذكرت أن نفسي أمرتني بالسوء والاستعلاء، فأردت أن أردها إلى نحرها لتكنس الأرض وتكون كما هي، للتواضع. وقد كان أداء الفنان (حسن يوسف) رائعا في ذلك الدور الذي يذكرنا بعظمة بعض رجال الاسلام الذي عرفوا كيف يروضوا أنفسهم الأمارة بالسوء..
ومن بين التأملات أيضا قدرة الانسان على ركوب الفضاء اللامتناهي، أفلم يستطع الانسان أن يصل إلى القمر رغم أن بعض المشككين في العلم رأى غير ذلك؟ ونحن في عالم الطيران نجد من اخترع الطائرة التي تزن أكثر من ثلاثمئة طن من الحديد لتعبر المحيطات ولفترة تزيد على الخمسة عشر ساعة بدون توقف وتحمل على متنها أكثر من 500 شخص، كيف استطاع ذلك العقل البشري أن يغزو الفضاء وأن تحملنا إلى مناكب ومواكب وكواكب لم نصلها مسبقا!!! ربما لايزن عقل الواحد منا أكثر من كيلوجرام، لكن ذلك العقل البشري غز الفضاء بعدما ضاقت به الأرض بما رحبت..
ولعل العرب هم من أكثر من غزا الفضاء لكن ليس بعلمهم وإنما بلغتهم المتمثلة في الشعر والنثر. فكتبنا العربية تملأ الورق بأحسن الأشعار من عربي جلس في الصحراء يتأمل النجوم والكواكب ليناجي حبيبته ويقول له أنت البدر وأنت القمر وأنت النجوم، في حين فشل ذلك العربي أن يعرف أن القمر أصلا كتلة صماء بعيدة كل البعد عن الجمال الذي يقعد يتغنى به. بل أن القمر صم أبكم بالكاد يوجد فيه خريرا للماء، أو أوكسيجين نقي يتنفس به.. كما أن العرب فشلوا أيضا في معرفة كنه البدر والهلال، فهم يتنازعون ثلاث مرات في السنة على القمر والبدر والهلال؛ المرة الأولى في التاسع والعشرين من شعبان، والثانية في التاسع والعشرين من رمضان، والأخيرة في التاسع من ذي الحجة. فحتى الآن يصوم العرب والمسلمون ويفطرون ويحجون على اختلاف أقطارهم وربما سياساتهم وأيديولوجياتهم. وفي حين عرفا "الاخوان رايتس" كيف يطيران وعرف "نيل أرمسترونج" كيف هي أرضية القمر، فإن العرب بعثت أميرهم "سلطان" ليعود إلى أرضه التي لم يخرج منها مرة أخرى..
كم هم من الأسى يصاحبني وأنا أجد "التخلف" فينا العرب، في حين أجد دولة مثل أمريكا وفيها العربي وكيف استطاع أن يصل إلى مكانة من العلم والتقدم، بينما ظللنا نحن نلبس مما لا ننسج ونأكل مما لا نطبخ، ونتحدث حول ما لا نستطيع قوله إلا في السر. في إبرة الفضاء تلك ولمدة ساعة وفي ذلك المطعم الدوار دارت في رأسي عشرات التأملات والتي قد تكون للبعض خربشات، وللبعض الآخرة فلسفة في الكون وفي العلم وفي العمل، وأكتفي بهذا القدر من هذه التأملات...
(13)
يجب أن يتفاعل الكاتب مع الوطن ومع المجتمع الذي هو جزء منه، فقد يكتب الكاتب موضوعا أو مقالا لأنه مر أو خاض تجربة معينة يسطرها بما وهبه المولى عز وجل من موهبة في السرد والكتابة، كما قد يكتب موضوع لأن أحدهم طرح عليه الفكرة سواء عن طريق البريد العادي أو الالكتروني أو رسالة بالايميل أو في بريد المنتدى أو عبر اتصال هاتفي. عندئذ يطلع الكاتب على فحوى تلك القضية فيحاول معرفة كافة أبعادها، وبالتالي طرحها بشكل عام دون شخصنة الفكرة أو التطرق إلى أمر يخص شخص معين دون الآخر..
وفي خلال مسيرتي الكتابية منذ عام 1986 تشرفت بالتعرف على أخوة وحتى أخوات خاطبوني بإحدى الطرق أعلاه لتوصيل رسالة عبر الصحافة سابقا أو عبر المنتديات حاليا لأنهم ربما لا يستطعون التعبير عما يدور في خاطرهم بطريقة أكثر سلاسة، أو خوفا من المساءلة، أو التقرب من القضية كونهم أطرافا فيها، عدم اشتراكهم في المتابة (الاكتفاء بالمتابعة والقراءة فقط)، أو لأي سبب آخر يرون أنه يقف عثرة في طريقهم. عندما أتلقى مثل هذه الاتصالات فإن أرحب بالفكرة من حيث المبدأ لكن أحاول أن أسبر أغوار القضية التي أتبناها وبالتالي قد أكون مساءلا فيها أيضا، في بعض الأحيان أطلب من الشخص أن يكتبها بنفسه ويرسلها لي كمسودة أراجعها لكي تكون مادة تصلح للنشر، وفي أحايين أخرى أتنبى القضية أو الموضوع طالما وجدت فيه المصداقية والرغبة في التعامل مع القضية كونها انسانية بحتة، على أن يكون الموضوع فيه من العمومية ما لا يقتصر على ذلك الشخص، وإنما يكون قد لاحظت نفس الاشكالات أو أن أحدا من القراء سوف يعقب ويشارك في طرح قضية مماثلة أيضا..
ولأن هذا العام عرضني شخصيا لأكثر من قضية، فقد أتتني أيضا عدة اتصالات او رسائل تطرح أفكار أو حتى قضايا تخص حرية التعبير عن الرأي، كما أتتني اتصالات فيه بعض الأمور الشخصية والتي رأيت الابتعاد عنها، لأن الهدف في الطرح هنا هو لنقاش قضايا عامة وإن كانت تبدأ بتجارب شخصية نعايشها أو يعايشها القراء والكتاب على حد سواء.
(14)
وأنا منشغل بقضيتي أتتني عدة اتصالات داخلية وكذلك خارجية، بعضها كان يظهر الرقم لدي في الهاتف النقال في حين لم تظهر أرقام أخرى، كانت معظم تلك الاتصالات لجهات خارجية ومنظمات حقوقية، أغلبها منظمة الخط الأمامي ومنظمات تريدني أن أخرج بقضيتي إلى خارج القطر العماني. كنت أعتذر بلباقة لأنه وفي تلك الأيام لم أكن أعرف مسار القضية خاصة أن هناك مساعي من قبل فاعلي الخير لأن يتفضل مجلس الوزراء و"يلم القضية" بدلا من إصدار حكم قد يكون قاسيا عليّ، كما ارتأيت أن البعض من القراء في هذا المنبر قد يصطاد في الماء العكر ضدي ليقول أنني لجأت إلى التشهير ببلادي وأنني حكمت على القضاء العماني بالظلم قبل أن يقول ذلك القضاء كلمته.
وأنا منشغل أيضا أتاني اتصال خارجي عرفت من الأرقام أنه من الولايات المتحدة كوني أعرف نظام الترقيم لديهم. بعد السلام جاءت المرأة تتطلب أن أتبنى قضيتها كوني كاتب عماني يهتم بقضايا الوطن. وبعد الاستماع إلى قضيتها تبين لي أن الأمر شخصي أكثر من كونه يخص الوطن الأم. ومع ذلك أصرت المرأة في شرح قضيتها وجوانبها التي ذكرت لي فيها أن الأمر وإن كان شخصيا في مبدأئه إلا أنه سياسي وقضائي أيضا، وأنه ومن باب انساني عليّ أن أتبنى موقفا من باب "انصر أخاك ظالما أو مظلوما". ففي قضيتي نصرني أكثر من 90% بحسب الاستفتاء الذي طرحه موسى الفرعي في موضوعه بسبلة عمان قبل الحكم عليّ. فلماذا يناصرني الكثير ولا أناصر أنا أحدا!!!
لم يكن التوقيت مناسبا لي أيضا في تلك القضية، لأنني انهمكت في التفكير في قضيتي التي كان مصيري سوف يتحدد بين فكي العدالة وقبضة الحكومة. فهي قضية أواجه فيها رئيس عمانتل والذي أصبح وكيلا للوزارة التي أعمل فيها، ويبدو أن له نفوذا وأشخاصا وراء تعيينه وإلا لما صار وكيلا في خضم الاتهامات التي كالها له "بوز ألن" وكذلك خبر وكالة "رويتر" بقيامه بالاستثمار في باكستان؛ تلك الدولة الدولة الفاسدة التي أدت إلى خسارة السلطنة ما يقارب الـ170 مليون دولار، فضلا عن وجود مجلس الوزراء بقامته وهامته وهو يحاكم شخصا آمن بحرية التعبير عن الرأي ووقف بجانب المواطن في برنامج ظن المواطن أنه سندا له، فقامت الحكومة ممثلة في مجلس الوزراء بوضع "ضوابط" سرعان ما أدت إلى اجهاض شعبية ذلك البرنامج بعدما تدخل مقص الرقيب وإبعاد المبدع خالد الزدجالي ليصبح البرنامج وكأنه "ما يطلبه المستمعون" أو ما يطلبه الوزراء - كما سماه أحدهم مؤخرا.
(15)
خلال السفر، أجد نفسي أقرب للقراءة والكتابة بسبب وجود "فراغ" في الوقت لدي استغله في تصحف الانترنت خاصة ان اللابتوب يكون متواجدا معي طوال الوقت. قادني الفضول للتواصل مع تلك السيدة التي وجدتها تلح على أن تطرح قضيتها أينما وجدت المجال لذلك. فقد طرحتها هنا في منتديات فرق، بل وفي الاعلام العربي والغربي. قررت هذه المرة التواصل معها خاصة أنني كنت في الولايات المتحدة والاتصال فيها رخيص برخص التراب، بخلاف عمانتل، عمانموبايل، النورس واللاتي "يخرفن" المتصل لما يقوم بإجراء مكالمة. كنت قبل أن أتواصل معها قد حضرت (ندوة الكلمة) التي رعتها سبلة عمان قبل يومين من الحكم عليّ في قضيتي مع الوهيبي ومجلس الوزراء. وكان من ضمن الحاضرين شخص بان منفعلا وهو ينتقد المنتديات بشدة، وأنها قامت بالتشهير به وزج قصته الخاصة مع زوجته، وأن على المنتديات أن تنـآى عن مثل تلك المواضيع. ويبدو أنه وجد الوقت مناسبا ليخرج مشاعره المشتعلة إزاء المنتديات التي تبنت بعضها قصة زوجته بالكامل، في حين تحفظت سبلة عمان على نشرها..
خلال الاتصال الهاتف مع الدكتورة "ماري الحريري" أو "الهام الحريري" كان الحديث الودي يدور في ذلك الجانب الانساني الذي يتمثل في أن الأم من حقها شرعا وقانونا أن ترى ابنها وتقضي الوقت معه. فإذا كان عمره أقل من سبع سنوات (كما هو الحال في في قانون الأحوال الشخصية العماني) فإن الحضانة للطفل الولد وللبنت لما تبلغ، وهذا يعني أن الدكتورة كان من حقها الحضانة، طبعا فضيلة القاضي يقدر أيضا أهلية الحاضن أو الحاضنة من حيث توفر السكن والقدرة المالية والقدرة العقلية وحتى الحالة الاجتماعية. فمثلا المراة سيئة السمعة أو الوالد السكير لا يمكن أن يمنحهما القاضي الحضانة حتى وإن كانا يستحقان من حيث سن الطفل. وكما عرفت بالنسبة لحال الدكتورة فإن أحد القضاة قد حكم عليها بـ"الجنون"، وبالطبع الجنون من الأمراض التي تفقد أهلية الحضانة، وكما عرفت أيضا أن فضيلته اعتمد على شهادة الشهود بجنون الدكتورة بدون أن يعتمد على تقرير طبي صادر من مستشفى أو جهة معنية بالأمراض النفسية (مثل ابن سينا أو مستشفى جامعة السلطان قابوس). وخلال حديثي معها لم أجد إلا كل "العقلانية" والهدوء النفسي. صحيح أنني لست طبيبا، لكن الجنون مرض يمكن أن يدرك "أعراضه" الشخص العادي، ويثبتها الطبيب النفساني تقريره..
(16)
عندما يتبنى الإنسان قضية ما فإنه بالتأكيد سوف يواجه العديد من العقبات التي تعترضه، قد ييأس ذلك الإنسان ويسلم أمره لله وللقضاء والقدر، وقد يواصل مشواره ساعيا لتحقيق العدالة في تلك القضية أو حتى الفناء من أجلها. وما أكثر القضايا التي يعاصرها الشخص، ولكن لسنا هنا بصدد الحديث عن قضايا سياسية وإنما قضايا إنسانية نجد أصحابها وقد ذهبوا أبعد مما ذهب الكثير للمطالبة بتلك الحقوق التي يرونها أنها مطلب إنساني يجب تحقيقه. ومن خلال تواجدي في عالم المنتديات وجدت ثلاث قضايا استمر فيها أصحابها يطالبون فيها مستخدمين كافة الطرق لكي يصل إلى ذلك المطلب الذي لم يتحقق لهم.
ولعل أهم وأشهر هذه القضايا التي أخذت المآخذ الكثيرة لها وعليها قضية أبو عماد والتي تظهر على السطح كلما وجد صاحبها الفرصة لتلك المطالبة. فكما هو معروف لدى كل مطلع أن ابنه توفي نتيجة خطأ طبي وأنه يطالب بفتح الملف للتحقيق فيه بيد أن هذا الملف قد اختفى، فلجأ أبو عماد الى المنتديات العمانية التي رحبت به في بدايتها لكن بعضها وجد أن الطريق مسدودا وأنه تجاوز بعض المنطق في الطرح في حين بقيت منتديات أخرى مستمرة في نشر ما يكتبه، أما القضية الثانية فهي قضية "الرباش الكبير" والذي يرى أنه على حق وأن القانون لم ينصفه في قضيته، وأن هناك من هو صاحب نفوذ في السلك القضائي قد حوّل البريء جانيا، وبقي الجاني حرا لا يردعه ضمير أو قانون، ومازال الرباش الكبير يكتب دون أن يفقد الأمل في قضيته، ومازال يتحلى بالصبر والحكمة في الطرح، وينتهز كل فرصة بل وكل موضوع ذو صلة بقضية انسانية يكتب فيها مداخلاته المثيرة، وهو أمر يثير الاعجاب وفي نفس الوقت يثير التساؤل حول قدرة النافذين في السلطة القضائية على عدم تقدير موقفه وعدم اعطائه حقه الذي يطالب به ابنته. وفي حين قام ابو عماد مصعدا قضيته إلى الاعلام الغربي والذي أدى البعض إلى استنكار فعله في حين أيده آخرين فإن الرباش الكبير بقيت كتاباته في أرض الوطن لكنه هو الذي هاجر الوطن، قد لا نعرف أين يتواجد ببدنه لكننا نعرف أنه يتواجد في المنتدى العماني بفكره والذي يصر على مواصلة قضيته ليتحقق له العدل ولو بعد حين، فدوام الحال من المحال سواء في الظلم أو حتى في العدل، فالحياة تحكمها نواميس ديناميكية تجرها نحن الخير تارة ونحو الشر تارة أخرى. قد يتنصر الظلم في أزمنة وأمكنة ويطول انتصاره بل ويفنى صاحب الحق، وقد ينتصر العدل من أول جولة أو محاولة.
أما القضية الثالثة فهي قضية تلك الدكتورة العربية المهاجرة من بلد أحببنا فيها جمالها في جوها وجمالها في أدبها وجمالها في شعرها وجمالها في غنائها وفي فنها؛ لبنان هي شمس العرب التي تغرب عندما تنفجر القنبلة والتي تشرق عندما نجد أن الديموقراطية العربية هي الأفضل في ذلك البلد المتناحر ايديولوجيا وسيسيوبوليتيكيا، ومع ذلك فهي البلد التي أخرجت لنا أيضا أعظم الشعراء والفنانين ورجال الأعمال. تلك الدكتورة التي هاجرت إلى كندا وإلى الولايات المتحدة وارتبطت بأحد من بلادنا يحمل الجواز العماني، وبالتالي له ما له من حقوق وعليه ما عليه من واجبات، فإننا نقف محايدين حول قضية انسانية أبعادها الأمومة والأبوة على حد سواء، فكعمانيين نقف صفا واحدا لا يهمنا مذهب أو أصل أو فصل نساند بعضنا البعض، وكعرب نقف مع بعض كلما نادى الواجب، وكبني الانسانية فالأب يظل أبا والأم تظل أما بغض النظر عن جنس الاثنين.
على أنني أجد نفسي هذه المرة وقد انحزت إلى الانسانية أكثر من الانحياز لجنسي العماني ولعروبتي، فالإنسان هو البشر الذي خلقه المولى عز وجل ليعيش أينما أراد العيش، فقد أمرنا ذلك المولى أن نسير في الأرض ونمشى في مراكبها. وإذا كانت الدكتورة ماري الحريري قد هاجرت بلادها وارتبطت بأحدى مواطني هذا البلد العزيز فإن ذلك حق شرعي ونظمه القانون أيضا. وعليه ما يبقى في الأمر كينونة ذلك الارتباط الشرعي وما خلـّفه من ارهاصات قانونية واجتماعية أدت إلى تشتت أسرة الكل يطالب بلمها. فالأب يطالب بابنتيه والأم تطالب بابنها، ومن بين البنتين والولد تتشابك الأمور لتصل إلى ذروتها في التصعيد خارج الحدود....
(17)
لقد حاولت الدكتورة ماري الحريري أن تصل بقضيتها إلى خارج القطر العماني، وقد نجحت في الخروج بها لكنها أخفقت في تحقيق مرادها وحلمها. فإن كانت الحكومات هي لخدمة الشعوب فهي تخدم جماعات وليست أفراد من ناحية أو ترى أن هناك ما هو أكبر من قضية يعتبرها بعض المسئولين "فردية" الطابع، أي أنها لا ترقى أن تكون مقياسا لأن تتدخل تلك الحكومة وتحمي مواطنها مما قد يتعرض له من إشكالات هم في غنى عنها. وهذا ما يمكن قوله في قضية الدكتورة ماري الحريري. فعندما صعدت قضيتها لتصل إلى الاعلام الغربي الفضائي والصحفي فإن الأمور لم تتغير بالسلطنة، قد تكون هناك محاولات شخصية من قبل بعض الأشخاص الذين لا يريدون "الشوشرة" لكن لم تكن تلك المحاولات لتحقق أي هدف.
قد يكون طلب الحريري بسيطا جدا؛ مشاهدة أو رؤية ابنها أو أبعد من ذلك وهو ضمه جنب أختيه، لكن هل يتخلى الأب عن ابنه أيضا حتى وإن كان له أبناء آخرون؟ على أن ذلك الطلب لم يستطع أن يحققه أحد لها حتى الآن!! في خلال التواصل معها هاتفيا فهي مستعدة أن تفعل الكثير من أجل ذلك الابن، وهذا أمر طبيعي، فنحن كأباء نضحي بالغالي والنفيس لأجل أولادنا. أتذكر مرة وأنا واقف بمطار بانكوك الدولي في رحلة تأخرت الطائرة فيها كثيرا فأخذونا إلى الفندق أنني تعرفت على شخص بوظيفة مدير عام بوزارة التربية والتعليم، وكيف أنه صرف أكثر من عشرين ألف ريال لعلاج ابنته التي لم تبلغ العاشرة بعد من مرض السرطان، وهذا الفاضل المدير العام لا يملك تلك السيولة لكنه اضطر أن يتسلف ويستقرض ويأخذ الاجازات براتب وبدون راتب لكي يكون بجانب ابنته الصغيرة بل وقد ينسى أطفاله الأصحاء الآخرين وحتى يحرمهم مما يمنحه لتلك الصغيرة، لكنها الانسانية في أحلى صورها تتجلى في التضحية بأغلى ما نملك كآباء وأمهات. ذلك الأب لم يستطع أن يترك ابنته تموت أمامه وهو "قادر أن يفعل شيئا" وإن كان ماديا يكلفه الكثير. قد تكبر تلك الابنة بعدما يعافيها الله سبحانه وتعالى فتتزوج وتعيش حياة خاصة بها، لكن والدها يكون قد أدى الدور الإنساني والواجب المطلوب منه.
حتى بالنسبة لـ"محمد" الذي يحمل قبيلة عمانية فإن أمه ماري الحريري تحرص كل الحرص أن تراه بجانبها، هو الآن لا يدرك بصغر سنه ذلك العراك، وقد لا يهمه عندما يكبر، فهو سوف يعيش حياة آخرى وفي عصر آخر غير عصر أبويه المنفصلين، لكن أمه تظل تصارع من أجله، وكذلك والده. إنه صراع النقيضين وصراع "بارادوكسي" يربح فيه الأبوان ويخسران في نفس الوقت. فانضمام الأبن إلى أبيه يعني خسارة أمه له، وانضمامه لأمه يعني خسارة الأب له. وفي كل الأحوال فإن القانون نفسه يظل عاجزا عن تحقيق مصلحة الابن نفسه إلا في الحدود المعقولة والممكنة. ولأن محمد قد تجاوز سن السابعة الآن فإن القانون يقف في صف الأب من حيث الحضانة ويقف في صف الأم من حيث حقها في أن تراه وتلعب معه وتحضنه وتقبله وحتى تهذبه وتؤدبه. هي تريد أن تقرأ له "حدودة" أو "قصة" ما قبل النوم، تريده أن ينام في حضنها حتى وإن كبر سنه، وتريده أن "يكبر" أمامها، وتريده أن ينطق بإسمها كل صباح وكل مساء، أفلا يريد الأب كذلك؟
وكأية أم حبلت بأولادها تسعة أشهر وأرضعته سنتين وسهرت الليالي تنام على هذا الجنب حتى لا يركلها في بطنها فهي أيضا تريد أن تشاهد ابتسامته عندما يفرح وصياحه عندما يزعل أو يطلب شيئا لا يحصل عليه. تريد أن تراه يهرب منها حتى لا تضربه، وتريد أن يستفزها في أعصابها عندما لا يسمع كلامها أو أوامرها. وكأية أم فرحت بقدومه فإنها تتمنى اليوم لتراه وقد انهى الثانوية وأنهى الجامعة وحصل على العمل المناسب وخطب وتزوج وأصبح هو الأب لترى أولاده، أفلا يقولون: أعز الولد ولد الولد!!!
(18)
على أن الدكتورة ماري لن تستطيع لوحدها أن تكسر القيود وتصعد الجبال الشاهقة التي تقف عثرة في طريق الحصول على ابنها محمد، فهو الآن "يكبر" بعيدا عنها، وهي لن تستطع أن تجبر السلطنة أو الولايات المتحدة على التدخل سياسيا لأجل قضية إنسانية، لكنها تواصل مشوار المطالبة كما يواصل أبو عماد والرباش الكبير. فهؤلاء الثلاثة يجمعهم عنصر واحد هو عنصر الولد المفقود؛ أبو عماد فقد ولده للأبد وإن كان الله قد عوضه في ذرية صالحة، لكنه خسر فلذة كبده التي لا يمكن أن ينساها، الرباش الكبيرة خسرة الابنة التي يتخيلها تكبر بعيدة عن حضنه، وماري الحريري خسرت ابنها الذي لا تستطيع العيش بدونه.
إن سألت أي من هؤلاء الثلاثة (أبو عماد والرباش والحريري) عن السعر الذي تطلبه لتعيد إليهم فلذات أكبادهم، فسوف يكون "شيك على بياض" هم مستعدون أن يدفعوا الغالي والنفيس لقضاياهم الإنسانية، بالطبع ابن ابي عماد لن يعود لأنه يرقد بين يدي الباري عز وجل، لكن أبو عماد سوف ينام وهو قرير العين عندما يتم التحقيق بشكل عادل وإنساني في قضية وفاة ابنه. هو يدرك أن الميت لا يعود لكن يدرك أن العدل يجب أن يتحقق. قد لا يستطيع وزير الصحة أن يحققه له، لكن عدالة الأرض وعدالة السماء ترفرف عاجلا أو آجلا لتقول كلمتها في قضيته الإنسانية. أما الرباش الكبير فسوف يعود إلى الوطن يوما ما يقبـّل ترابه الذي يعشقه ويقـبل خدي ابنته التي "وحشته" فاشتاق إليها كاشتياق الضمآن إلى الماء، أفليست الأبوة كتلة من المشاعر تنفجر كلما آن لها؟ أما الحريري فهي تريد أن تدفع ما يطلبه المطالبون؛ أن تدفع المال فلن تتردد وحتى أن تتوسل فلن تتردد، وحتى أن تـ"تتشيم" فلن تتردد. فقط أن يقوم أحدهم بإعادة إبنها إليها ليس من باب الحضانة إن لم يكن ممكن قانونا ولكن من باب الرؤية بعد الشوق والوله، فالحنان قد زاد والمحبة قد كثرت وعشق الأمومة يكاد يؤدي إلى التيه وليس الجنون. هذه الدكتورة ليست مجنونة في عقلها ولا في فكرها ولا في حياتها، فهي أستاذة جامعية قد ألفت الكتب بلغات العرب والعجم ومازالت على رأس عملها، لكن عشقها لولدها فيه من الجنون المتعقل ما يجعل الشخص ينبهر بإصرارها على مواصلة القضية حتى وإن كانت خارج الحدود..
(19)
إن قضية الدكتورة ماري الحريري ليست الأولى التي نجدها خارج الحدود، على أن هناك من يرفض رفضا قاطعا أن تكون قضايانا المحلية الإنسانية منها والسياسية خارج الحدود، أي أن نحملها معنا إلى قناة أجنبية أو صحافة غير عربية. شخصيا ترددت في أن أطرح قضيتي خارج الحدود لأنني أردت اختبار وطني الذي ناصرني ووقف في صفي. أما أبو عماد فهناك من ناصره وهناك من تهجم عليه عندما ظهر في قناة "الحرة" وعندما كتب في جريدة "وطن" الأمريكية، بل هناك من شتمه لمجرد أن أبي عماد "فكر" في كتابة قضيته في صحيفة اسرائيلية، هو لم يفعلها، ومع ذلك هوجم بشراسة وضراوة. وماري الحريري أيضا هوجمت بشراسة لأنها حملت قضيتها خارج القطر العماني رغم أنها أصلا غير عمانية وإن كانت محبة للشعب العماني وقد ارتبطت بذلك المواطن العماني. اعتبرها الكثير أنها "شهرت" بالسلطنة في المحافل الدولية وأنها تجرأت على الاتيان بفعل "مشين" عندما ذهبت إلى أمريكا لتطرح قضية أمريكا هي أكثر الدول – في نظرهم – انتهاكا لحقوق الانسان، فكيف يمكن لأمريكا أن تساعدها وهي التي تدعم الارهاب الاسرائيلي الذي يقتل الجنين في بطن أمه؟
على أن هناك تباين بين ما فعله أبو عماد وما فعلته الدكتورة ماري، فأبو عماد لجأ إلى الوطن العزيز مستخدما كافة الوسائل الممكنة لتنبي قضيته؛ لجأ إلى الوزراء فقابل أكثر من واحد منهم، رحبوا به كلاما لكن لم يفعلوا شيئا على الواقع، لجأ إلى جرائد الوطن والشبيبة والزمن وبالطبع عمان، لكنها صدت الباب في وجهه فلم يوافق مسئولوها على نشر قضيته، لجأ إلى المنتديات العمانية التي رحبت فيه في البداية لكن تحفظ بعضها فيما بعد، ورغم متابعة المسئولين لتلك المنتديات لكن أحدا لم يحرك ساكنا، كما لجأ أبو عماد إلى مجلس الشورى وإلى بعض أعضائه، وحتى أنه تم ذكر قضيته في إحدى جلسات المجلس، ومع ذلك لم يحرك أحد ساكنا. هنا سدت الطرق في وجهه وسنين عديدة وهو يحاول؛ ربما أكثر من عشر سنين يحاول أبو عماد أن تبقى قضيته في أرض الوطن، لكن كان كمن يحمل الرمل في "مشخل"، فما أن يحصل على بارقة أمل عند مسئول أو شخص ما إلا وسرعان ما يتبدد ذلك الأمل فيحسبه الضمأن أبو عماد ماءا..
أما الدكتورة ماري الحريري فإنها أخذت مسارا خالفها البعض ووافق عليه البعض الآخر، لجأت إلى المسئولين الذين اعتقدت أنهم "ذوي سلطة وذوي نفوذ" أخذت العهود والمواثيق على أن يرجع ابنها حتى "بعد أسبوع" كما وعدها أحدهم. لكن الأسبوع انتهى ولحقه الشهر ولحقته السنة فتملص ذلك المسئول وتهرب من وعوده، انشغل بشئونه الحياتية و"الدبلوماسية" كما انشغل مسئولون آخرون بأمورهم الخاصة. وكلما لجأت إلى أحدهم فإنها تجد خيطا من الأمل في كلامه وفي أقواله، لكن سرعان ما يحترق ذلك الكلام المعسول في أتون الحديث المظلل أو حتى الكاذب. فهناك رجال بأقوال فقط وهناك رجال يفنون أرواحهم وراء وعد قطعوه على أنفسهم، أفليس من صفات المؤمن صيانة العهد والوعد؟ أين إذن تلك الصفة الايمانية في هؤلاء القوم الذين وعدوا أمرأة واهنة طالبة المساعدة منهم؟
على أن الدكتورة أيضا تعيش في ذلك الحلم الذي يكون رومانسيا في ملامحه جلفا في واقعه، ومع ذلك يبقى حلما قابل للتنفيذ. فهي ليست "أحلام الفتى الطائر" تتبخر مع ملايين العواطف الجياشة، وإنما أحلام قد تتكسر في أرض الواقع لكنها قابلة للتحقيق، ومن ذلك أعنى أن في البلاد خير وأناس ذوي خير، مع ماري يقفون كأم تريد أن تقول لابنها: كم أحبك يا محمد وكم أتتوق إليك يا عزيزي، وكم أفرح برؤيتك يا حبيبي. لا يمكن أن تتصور يوما ماري الحريري أنها لوحدها كأم، ولا يمكن للأب أيضا أن يتنازل عن ابنه. هي سنة الحياة؛ لا نطلب من والد محمد أن ينتازل عنه، وبالتالي لا يمكن أن نطلب من ماري الحريري أن تتنازل عنه أيضا، فالعكس صحيح؛ بنات ماري هن أيضا لأبيهن. أفليس البنون زينة الحياة الدنيا وللأبوين؟
ختاما، في هذه القضايا الثلاث، لأبي عماد أن يتحقق حلمه وأمله في القيام بتحقيق عادل غير منحاز لأحد، ابنه عماد لن يعود لكن الحق هو الذي يجب أن يسدل الستار على قضية زاد أمدها على ثلاثة عشر عام. وللرباش الكبير، أفليس الحق هو الذي يجب أن يعم والعدل أن يحكم والنور أن يشع ليعود الرباش إلى الوطن العماني الكبير يحضنه ويحضن ابنته فيه؟ وللدكتورة ماري فإن مطلبها الإنساني جدير بالاهتمام من قبل أصحاب النفوذ وأصحاب الضمائر وأصحاب المشاعر الأبوية منها والأمومية!! الدكتورة ماري الحريري لا تطلب الكثير سوى رؤية ابنها من حين لآخر.
(20)
لقد حسموا المساءلة منذ زمن بعيد، فبداية الأسبوع هو الاثنين، أما نحن فما زلنا نناقش ونجادل في بداية الأسبوع، فقالوا أن السبت هو يوم اليهود فكيف نتشبه باليهود؟ وقالوا الأحد هو يوم النصارى فكيف نقلد النصارى؟ على الرغم من أن حياتنا أكثر ارتباطا بهم بشكل أو بآخر. أفلا نأكل من أكلهم، ونلبس من لبسهم ونركب سياراتهم ونتعطر بعطورهم وحتى حريمنا تتزين بزينتهم؟؟ دول اسلامية مثل ماليزيا واندونسيا تحاكي اليهود والنصارى، ودول عربية مثل المغرب والجزائر أيضا. ونحن الخليجيون انقسمنا حتى بداخل الدولة نفسها، فالقطاع الخاص وحتى شركات القطاع العام لديها (ويك أند) مختلف نوعا ما عن القطاع العام، والان أصبح السبت يوما معطلا تتعطل فيه البنوك وننتظر فيه يوم الأحد حتى يدخل الراتب ان تصادف يوم السبت، وتزاحمنا يوم الجمعة نؤدي فيه الشعائر بعد أن يكون بعضنا قد اختلى مع نفسه أو مع صديق له يؤدي نقيض ما قام به في اليوم السابق. أفلم أقل لكم أننا نعيش عالم البارادوكس!!!
ذلك اليوم الاثنين أتاني سائق الشركة حيث أقطن ليشق شوارع مدينة سياتل في حركة سير سلسلة لم تستغرق ربع ساعة رغم أن المسافة تتجاوز العشرين ميلا (أكثر من ثلاثين كيلومترا)، وفي مسقط حيث أقطن في الموالح وأعمل بالمطار فإنني أقترب من النصف ساعة في بعض الأحيان لأقطع مسافة لا تزيد على الستة كيلومترات. هل الخلل في تخطيط المدن لدينا؟ أم في حبنا في شراء السيارات الفردية؟ أم ثقافة مجتمعنا المتمثلة في عدم ركوب السيارات بشكل جماعي؟ أم رفضنا لفكرة النقل العام (الباصات)؟ أم حب الظهور عند ركوب سيارات فاخرة للبعض في حين لا يقدرون حتى على شراء بترولها؟ أم خليط بين هذا وذاك؟ وخلال المسافة والزمن الذي قطعه السائق لايصالي إلى مقر الشركة ورغم كثرة السيارات التي تمشي في أربع مسارات (سيدات) وخلال فترة تواجدي الذي تجاوزت الأسبوع إلا أنني لم أشاهد حادث سير كما أشاهده في السلطنة كل يوم خاصة أثناء الذهاب أو العودة من الدوام الرسمي. ونفس التسؤال: لماذا الحوادث لدينا مرتفعة جدا في حين لا توجد لديهم تلك النسبة من الحوادث رغم تضاعف وجود السيارات لديهم بمئات المرات؟
بخلاف ما يعتقده الكثير ممن لم يذهب إلى الولايات المتحدة فإن في شعبها (بالطبع ليس كله) من الطيبة ما تجعل الشخص يتفاعل معه بشكل رائع. فخلال فترة تواجدي مع أكثر من سائق للشركة فإن الحديث يبدأ وينتهي حول أمور شيقة. بالطبع أول سؤال من قبل السائق: من أين أنت؟ والرد معروف: من سلطنة عمان. فهمت، أنت من عمان بالأردن!! لا، أنا من عمان والتي تقع بالقرب من السعودية ودبي. هنا يعرف أين عمان.. أصبحت "دبي" أكثر معروفة من سلطنة عمان، وكذلك السعودية. لما نخبرهم عن "دبي" فيعتقدون أننا أصحاب الثروات وبالطبع أصحاب الجمال. وحتى عن السعودية يعلقون وبشكل ساذج في معظم الأحيان، هل أنت متزوج من أربع نساء؟ أحدهم سألني: هل تضربون زوجاتكم؟ يعتقد هؤلاء البسطاء من الأمريكان أن كل ما هو من عرب "الخليج الفارسي" إنما قادم من دول النفط والغنى. لا يصدقون أنه لدينا عاطلين ولدينا فقر ولدينا بيوت من طين. يعتقدون أننا نسكن في القصور ونقود سيارات "الرولس رويس"، وعندما أخبرت أحدهم أن سيارتي موديل 1997 فلم يصدق!!
(21)
ما إن وصلت باب الشركة إلا وأكملت إجراءات الأمن المعروفة، توجهت إلى حيث يتواجد مهندسو الطيران العماني، ما شاء الله شباب عماني في قمة الهمة والنشاط. إنه أمر يثلج الصدر عندما تجد العماني جنبا إلى جنب ذلك الأجنبي يتحدثون نفس اللغة الانجليزية الأدبية منها والفنية. بل أن العماني يناقش بشكل مستفيض كافة التفاصيل الفنية للطائرة. ولم لا فهذا العماني قد درس في أرقى مدارسهم وكلياتهم وقضى سنوات عديدة وسطهم، وتعلم علومهم، وها هو اليوم يمثل بلده فنيا وحتى ماديا في موضوع استلام الطائرة المتوسطة الحجم، وفي حين كان في ذلك اليوم مجرد فني أو مساعد لهؤلاء "الحمرين" فإن العماني اليوم أصبح ذو قدرة وخبرة فنية تضاهي خبراتهم، ولو أتيحت الفرصة لنا لما تخلفنا عن الركب. تركتهم في قاعتهم الكبيرة بأجهزة الحاسب الآلي المحمولة والوثائق والسجلات التي يجب مراجعة أدق التفاصيل. توجهت بعد ذلك إلى غرفة أخرى لإنهاء بعض الأمور. بعد ذلك عرفت أن الشركة (البوينج) قد نظمت لنا زيارة استطلاعية في مصنعها الخاص بالطائرات الكبيرة.
مساء ذلك اليوم كان اللقاء مع ابتسامة تلك المرأة التي شارفت على الأربعين. رأيتها تسلم على أحد العمانيين الذي بدى متفحظا بعض الشيء على مصافحتها، ويبدو أنها أدركت ذلك فسحبت يديها لتسلم على الزميل الآخر الذي لم يتورع في احتضانها بشكل عفوي، لا لشيء فهي تكاد تكون والدته وإنما تعرفه كما ذكرت فيما بعد، حيث سبق أن زار المصنع من قبل. ما بين شخص متحفظ على السلام على امرأة وشخص يسلم عليها بالأحضان حلقت ببصري إلى تلك المركبة التي تقودها تلك المرأة وسط الشوارع المربعة المسارات، فاستغرقت الرحلة قبالة الساعة من مكان تسليم الطائرات الجاهزة إلى مصنعها. أثناء الرحلة دار الحديث بيننا نحن العمانيين ونسينا أمر تلك "السائقة" التي لم تفارق الابتسامة وجهها رغم أنها علقت ضاحكة قائلة: لماذا تصرخون في الحديث وكأنكم تتقاتلون على شيء، فرد عليها أحدهم بل أننا نستمتع إلى بعض النكات، المسكينة لم تكن تميز بين الضحك والصراخ. أفهكذا تبدوا لهجتنا أمام الأجانب؟
استقبلتنا تلك الفتاة الطويلة النحيفة التي بانت عليها الملامح الهندية منذ أول وهلة. خاطبت نفسي قائلا: هؤلاء الهنود وراي وراي حتى هنا في هذا المصنع!! بعد جولة تعريفية في بداية المبنى قالت لنا أن هذا أكبر مبنى في العالم، انظروا إلى المساحة المفتوحة وإلى السقف المرتفع جدا وبدون وجود أعمدة!! نعم نظرنا إلى الأعلى حيث يرتفع السقف أكثر من ستة طوابق، لكن هل نظر الأمريكان إلى الذي رفع السماء بلا أعمدة؟ بعد ذلك قادتنا إلى مكان حيث نركب سيارات تحمل الواحدة حوالي خمسة أشخاص، فكانت هي التي تقود سيارة في حين آتى زميل آخر لها يقود بقية الزملاء العمانيين. تصادف أن جلست خلفها أستمتع بالمنظر المثير والمكان الذي ينبهر فيه الانسان بعظمة الانسان من ناحية وعظمة الخالق عز وجل من ناحية آخرى. ففي الوقت الذي يؤمن البعض بالخزعبلات فإن هؤلاء قد وظفوا العلم والتقنية ليصنعوا واحدة من أكثر الصناعات تعقيدا، ألا وهي صناعة الطيران التي تقل مئات الملايين من البشر سنويا. صحيح أن التصوير كان ممنوعا لكن العين رأيت والاذن سمعت والعقل انبهر. لم تكن هذه أول مرة أزور المصنع؛ حيث سبق أن زرته في بداية التسعينات وعندما كانت السلطنة عضوا ناشطا في ملكية طيران الخليج، لكن هذه المرة ظهرت طائرات جديدة لم أكن إلا لأراها في المصنع أول مرة. فهناك طائرات البوينج 787 والتي تسمى "دريم لاينر" والذي تأخر انتاجها لسنتين لكنها في قمة التكنولوجيا، ولما دخلنا في "بطن" تلك الطائرات رأينا من الأسلاك الكهربائية الدقيقة ما يمكن أن تطوف حول الجزيرة العربية بأكملها، فضلا عن استخدام أروع ما وصل إليه الإنسان من تقدم في تطبيق التكنولوجيا المتمثلة في صناعة ما يسمى "كومبوسيت ماتيريل - أي المواد المركبة".
(22)
كان الحديث مع تلك السمراء الهندية ممتعا، فقد قدم والديها إلى الولايات المتحدة لما كانت صغيرة، اكتسبت اللغة بسرعة والتحقت بالتعليم العام ثم الجامعي ثم تخرجت واشتغلت كمهندسة ميكانيكية بشركة البوينج والآن تعمل في العلاقات العامة تشرح للزبائن بعض الأمور الفنية التي تتعلق بالطائرات. بالطبع تحمل الآن الجنسية الأمريكية. قلت في نفسي: احنا لو فتحنا الباب لتجنيس الهنود الذين أتوا وهم صغارا لصرخت الأرض العمانية بما حملت على كاهلها من أكثر من نصف مليون هندي يوجد في السلطنة. يكفي أن نعرف أن عدد الوافدين يزيد على ربع السكان بحسب احصاءات وزارة الاقتصاد الوطني. لكن قد يكون الفارق بين الاثنين أن الولايات المتحدة تركز على الكفاءات عند التجنس خاصة في العقود الأخيرة. فمثلا لما اخترع جيري يانج الياهو وبهاتيا الهوتميل فإن الولايات المتحدة لن تتردد في منحهم الجنسية الأمريكية.
إن مسألة التجنس ليست أمرا سهلا على الكثير من الدول، ففي حين وجد في بعض الدول الخليجية ما يسمى "البدون" فإن السلطنة اتخذت موقفا أقرب إلى الصمت. ألا يوجد لدينا أشخاص ولدوا في السلطنة من أبوين غير عمانيين فعاشوا فيها لا يعرفون سوى مطرح ومسقط والسيب؟ فلا هم يستطيعون العمل وربما الدراسة في هذه البلد ولا هم يستطيعون الانتماء إلى وطن آخر قد لا يعرفون حتى لغته ولهجته. بيد أن الأمر ليس بتلك البساطة في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية تفضل ابن البلد أن يكون هو صاحب الحق في التمتع بخيراتها. فمن ناحية فإن وزارة الداخلية العمانية تضع طلبات التجنس والتي تتجاوز عشرات الآلاف على صوب لحين البت فيها بعد سنين طويلة. ومن ناحية أخرى يبقى مقدمو الطلبات هؤلاء في انتظار ما يرفعه الوزير إلى المقامي السامي لاعتماد قائمة الأسماء التي قد تضم أسماء عجمية لا نعرف كيف ننطقها. وشخصيا ولما أذهب إلى السيب أو سوق مطرح أرى من اللافتات التجارية أسماء أنطقها حرفيا وبشكل مضحك أمام هؤلاء الذين قدموا إلى السلطنة حتى ما قبل النهضة فاستقروا فيها، وفسلوا ونسلوا أبناء وبنات، فأصبحت ذريتهم عمانية في نشأتها، اجنبية في هويتها وربما ليست لها هوية أصلا.
المواطن قد يعترض على فتح باب التجنس لأن ابنه أقرب للمعروف من حيث تولي الوظائف والتمتع بالخدمات المتردية في كثير من الأحيان أصلا، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن مضمون التجنس في حد ذاته قد يكون مجحفا أيضا للبلد باعتبار أن الكثير من الذين قد يتجنسون إنما ينتمون إلى ديانات أو عقائد غير الاسلام كالهندوسية أو البوذية، كما أن لهم عاداتهم وتقاليدهم التي لا يمكن القبول بها في ظل مجتمع يحاول التجانس لغة ودينا وفكرة وثقافة. على أن هناك من يأتي ليقول أن شعبا كالولايات المتحدة هو مجموعة من الشعوب الأخرى التي قدمت عبر عشرات السنين لتعيش بشكل متجانس. فالعرب مثلا يزيد عددهم على السبعة مليون أمريكي، والمسلمون يزيدون على العشرين مليون، فضلا عن الصينيين والهنود واللاتينيين، وبالطبع الأفارقة والبيض. كلهم يصل عددهم الـ300 مليون نسمة، ومع ذلك هناك من التجانس والتعيش ما يجعل تلك البلاد قوة سياسية واقتصادية هي الأولى في العالم..
من جانب ثالث، التجنس أمر غير محتوم انساني، فلا يمكن أن تطرد مثلا عديمي الجنسية من بلادك، ولا يمكن في نفس الوقت أن تجعلهم ينافسون أبناء البلد في الوظائف. وكحل وسط في كثير من الدول تجدهم يعملون في التجارة وفي الأعمال الحرة التي يكون فيها المجال أوسع للعمل. وشخصيا وجدت المئات منهم في البحرين كوني قد عشت فيها ما يقارب السنتين، وكذلك في الكويت الشقيقة حيث يتجهون إلى الأعمال التي يتعفف عنها المواطن. والسلطنة تعاني كثيرا أيضا من الهجرات اللاشرعية أو المتسللين - كما يسمونهم. فالترحيل يتم اسبوعيا لهؤلاء الذين يحاولون دخول البلاد برا وبحرا متسللين إلى الأراضي العمانية والتي لا تخلوا منهم بشكل أو بآخر، وفي حال أن نجحوا في البقاء في السلطنة فإنهم سوف يظلون أبد الدهر فيها - كما حدث في الماضي لعيشوا وربما يتزوجوا، وتبقى الحالة معلقة قانونا وإنسانيا...
(23)
عرفته كاتبا ومحررا بجريدة عمان، كانت سنوات طويلة من الالتقاء في الكتابة والأدب. خلال تلك السنون كتب الكثير والكثير في حبه للوطن وفي تنمية الوطن وفي التقدم والرقي بالوطن، نشرت له الجريدة الكثير لكن حجبت أيضا الكثير، دخل مجال تأليف الكتاب، لكن الرقيب في وزارة الاعلام لم يجز له النشر، فبقيت كتبه حبيسة الأدراج ينتظر أن يتم تطبيق المادة (29) من حرية التعبير عن الرأي في نظام الدولة الأساسي، فهذه المادة معطلة منذ صدورها أصلا، فقد قيدوها بالقانون؛ وما هو القانون؟ إنه قانون عقيم قد هرم وشاخ يسمونه "قانون المطبوعات والنشر" والذي يعطي وزير الاعلام صلاحيات وممنوعات تتناقض أصلا مع قوانين أخرى ومع مواثيق ومعاهدات وقعتها السلطنة.
لم يكن أول شخص يشد الرحال خارج المظلة الاعلامية العمانية؛ المكتوبة منها والمرئية وحتى المسموعة، وجد أن موهبته الاعلامية قد اغتالتها زمرة من شلة القوم التي أرادت أن تجهض مواهب المواطن وتقتله بروتين بيروقراطي عقيم. ارتبط بمن وجد فيها تشاركه الفكر والأدب ومشوار الحياة فرحلت معه بعدما دخلت هي عالم الكتابة فأصبحت رئيسة تحرير مجلة عمانية ورشحت نفسها لعضوية مجلس الشورى الذي رأت فيه بصيص أمل يمكن أن ترفع صوتها قبل أن يتدخل من يضغط زر الميكروفون معلنا حجب الصوت عن السامعين. وفي حين تكون هي قد اعتزلت الأدب والسياسة إلى حين من الدهر يكون هو قد دخل عالما آخر أتاح له الظهور بعين أفقية ورأسية تطل على العرب أينما وجدوا، وبدون حصر في الأقطار العربية.
كان اتصال "محمد اليحيائي" بي هاتفيا في قضيتي التي واصلني فيها البعيد قبل القريب. ولأنه أيضا صاحب رأي وصاحب فكر فقد تبنى قضيتي كما لو كانت قضيته، فهي بالنسبة له قضية فاصلة في تاريخ الفكر السياسي والتنموي العماني: هل القضاء مستقل لدرجة قدرته على تطبيق ما نطق به المقام السامي أمام طلبة جامعة السلطان قابوس المتمثل في عدم سماح جلالته لمصادرة الفكر أبدا؟ أم أن مجلس الوزراء والذي يمثل الحكومة هو الذي يحكم ويتدخل في القضاء ليكون سلطانا عليه، ولا سلطان على القضاء؟ ذلك المثقف الذي هاتفني من واشنطن دي سي كان نعم الانسان المفكر المتزن الذي وزن قيمة الوطن والمواطن قبل أن يفكر فيما لو كانت العواقب وخيمة. نعم، كان هناك أكثر من تخوف حول قضيتي مفاده تشديد العقوبة عليّ، وكان لا بد من التفكير بصوت عال، لكن الصوت العالي قد لا يجلب إلا الضجة؛ إذن يجب أن نفكر بصوت التعقل وصوت الوطن وصوت المواطن الذي يجب أن يثق في حكومته أولا، وإذا كان الأمر خلاف ذلك فلكل حادثة حديث..
دعاني اليحيائي للظهور في برنامج "عين على الديموقراطية" ليتناول قضيتي بشكل إنساني أكثر منه سياسي، وشخصيا ترددت في الظهور رغم طلب العزيز محمد، فقد احتسبت إلى عدة أمور؛ من بينها الضجيج الهائل الذي يدور حول قناة الحرة كقناة أمريكية يشك الكثير في نواياها وان كانت تقدم الديموقراطية بشكل اعلامي جيد لكن ماذا وراء تلك الديموقراطية في الوطن العربي؟ ومن نافذة القول على ذلك أن الموالاة لأمريكا أمر محتوم للعرب حتى وإن ادعوا بخلاف ذلك، فسياسيا، فإن كافة حكام العرب أصبحوا بلا استثناء موالين لأمريكا. فالقذافي الذي كان يسب ويشتم الرؤساء الأمريكان ليل نهار فقد طلب العفو والولاء بعد الاطاحة بصدام حسين ليقدم لأمريكا أكثر من ملياري دولار في شكل تعويضات لضحايا لاكوربي، وهذا أمر لم يحدث اطلاقا في تاريخ الطيران المدني، فاتفاقية "وارسو" الموقعة عام 1929 كانت تفرض تعويضا لأهل ضحايا حوادث الطيران مهما كانت الأسباب مبلغا لا يزيد على الـ20 ألف دولار، وأتت اتفاقية "مونتريال" عام 1999 لتزيد المبلغ إلى 75 ألف دولار. كما فتح القذافي كافة ملفاته عن الأسلحة البيولوجية والكيماوية التي ينوي تطويرها، فضلا عن فتح أسواقه المنغلقة للتجار الأمريكان. وليس حسني مبارك أفضل عن أي رئيس عربي يتفاخر بالدعم الأمريكي الذي يتجاوز مليارات الدولارات سنويا، والدول الخليجية عازمة على ابقاء الولاء للولايات المتحدة بعدما تسلحت بأغلى الأسلحة من طائرات ودبابات وصواريخ تجاوزت حدود المعقول في منطقة يحيط بها الأمن والسلام، لكن تزرع فيها أمريكا الخوف من ايران ايضا. فضلا عن وجود القواعد الأمريكية ما هي معروفة بمكانها!!!
أما الشعب العربي فينظر إلى أمريكا نظرة فيها خليط من الحب والكراهية، يحبونها لعلمها وثقافة شعبها وتقدمها في مجالات الانترنت والبرامج والتطبيقات، ويكرهونها في دعمها المستمر لاسرائيل ولعدائها المباشر وغير المباشر وفي احتلالها للعراق وافغانستان وفي تنكيلها بالعرب والمسلمين في سجون أبو غريب وجوانتنامو، والشعب العربي ثار مرات ومرات في شكل مقاطعة للمنتجات الأمريكية لكن تلك المقاطعات لم تمنع من مواصلة أمريكا لدعم اسرائيل بالعدة والعتاد وعلى مسمع ومرأى من دول الأمم المتحدة التي تعترض على قرارات أمريكا من خلال ذلك المجلس الأممي فترفع أمريكا حق الفيتو في وجه المجلس. والعمانيون وكشعب عربي مسلم ساهم في المقاطعة وحتى قام بالمظاهرات السلمية التي كانت خجولة وراء تشدد مبرر وغير مبرر من الجهات الأمنية التي تحافظ على الأمن المستتب وتمنع الفوضى لكن قد تكون هناك مبالغة في بعض الأمور.
ولذا فقد كان ردي على ذلك العماني المبدع اليحيائي آنذاك بأنني انتظر الحكم العادل من القضاء العماني ليقول كلمته والتي يجب أن تنطلق من منظار المصلحة الوطنية أيضا، فخروج قضيتي إلى الاعلام الخارجي الأمريكي خاصة يعني احداث "شوشرة" كان بمكان المامها من الداخل وقيام مجلس الوزراء بسحب القضية، لكن بمجلس الوزراء أكثر من وزير رفض ذلك بل وتعنت برأيه، ربما لأنه يريد أن "يؤدب" علي الزويدي الذي أزعجه في يقظته وفي منامه، والذي اعتدى على "خصوصية" ذلك الفكر الوزاري التقليدي الذي جعل المواطن يعيش في ضبابية مغلقة في عصر الانفتاح العالمي الذي دخلت فيه الانترنت ودخلت فيه قناة "الحرة" في مجلسه وحتى غرفة نومه....
(24)
قررت أن أتصل بمحمد اليحيائي أثناء تواجدي بسياتل، فقد مرت شهور عديدة منذ آخر اتصال قام به هو بعدما وعدته بالتفكير في الظهور في قناة الحرة، لكن رأيت انه ليس من صالحي أيضا أن أظهر في ذلك البرنامج (عين على الديموقراطية) خاصة أن نظرية التآمر والتخابر مازالت تعشعش في رأس أكثر من شخص عادي أو حتى مسئول حكومي. ومع ذلك اتخذ اليحيائي مسارا آخر لتبني قضيتي عندما استضاف مجموعة من الناشطين سواء من منظمة "الخط الأمامي" أو لبعض العمانيين الذين ظهروا بشكل لم يسبق له مثيل، فها هو "سالم آل توية" يتحدث وبكل جرأة عن الفساد وعن حرية التعبير عن الرأي بالسلطنة لدرجة أنني اعتقدت أنه لن ينام تلك الليلة إلا في القسم الخاص بشرطة عمان السلطانية الذي تشرفت بالمبيت فيه (11) يوما. لكن عندما اتصلت بسالم فيه وجدته كما هو لم يتغير ولم يتعرض له أحد، ربما عامل الخوف الذي زرعه البعض فينا من أن الذي يتحدث فسوف يلاقى من الويل والبلاء ما لا يجعله يفكر مرة أخرى في الظهور في أي برنامج خارجي يعني بالشأن المحلي، فأبو عماد وكذلك طيبة المعولية وكذلك باسمة الراجحية ظهروا في تلك القناة، وهم يمارسون حياتهم كما هي. إذ لم يساقوا في "جونية فلفل" معصبي الأعين ولم يتلقوا التهديد والتوبيخ والصفع. ومع ذلك فإن بداية دخول الانترنت خاصة أيام سبلة العرب شهدت من الاعتقالات والتحقيقات والتعهدات ماجعل من أمثال "داهية العرب" و"قاهر الظلام" و"حنفي الأبهة" و"أبو تركي" و"أبو يحيى" و"محمد بن زاهر" يهجرون الساحة الالكترونية للأبد ليتم وأد ذلك الابداع والقلم الساخر الذي سخرته المنتديات العمانية، ففي النهاية هم مواطنون أغلبهم في بداية مشوار حياته ومحتاج لأن يعيش حياة أفضل بعيدا عن زيارات آخر الليل. أما اليوم فقد تغير الأسلوب البوليسي في الاستدعاء والتحقيق بشكل أكثر تحضرا وأكثر قانونية مراعاة لقانون الاجراءات الجنائية وربما لجان حقوق الانسان التي لا تتردد في أن تكتب وتنشر ما يصل إليها من أنباء.
والحديث مع أي مخضرم من مخضرمي الاعلام والأدب يطول ويجول في سياقات ومساحات شاسعة كلها تنصب في مسار وتاريخ الكلمة الحرة التي اغتيلت كثيرا في السلطنة، فوزارة الاعلام وعلى رأسها الرواس بقيت تحجب الحقائق بشرائها أقلاما كانت حرة يوما ما لكن المال سرعان ما اشترى النفوس؛ أفلا تغير الفلوس النفوس؟ كم من مثقف عماني نطق قليلا فأعطي كثيرا، برع في السرد والوصف فذهب إلى مجلس الدولة أو إلى كرسي الوكالة (أي صار وكيل وزارة) أو كرسي الوزارة، ولنا أمثلة في الأستاذين الكريمين أحمد الفلاحي وحمود السيابي. وكم من مجلة أجنبية تحدثت الكثير والكثير. ولما فاحت الريحة وأتت سبلة العرب فقد شن العديد من أصحاب الأقلام الحرة مطالبين الرواس بإخراجه من كرسي الوزارة لكن الرواس لم يخرج بعد تعيين تلميذه الذي رباه منذ أن كان رئيس تحرير جريدة عمان، فالراشدي ترعرع في المدرسة الرواسية التي كانت لا تتورع في أن تدخل اعلاميا السجن وبامر من معاليه، ولما أتى حمد الراشدي فإنه هو الآخر لم يتورع في أن يمنع محمد الحارثي أو عبدالله الريامي من الكتابة في الصحافة العمانية، وما صاحب الراشدي هو عبدالله الحوسني الذي ومنذ أن كان معلقا رياضيا فقد عايش القفول الفكرية الاعلامية ليصبح مديرا عاما ومن ثم وكيلا للاعلام ويستدعي الدكتور محمد العريمي ليمنعه عن المشاركة في أية ندوة فكرية بعدما كان ضيفا في ندوة الكلمة وفضاءات الحرية. كما لم يتورع الحوسني أيضا في الاحتكاك المباشر مع المبدعة بسمة الراجحية ويتصادم معها حتى على المستوى الشخصي.
هذه المرة فتح محمد اليحيائي الملف من جديد؛ دعاني للظهور في قناة الحرة ليس للتحدث عن قضيتي ولكن للتحدث عن المدونات والتجربة التي يعيشها الكثيرون، على أن يتم التركيز على بعض النقاط التي تخدم الكلمة الحرة التي ترد من خلال تلك المدونات، وبعد شد وجذب وافقت في الظهور في ذلك البرنامج (عين على الديموقراطية)، وقد تم الاتفاق على أن يكون هناك بث مباشر من خلال احدى الاستديوهات من سياتل ليتم ربطه مع الاستوديو الرئيسي في مدينة واشطن العاصمة (دي سي). كان الاتفاق أن أتجه الى مكان الاستوديو القريب من فندقي بحسب الخارطة التي تلقيتها بالايميل من خلال جوجل ايرث وذلك في الساعة السادسة إلا ربعا صباحا (بسبب فارق التوقيت بين سياتل وواشنطن بثلاث ساعات). جهزت نفسي واتصلت في الصباح الباكر بالاستقبال بالفندق على أن يقوموا بالاتصال مع شركة الاجرة، وبالفعل كان السائق الذي بدا من لهجته أنه مهاجر نيجيري مسلم. سألني عن اسمي فأخبرته. لما أوصلني إلى العنوان الذي كتبته في ورقة صغيرة لم أجد اسم المبنى ولا حتى رقمه بالضبط وإنما وجدت الأرقام المئوية وليست الأحادية أو العشرات. وبعد عراك معه كونه لم يدلني على العنوان بالضبط قال لي أنه مسلم وأن المسلم لا يكذب، تمنيت في تلك اللحظة لو يكون كلامه صحيح وهو أن المسلم لا يكذب! خرجت من التاكسي بعدما وجدت العداد وهو يحسب ونحن كنا واقفين أصلا على أمل أن استدله بنفسي. بحثت في كل عمارة قريبة وفي كل محل، بل وسألت من كان خارجا في ذلك الصباح البارد والمظلم نوعا ما، فلم أجد أحدا يدلني عل العنوان. وعلى مدى أكثر من نصف ساعة وأنا أبحث عن العنوان فلم أجده. اضطررت أن أعود إلى الفندق مشيا رغم البرودة بسبب عدم توفر سيارة أجرة في ذلك الوقت على الشارع العام. لم يكن لدي هاتف الاستوديو ولا هاتف اليحيائي ولا حتى هاتفي لأنني اعتقدت أنني سوف اصل الاستوديو بكل بساطة.
هل كان القدر يريدني لسبب آو لآخر ألا أظهر في قناة الحرة؟ اتصلت باليحيائي بعد ساعات، لم يخبرني بشكل مباشر بأنه استاء لعدم ظهوري بالبرنامج المباشر، فقد كان يحضر مفاجأة لظهوري أمام المدونين العمانيين من أمثال معاوية الرواحي، فضلا عن تكبد القناة مئات الدولارات وربما الآلاف لاستئجار فترة البث المباشر عبر الاقمار الصناعية، لكن ولما اتصلت به فقد بدأ بالسؤال عن صحتي وعما إذا كان قد أصابني مكروه لا قدر الله، لم يكن يهمه الاحراج والخسارة بل كان همه سلامتي خاصة في الصباح الباكر الذي قد لا يخلوا من الجرائم. كنت عفويا معه، فلم أكذب ولا أخال أنه كذبني أصلا!! ومع ذلك جلست ذلك المساء أفكر عن القدر الذي ضرب لي الحدث بذلك الشكل؛ كيف صادف أن أتى إلى الفندق سائق مهاجر مسلم لا يعرف عناوين المدينة كثيرا بل طلب مني أن أدله على المكان، ونظرا لضيق الوقت فلم يكن لدي المجال أن أفعل شيئا آخر، فالارسال المباشر مرتبط وبالدقيقة بمواعيد مع استضافة الشخصيات من عدة أماكن في أنحاء العالم. فأي تأخير لذلك الضيف يعني ضياع فرصته للظهور.. ومع ذلك استمر الاتصال بيني وبين محمد اليحيائي لحين غادرت الولايات المتحدة ونحن أصدقاء قررنا التواصل فيما بيننا كلما سنحت لنا الفرصة.....
(25)
كعادة الشركات، تقوم بتقديم الضيافة لزبائنها ليشعروا وكأنهم في بيتهم، وقد كنت ضيفا عندهم. غير أن بعض أنواع الضيافة تتجاوز الأمور القانونية خاصة عند مناقشة شراء أو الدخول في صفقات بعشرات أو حتى مئات الملايين من الدولارات. وتلك الضيافة غير القانونية أثارت ضجة هائلة عندما أصدر الكونجرس قانونا عام 1977 (تم تعديله عام 1998) يسمى " قانون ممارسة الفساد الأجنبي The Foreign Corrupt Practices Act" والذي في مضمونه يمنع قيام الشركات الأمريكية بدفع رشاوى أو الهدايا للمسئولين الذين يمثلون المؤسسات أو الحكومات الأجنبية بغرض فوز الشركات الأمريكية بعقود أجنبية مع هؤلاء المسئولين، أو الاستمرار في القيام بأعمال حالية، أو حتى قيام الشركات الأجنبية العاملة في امريكا برشوة الأمريكان أنفسهم. إن أمور الفساد الأجنبي قد تتمثل فيما يلي:
أ) التأثير على المسئولين لاتخاذ قرار معين يكون من ضمن سلطاته أو قادر على تمرير ذلك القرار، أو ذو صلاحية لالغاء أمر مخالف أو الحصول على مصلحة خاصة.
ب) حث المسئول الأجنبي على استخدام صلاحياته مع حكومته للتأثير على اتخاذ قرار من شأنه تمرير موضوع قد يكون بشكل مخالف. وهناك العديد من الأمور التي تطرق إليها القانون والموجودة على الوصلة التالية:-
justice.gov/criminal/fraud/docs/statute.html
إن الضجة التي أثارتها الشركات الأمريكية وقوة اللوبي لديها تتمثل في أن ذلك القانون هو بمثابة تعطيل للمصالح الأمريكية في الخارج، فالشركات الأوروبية تقدم الرشوة للمسئولين في أفريقيا وآسيا والدول العربية ودول أمريكا اللاتينية، ويعني ذلك ان الشركات الأوروبية هي التي سوف تفوز بعقود المناقصات والمشاريع العملاقة في حين تبقى الشركات الأمريكية مقيدة بذلك القانون. وفي مجال الطيران فإن أحد أسباب نجاح شركة الايرباص هو قيامها برشوة عشرات المسئولين في الدول العربية (رشوة وزير المواصلات السوري الذي انتحر بعد اكتشف الفضيحة) ورشوة الهنود والصينيين والافارقة. فإما رشوة هؤلاء المسئولين الأجانب للحصول على الصفقات أو التقيد بالقانون. ولقد أثارت مؤخرا ضجة قيام عملاق صناعة الطيران البريطانية (British Aerospace) برشوة المسئولين لتمرير صفقات بمئات الملايين من الدولارات، وبخلاف الصحافة لدينا، فقد نشرت كل من "دايلي مايل" و"الجارديان" وصحف بريطانية أخرى مقالات حول مزاعم فساد تلك الشركة العملاقة إزاء الصفقات مثل "صفقة اليمامة" التي اشترت السعودية من خلالها مجموعة من الأسلحة بمليارات الدولارات. وقد قام "مكتب الاحتيالات الخطيرة Serious Fraud Office" بالتحقيق في الأمر ومزاعم قيام تلك الشركة بالقيام برشاوى المسئولين في تنزانيا وجمهورية التشيك وجنوب أفريقيا، بخلاف تحقيقات الفساد التي تطال مسئولينا والتي لا نعرف عنها شيئا إلا إذا تم نشره في الصحف الأجنبية، كما هو الحال في قضية "اركيسون" والتي كان فيها وزير البريد والبرق والهاتف طرفا.
dailymail.co.uk/money/article-…legations-face-trial.htmlguardian.co.uk/world/2009...s-fraud-office
(26)
لقد كانت ضيافتي في شركة البوينج لتصنيع الطائرات عبارة عن دعوة لحضور حفل عشاء. كان الاتفاق على أن يأتي سائق الشركة ويمر عليّ الساعة الخامسة والربع مساء، لكن وبسبب زحمة العمل لإنهاء اجراءات تسجيل الطائرة التابعة للطيران العماني الجديدة (بقرطاسها) فقد بقيت مع الأخوة حتى ما بعد الخامسة والنصف في ذلك المساء. قام السائق بإنزال كافة الأخوة إلى فنادقهم وكنت الأخير، قام بإنزالي على أن ينتظرني أمام الفندق لأجهز نفسي. في غضون ربع ساعة كنت قد استعدت للذهاب معه وأخذ بقية الأخوة. كان المكان بعيدا، وقد خرجنا من مدينة سياتل لنتجه إلى ضواحيها، وفجأة يأخذنا السائق إلى مكان مرتفع شارعه ملتوي وكأنك تتجه إلى منتجع بر الجصة حيث يقطن الهوامير هناك. بعدما أنزلنا السائق استقبلنا بعض موظفي شركة البوينج من بينهم تلك الفتاة التي لم تتورع في الحديث عن كلبها بمناسبة أو بدون مناسبة، وذكرت في سياق حديثها أنها لن تستطع أن تبقى في حفلة العشاء ما بعد الثامنة مساء بسبب ضرورة ذهابها إلى المنزل لإطعام ذلك الكلب!!
طلب أحد الموظفين أن نذهب إلى الفناء حيث يوجد نادي الجولف. بصراحة كنت أشاهد ملاعب الجولف في السينما أو في التلفزيون فقط، ولم أدخلها قط؛ ربما لعدم ممارستي لأي نوع من أنواع الرياضة بعدما كبرت الكرش، وربما لأنني لا أفهم هذه الرياضة التي تكلف ملايين الدولارات في الاشتراك السنوي فيها، فبحسبما قرأت فإن العضوية في أي نادي للجولف باليابان يكلف أكثر من مليون دولار سنويا، هذه الرياضة الغريبة الأطوار لم أجد فيها اية متعة، فماذا يعني أن يقوم أحدهم بضرب كرة صغيرة لا يتعدى حجمها حجم ليمونة صغيرة ويدخلها في ثقب صغير في الأرض!! بالطبع لابد أن أظهر أنني شخص متمدن، فمسكت مقبض الكرة وعبثا حاولت ادخالها في ذلك الثقب. وحتى لا أجعل نفسي أضحوكة تعللت بأنني مضطر لأن أذهب إلى دورة المياه لقضاء الحاجة...
تأملت ذلك المنظر الشائع من الأراضي الخضراء التي تم قص "حشيشها" بعناية تامة، والأرض لم تكن منسبطة تماما، بل كانت متمايلة وسط تلة من التراب المرتب بشكل يبدو أن تكلفته لم تكن بسيطة، فضلا عن وجود سيارات صغيرة وأدوات للعب يستخدمها الأثرياء لبعثرة فلوسهم التي يبخلون بها على السائل والمسكين كلما طلب شيئا منها. كنت قد قرأت مقالا في العدد الخامس من مجلة "أجنحة عمان" التي تصدرها الطيران العماني. فالمقال والذي كان بعنوان "درة ملاعب الجولف" يتحدث عن مشاريع الجولف في السلطنة والتي أصبحت تتجاوز الـ(250) مليون ريال عماني. قلت في نفسي وأنا أقرأ ذلك المقال: ذلك المبلغ يكفي لانشاء عشرات الجامعات والكليات التخصصية في السلطنة. هل وصل بنا الترف لكي ينفق أغنياؤنا ذلك المبلغ في مشروع يكاد يكون فاشلا بسبب حرارة الجو المرتفعة والرطوبة التي "تطفش" الشخص الذي يريد ان يلعب في الهواء أو العراء!!! كما أن المقال يتحدث عن ذلك المصمم العالمي واسمه "بول توماس" ليصمم ملعب الجولف العماني. وما أثارني في المقال أيضا قول كاتبه أن محبي الجولف بالسلطنة استقبلوا هذا الحدث الرياضي "بسعادة عارمة" كونه مجهزا بأعلى المقاييس العالمية ، ويشتمل على وحدات سكنية فخمة وبه نادي ريفي وفندق بمستوى خمس نجوم، بالإضافة إلى مرافق لبيع أدوات الجولف، وإنشاء أكاديمية تعليمية لرابطة الجولف للمحترفين. وبدلا من أن ننشيء كليات فنية تخصصية فإن السوق العماني بحاجة إلى أكاديمية تعلمنا كيف نلعب الجولف مع الأغنياء.
تذكرت أيضا نظرية "ماسلو" للاحتياجات البشرية، فالسلطنة بحاجة إلى الأساسيات وأهمها التعليم والصحة والمسكن والمأكل، في حين تسعى بعض الجهات الحكومية وبعض رجال الاعمال في ترفيه علية القوم بإنشاء ملاعب الجولف في مرتفعات غلا وكذلك في مدينة الموج والمدينة الزرقاء التي لم تنشأ أصلا إلا للهوامير الذي تاجروا فيها قبل أن يسكنوها أصلا. فليس للعمانيين أن يسكن كثير منهم فوق مياه البحر التي تصيب الشخص بالرطوبة العالية خلال فترة الصيف الطويلة. ولقد استغربت وأن أقرأ تلك الأرقام وكأنها تخرج من جيب الهامور أو جيب الوطن لذلك العائد المادي المجزي أو ربما المخزي الذي سوف يتناثر هباء وضياعا للمال العام والخاص. إذا كانت الدول الغربية قد صنعت ميادين الجولف فلأنها وفرت البنية التحتية لها، في حين تبقى الكثير من مدننا وقرانا وهي تنتظر تلك البنية التحتية، ولأنني أسكن خلف "ستي سنتر" أي في مسقط فإن الشوارع الداخلية لمنطقتي السكنية لم يتم رصفها إلا مؤخرا وبعدما أتى رئيس البلدية الجديد ليصلح ما أفسده سلفه الذي ركز على مصالحه الشخصية وإرضاء علية القوم في شوارعهم التي تصل منازلهم قبل أن تكمل هؤلاء المنازل البناء....
(27)
كنت قد تعرفت على صاحبة الكلب من خلال التقائي بها في شركة البوينج كونها المهندسة المعنية بتنفيذ كافة الملاحظات التي يتطرق إليها الزبائن القادمون من شتى أنحاء الكرة الأرضية. كانت في قمة الحركة، ورغم أن شكلها الذي يوحي بالشذوذ المتمثل في قصة شعرها وملابسها الأقرب إلى الرجال إلا أنها تمتلك روح الدعابة والابتسامة ما يجعل أيام العمل الطويلة التي تمتد إلى الساعة السادسة مساء ممتعة. فبعد الانتهاء من لعبة الجولف دخل الجميع إلى صالة الطعام، وقد كان هناك بعض الوقت للحديث الشيق معها. كان أحد الزملاء "الملتزم" قد حاول أن يتحاشى الحديث معها ربما معتقدا أن مثل هذه الأحاديث لا تجوز مع الفتيات وإن كان الحديث عاما، وحتى عندما أتى الأكل فقد وجه سؤالا إلى "الجرسون" قائلا له: هل هذا الدجاج حلال؟ المسكين لم يفهم كلمة "حلال" فرد عليه بكل سذاجة: نعم إنه أكل طيب!! هل بالفعل لا يجوز الحديث مع امرأة أمام الجميع؟ وهل لا يجوز أكل "أهل الكتاب" من لحم ودجاج؟
كنت قد سألتها عن سبب اهتمامها المبالغ بذلك الكلب الذي يأخذ من الوقت وربما مالها الشيء الكثير، ردت علي قائلة بأنه أفضل صديق لها خاصة في محنتها التي استغرقت طويلا لكي تتجاوزها. قادني الفضول لسؤالها عن نوع المحنة، فردت بأنها كانت مصابة بسرطان الثدي، ولم تخجل في أن تضع يدها على ذلك الثدي الذي تم استئصاله في البداية، لكن مع العملية التجميلية المتقدمة ومع وجود مادة السيليكون فقد عاد إلى حجمه الطبيعي. حديثها ذكرني بذلك المرض الذي دخل علينا مع دخول الحضارة ودخول المواد الكيماوية ودخول أمور لم تكن معروفة مثل الاشعاعات الصادرة من أجهزة التلفزيون والكمبيوتر والميكرويف وحتى المحولات الكهربائية القريبة من بيوتنا.
تذكرت معاناة خالتي التي ربتني مع المرحومة والدتي وكيف كانت تعاني من سرطان المعدة الذي قضى عليها في فترة لم تتجاوز الشهرين، فقد أحست بالآلام فذهبت إلى مستشفى نزوى ليعطوها "الباندول" أقراصا تلو الأخرى في كل مرة تذهب إليهم شاكية من المرض، ولما اشتد الحال وأصر الابن على إجراء المزيد من التشخيص فقد اتضح وجود السرطان لديها في المرحلة الرابعة وهي المرحلة المتأخرة التي لا ينفع فيها العلاج، ذهب بها زوجها وأحد أبنائها إلى الهند على أمل أي يقول الدكتاترة الهنود في بلادهم بخلاف ما قالوه في بلادنا، لكن كان الرد السلبي نفسه: لا يمكن علاجها حتى بالعلاج الكيماوي لضعف حالتها البدنية وتقدم المرض كثيرا. بعد جهد واتصالات عديدة حصلت على مقعد مستشفى السلطاني لتمضي أسابيع قليلة تعاني من ذلك المرض، أتذكر آخر كلمات خالتي وهي تقول لي أنها تشعر بالمزيد من الاعياء والتعب. لم أكن أعلم أنني لن أراها مرة أخرى على قيد الحياة، فيأتيني الخبر كالصاعقة بوفاتها بعد يومين فقط من وداعي لها. لم تعاني طويلا كما يعاني الكثيرون من المرضى ولسنون طويلة، رحمها القدر في معاناتها القصيرة لتعود روحها إلى بارئها.
في لقاء صحفي أخير، أشار سعادة وكيل الشئون الصحية أن السرطان يصيب ما لا يقل عن ألف شخص بالسلطنة سنويا، كما أن احصاءات وزارة الصحة تشير إلى أن اصابات النساء بالسلطنة في المعدة تتجاوز العشرين سنويا، في حين تبلغ اصابات الثدي أكثر من مئة حالة. وقد وصلت إجمالي اصابات النساء بالسرطان عام 2007 أكثر من (400) حالة، وزادت اصابات الرجال العمانيين بثلاث حالات فقط عن النساء. ومع زيادة مؤسسات المجتمع المدني فقد تسأست "الجمعية الأهلية للتوعية بالسرطان" والتي تهدف إلى خلق مجتمع واعي يدرك مخاطر ومسببات ذلك المرض الذي قد لا يتم اكتشافه في وقت مبكر يمكن علاجه آنذاك، فيمرض الشخص ليذهب الى المراكز الصحية ليحصل على "الباندول" في حين ينتشر المرض بسرعة فيفتك بالخلايا المقاومة، ومتى تم التشخيص بشكل سليم يكون المرض قد استفحل وتكون الحالة قد استعصت، فلا ينفع العلاج آنذاك..
ocancer.org.om/arWebsite/arMain.aspx
(28)
إذا كانت تلك المهندسة الأمريكية التي أصيبت بسرطان الثدي تعتبر أن الكلب هو الشخص الوفي الذي وقف في محنتها، فهي من بين (300) مليون أمريكي يقومون برعاية ما يقارب (75) مليون كلب، بحسب احصاءات جمعية الرفق بالحيوان الأمريكية US Humane Society فهناك بعض الأرقام المثيرة عن الكلاب في أمريكا:-
* تمتلك (39%) من الأسر الأمريكية الكلاب.
* نسبة (63%) من مالكي المنازل يمتلكون كلبا واحدا على الأقل.
* نسبة (25%) يمتلكون كلبين.
* نسبة (12%) يمتلكون ثلاثة كلاب.
* ينفق الأمريكي (219) دولار (أي حوالي 85 ريال) في السنة لأخذ كلبه لتلقي العلاج في العيادات البيطرية.
أما موقع Marketresearch.com فإنه يذكر أن ايرادات قطاع الكلاب والقطط للعام 2008 تجاوزت الـ(15) مليار دولار، والأرباح لوحدها شكلت أكثر من (47%)، وفي حين بلغت السلع المستوردة للكلاب بقيمة زادت على (367) مليون دولار من (26) دولة فإن الصادرات تجاوزت مليار و(200) مليار دولار إلى (109) دولة.
ألا تدعو تلك الأرقام للتأمل؟ فبعملية حسابية بسيطة نجد أن الأمريكي ينفق مئات الدولارات على كلابه وقططه، في حين يوجد ملايين البشر في العالم من يعيش تحت خط الفقر، أي أقل من دولار في اليوم (أقل من 400 بيسة). أحيانا يقود ذلك الوضع إلى التأمل: ما هي قيمة الانسان أمام الانسان؟ وما هي قيمة الكلب أمام الإنسان؟ أتذكر أحد الأفلام الساخرة للمستر "بين" الذي صوّب "الحرامي" فوهة البندقية على رأس ملكة بريطانيا طالبا منها التنازل عن العرش الملكي، فرفضت بل استعدت للتضحية بحياتها من أجل ذلك العرش. طرأت على ذلك الحرامي فكرة ذكية وهي تصويب البندقية على رأس الكلب الصغير المدلل التي كانت تحضنه الملكة، فتنازلت عن العرش في الحال.. إنه موقف كوميدي ساخر لهؤلاء البشر الذين يتنازلون عن العرش ولا يتنازلون عن حيوان نجس يلهث ويلعق!!!
لديهم: الكلب أفضل صديق للإنسان A dog is a man's best friend. فهم يعتبرون ان الاخلاص يأتي من ذلك الحيوان، أما الانسان أو الصديق فليس فيه ذرة اخلاص. بالطبع نحن اليوم لا يمكن أن نتبنى ذلك الفكر، لكن المدنية التي لا تجعل حتى الجار يعرف جاره قد تجذب لنا نفس الفكر. وبالمناسبة، فسوق الكلاب لا بأس به في السلطنة. اذهب الى "سابكو" أو "مركز البهجة" لتجد الكلاب وهي تباع بمئات الريالات العمانية، واذهب إلى "اللولو" أو "كارفور" لتجد طعام تلك الكلاب تباع في أرففها وبأسعار توازي أسعار غذاء الإنسان. كما أن الكلاب مزعجة أيضا في بلادنا، فتجدها تنبح في المناطق السكنية الحديثة خاصة. ربما لأنها كانت هي الساكن الأصلي فأتى الانسان فاحتل سكنها فأصبحت تصرخ غاضبة على ذلك الاحتلال فتنادي بأعلى صوتها بأن يخرج ذلك القاطن المحتل وإلا أرهقت نومه وقطعت أحلامه وأصابته بالكوابيس.
(29)
بعد عودتي من تلك الحفلة التي "عزمتنا" شركة البوينج فيها، توجهت إلى الفندق، ونظرا لوجود بعض الوقت قبل النوم فقد ارتأيت أن أتصفح بعض الصحف المتواجدة في ردهة الفندق ومن بينها USA Today وكذلك New York Times. كانت الأخيرة قد نشرت قصة طويلة عن جذور "السيدة الأولى The First Lady" والتي تعود إلى عهد العبودية واسترقاق البيض للسود. فقد كتبت كل من "رايتشل سوارنس وجودي كانتور" قصة تلك الفتاة التي اشتراها أحد البيض بمبلغ (475) دولارا (أي حوالي 180 ريالا) عام (1850). ها هي الولايات المتحدة تذكر في صحفها كيف استعبدت الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا، وكيف تغيرت الأقدار لتكون تلك "العبدة" هي "السيدة الأولى" في البيت الأبيض الذي اعتلاه الجنس الأبيض على مدى أكثر من قرنين ونصف من الزمان..
عادت بي الذاكرة إلى عهد العبودية في بلاد الجزيرة العربية، حيث كان المرء يشتري آخرا بأبخس الاسعار، بل كانت أسواق النخاسة مثل سوق "عكاظ" رائجة بسلع الاتجار بالبشر. فكانت القبيلة تغزو قبيلة أخرى لتبيع رجالها ونسائها بدراهم أو دنانير معدودة ليصبح الرجل خادما وتصبح المرأة جارية أو حتى أمة ينكحها سيدها متى أراد. ومن يتابع مسلسلات تاريخية (مثل صقر قريش وصدق وعده وعمرو بن العاص وسيف الله المسلول) عن عظمة الاسلام يرى تصويرا رائعا عن تلك الحقبة التي استعبد فيها الناس فأذلوا القوم إلى أن أتى سيد البشرية ينقذهم من الجهل والتخلف ويرشدهم الطريق القويم، وأن خلق القادر المقتدر هو ليتعارف الناس بشتى قبائلهم وشعوبهم وليس ليذلوا القوم الآخرين. ولقد ساوى ذلك الدين القويم بالعربي والأعجمي فجعل بلال رضي الله عنه مؤذنا في قبلة تتوسط الكرة الأرضية زوجوه بأفضل نساء اليمن العربيات، وجعلوا سليمان الفارسي ذو الفكر اللوجستيكي ليخرج الأحزاب بقدرته عز وجل وليكون ذلك الأعجمي منارا فاصلا بين ما أراده المشركون واليهود والمنافقون بالدين الجديد وبين ما أراده المولى ليعم نوره ولو كره الكافرون.
لكن العبودية في الجزيرة العربية لم تختفي في عقلية البشر، فحتى اليوم مازالت هناك ألقاب (مثل السيد والخادم والبيسر وحتى الزطي) سائدة، ومازالت الدولة تكرس نظام القبلية التي ركزت العبودية حتى في جيل اليوم. وللأسف الشديد فهناك من "العنصريين" من يحمل فكره الضيق ليأخذه مستعبدا الناس ظانا أنه الأفضل وأن المولى عز وجل فضله على العالمين ليس لأنه فعل شيئا ولكن لأن أجداده فعلوا شيئا دون أن يدرك أن في أجداده الظالم والقاتل وحتى الشاذ والمخنث. ومازال البعض يرى أنه أحق بثروات الوطن لأنه "شيخ ابن شيخ" فيذهب إلى الديوان طالبا تلك المعونة الشهرية التي تكلف الدولة ما لا يقل عن (50) مليون ريال سنويا، واضرب ذلك المبلغ على عشر سنوات لتجد أن الدولة صرفت أكثر من نصف مليار ريال على أمر ليس بنافع وليس بمفيد للبلاد في ظل السلطة المركزية التي مسكت فتمكنت واستمكنت.
(30)
تعود "عبودية" سيدة أمريكا الأولى إلى عام 1850 إلى قيام اقطاعي من البيض ببيع فتاة عمرها ست سنوات بمبلغ (475) دولارا. يقتادها القدر لتعيش في ولاية جورجيا حيث تحمل من رجل أبيض يصبح أبا لابنها وهي في سن المراهقة. تلك الفتاة وذلك الأب يكونان أجداد أجداد السيدة الأولى "ميشيل أوباما". بعد وفاة سيد الفتاة المراهقة عام 1855 وجدت "ميلفينيا" نفسها في مرزعة بعشرات الهكتارات، وكان تعيش وسط (21) عبدا - كما تقول نيويورك تايمز. وكان تخدم في المنزل وفي المزارع تزرع وتحصد القمح والذرة والبطاطا والقطن، وترعى 3 من الأحصنة و5 من الأبقار و17 خنزيرا و20 عنزة. وعلى الرغم من عدم معرفة من ذلك الرجل الأبيض الذي قام بزرع جنين في أحشائها إلا أن الاغتصاب والاستغلال الجنسي كان سائدا آنذاك بسبب العبودية. بعد ذلك أنجبت ميلفينيا أربعة أطفال حملوا أسماء سيدهم. بعدما أصبحت حرة فقد بقيت ساكنة تقوم بأعمال الزراعة. على أنه وبعدما وصل عمرها في الثلاثينات أو الأربعينات فقد هربت من ذلك المنزل لتلتحق ببقية العبيد الذين عاشت معهم في طفولتها فتزوجت أحدهم فهاجرا إلى مدينة برمنجهام التي اشتهرت بجذبها للعبيد للعمل في مصانع الصلب والحديد بها. لقد أصبح بعلها نشطا في الحقوق المدنية واستطاع أن يحصل على منزل خاص به وشارك في تأسيس أول كنيسة للمذهب البابوي، وكان قد اتخذ أسلوبا مختلفا للحياة، وقد استمر التزاوج في مراحل لاحقة تذكرها نيويورك تايمز بشيء من التفصيل لتأتي السيدة الأولى إلى الحياة فتعيش حرة في البيت الأبيض:-
http://www.nytimes.com/2009/10/08/us...genealogy.html
أليست سخرية الأقدار تأتي بمن تشاء وتذهب بمن تشاء؟ ففي وقت نشط فيه رجال الحقوق المدنية من أمثال مارتن لوثر كينج ومالكوم أكس من السود لتفك الحصار الذي فرضه الرجل الأبيض على ذلك العبد الذي أتي به من الأدغال الأفريقية، فإن ذلك الأبيض فضل رجلا أسودا ليجلس في كرسي الحكم بدلا من رجل أبيض جلس فيه أكثر من أربعين مرة. إنه نصر فرح به ذلك الأسود القادم من كينيا والذي عاش في اندونيسيا، لكنه ليس كعبد استعبده الأبيض منذ مئات السنين وإنما كشخص وصل بفكره ودبلوماسيته وعبقريته إلى أن وصل إلى مكان لم يصل إليه أحد أسود قبله، ربما يبقى حتى تنتهي السنوات الأربع، وربما تتجدد لسنوات أربع أخرى، وربما يتم اغتياله - كما تنبأ أحدهم. فمناصر العبيد ابراهام لينكولن أصابته رصاصة من عنصري لأنه أراد أن يحرر السود، وجون كيندي كان يريد أن يفتح المجال أكثر للسود فحصل هو الآخر على أكثر من رصاصة أردته قتيلا.
نحن سبقناهم بأكثر من الف وأربعمئة عام عندما حررنا الاسلام من الرق والعبودية، لكن البعض منا لم يتحرر حتى اليوم. صحيح انه قد لا يستطيع أن يجاهر علنا بعنصريته لكنه يمارسها في حياته الاجتماعية وفي تفضيل الآخرين في الزواج، وقد يمارسها في إدارته الحكومية بأن يقرب هذا الشخص "العربي" ويبعد ذلك "البيسر"، وقد يمارسها عندما يختار عضوا يمثله في مجلس الشورى الفاقد الصلاحية، وقد يتعالى على الناس ولا يختلط بهم كلما سنحت له الفرصة حتى في مجالس الأفراح أو العزاء - كما لاحظت شخصيا. لكنهم - أي الغرب - لحقونا وتجاوزنا من اليمين ومن اليسار. يتساؤل أحدهم مؤخرا: لماذا لم تعين الحكومة العمانية رجلا أسودا في المناصب العليا؟ أي لماذا لا يوجد لدينا وزير أسود أو حتى وكيل وزارة؟ ولماذا لا يوجد لواء في أية مؤسسة أمنية (الجيش، الشرطة، الأمن، المكتب السلطاني)؟ فأعلى رتبة وصل إليها أسود في بلادنا هي رتبة عميد وهو شخص واحد فقط، وهو معروف بطيبة وحسن خلقه..
لقد وصلت ميشيل أوباما إلى البيت الأبيض فكتبت عن عبودية أسلافها نيويورك تايمز لكنها لم ترفع قضية "تشهير" أو "تجريح". أتذكر أحد الذين رفعوا قضية ضد سبلة العرب أن أحدهم سمى أباه "طاغية الجبل" وهي حقيقة تاريخية، لكنه اعتبر تلك التسمية اهانة كرامة وتشويه بشخص والده المتوفي فلا بد أن يتم ملاحقة الكاتب رغم ان التاريخ لا يظلم أحدا. كما أن "ميسز اوباما" لم تتصل بوزارة الاعلام (التي لا توجد أصلا) تطلب تشميع نيويورك تايمز بالشمع الأحمر، فضلا عن أنها لم تتصل بـ"لاري كينج" الذي أجرى مقابلة تلفزيونية مع إحدى كاتبات المقال وتهدده بمقاضاته لأنه تجرأ أن يجري المقابلة في محطة سي أن أن كما يفعل الكثير ازاء قناة الجزيرة مثلا. وأخيرا فإن "سمعة" ميشيل أوباما لم تتأثر لأنهم ذكروا اسمها في الصحافة وفي التلفزيون عن استرقاق أجدادها أو أسلافها، بل أنها أطلقت ضحكة عفوية عندما عرفت حقيقة أصلها وفصلها وكأنها توجه شكرا على الذين أظهروا الجانب الغائب لتذكرهم بأن أصلها وفصلها لم يمنعاها أن تكون السيدة الأولى في امريكا وربما السيدة الأقوى في العالم...
انتهـــــــــــــــى

المصدر : بن دارس
أكثر من ثماني سنوات مرت وأنا لم أزر تلك البلد،، فقد كانت آخر زيارة لي في يوليو 2001 حيث أدرس علوم السلامة الجوية، وكنت قد أخترت مادة العوامل البشرية في أخطاء المراقبة الجوية بالسلطنة وذلك لأطروحة الماجستير، وكان الاتفاق مع المشرف على الاطروحة عميد الكلية البروفيسور "الدكتور ريتشي". كان الاتفاق على أن أبدأ الجانب النظري أو ما يسمى (المراجعة الأدبية Literature Review) بالجامعة على أن أعود إلى السلطنة لأكمل البحث الميدني. عندما كنت على وشك العودة للبلاد ناداني الدكتور ريتشي في مكتبه طالبا مني أن أفكر في أمر ما وألا أرد عليه إلا بعد مشاورة نفسي...
لم يخطر ببالي أن الدكتور ريتشي يدعوني للإقامة بالولايات المتحدة. كيف ذلك يا دكتور؟ رد عليّ قائلا أنه تابع تحصيلي الدراسي بالجامعة والذي تفوقت في كل مواده، وأن الجامعة على ارتباط وثيق مع الوكالة القومية للطيران والفضاء (ناسا) وكذلك مع شركة "رايثيون" التي زودت السلطنة بأجهزة المراقبة الجوية (كما ورد في بحثي). وهذه المؤسسات وأخرى تدفع ملايين الدولارات في شكل منح grants للمؤسسات التعليمية التي تقوم بالبحوث والابتكارات تساعد تلك المؤسسات في الارتقاء بعلوم الطيران والفضاء. ولأن الجامعة التي كنت قد درست فيها البكالوريوس والماجستير متخصصة في علوم الطيران (تخريج الطيارين، مهندسي الطيران، المراقبين الجوين، الإداريين الفنيين، الخ)، فقد رأى الدكتور ريتشي أنني سوف أنضم إلى الطاقم "الأجنبي" الذي تستقطبه الجامعة من المتفوقين الأجانب للعمل بالولايات المتحدة مع توفير بيئة عمل ممتازة...
(2)
ويبدو أن الدكتور ريتشي قد جهز نفسه لاقناعي بالبقاء بالولايات المتحدة للعمل فيها والاستفادة من كافة الامتيازات؛ فقد ذكر لي أن الجامعة قد حصلت على منحة بأكثر من عشرة ملايين دولار من شركة رايثيون التي تدرس تحسين الأداء البشري عند تعامل المراقبين الجويين مع أجهزتها وبرامجها (السوفتوير)، وحيث أن هذه الشركة عالمية فهي مهتمة بالعنصر البشري غير الأمريكي، وتريد استقطاب عناصر خارجية قادرة على دراسة الأمر بشكل علمي منهجي حتى تتمكن من إدخال أية تعديلات على أجهزتها كلما لزم الأمر، ولأن سوق المراقبة الجوية عالمي فهو سوق تنافسي شرس تتدخل فيها شركات أوروبية كثيرة، وبالتالي يجب أن تبرز هذه الشركة الأمريكية، والتي تنافسها أيضا شركات أمريكية أخرى، نفسها ودورها في ذلك السوق. هذا من جهة، أما من جهة أخرى فأنا المستفيد أيضا، حيث سوف أتمتع بامتيازات عالية في الرواتب وحتى الجنسية. ناقشته في بعض الأمور، ولأنه كان قد جهز نفسه للنقاش فقد كانت اجاباته غير مترددة وكأن أسئلتي كانت متوقعة.. ومع ذلك فقد أصر على ألا أعطيه رأيي الذي أبديته من البداية بالرفض...
من ضمن الأمور التي أوضحها لي أن الكثير من الأجانب قد أتوا إلى الجامعة التي راقبت أداؤهم فاستقطبتهم أو أوصت بهم لشركات أو مؤسسات أخرى. بل وذكر لي بعض الأسماء، من بينها الدكتور "فاروقي" ذلك الايراني الذي كنت قد درست مادة الكترونيات الطائرات لديه، والأستاذ محمد السنوسي" ذلك الليبي الذي فضل الهرب من تعسف النظام في بلاده، فضلا عن ذكره لأسماء أستاذة أجانب كنت قد درست على أيديهم بعض المواد. ولم ينسى أن يقول لي أنه هو أصلا من مهاجري أيرلندا!!
بل ذهب إلى ابعد من ذلك قائلا أن هناك أسماء لامعة من العرب أنفسهم يعيشون في الولايات المتحدة، من بينهم الدكتور اسامة الباز الذي أظهر مدينة "ارم ذات العماد" عن طريق وكالة ناسا. كيف عرف الدكتور ريشتي عن الباز؟ والدكتور احمد زويل الذي كرمه حسني مبارك لما رجع إلى مصر حاملا جائزا نوبل بعدما كان نكرة في بلاده قبل أن يذهب للدراسة ومن ثم العمل بأمريكا..
حاولت مجادلا الدكتور أن الذين ذكرتهم قد هاجروا البلدان العربية إما لظروف اقتصادية أو سياسية أو ظروف الحرب. ونحن في السلطنة نعيش في بلد مستقر اقتصاديا وسياسيا وأمنيا، فلماذا أهجر بلادي لأعيش في بلادكم، رد علي: ببساطة لأنه ليس لديكم مجال للبحث العلمي يمكن أن تطبقوا من خلاله تلك العلوم التي تتعلمونها في بلادنا. فنحن نعرف - والحديث للدكتور ريتشي - أنكم لم تصلوا إلى مرحلة تطبيق العلم الحديث بشكله الصحيح، صحيح أن الكثير منكم يدرسون مختلف التخصصات ويحصلون حتى على شهادات الدكتوراه من بلادنا ومن بلدان أخرى، لكن ما ان ترجعوا بلادكم إلا وتعيشون في نظام بيورقراطي يتقل مواهبكم ولا يجعلكم تستفيدون بما درستموه لدينا...
(3)
كان ردي على الدكتور ريتشي بشيء من اللباقة، فرغم الاغراءات في الرواتب الذي يقابله أكثر من ستة أضعاف راتبي إلا أنني وجدت أن الوطن لا يباع، ترابه أغلى من ذلك "الذهب الأخضر"، وسحنته السمراء أفضل من بشرتهم الحمراء التي تطغى المادة عليها فلا تهتم بقيم ولا أخلاق ولا مبادىء، صحيح أن العلم لديهم أمر مقدس، وأن هناك أمور كثيرة نتمنى لو نطبقها في بلادنا إلا أن المفاضلة هي لصالح الوطن ولصالح البلاد الذي عملني صغيرا، فبماله ذهبت إلى الولايات المتحدة. لم أكن أتخيل يوما ألا أرى نخلة بلادي وهي تنبت رطبا أصفرا أو أحمرا، وألا أرى الوادي الأبيض وهو يزمجر بين الصخور، وألا أرى فلج "دارس" وهو يسقي الزرع والحرث.. لقد سقتني بلادي بمائها واحتضتني بهوائها وأدفئتني بحنانها وغمرتني بعطفها، فكيف أفكر بدولارات غيرها وأنسى فضلها وخيرها، وفوق ذلك ناسها وشعبها؟ صحيح أنني التقيت بالعديد من العرب الذين أصبحوا يعيشون الآن في الولايات المتحدة، لكن ظروفهم تختلف باختلاف شعوبهم، فمنهم من اضطهده الحاكم قبل المحكوم، ومنهم من لم يستطع أن يسد رمق أولاده، ومنهم من ضربت القنبلة منزله، ففضلوا الخروج من ديارهم ليأتوا بها إلى أمريكا. نعم هكذا يفعلون، فقلما تجدا عربيا وقد انسلخ عن عروبته وحتى دينه، لقد كان هناك مجتمع عربي مصغر في المدينة التي أعيشها سواء للدارسين أو المقيمين..
قررت إذن أن أعود إلى الوطن...
نعم عدت إليه، لكن بعد عشرة أيام كانت هناك قضية حوكمت بسببها... فبعد وصولي إلى السلطنة بعشرة أيام يتم استدعائي في قضية عرفت عند التحقيق أنها تختص بكتابتي لموضوع بسبلة العرب فيه تشهير بدون وجود أدلة.. اعترفت بخطائي. لا أحد منا يريد أن يقال عنه سارق حتى ولو سرق خزائن الدنيا، ليس لدي دليل مادي، ما كان لدي مجرد كلام سمعته من أكثر من شخص، فتسرعت في طرح الموضوع والإساءة إلى ذلك المسئول، لم أكابر على الخطأ لأن الكلام أثناء التحقيق كان مقنعا..
لكن فكرت في الأمر من زاوية أخرى: فرحان أنا بالعودة إلى الوطن حاملا معي الآمال والطموحات، لأدخل في دائرة التحقيق بعد عشرة أيام من العودة، وبعدما رفضت عرضا ربما قبله البعض..
الأمر هان عليّ من جهة آخرى، فرغم أن فضيلة القاضي أسمعني كلاما "جارحا" عن الوطنية التي قال أنني تنكرتها لأنني شهرت بذلك المسئول الذي خدم الدولة أكثر من 20 عاما، إلا أنني وجدت أن المحققين أدوا دورهم بشيء من النبل والأخلاق وحتى التعاطف معي. لم أستنكر عملهم آنذاك، فقط استنكرت التوقيت، يعني كانوا مستعجلين زيادة من اللازم.
(4)
وبعد خروجي من دائرة التحقيق وتعهدي بعدم اثارة الموضوع على الملأ عدت إلى المكتب بالطيران المدني لأكمل البحث الميداني الذي ساعدني فيه الزملاء في إنجازه، إنه أمر يثلج الصدر عندما وجدت تجاوبا منقطع النظير، بل أن بعض الزملاء من تبرع بمعلومات قيمة أفادتني في سير البحث بأسلوب منهجي. وبعدما انتهيت منه بعثته بالايميل إلى الدكتور "ريتشي" الذي منحني فيه درجة الامتياز. بل وعاود الدكتور كرته في محاولته لإقناعي بالعودة إلى الولايات المتحدة إلا أنني كررت اعتذاري من جديد. فرحت كثيرا بذلك الانجاز، صحيح أنني فشلت في أمور كثيرة في الحياة إلا أنني استطعت أن أنجح هذه المرة، فقدمت نسخة من البحث لأحد المسئولين والذي لم يقصر في ركن ذلك البحث في الأدراج، فبعض مضي عدة أشهر ذهبت إليه متابعا البحث الذي كانت فيه بعض التوصيات لتحسين الأداء بالمراقبة الجوية فعرفت أن البحث أصبح مصيره مجهولا،، مرت السنوات لتأتي شركة استشارية أجنبية تقدم توصيات أوردتها أنا وزملاء آخرون في بحوثنا، ولتتقاضى تلك الشركة عشرات الآلاف من الريالات..
ماذا حصلت أنا على ذلك البحث؟
1) رسالة شكر من الدكتور وزير التعليم العالي سابقا (رئيس مجلس الدولة حاليا) على التفوق.
2) مكافأة براتب أساسي (لم تصل 400 ريال) من الطيران المدني.بعدها عدت إلى وظيفتي لأعمل كما كنت قبل الحصول على الماجستير، ولتذهب تكاليف البعثة التي تكفلت بها جامعة السلطان قابوس بالتعاون مع وزارتي الخدمة المدنية والتعليم العالي، أدراج الرياح..
صحيح أنه كانت هناك استفادة شخصية لي واستفادة جزئية في مجال العمل، لكن ليست بالصورة التي اعتقدتها أو تصورتها...هل المشكلة في النظام البيورقراطي الذي لا يقدر حامل الشهادات العليا؟
أم في حسد بعض المسئولين مغبة تفوق هذا الخريج عليهم وترقيته ليصبح هو المسئول بعدما كان المرؤوس؟
(5)
كان من المفترض أن أذهب إلى الولايات المتحدة في سبتمبر من العام المنصرم وذلك في رحلة عمل تتعلق بالطيران العماني. تقدمت لطلب تأشيرة الدخول "الفيزا" عن طريق حجز موعد لي بالسفارة الأمريكية بمسقط من خلال موقعها بالانترنت فقط. ذهبت في اليوم المقرر لتقديم الأوراق ومن ثم إجراء مقابلة شخصية، كانت الاسئلة عامة، لكن في نهاية المقابلة أبلغني المسئول أنه يعتذرون عن تلبية طلبي هذه المرة، وسوف يقومون بمخاطبتي بالايميل أو هاتفيا لما تكون التأشيرة جاهزة بعدما يأتي الرد من واشطن في غضون ستة إلى ثمانية أسابيع على الأكثر. استغربت من الأمر، فزملائي بالعمل كانوا يحصلون على التأشيرة في اليوم التالي، زميل واحد فقط استغرق اسبوعين في الحصول عليها. فلماذا يحدث ذلك معي؟
راحت عليّ المهمة.... بعدما مرت الأسابيع الستة بعثت بايميل إلى السفارة وكان الرد لبقا في الاعتذار، اتصلت بعد اسبوع وبعد أسبوع آخر وبعد أسبوع ثالث.. انتهت الأسابيع الثمانية، وكان الرد سلبيا في كل مرة.. بعد ذلك لم أتابع الموضوع لأن المهات الرسمية انتهت. وبعد ذلك دخلت أنا في قضيتي مع الوهيبي ومع مجلس الوزراء وتم سحب جواز سفري منذ أول يوم دخلت السجن (من يناير وحتى ابريل).. ولم أتابع موضوع التأشيرة مرة أخرى مطلقا لأنه لم يكن لها حاجة ولأنني اعتقدت أن قضيتي الأخيرة سوف تشوشر عليّ أكثر. فأنا بدون قضية لم أحصل على التأشيرة، فكيف سوف أحصل عليها وقد دخلت السجن وأدنت في قضية سياسية المغزى؟؟
لكن أتاني اتصال من احدى الأخوات "العمانيات" بالسفارة الأمريكية في شهر مايو تخبرني بأنه قد تم الموافقة عليّ للسفر إلى الولايات المتحدة، وأن التأشيرة صالحة لمدة سنتين قادمتين. فقلت لها لكن ليس لي حاجة بها الآن. فقالت لي بأنني ربما أحتاج إليها...
وبالفعل أتت الحاجة إليها، لكن هناك من حاول منعي من السفر معتقدا أن سبب تأخيري للحصول على تلك الفيزا هو أنني "عملت عمايل" حتى في أمريكا، وأنهم سوف يحتجزونني في المطار لما أصل إلى هناك... رددت عليه بأن سجلي نظيف حتى وإن كنت قد سجنت في السلطنة، فلم أفعل شيئا يغضب أحدا، وكل ما أكتبه هو آراء، وحرية كتابة الآراء مكفولة بالمادة (19) من حقوق الانسان وبالمادة (29) من النظام الأساسي للدولة وبالتعديل الأول من الدستور الأمريكي.وهكذا سافرت إلى الولايات المتحدة يوم الجمعة الثاني من أكتوبر لمدة عشر أيام أروي أحداثها هنا....
(6)
كانت الرحلة طويلة جدا، فمن مسقط وإلى أبوظبي وإلى امستردام والانتظار خمس ساعات، ومن ثم السفر أكثر من عشر ساعات إلى مدينة سياتل بولاية واشنطن (وهي غير العاصمة واشنطن). وأنا في الطائرة أتذكر كيف أن الولايات المتحدة أصبحت صاحبة أكثر الدول في العالم جدلا بين الشعوب، فمن ناحية لا يكاد يكون شخص قد زارها أو درس فيها إلا وأحب فيها الكثير سواء في العلم او المعاملة أو التقدم، ومن ناحية أخرى، وكلما تذكرنا كيف ارتكبت أمريكا وترتكب جرائم الحرب في الشعوب العربية منها والعالمية..
تذكرت احدى حلقات المسلسل السوري "مرايا" للفنان القدير "ياسر العظمة" وهو ضد كل شيء أمريكي، لكن كان يصر في نهاية الحلقة أن تلد زوجته في أمريكا حتى يحصل الولد على الجنسية الأمريكية، تذكرت كيف الكثير يكره أمريكا لما تفعله اسرائيل في العرب وبمباركة أمريكية خلال كافة إداراتها سواء لفورد أو كارتر أو ريجان أو بوش الأب أو كلينتون أو بوش الابن أو اوباما.. وتذكرت كيف يفرح العرب كثيرا عندما يتعين رئيسا أمريكيا جديدا، ليكون ذلك الرئيس "أشر خلفا لشر سلف" إن صح عكس المثل الدارج "خير خلف لخير سلف" فنحن فرحنا بالأمس ليكون اوباما الرئيس خلفا لبوش الذي كان أشر سلفا من كيلنتون..
وتذكرت أن جورج بوش الابن كان قد دخل التاريخ الأمريكي كأسوأ الرؤساء وباعتراف الكثير ممن قابلتهم خلال تواجدي بسياتل. حرية التعبير لديهم تعطيهم الحق في نقد الرئيس حتى وإن لم يستطيعوا تغيير سياسته، لقد عارض الكثير من الامريكيين الحرب على العراق وعلى افغانستان بعد أن عارضوا الحرب على فيتنام والتدخل السافر من قبل امريكا في حياة شعوب العالم على عقبات التاريخ الحديث.. ولقد قال لي أحدهم أن بوش أصبح الآن في مزبلة التاريخ الأمريكي..
كما أن أمريكا سياسيا قد اكتسبت سمعة سيئة مع حلفائها ايضا، فلا يكاد بوش يزور دولة إلا وتكثر المظاهرات ضده، وإن كان "الزيدي" قد رماه بالنعال فلم يصبه فهناك صحف أجنبية نعتت بوش بأبشع الألقاب وهو يزور بلادها - من منطلق حرية التعبير التي يتشدق بها هو الآخر.. إذ لم يكن ضيفا مرغوبا فيه حتى في بريطانيا أو فرنسا أو أية دولة آسيوية، ربما جبن بعض الرؤساء مجاهبته لكن الوحيد الذي استطاع الصمود في وجهه هو "شافيز" الفنزويلي و"كاسترو" الكوبي الذي صمد ضد أي رئيس أمريكي طوال ما يربو من نصف قرن إلى أن بدأ القدر يقول كلمته في صحته، ويرثه أخوه راؤول وهو حيا يتبع نفس السياسة الكاستروية.
(7)
كالعادة أثناء قيامي بالمهمات الرسمية، يستقبلني شخص في المطار يحمل اسمي في لوحة صغيرة، لكن في مطار "تاكوما" بمدينة سياتل اضطررت البحث بعض الشيء عن اسمي فلم أجده، لكن سبق ان أبلغت بأن سائق شركة البوينج يرتدي قميصا أحمرا عند بوابة القادمين. أخيرا لمحته. قدم لي التحية وحمل عني الشنط باتجاه السيارة الكبيرة التي توفرها الشركة لزوارها.
كانت تحيته كالتالي:-
Welcome to Seattle, the land of Boeing and Microsoft
أهلا بك في سياتل: أرض البوينج ومايكروسوفت فقلت له أهلا وسهلا..
طاف بي السائق خلف مصنع البوينج لصناعة الطائرات، شاهدت طائرة الطيران العماني من على بعد.. بعد حوالي عشرة أميال (16 كيلومتر) ألزمت الإشارة السائق أن يتوقف، وبدافع الفضول نظرت على جانب الطريق لأرى سيارة استغربت من شاهدت بداخلها.
لم أصدق..هل من المعقول؟
هل من الممكن؟
إنه هو بشحمه ولحمه..
هو الذي لا يمكن أن أدخل الكمبيوتر دون أن أطوف على برامجه..هو الذي أصبح أغنى رجل في العالم..لكن السيارة صغيرة، ولا تليق به، ورقمها "دفش". لما ركزت فيها وجدتها من نوع "فورد فوكاس" وهي بحجم تويوتا كورولا..
سألت السائق بدافع الحيرة والفضول: أليس ذلك السائق "بيل جيتس". رد عليّ مبتسما نعم هو!! رددت عليه بالانجليزية You are kidding me أي أنت تمزح معي. فقال هو بالفعل بيل جيتس. هل من المعقول أن يقود أغنى رجل في العالم سيارة لا يزيد سعرها على الستة آلاف ريال؟
حاولت مسرعا أن أخرج هاتفي لأشغله وأصوّر بيل جيت وهو يقود تلك السيارة الصغيرة. لكن كان الهاتف مغلقا وقمت بتشغيله، وبعدما اشتغل كان جيتس قد انعطف ناحية اليمين مبتعدا عن نظري..تأملت الموقف كثيرا......
(8)
أغنى رجل في العالم يسوق سيارة الرجل الفقير!!!
في حين يتنافس أغنيائنا على اقتناء أغلى السيارات، وأفضل أرقام السيارات، فسيارات "رولز رويس بنتلي أو سيلفر جوست" أو "مايباخ" عرفها أغنياؤنا، ولا يستطيع فقراؤنا حتى تذكر اسم تلك السيارات. على أن الأغنياء في بلادنا ينقسمون إلى قسمين: هؤلاء الذين يحجزون سياراتهم من المصانع مباشرة ويعيشون حياة البذخ والقصور ومع ذلك يحاربون الفقير في رزقه وبعثاته ووظيفته وحتى رقم سيارته، وأغنياء آخرون تجد الواحد منهم وكأن "دشداشته" لفقير حتى "راتب الشئون" لا ينفع معه.
في مسقط حيث يعيش علية القوم من الأغنياء وفي خارج مسقط يعيش "أثرياء الفقر" أي الذين يتظاهرون بالفقر فيحسن عليهم الشخص لكنهم يمتلكون العقارات و"الرهائن" والايجارات التي تدر عليهم آلاف الريالات الشهرية، وقد لا يعرف أحد عنهم شيئا إلا بعد وفاتهم..وها هو بيل جيتس يؤسس أكبر مؤسسة للأعمال الخيرية مع زوجته "ماليندا" وبميزانية تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات لتشمل برامج صحية ومنح دراسية واستثمارات داخلية وخارجية تفيد المجتمع وتنهض به..
gatesfoundation.org/annua...tatements.aspx
لكن ماذا يفعل هؤلاء بأموالهم؟ لا شيء سوى زيادتها، حيث أن التراب لن يملأ جوفهم أبدا، فتجدهم يكدسون الذهب الأخضر والأصفر ويتاجرون في الذهب الأسود في بورصات نيويورك وطوكيو، أما أثراء الفقراء، فلا يسمعون عن فقير يبحث عن قرض عن طريق "رهن" منزله أو دكانه إلا وقصدوه. لقد أحل بعضهم "الرهن" لأنه تجارة لكن تلك التجارة ما هي إلا امتصاص لمال المحتاج الذي قد يضطر إلى تسليم منزله للمسترهن لأنه عجز عن السداد..
لا نعمم على الجميع، فهناك المرحوم سعود بهوان الذي غمر عطفه وماله كل موعز بالسلطنة، وربما هناك آخرون لا تعرف شمالهم ما تنفق يمينهم، لكن نعرف بشيء من التوكيد أن الأثرياء بالسلطنة قلما يتبرعون، اذ يأخذون الكثير من الوطن والمواطن (من خلال احتكار خدماتهم وسلعهم) ودعم الحكومة لهم ولا يردون إلا النذر اليسير..
(9)
ولا يسعنا أيضا إلا أن نشكر "بيل جيتس" على اختراعه الويندوز والاكسبلورر الذي استطعنا أن نتعرف على بعضنا البعض في هذه الشبكة العنكبوتية التي أدخلتها الولايات المتحدة إلى بيوتنا من خلال اختراعها وحتى تركيبها في السلطنة...
فقبل السفر كنت قد أبحرت الانترنت من منزلي لأبحث عن فندق ذو سعر جيد يجعلني أوفر بعض النقود التي يجب أو أصرفها بحسب قائمة المشتريات التي أعطتني إياها أم العيال ومن بينها شراء لابتوب لهذا الشقي الصغير "عبود" وأن أشتري جهازا آخر لي خاصة أن فضيلة القاضي كان قد حكم عليّ أيضا بمصادرة "الأجهزة المستخدمة في الجريمة".قبيل وصولي الفندق سألت سائق البوينج عن أقرب محل لبيع الأجهزة الالكترونية بما في ذلك الكمبيوترات، فأخبرني بأن ذلك المحل الذي أعطيته اسمه بعيد نوعا ما عن مكان إقامتي، وأنه يمكنني شراء أي شيء عن طريق الانترنت..
أخبرته أنني على علم بذلك، فالتجارة الاكترونية لديهم متقدمة وكنت أستخدمها حتى عندما كنت أدرس الماجستير. فإذا أردت أن تشتري لابتوب لماركة معينة مثل "ديل" فما عليك سوى زيارة موقعهم بالانترنت واختيار الموديل المناسب مع امكانية اضافة أي خيار آخر والدفع ببطاقة الائتمان وسوف يصلك الجهاز الى منزلك في غضون اسبوع. وأصلا سر نجاح "مايكل ديل" المؤسس لهذه الماركة أنه بدأ باستخدام الهاتف المجاني ومن ثم الانترنت، ولم يكن يلجأ إلى "الرجل الوسيط" أي المحلات التجارية إلا مؤخرا وفي نطاق ضيق جدا..قال لي السائق أنه مستعد أن يوصلني إلى ذلك المحل فورا لأنه مشغول فيما بعد وأن الشركة لا تمانع في توصيل زبائنها للتسوق أينما أرادوا الذهاب.
كنت قد السفر أن أبحرت في موقع ذلك المحل الضخم واخترت بعض الموديلات الأحدث والتي لم ترد إلى السلطنة بعد. عندما وصلت إلى هناك وجدت العديد من الموديلات الحديثة جدا لدرجة أن بعضها أصبح يكاد يكون جاهزا لتركيب "ويندوز سيفن" عندما تطل علينا بعد أيام فقط، وسعر تلك الأجهزة هناك يكاد يصل إلى النصف. ولأن "حقوق الملكية الفكرية" محفوظة لديهم فإنه يتوجب عليّ أن أشتري البرامج المكافحة للفيروسات وبرامج الاوفيس والبرامج الأخرى كل على حده. فكرت قليلا: إذا كان الأمر كذلك، فسوف أدفع مئات الدولارات لتك البرامج، أما اذا انتظرت ورجعت إلى السلطنة وذهبت إلى المستر "جبار سينج" فسوف أدفع خمسة أو سبعة ريالات فقط ولن تعرف وزارة التجارة والصناعة أنني انتهكت الملكية الفكرية!!!
(10)
وأخيرا حصلت على اللابتوب الجديد، بسرعة توجهت إلى الغرفة بالفندق. ذلك أنه وعندما حجزت الفندق بالانترنت فقد وجدت أن من ضمن التسهيلات هي الانترنت المجاني في كافة أنحاء الفندق وبدون قيود على التنزيل.. ولأنني أحب التنزيل كثيرا، فقد قضيت معظم الوقت فاعلا ذلك وبسرعة عالية جدا. بالطبع سعة التنزيل غير محددة. أخيرا خرجت من احتكار عمانتل واختها عمانموبايل وصديقتها النورس. فهذه الثلاث تقدم نفس الخدمة التي جربتها جميعا، وبأسوأ الأسعار، وبمحدودية التنزيل.. جربت السرعة العالية التي تدعيها الثلاث وكلها كلها تضليل في تضليل، ليست هناك سرعة تصل إلى أكثر من سبعة ميجابيتس في الثانية، بل أنها أصلا لم تصل إلى نصف ميجا. وفي هذه الأيام بالكاد تصل إلى 100 كيلوبيتس.
على العموم، قادني الفضول لمعرفة أسعار خدمات الانترنت الحالية بمدينة سياتل. انظروا إلى أحد اعلانات الشركات التي تقدم خدمة الانترنت:-
أ) بسرعة 1 ونصف ميجا يكون السعر 15 دولار أي حوالي ستة ريالات في الشهر فقط.
ب) بسرعة 7 ميجا يكون السعر 25 دولار أي حوالي تسعة ريالات في الشهر.
ج) أما بسرعة 12 ميجا فيكون السعر 47 دولار فقط، أي حوالي 17 ريال في الشهر..
dsl4seattle.com/qwest/qwest-internet.html
بالطبع حجم التنزيل غير محدد.
آخر اشتراك لي الآن في عمانموبايل هو لأعلى لتنزيل وهو 35 جيجا وبسعر يزيد على الستين ريال، ولأنني أتجاوز ذلك الحجم فإن الفاتورة تتجاوز المئة ريال أيضا... ولا أدري ما إذا كانت هيئة تنظيم الاتصالات تراقب برامج الشركة (عماموبايل وحتى النورس) وهي تحتسب حجم التنزيل. فأحيانا أشك أنني تجاوزت ذلك الحجم.. وأرى أنني أدفع ثمنا لا يقابله الخدمة التي اشتركت فيها.وحتى عندما لجأت إلى النورس مشتركا في خدمتها للجيل الثالث التي سبقت عمانموبايل بسنة على الأقل فلم أجد الأفضل، اذ لديها باقتان فقط: إما تنزيل بحجم 10 جيجا أو بحجم 100 جيجا، والأخيرة بسعر يزيد على المئة ريال (من الأفضل شراء كورولا بذلك المبلغ) كما أن السرعة التي وعدت بها النورس وهي أكثر من سبعة ميجابيتس في الثانية أيضا كانت مخادعة، ورغم أنني قدمت عدة شكاوى لخدمات النورس لكن لم أجد الحل المقنع لديهم، فانسحبت من الخدمة، وهي ليس أفضل من عمانموبايل. بالطبع عمانتل هي التي تغذي النورس بخدمة الانترنت، فلا تتوقع الأفضل. ولهذا السبب فأسعار النورس أيضا غير معقولة..أملنا هو عندما تدخل النورس شبكة الانترنت بنفسها وليس كما هو في الوقت الحالي الذي تقوم فيه بالاعتماد كلية على شبكة عمانتل.. بالتأكيد الأسعار سوف تكون الأفضل، لكن بالطبع ليس بالصورة التي وجدتها في الولايات المتحدة...
(11)
كان يوم الأحد بالنسبة لي يوم استراحة من عناء السفر الطويل، ولأنني سبق أن زرت المدينة منذ أكثر من (15) وعندما كانت السلطنة تشارك في ملكية طيران الخليج، فقد توجهت إلى ذلك المكان السياحي المشهور "إبرة الفضاء Space Needle"، ذلك المكان الذي يرتفع أكثر من ستين طابقا وبه مطعم يمكن للزائر تناول وجبة خفيفة أو ثقيلة فيه بعدما يدفع (16) دولارا للصعود إليه. وبسبب وجود طابور طويل يتخلله صراخ الأطفال المبتهجين بالصعود، وصراخ مراهقين علهم يجدون حبا في اكتشاف الطبيعة أو ربما انتحارا للتخلص من حياتهم المزحومة بزخم الحياة العصرية كما فعلها ثلاثة منهم في السابق بذلك المبنى الذي أصبح الآن محصنا ضد المفكرين في إنهاء حياتهم، فإنني التففت إلى مكان آخر شدني إليه بعدما وجدت أنه لدي متسعا من الوقت أقضيه كيفما أشاء وبدون وجود أي شخص يعكر عليّ مزاجي..
كان ذلك المكان هو مجمع تجاري يجمع بين بيع الأشياء الجديدة والمطاعم التي يرتادها الأمريكيون ليل نهار، فهم شعب متخم وشهيته للأكل مفتوحة، على أن المكان لا يخلو من الكلاب التي يحبها هؤلاء والتي تكاد أن تكون صاحبتني عدة أيام (لي وقفة مفصلة في ذلك)، ما شدني في المجمع التجاري (المول) هو وجود عرض فلكوري لفرقة "كرواتية" أتت في ذلك اليوم المفتوح لكرواتيا. كما كان هناك الكتب المعروضة، والأكل، وبالطبع الأزياء والرقص الشعبي والغناء.
وقد التف الشعب الأمريكي وكأنه يريد أن يعرف الكثير عن ذلك الشعب الذي شهد إبادة المسلمين في البوسنة والهرسك، وربما هو أيضا عانى من ويلات الحروب واغتصاب السلطة والنزاع المسلح بعد انقسام يوغسلافيا، وظهور البوسنة والهرسك ومعاناة المسلمين وانتهاك حرمات المسلمات. نعم لقد انتهت الحرب عام 1995 بتطهير عرقي شمل ملايين المسلمين في تلك البلدان، وها هم اليوم يريدون العيش في سلام. تأملت ذلك الموقف المسالم بعدما عادت الذاكرة إلى النصف الأول من التسعينات، حيث كانت قناة الجزيرة تنقل لنا الحدث ليفجعنا نحن المسلمين عندما نرى كيف أن الضعيف ينتهك ويغتصب ولا منادي منا، بل مستنكر وشاجب ومندد إلى أن تدخل العالم الغربي أكثر ما تدخلنا نحن فانتهت الحرب ومات من مات واستشهد من استشهد، فنسى العرب والمسلمون وربما تناسوا تلك الحرب الذي يقارب انتهاؤها من الخمسة عشر عاما. وكثير من يرجع سبب تلك الحرب إلى الفتنة بسبب الكراهية المقيتة. أفليست الفتنة أشد من القتل؟
(12)
كان للجزء الأخير من ذلك اليوم الأحد أن أقضيه في ذلك الميدان الذي انصهر فيه الصيني مع الافريقي مع الأوروبي مع التايلندي والمكسيكي وحتى مع العربي. فقد شاهدت عشرات الأسر والتي يبدو أنها قد هاجرت من بلادها بحثا عن حياة افضل. ومن بعيد لمحت "الحجاب" على رأس أكثر من فتاة دون أن أرى من "يبحلق" أو يشاهدها بشكل غير لائق. حيث وفرت لهم البيئة للعيش بسلام. على أن ذلك المجتمع ليس مثاليا أيضا. فظاهرة بما يسمى "الكراهية العرقية Racial hatred" موجودة أيضا، اذ يكفي أن تكون صينيا أو عربيا ليتم ملاحقتك وحتى سبك او مضايقتك، وهذا يختلف من مكان لآخر، وإن كان القانون سوف يحكم لصفك. ربما لأن سياتل تقع في ولاية واشطن وهي الولاية التي تقع في أقصى الشمال الغربي للولايات المتحدة، وتكون قريبة من آسيا من ناحية المحيط الأطلسي. وبالتالي نجد الصينين وحتى التايلنديين بكثرة.
ما ان انتهيت من تلك "اللفة" إلا وقررت أن أنهي اليوم بالصعود إلى "ابرة الفضاء Space Needle" لما وصلت إلى منصة التفرج على المدينة التي بانت مكشوفة بالكامل فقد تأملت في أشياء كثيرة ربما نسيتها أو تناسيتها في عالم المادة قبل عالم الجوهر. صحيح أنني سبق ان صعدت إلى "امباير ستيت بيلدج" بنيويورك و"سيرز تاور" بشيكاغو وحتى "برج ايفيل" بباريس، إلا أنني سبق أن صعدت "النخلة العوانة" أيضا. فعندما تصعد إلى الأعلى تجد نفسك وكأنك في القمة، ربما يصابك الغرور لأنك في القمة، لكن قد يقودك ذلك الوضع إلى أن تتأمل ما في الكون، تتأمل كيف هي الحياة بكل مكوناتها وكيانها وكينونتها؛ كيف هذا التناغم بين الشجر والبشر والطير والفضاء، كيف للإنسان أن يعيش وهو يقطع الشجر ليبني بيتا بدلا من أرض خضراء، وكيف يغزو الأرض وحتى الفضاء وكيف يكون في القمة وأحيانا في القاع..
عندما تنظر إلى الأسفل من ذلك الارتفاع الشاهق تستصغر الأشياء، وربما تستصغر الخلق، وكيف من الناس من يستصغر بل ويحتقر الآخرين، أنت الآن في القمة بسبب "ليفت" رفعك للأعلى، لكن بعد لحظات سوف تكون مرة أخرى في الأرض مثلك مثل الآخرين.. هذا ما جعلني أتأمل وأنا أرى كيف للإنسان أن يستعلى على الآخرين وحتى يحتقرهم.. فكم من مسئول كان موظفا عاديا محبوبا لدى الجميع، ولما أصبح وكيل وزارة أو وزيرا فقد استعلى فظنهم أنه "الرب الأعلى" في تلك الوزارة. ظن أن كلامه يجب أن يكون مطاعا، وأنه فوق المحاسبة، نسي وتناسى ذلك الوزير أو الوكيل أن هناك من يراقبه، وأنه لو غمضت عين المراقب، فإن عين الخالق عز وجل لن تغمض.. تذكرت مشهدا أثرا في نفسي كثيرا من المسلسل العربي الذي يتحدث عن فضيلة "محمد متولي الشعراوي" وكيف ولما كان في قمة عطائه ووزيرا فقد دخل إلى مسجد وقام ينظف أرضية الحمام، ولما خرج سأله صاحبه، فرد عليه فضيلته: تذكرت أن نفسي أمرتني بالسوء والاستعلاء، فأردت أن أردها إلى نحرها لتكنس الأرض وتكون كما هي، للتواضع. وقد كان أداء الفنان (حسن يوسف) رائعا في ذلك الدور الذي يذكرنا بعظمة بعض رجال الاسلام الذي عرفوا كيف يروضوا أنفسهم الأمارة بالسوء..
ومن بين التأملات أيضا قدرة الانسان على ركوب الفضاء اللامتناهي، أفلم يستطع الانسان أن يصل إلى القمر رغم أن بعض المشككين في العلم رأى غير ذلك؟ ونحن في عالم الطيران نجد من اخترع الطائرة التي تزن أكثر من ثلاثمئة طن من الحديد لتعبر المحيطات ولفترة تزيد على الخمسة عشر ساعة بدون توقف وتحمل على متنها أكثر من 500 شخص، كيف استطاع ذلك العقل البشري أن يغزو الفضاء وأن تحملنا إلى مناكب ومواكب وكواكب لم نصلها مسبقا!!! ربما لايزن عقل الواحد منا أكثر من كيلوجرام، لكن ذلك العقل البشري غز الفضاء بعدما ضاقت به الأرض بما رحبت..
ولعل العرب هم من أكثر من غزا الفضاء لكن ليس بعلمهم وإنما بلغتهم المتمثلة في الشعر والنثر. فكتبنا العربية تملأ الورق بأحسن الأشعار من عربي جلس في الصحراء يتأمل النجوم والكواكب ليناجي حبيبته ويقول له أنت البدر وأنت القمر وأنت النجوم، في حين فشل ذلك العربي أن يعرف أن القمر أصلا كتلة صماء بعيدة كل البعد عن الجمال الذي يقعد يتغنى به. بل أن القمر صم أبكم بالكاد يوجد فيه خريرا للماء، أو أوكسيجين نقي يتنفس به.. كما أن العرب فشلوا أيضا في معرفة كنه البدر والهلال، فهم يتنازعون ثلاث مرات في السنة على القمر والبدر والهلال؛ المرة الأولى في التاسع والعشرين من شعبان، والثانية في التاسع والعشرين من رمضان، والأخيرة في التاسع من ذي الحجة. فحتى الآن يصوم العرب والمسلمون ويفطرون ويحجون على اختلاف أقطارهم وربما سياساتهم وأيديولوجياتهم. وفي حين عرفا "الاخوان رايتس" كيف يطيران وعرف "نيل أرمسترونج" كيف هي أرضية القمر، فإن العرب بعثت أميرهم "سلطان" ليعود إلى أرضه التي لم يخرج منها مرة أخرى..
كم هم من الأسى يصاحبني وأنا أجد "التخلف" فينا العرب، في حين أجد دولة مثل أمريكا وفيها العربي وكيف استطاع أن يصل إلى مكانة من العلم والتقدم، بينما ظللنا نحن نلبس مما لا ننسج ونأكل مما لا نطبخ، ونتحدث حول ما لا نستطيع قوله إلا في السر. في إبرة الفضاء تلك ولمدة ساعة وفي ذلك المطعم الدوار دارت في رأسي عشرات التأملات والتي قد تكون للبعض خربشات، وللبعض الآخرة فلسفة في الكون وفي العلم وفي العمل، وأكتفي بهذا القدر من هذه التأملات...
(13)
يجب أن يتفاعل الكاتب مع الوطن ومع المجتمع الذي هو جزء منه، فقد يكتب الكاتب موضوعا أو مقالا لأنه مر أو خاض تجربة معينة يسطرها بما وهبه المولى عز وجل من موهبة في السرد والكتابة، كما قد يكتب موضوع لأن أحدهم طرح عليه الفكرة سواء عن طريق البريد العادي أو الالكتروني أو رسالة بالايميل أو في بريد المنتدى أو عبر اتصال هاتفي. عندئذ يطلع الكاتب على فحوى تلك القضية فيحاول معرفة كافة أبعادها، وبالتالي طرحها بشكل عام دون شخصنة الفكرة أو التطرق إلى أمر يخص شخص معين دون الآخر..
وفي خلال مسيرتي الكتابية منذ عام 1986 تشرفت بالتعرف على أخوة وحتى أخوات خاطبوني بإحدى الطرق أعلاه لتوصيل رسالة عبر الصحافة سابقا أو عبر المنتديات حاليا لأنهم ربما لا يستطعون التعبير عما يدور في خاطرهم بطريقة أكثر سلاسة، أو خوفا من المساءلة، أو التقرب من القضية كونهم أطرافا فيها، عدم اشتراكهم في المتابة (الاكتفاء بالمتابعة والقراءة فقط)، أو لأي سبب آخر يرون أنه يقف عثرة في طريقهم. عندما أتلقى مثل هذه الاتصالات فإن أرحب بالفكرة من حيث المبدأ لكن أحاول أن أسبر أغوار القضية التي أتبناها وبالتالي قد أكون مساءلا فيها أيضا، في بعض الأحيان أطلب من الشخص أن يكتبها بنفسه ويرسلها لي كمسودة أراجعها لكي تكون مادة تصلح للنشر، وفي أحايين أخرى أتنبى القضية أو الموضوع طالما وجدت فيه المصداقية والرغبة في التعامل مع القضية كونها انسانية بحتة، على أن يكون الموضوع فيه من العمومية ما لا يقتصر على ذلك الشخص، وإنما يكون قد لاحظت نفس الاشكالات أو أن أحدا من القراء سوف يعقب ويشارك في طرح قضية مماثلة أيضا..
ولأن هذا العام عرضني شخصيا لأكثر من قضية، فقد أتتني أيضا عدة اتصالات او رسائل تطرح أفكار أو حتى قضايا تخص حرية التعبير عن الرأي، كما أتتني اتصالات فيه بعض الأمور الشخصية والتي رأيت الابتعاد عنها، لأن الهدف في الطرح هنا هو لنقاش قضايا عامة وإن كانت تبدأ بتجارب شخصية نعايشها أو يعايشها القراء والكتاب على حد سواء.
(14)
وأنا منشغل بقضيتي أتتني عدة اتصالات داخلية وكذلك خارجية، بعضها كان يظهر الرقم لدي في الهاتف النقال في حين لم تظهر أرقام أخرى، كانت معظم تلك الاتصالات لجهات خارجية ومنظمات حقوقية، أغلبها منظمة الخط الأمامي ومنظمات تريدني أن أخرج بقضيتي إلى خارج القطر العماني. كنت أعتذر بلباقة لأنه وفي تلك الأيام لم أكن أعرف مسار القضية خاصة أن هناك مساعي من قبل فاعلي الخير لأن يتفضل مجلس الوزراء و"يلم القضية" بدلا من إصدار حكم قد يكون قاسيا عليّ، كما ارتأيت أن البعض من القراء في هذا المنبر قد يصطاد في الماء العكر ضدي ليقول أنني لجأت إلى التشهير ببلادي وأنني حكمت على القضاء العماني بالظلم قبل أن يقول ذلك القضاء كلمته.
وأنا منشغل أيضا أتاني اتصال خارجي عرفت من الأرقام أنه من الولايات المتحدة كوني أعرف نظام الترقيم لديهم. بعد السلام جاءت المرأة تتطلب أن أتبنى قضيتها كوني كاتب عماني يهتم بقضايا الوطن. وبعد الاستماع إلى قضيتها تبين لي أن الأمر شخصي أكثر من كونه يخص الوطن الأم. ومع ذلك أصرت المرأة في شرح قضيتها وجوانبها التي ذكرت لي فيها أن الأمر وإن كان شخصيا في مبدأئه إلا أنه سياسي وقضائي أيضا، وأنه ومن باب انساني عليّ أن أتبنى موقفا من باب "انصر أخاك ظالما أو مظلوما". ففي قضيتي نصرني أكثر من 90% بحسب الاستفتاء الذي طرحه موسى الفرعي في موضوعه بسبلة عمان قبل الحكم عليّ. فلماذا يناصرني الكثير ولا أناصر أنا أحدا!!!
لم يكن التوقيت مناسبا لي أيضا في تلك القضية، لأنني انهمكت في التفكير في قضيتي التي كان مصيري سوف يتحدد بين فكي العدالة وقبضة الحكومة. فهي قضية أواجه فيها رئيس عمانتل والذي أصبح وكيلا للوزارة التي أعمل فيها، ويبدو أن له نفوذا وأشخاصا وراء تعيينه وإلا لما صار وكيلا في خضم الاتهامات التي كالها له "بوز ألن" وكذلك خبر وكالة "رويتر" بقيامه بالاستثمار في باكستان؛ تلك الدولة الدولة الفاسدة التي أدت إلى خسارة السلطنة ما يقارب الـ170 مليون دولار، فضلا عن وجود مجلس الوزراء بقامته وهامته وهو يحاكم شخصا آمن بحرية التعبير عن الرأي ووقف بجانب المواطن في برنامج ظن المواطن أنه سندا له، فقامت الحكومة ممثلة في مجلس الوزراء بوضع "ضوابط" سرعان ما أدت إلى اجهاض شعبية ذلك البرنامج بعدما تدخل مقص الرقيب وإبعاد المبدع خالد الزدجالي ليصبح البرنامج وكأنه "ما يطلبه المستمعون" أو ما يطلبه الوزراء - كما سماه أحدهم مؤخرا.
(15)
خلال السفر، أجد نفسي أقرب للقراءة والكتابة بسبب وجود "فراغ" في الوقت لدي استغله في تصحف الانترنت خاصة ان اللابتوب يكون متواجدا معي طوال الوقت. قادني الفضول للتواصل مع تلك السيدة التي وجدتها تلح على أن تطرح قضيتها أينما وجدت المجال لذلك. فقد طرحتها هنا في منتديات فرق، بل وفي الاعلام العربي والغربي. قررت هذه المرة التواصل معها خاصة أنني كنت في الولايات المتحدة والاتصال فيها رخيص برخص التراب، بخلاف عمانتل، عمانموبايل، النورس واللاتي "يخرفن" المتصل لما يقوم بإجراء مكالمة. كنت قبل أن أتواصل معها قد حضرت (ندوة الكلمة) التي رعتها سبلة عمان قبل يومين من الحكم عليّ في قضيتي مع الوهيبي ومجلس الوزراء. وكان من ضمن الحاضرين شخص بان منفعلا وهو ينتقد المنتديات بشدة، وأنها قامت بالتشهير به وزج قصته الخاصة مع زوجته، وأن على المنتديات أن تنـآى عن مثل تلك المواضيع. ويبدو أنه وجد الوقت مناسبا ليخرج مشاعره المشتعلة إزاء المنتديات التي تبنت بعضها قصة زوجته بالكامل، في حين تحفظت سبلة عمان على نشرها..
خلال الاتصال الهاتف مع الدكتورة "ماري الحريري" أو "الهام الحريري" كان الحديث الودي يدور في ذلك الجانب الانساني الذي يتمثل في أن الأم من حقها شرعا وقانونا أن ترى ابنها وتقضي الوقت معه. فإذا كان عمره أقل من سبع سنوات (كما هو الحال في في قانون الأحوال الشخصية العماني) فإن الحضانة للطفل الولد وللبنت لما تبلغ، وهذا يعني أن الدكتورة كان من حقها الحضانة، طبعا فضيلة القاضي يقدر أيضا أهلية الحاضن أو الحاضنة من حيث توفر السكن والقدرة المالية والقدرة العقلية وحتى الحالة الاجتماعية. فمثلا المراة سيئة السمعة أو الوالد السكير لا يمكن أن يمنحهما القاضي الحضانة حتى وإن كانا يستحقان من حيث سن الطفل. وكما عرفت بالنسبة لحال الدكتورة فإن أحد القضاة قد حكم عليها بـ"الجنون"، وبالطبع الجنون من الأمراض التي تفقد أهلية الحضانة، وكما عرفت أيضا أن فضيلته اعتمد على شهادة الشهود بجنون الدكتورة بدون أن يعتمد على تقرير طبي صادر من مستشفى أو جهة معنية بالأمراض النفسية (مثل ابن سينا أو مستشفى جامعة السلطان قابوس). وخلال حديثي معها لم أجد إلا كل "العقلانية" والهدوء النفسي. صحيح أنني لست طبيبا، لكن الجنون مرض يمكن أن يدرك "أعراضه" الشخص العادي، ويثبتها الطبيب النفساني تقريره..
(16)
عندما يتبنى الإنسان قضية ما فإنه بالتأكيد سوف يواجه العديد من العقبات التي تعترضه، قد ييأس ذلك الإنسان ويسلم أمره لله وللقضاء والقدر، وقد يواصل مشواره ساعيا لتحقيق العدالة في تلك القضية أو حتى الفناء من أجلها. وما أكثر القضايا التي يعاصرها الشخص، ولكن لسنا هنا بصدد الحديث عن قضايا سياسية وإنما قضايا إنسانية نجد أصحابها وقد ذهبوا أبعد مما ذهب الكثير للمطالبة بتلك الحقوق التي يرونها أنها مطلب إنساني يجب تحقيقه. ومن خلال تواجدي في عالم المنتديات وجدت ثلاث قضايا استمر فيها أصحابها يطالبون فيها مستخدمين كافة الطرق لكي يصل إلى ذلك المطلب الذي لم يتحقق لهم.
ولعل أهم وأشهر هذه القضايا التي أخذت المآخذ الكثيرة لها وعليها قضية أبو عماد والتي تظهر على السطح كلما وجد صاحبها الفرصة لتلك المطالبة. فكما هو معروف لدى كل مطلع أن ابنه توفي نتيجة خطأ طبي وأنه يطالب بفتح الملف للتحقيق فيه بيد أن هذا الملف قد اختفى، فلجأ أبو عماد الى المنتديات العمانية التي رحبت به في بدايتها لكن بعضها وجد أن الطريق مسدودا وأنه تجاوز بعض المنطق في الطرح في حين بقيت منتديات أخرى مستمرة في نشر ما يكتبه، أما القضية الثانية فهي قضية "الرباش الكبير" والذي يرى أنه على حق وأن القانون لم ينصفه في قضيته، وأن هناك من هو صاحب نفوذ في السلك القضائي قد حوّل البريء جانيا، وبقي الجاني حرا لا يردعه ضمير أو قانون، ومازال الرباش الكبير يكتب دون أن يفقد الأمل في قضيته، ومازال يتحلى بالصبر والحكمة في الطرح، وينتهز كل فرصة بل وكل موضوع ذو صلة بقضية انسانية يكتب فيها مداخلاته المثيرة، وهو أمر يثير الاعجاب وفي نفس الوقت يثير التساؤل حول قدرة النافذين في السلطة القضائية على عدم تقدير موقفه وعدم اعطائه حقه الذي يطالب به ابنته. وفي حين قام ابو عماد مصعدا قضيته إلى الاعلام الغربي والذي أدى البعض إلى استنكار فعله في حين أيده آخرين فإن الرباش الكبير بقيت كتاباته في أرض الوطن لكنه هو الذي هاجر الوطن، قد لا نعرف أين يتواجد ببدنه لكننا نعرف أنه يتواجد في المنتدى العماني بفكره والذي يصر على مواصلة قضيته ليتحقق له العدل ولو بعد حين، فدوام الحال من المحال سواء في الظلم أو حتى في العدل، فالحياة تحكمها نواميس ديناميكية تجرها نحن الخير تارة ونحو الشر تارة أخرى. قد يتنصر الظلم في أزمنة وأمكنة ويطول انتصاره بل ويفنى صاحب الحق، وقد ينتصر العدل من أول جولة أو محاولة.
أما القضية الثالثة فهي قضية تلك الدكتورة العربية المهاجرة من بلد أحببنا فيها جمالها في جوها وجمالها في أدبها وجمالها في شعرها وجمالها في غنائها وفي فنها؛ لبنان هي شمس العرب التي تغرب عندما تنفجر القنبلة والتي تشرق عندما نجد أن الديموقراطية العربية هي الأفضل في ذلك البلد المتناحر ايديولوجيا وسيسيوبوليتيكيا، ومع ذلك فهي البلد التي أخرجت لنا أيضا أعظم الشعراء والفنانين ورجال الأعمال. تلك الدكتورة التي هاجرت إلى كندا وإلى الولايات المتحدة وارتبطت بأحد من بلادنا يحمل الجواز العماني، وبالتالي له ما له من حقوق وعليه ما عليه من واجبات، فإننا نقف محايدين حول قضية انسانية أبعادها الأمومة والأبوة على حد سواء، فكعمانيين نقف صفا واحدا لا يهمنا مذهب أو أصل أو فصل نساند بعضنا البعض، وكعرب نقف مع بعض كلما نادى الواجب، وكبني الانسانية فالأب يظل أبا والأم تظل أما بغض النظر عن جنس الاثنين.
على أنني أجد نفسي هذه المرة وقد انحزت إلى الانسانية أكثر من الانحياز لجنسي العماني ولعروبتي، فالإنسان هو البشر الذي خلقه المولى عز وجل ليعيش أينما أراد العيش، فقد أمرنا ذلك المولى أن نسير في الأرض ونمشى في مراكبها. وإذا كانت الدكتورة ماري الحريري قد هاجرت بلادها وارتبطت بأحدى مواطني هذا البلد العزيز فإن ذلك حق شرعي ونظمه القانون أيضا. وعليه ما يبقى في الأمر كينونة ذلك الارتباط الشرعي وما خلـّفه من ارهاصات قانونية واجتماعية أدت إلى تشتت أسرة الكل يطالب بلمها. فالأب يطالب بابنتيه والأم تطالب بابنها، ومن بين البنتين والولد تتشابك الأمور لتصل إلى ذروتها في التصعيد خارج الحدود....
(17)
لقد حاولت الدكتورة ماري الحريري أن تصل بقضيتها إلى خارج القطر العماني، وقد نجحت في الخروج بها لكنها أخفقت في تحقيق مرادها وحلمها. فإن كانت الحكومات هي لخدمة الشعوب فهي تخدم جماعات وليست أفراد من ناحية أو ترى أن هناك ما هو أكبر من قضية يعتبرها بعض المسئولين "فردية" الطابع، أي أنها لا ترقى أن تكون مقياسا لأن تتدخل تلك الحكومة وتحمي مواطنها مما قد يتعرض له من إشكالات هم في غنى عنها. وهذا ما يمكن قوله في قضية الدكتورة ماري الحريري. فعندما صعدت قضيتها لتصل إلى الاعلام الغربي الفضائي والصحفي فإن الأمور لم تتغير بالسلطنة، قد تكون هناك محاولات شخصية من قبل بعض الأشخاص الذين لا يريدون "الشوشرة" لكن لم تكن تلك المحاولات لتحقق أي هدف.
قد يكون طلب الحريري بسيطا جدا؛ مشاهدة أو رؤية ابنها أو أبعد من ذلك وهو ضمه جنب أختيه، لكن هل يتخلى الأب عن ابنه أيضا حتى وإن كان له أبناء آخرون؟ على أن ذلك الطلب لم يستطع أن يحققه أحد لها حتى الآن!! في خلال التواصل معها هاتفيا فهي مستعدة أن تفعل الكثير من أجل ذلك الابن، وهذا أمر طبيعي، فنحن كأباء نضحي بالغالي والنفيس لأجل أولادنا. أتذكر مرة وأنا واقف بمطار بانكوك الدولي في رحلة تأخرت الطائرة فيها كثيرا فأخذونا إلى الفندق أنني تعرفت على شخص بوظيفة مدير عام بوزارة التربية والتعليم، وكيف أنه صرف أكثر من عشرين ألف ريال لعلاج ابنته التي لم تبلغ العاشرة بعد من مرض السرطان، وهذا الفاضل المدير العام لا يملك تلك السيولة لكنه اضطر أن يتسلف ويستقرض ويأخذ الاجازات براتب وبدون راتب لكي يكون بجانب ابنته الصغيرة بل وقد ينسى أطفاله الأصحاء الآخرين وحتى يحرمهم مما يمنحه لتلك الصغيرة، لكنها الانسانية في أحلى صورها تتجلى في التضحية بأغلى ما نملك كآباء وأمهات. ذلك الأب لم يستطع أن يترك ابنته تموت أمامه وهو "قادر أن يفعل شيئا" وإن كان ماديا يكلفه الكثير. قد تكبر تلك الابنة بعدما يعافيها الله سبحانه وتعالى فتتزوج وتعيش حياة خاصة بها، لكن والدها يكون قد أدى الدور الإنساني والواجب المطلوب منه.
حتى بالنسبة لـ"محمد" الذي يحمل قبيلة عمانية فإن أمه ماري الحريري تحرص كل الحرص أن تراه بجانبها، هو الآن لا يدرك بصغر سنه ذلك العراك، وقد لا يهمه عندما يكبر، فهو سوف يعيش حياة آخرى وفي عصر آخر غير عصر أبويه المنفصلين، لكن أمه تظل تصارع من أجله، وكذلك والده. إنه صراع النقيضين وصراع "بارادوكسي" يربح فيه الأبوان ويخسران في نفس الوقت. فانضمام الأبن إلى أبيه يعني خسارة أمه له، وانضمامه لأمه يعني خسارة الأب له. وفي كل الأحوال فإن القانون نفسه يظل عاجزا عن تحقيق مصلحة الابن نفسه إلا في الحدود المعقولة والممكنة. ولأن محمد قد تجاوز سن السابعة الآن فإن القانون يقف في صف الأب من حيث الحضانة ويقف في صف الأم من حيث حقها في أن تراه وتلعب معه وتحضنه وتقبله وحتى تهذبه وتؤدبه. هي تريد أن تقرأ له "حدودة" أو "قصة" ما قبل النوم، تريده أن ينام في حضنها حتى وإن كبر سنه، وتريده أن "يكبر" أمامها، وتريده أن ينطق بإسمها كل صباح وكل مساء، أفلا يريد الأب كذلك؟
وكأية أم حبلت بأولادها تسعة أشهر وأرضعته سنتين وسهرت الليالي تنام على هذا الجنب حتى لا يركلها في بطنها فهي أيضا تريد أن تشاهد ابتسامته عندما يفرح وصياحه عندما يزعل أو يطلب شيئا لا يحصل عليه. تريد أن تراه يهرب منها حتى لا تضربه، وتريد أن يستفزها في أعصابها عندما لا يسمع كلامها أو أوامرها. وكأية أم فرحت بقدومه فإنها تتمنى اليوم لتراه وقد انهى الثانوية وأنهى الجامعة وحصل على العمل المناسب وخطب وتزوج وأصبح هو الأب لترى أولاده، أفلا يقولون: أعز الولد ولد الولد!!!
(18)
على أن الدكتورة ماري لن تستطيع لوحدها أن تكسر القيود وتصعد الجبال الشاهقة التي تقف عثرة في طريق الحصول على ابنها محمد، فهو الآن "يكبر" بعيدا عنها، وهي لن تستطع أن تجبر السلطنة أو الولايات المتحدة على التدخل سياسيا لأجل قضية إنسانية، لكنها تواصل مشوار المطالبة كما يواصل أبو عماد والرباش الكبير. فهؤلاء الثلاثة يجمعهم عنصر واحد هو عنصر الولد المفقود؛ أبو عماد فقد ولده للأبد وإن كان الله قد عوضه في ذرية صالحة، لكنه خسر فلذة كبده التي لا يمكن أن ينساها، الرباش الكبيرة خسرة الابنة التي يتخيلها تكبر بعيدة عن حضنه، وماري الحريري خسرت ابنها الذي لا تستطيع العيش بدونه.
إن سألت أي من هؤلاء الثلاثة (أبو عماد والرباش والحريري) عن السعر الذي تطلبه لتعيد إليهم فلذات أكبادهم، فسوف يكون "شيك على بياض" هم مستعدون أن يدفعوا الغالي والنفيس لقضاياهم الإنسانية، بالطبع ابن ابي عماد لن يعود لأنه يرقد بين يدي الباري عز وجل، لكن أبو عماد سوف ينام وهو قرير العين عندما يتم التحقيق بشكل عادل وإنساني في قضية وفاة ابنه. هو يدرك أن الميت لا يعود لكن يدرك أن العدل يجب أن يتحقق. قد لا يستطيع وزير الصحة أن يحققه له، لكن عدالة الأرض وعدالة السماء ترفرف عاجلا أو آجلا لتقول كلمتها في قضيته الإنسانية. أما الرباش الكبير فسوف يعود إلى الوطن يوما ما يقبـّل ترابه الذي يعشقه ويقـبل خدي ابنته التي "وحشته" فاشتاق إليها كاشتياق الضمآن إلى الماء، أفليست الأبوة كتلة من المشاعر تنفجر كلما آن لها؟ أما الحريري فهي تريد أن تدفع ما يطلبه المطالبون؛ أن تدفع المال فلن تتردد وحتى أن تتوسل فلن تتردد، وحتى أن تـ"تتشيم" فلن تتردد. فقط أن يقوم أحدهم بإعادة إبنها إليها ليس من باب الحضانة إن لم يكن ممكن قانونا ولكن من باب الرؤية بعد الشوق والوله، فالحنان قد زاد والمحبة قد كثرت وعشق الأمومة يكاد يؤدي إلى التيه وليس الجنون. هذه الدكتورة ليست مجنونة في عقلها ولا في فكرها ولا في حياتها، فهي أستاذة جامعية قد ألفت الكتب بلغات العرب والعجم ومازالت على رأس عملها، لكن عشقها لولدها فيه من الجنون المتعقل ما يجعل الشخص ينبهر بإصرارها على مواصلة القضية حتى وإن كانت خارج الحدود..
(19)
إن قضية الدكتورة ماري الحريري ليست الأولى التي نجدها خارج الحدود، على أن هناك من يرفض رفضا قاطعا أن تكون قضايانا المحلية الإنسانية منها والسياسية خارج الحدود، أي أن نحملها معنا إلى قناة أجنبية أو صحافة غير عربية. شخصيا ترددت في أن أطرح قضيتي خارج الحدود لأنني أردت اختبار وطني الذي ناصرني ووقف في صفي. أما أبو عماد فهناك من ناصره وهناك من تهجم عليه عندما ظهر في قناة "الحرة" وعندما كتب في جريدة "وطن" الأمريكية، بل هناك من شتمه لمجرد أن أبي عماد "فكر" في كتابة قضيته في صحيفة اسرائيلية، هو لم يفعلها، ومع ذلك هوجم بشراسة وضراوة. وماري الحريري أيضا هوجمت بشراسة لأنها حملت قضيتها خارج القطر العماني رغم أنها أصلا غير عمانية وإن كانت محبة للشعب العماني وقد ارتبطت بذلك المواطن العماني. اعتبرها الكثير أنها "شهرت" بالسلطنة في المحافل الدولية وأنها تجرأت على الاتيان بفعل "مشين" عندما ذهبت إلى أمريكا لتطرح قضية أمريكا هي أكثر الدول – في نظرهم – انتهاكا لحقوق الانسان، فكيف يمكن لأمريكا أن تساعدها وهي التي تدعم الارهاب الاسرائيلي الذي يقتل الجنين في بطن أمه؟
على أن هناك تباين بين ما فعله أبو عماد وما فعلته الدكتورة ماري، فأبو عماد لجأ إلى الوطن العزيز مستخدما كافة الوسائل الممكنة لتنبي قضيته؛ لجأ إلى الوزراء فقابل أكثر من واحد منهم، رحبوا به كلاما لكن لم يفعلوا شيئا على الواقع، لجأ إلى جرائد الوطن والشبيبة والزمن وبالطبع عمان، لكنها صدت الباب في وجهه فلم يوافق مسئولوها على نشر قضيته، لجأ إلى المنتديات العمانية التي رحبت فيه في البداية لكن تحفظ بعضها فيما بعد، ورغم متابعة المسئولين لتلك المنتديات لكن أحدا لم يحرك ساكنا، كما لجأ أبو عماد إلى مجلس الشورى وإلى بعض أعضائه، وحتى أنه تم ذكر قضيته في إحدى جلسات المجلس، ومع ذلك لم يحرك أحد ساكنا. هنا سدت الطرق في وجهه وسنين عديدة وهو يحاول؛ ربما أكثر من عشر سنين يحاول أبو عماد أن تبقى قضيته في أرض الوطن، لكن كان كمن يحمل الرمل في "مشخل"، فما أن يحصل على بارقة أمل عند مسئول أو شخص ما إلا وسرعان ما يتبدد ذلك الأمل فيحسبه الضمأن أبو عماد ماءا..
أما الدكتورة ماري الحريري فإنها أخذت مسارا خالفها البعض ووافق عليه البعض الآخر، لجأت إلى المسئولين الذين اعتقدت أنهم "ذوي سلطة وذوي نفوذ" أخذت العهود والمواثيق على أن يرجع ابنها حتى "بعد أسبوع" كما وعدها أحدهم. لكن الأسبوع انتهى ولحقه الشهر ولحقته السنة فتملص ذلك المسئول وتهرب من وعوده، انشغل بشئونه الحياتية و"الدبلوماسية" كما انشغل مسئولون آخرون بأمورهم الخاصة. وكلما لجأت إلى أحدهم فإنها تجد خيطا من الأمل في كلامه وفي أقواله، لكن سرعان ما يحترق ذلك الكلام المعسول في أتون الحديث المظلل أو حتى الكاذب. فهناك رجال بأقوال فقط وهناك رجال يفنون أرواحهم وراء وعد قطعوه على أنفسهم، أفليس من صفات المؤمن صيانة العهد والوعد؟ أين إذن تلك الصفة الايمانية في هؤلاء القوم الذين وعدوا أمرأة واهنة طالبة المساعدة منهم؟
على أن الدكتورة أيضا تعيش في ذلك الحلم الذي يكون رومانسيا في ملامحه جلفا في واقعه، ومع ذلك يبقى حلما قابل للتنفيذ. فهي ليست "أحلام الفتى الطائر" تتبخر مع ملايين العواطف الجياشة، وإنما أحلام قد تتكسر في أرض الواقع لكنها قابلة للتحقيق، ومن ذلك أعنى أن في البلاد خير وأناس ذوي خير، مع ماري يقفون كأم تريد أن تقول لابنها: كم أحبك يا محمد وكم أتتوق إليك يا عزيزي، وكم أفرح برؤيتك يا حبيبي. لا يمكن أن تتصور يوما ماري الحريري أنها لوحدها كأم، ولا يمكن للأب أيضا أن يتنازل عن ابنه. هي سنة الحياة؛ لا نطلب من والد محمد أن ينتازل عنه، وبالتالي لا يمكن أن نطلب من ماري الحريري أن تتنازل عنه أيضا، فالعكس صحيح؛ بنات ماري هن أيضا لأبيهن. أفليس البنون زينة الحياة الدنيا وللأبوين؟
ختاما، في هذه القضايا الثلاث، لأبي عماد أن يتحقق حلمه وأمله في القيام بتحقيق عادل غير منحاز لأحد، ابنه عماد لن يعود لكن الحق هو الذي يجب أن يسدل الستار على قضية زاد أمدها على ثلاثة عشر عام. وللرباش الكبير، أفليس الحق هو الذي يجب أن يعم والعدل أن يحكم والنور أن يشع ليعود الرباش إلى الوطن العماني الكبير يحضنه ويحضن ابنته فيه؟ وللدكتورة ماري فإن مطلبها الإنساني جدير بالاهتمام من قبل أصحاب النفوذ وأصحاب الضمائر وأصحاب المشاعر الأبوية منها والأمومية!! الدكتورة ماري الحريري لا تطلب الكثير سوى رؤية ابنها من حين لآخر.
(20)
لقد حسموا المساءلة منذ زمن بعيد، فبداية الأسبوع هو الاثنين، أما نحن فما زلنا نناقش ونجادل في بداية الأسبوع، فقالوا أن السبت هو يوم اليهود فكيف نتشبه باليهود؟ وقالوا الأحد هو يوم النصارى فكيف نقلد النصارى؟ على الرغم من أن حياتنا أكثر ارتباطا بهم بشكل أو بآخر. أفلا نأكل من أكلهم، ونلبس من لبسهم ونركب سياراتهم ونتعطر بعطورهم وحتى حريمنا تتزين بزينتهم؟؟ دول اسلامية مثل ماليزيا واندونسيا تحاكي اليهود والنصارى، ودول عربية مثل المغرب والجزائر أيضا. ونحن الخليجيون انقسمنا حتى بداخل الدولة نفسها، فالقطاع الخاص وحتى شركات القطاع العام لديها (ويك أند) مختلف نوعا ما عن القطاع العام، والان أصبح السبت يوما معطلا تتعطل فيه البنوك وننتظر فيه يوم الأحد حتى يدخل الراتب ان تصادف يوم السبت، وتزاحمنا يوم الجمعة نؤدي فيه الشعائر بعد أن يكون بعضنا قد اختلى مع نفسه أو مع صديق له يؤدي نقيض ما قام به في اليوم السابق. أفلم أقل لكم أننا نعيش عالم البارادوكس!!!
ذلك اليوم الاثنين أتاني سائق الشركة حيث أقطن ليشق شوارع مدينة سياتل في حركة سير سلسلة لم تستغرق ربع ساعة رغم أن المسافة تتجاوز العشرين ميلا (أكثر من ثلاثين كيلومترا)، وفي مسقط حيث أقطن في الموالح وأعمل بالمطار فإنني أقترب من النصف ساعة في بعض الأحيان لأقطع مسافة لا تزيد على الستة كيلومترات. هل الخلل في تخطيط المدن لدينا؟ أم في حبنا في شراء السيارات الفردية؟ أم ثقافة مجتمعنا المتمثلة في عدم ركوب السيارات بشكل جماعي؟ أم رفضنا لفكرة النقل العام (الباصات)؟ أم حب الظهور عند ركوب سيارات فاخرة للبعض في حين لا يقدرون حتى على شراء بترولها؟ أم خليط بين هذا وذاك؟ وخلال المسافة والزمن الذي قطعه السائق لايصالي إلى مقر الشركة ورغم كثرة السيارات التي تمشي في أربع مسارات (سيدات) وخلال فترة تواجدي الذي تجاوزت الأسبوع إلا أنني لم أشاهد حادث سير كما أشاهده في السلطنة كل يوم خاصة أثناء الذهاب أو العودة من الدوام الرسمي. ونفس التسؤال: لماذا الحوادث لدينا مرتفعة جدا في حين لا توجد لديهم تلك النسبة من الحوادث رغم تضاعف وجود السيارات لديهم بمئات المرات؟
بخلاف ما يعتقده الكثير ممن لم يذهب إلى الولايات المتحدة فإن في شعبها (بالطبع ليس كله) من الطيبة ما تجعل الشخص يتفاعل معه بشكل رائع. فخلال فترة تواجدي مع أكثر من سائق للشركة فإن الحديث يبدأ وينتهي حول أمور شيقة. بالطبع أول سؤال من قبل السائق: من أين أنت؟ والرد معروف: من سلطنة عمان. فهمت، أنت من عمان بالأردن!! لا، أنا من عمان والتي تقع بالقرب من السعودية ودبي. هنا يعرف أين عمان.. أصبحت "دبي" أكثر معروفة من سلطنة عمان، وكذلك السعودية. لما نخبرهم عن "دبي" فيعتقدون أننا أصحاب الثروات وبالطبع أصحاب الجمال. وحتى عن السعودية يعلقون وبشكل ساذج في معظم الأحيان، هل أنت متزوج من أربع نساء؟ أحدهم سألني: هل تضربون زوجاتكم؟ يعتقد هؤلاء البسطاء من الأمريكان أن كل ما هو من عرب "الخليج الفارسي" إنما قادم من دول النفط والغنى. لا يصدقون أنه لدينا عاطلين ولدينا فقر ولدينا بيوت من طين. يعتقدون أننا نسكن في القصور ونقود سيارات "الرولس رويس"، وعندما أخبرت أحدهم أن سيارتي موديل 1997 فلم يصدق!!
(21)
ما إن وصلت باب الشركة إلا وأكملت إجراءات الأمن المعروفة، توجهت إلى حيث يتواجد مهندسو الطيران العماني، ما شاء الله شباب عماني في قمة الهمة والنشاط. إنه أمر يثلج الصدر عندما تجد العماني جنبا إلى جنب ذلك الأجنبي يتحدثون نفس اللغة الانجليزية الأدبية منها والفنية. بل أن العماني يناقش بشكل مستفيض كافة التفاصيل الفنية للطائرة. ولم لا فهذا العماني قد درس في أرقى مدارسهم وكلياتهم وقضى سنوات عديدة وسطهم، وتعلم علومهم، وها هو اليوم يمثل بلده فنيا وحتى ماديا في موضوع استلام الطائرة المتوسطة الحجم، وفي حين كان في ذلك اليوم مجرد فني أو مساعد لهؤلاء "الحمرين" فإن العماني اليوم أصبح ذو قدرة وخبرة فنية تضاهي خبراتهم، ولو أتيحت الفرصة لنا لما تخلفنا عن الركب. تركتهم في قاعتهم الكبيرة بأجهزة الحاسب الآلي المحمولة والوثائق والسجلات التي يجب مراجعة أدق التفاصيل. توجهت بعد ذلك إلى غرفة أخرى لإنهاء بعض الأمور. بعد ذلك عرفت أن الشركة (البوينج) قد نظمت لنا زيارة استطلاعية في مصنعها الخاص بالطائرات الكبيرة.
مساء ذلك اليوم كان اللقاء مع ابتسامة تلك المرأة التي شارفت على الأربعين. رأيتها تسلم على أحد العمانيين الذي بدى متفحظا بعض الشيء على مصافحتها، ويبدو أنها أدركت ذلك فسحبت يديها لتسلم على الزميل الآخر الذي لم يتورع في احتضانها بشكل عفوي، لا لشيء فهي تكاد تكون والدته وإنما تعرفه كما ذكرت فيما بعد، حيث سبق أن زار المصنع من قبل. ما بين شخص متحفظ على السلام على امرأة وشخص يسلم عليها بالأحضان حلقت ببصري إلى تلك المركبة التي تقودها تلك المرأة وسط الشوارع المربعة المسارات، فاستغرقت الرحلة قبالة الساعة من مكان تسليم الطائرات الجاهزة إلى مصنعها. أثناء الرحلة دار الحديث بيننا نحن العمانيين ونسينا أمر تلك "السائقة" التي لم تفارق الابتسامة وجهها رغم أنها علقت ضاحكة قائلة: لماذا تصرخون في الحديث وكأنكم تتقاتلون على شيء، فرد عليها أحدهم بل أننا نستمتع إلى بعض النكات، المسكينة لم تكن تميز بين الضحك والصراخ. أفهكذا تبدوا لهجتنا أمام الأجانب؟
استقبلتنا تلك الفتاة الطويلة النحيفة التي بانت عليها الملامح الهندية منذ أول وهلة. خاطبت نفسي قائلا: هؤلاء الهنود وراي وراي حتى هنا في هذا المصنع!! بعد جولة تعريفية في بداية المبنى قالت لنا أن هذا أكبر مبنى في العالم، انظروا إلى المساحة المفتوحة وإلى السقف المرتفع جدا وبدون وجود أعمدة!! نعم نظرنا إلى الأعلى حيث يرتفع السقف أكثر من ستة طوابق، لكن هل نظر الأمريكان إلى الذي رفع السماء بلا أعمدة؟ بعد ذلك قادتنا إلى مكان حيث نركب سيارات تحمل الواحدة حوالي خمسة أشخاص، فكانت هي التي تقود سيارة في حين آتى زميل آخر لها يقود بقية الزملاء العمانيين. تصادف أن جلست خلفها أستمتع بالمنظر المثير والمكان الذي ينبهر فيه الانسان بعظمة الانسان من ناحية وعظمة الخالق عز وجل من ناحية آخرى. ففي الوقت الذي يؤمن البعض بالخزعبلات فإن هؤلاء قد وظفوا العلم والتقنية ليصنعوا واحدة من أكثر الصناعات تعقيدا، ألا وهي صناعة الطيران التي تقل مئات الملايين من البشر سنويا. صحيح أن التصوير كان ممنوعا لكن العين رأيت والاذن سمعت والعقل انبهر. لم تكن هذه أول مرة أزور المصنع؛ حيث سبق أن زرته في بداية التسعينات وعندما كانت السلطنة عضوا ناشطا في ملكية طيران الخليج، لكن هذه المرة ظهرت طائرات جديدة لم أكن إلا لأراها في المصنع أول مرة. فهناك طائرات البوينج 787 والتي تسمى "دريم لاينر" والذي تأخر انتاجها لسنتين لكنها في قمة التكنولوجيا، ولما دخلنا في "بطن" تلك الطائرات رأينا من الأسلاك الكهربائية الدقيقة ما يمكن أن تطوف حول الجزيرة العربية بأكملها، فضلا عن استخدام أروع ما وصل إليه الإنسان من تقدم في تطبيق التكنولوجيا المتمثلة في صناعة ما يسمى "كومبوسيت ماتيريل - أي المواد المركبة".
(22)
كان الحديث مع تلك السمراء الهندية ممتعا، فقد قدم والديها إلى الولايات المتحدة لما كانت صغيرة، اكتسبت اللغة بسرعة والتحقت بالتعليم العام ثم الجامعي ثم تخرجت واشتغلت كمهندسة ميكانيكية بشركة البوينج والآن تعمل في العلاقات العامة تشرح للزبائن بعض الأمور الفنية التي تتعلق بالطائرات. بالطبع تحمل الآن الجنسية الأمريكية. قلت في نفسي: احنا لو فتحنا الباب لتجنيس الهنود الذين أتوا وهم صغارا لصرخت الأرض العمانية بما حملت على كاهلها من أكثر من نصف مليون هندي يوجد في السلطنة. يكفي أن نعرف أن عدد الوافدين يزيد على ربع السكان بحسب احصاءات وزارة الاقتصاد الوطني. لكن قد يكون الفارق بين الاثنين أن الولايات المتحدة تركز على الكفاءات عند التجنس خاصة في العقود الأخيرة. فمثلا لما اخترع جيري يانج الياهو وبهاتيا الهوتميل فإن الولايات المتحدة لن تتردد في منحهم الجنسية الأمريكية.
إن مسألة التجنس ليست أمرا سهلا على الكثير من الدول، ففي حين وجد في بعض الدول الخليجية ما يسمى "البدون" فإن السلطنة اتخذت موقفا أقرب إلى الصمت. ألا يوجد لدينا أشخاص ولدوا في السلطنة من أبوين غير عمانيين فعاشوا فيها لا يعرفون سوى مطرح ومسقط والسيب؟ فلا هم يستطيعون العمل وربما الدراسة في هذه البلد ولا هم يستطيعون الانتماء إلى وطن آخر قد لا يعرفون حتى لغته ولهجته. بيد أن الأمر ليس بتلك البساطة في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية تفضل ابن البلد أن يكون هو صاحب الحق في التمتع بخيراتها. فمن ناحية فإن وزارة الداخلية العمانية تضع طلبات التجنس والتي تتجاوز عشرات الآلاف على صوب لحين البت فيها بعد سنين طويلة. ومن ناحية أخرى يبقى مقدمو الطلبات هؤلاء في انتظار ما يرفعه الوزير إلى المقامي السامي لاعتماد قائمة الأسماء التي قد تضم أسماء عجمية لا نعرف كيف ننطقها. وشخصيا ولما أذهب إلى السيب أو سوق مطرح أرى من اللافتات التجارية أسماء أنطقها حرفيا وبشكل مضحك أمام هؤلاء الذين قدموا إلى السلطنة حتى ما قبل النهضة فاستقروا فيها، وفسلوا ونسلوا أبناء وبنات، فأصبحت ذريتهم عمانية في نشأتها، اجنبية في هويتها وربما ليست لها هوية أصلا.
المواطن قد يعترض على فتح باب التجنس لأن ابنه أقرب للمعروف من حيث تولي الوظائف والتمتع بالخدمات المتردية في كثير من الأحيان أصلا، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن مضمون التجنس في حد ذاته قد يكون مجحفا أيضا للبلد باعتبار أن الكثير من الذين قد يتجنسون إنما ينتمون إلى ديانات أو عقائد غير الاسلام كالهندوسية أو البوذية، كما أن لهم عاداتهم وتقاليدهم التي لا يمكن القبول بها في ظل مجتمع يحاول التجانس لغة ودينا وفكرة وثقافة. على أن هناك من يأتي ليقول أن شعبا كالولايات المتحدة هو مجموعة من الشعوب الأخرى التي قدمت عبر عشرات السنين لتعيش بشكل متجانس. فالعرب مثلا يزيد عددهم على السبعة مليون أمريكي، والمسلمون يزيدون على العشرين مليون، فضلا عن الصينيين والهنود واللاتينيين، وبالطبع الأفارقة والبيض. كلهم يصل عددهم الـ300 مليون نسمة، ومع ذلك هناك من التجانس والتعيش ما يجعل تلك البلاد قوة سياسية واقتصادية هي الأولى في العالم..
من جانب ثالث، التجنس أمر غير محتوم انساني، فلا يمكن أن تطرد مثلا عديمي الجنسية من بلادك، ولا يمكن في نفس الوقت أن تجعلهم ينافسون أبناء البلد في الوظائف. وكحل وسط في كثير من الدول تجدهم يعملون في التجارة وفي الأعمال الحرة التي يكون فيها المجال أوسع للعمل. وشخصيا وجدت المئات منهم في البحرين كوني قد عشت فيها ما يقارب السنتين، وكذلك في الكويت الشقيقة حيث يتجهون إلى الأعمال التي يتعفف عنها المواطن. والسلطنة تعاني كثيرا أيضا من الهجرات اللاشرعية أو المتسللين - كما يسمونهم. فالترحيل يتم اسبوعيا لهؤلاء الذين يحاولون دخول البلاد برا وبحرا متسللين إلى الأراضي العمانية والتي لا تخلوا منهم بشكل أو بآخر، وفي حال أن نجحوا في البقاء في السلطنة فإنهم سوف يظلون أبد الدهر فيها - كما حدث في الماضي لعيشوا وربما يتزوجوا، وتبقى الحالة معلقة قانونا وإنسانيا...
(23)
عرفته كاتبا ومحررا بجريدة عمان، كانت سنوات طويلة من الالتقاء في الكتابة والأدب. خلال تلك السنون كتب الكثير والكثير في حبه للوطن وفي تنمية الوطن وفي التقدم والرقي بالوطن، نشرت له الجريدة الكثير لكن حجبت أيضا الكثير، دخل مجال تأليف الكتاب، لكن الرقيب في وزارة الاعلام لم يجز له النشر، فبقيت كتبه حبيسة الأدراج ينتظر أن يتم تطبيق المادة (29) من حرية التعبير عن الرأي في نظام الدولة الأساسي، فهذه المادة معطلة منذ صدورها أصلا، فقد قيدوها بالقانون؛ وما هو القانون؟ إنه قانون عقيم قد هرم وشاخ يسمونه "قانون المطبوعات والنشر" والذي يعطي وزير الاعلام صلاحيات وممنوعات تتناقض أصلا مع قوانين أخرى ومع مواثيق ومعاهدات وقعتها السلطنة.
لم يكن أول شخص يشد الرحال خارج المظلة الاعلامية العمانية؛ المكتوبة منها والمرئية وحتى المسموعة، وجد أن موهبته الاعلامية قد اغتالتها زمرة من شلة القوم التي أرادت أن تجهض مواهب المواطن وتقتله بروتين بيروقراطي عقيم. ارتبط بمن وجد فيها تشاركه الفكر والأدب ومشوار الحياة فرحلت معه بعدما دخلت هي عالم الكتابة فأصبحت رئيسة تحرير مجلة عمانية ورشحت نفسها لعضوية مجلس الشورى الذي رأت فيه بصيص أمل يمكن أن ترفع صوتها قبل أن يتدخل من يضغط زر الميكروفون معلنا حجب الصوت عن السامعين. وفي حين تكون هي قد اعتزلت الأدب والسياسة إلى حين من الدهر يكون هو قد دخل عالما آخر أتاح له الظهور بعين أفقية ورأسية تطل على العرب أينما وجدوا، وبدون حصر في الأقطار العربية.
كان اتصال "محمد اليحيائي" بي هاتفيا في قضيتي التي واصلني فيها البعيد قبل القريب. ولأنه أيضا صاحب رأي وصاحب فكر فقد تبنى قضيتي كما لو كانت قضيته، فهي بالنسبة له قضية فاصلة في تاريخ الفكر السياسي والتنموي العماني: هل القضاء مستقل لدرجة قدرته على تطبيق ما نطق به المقام السامي أمام طلبة جامعة السلطان قابوس المتمثل في عدم سماح جلالته لمصادرة الفكر أبدا؟ أم أن مجلس الوزراء والذي يمثل الحكومة هو الذي يحكم ويتدخل في القضاء ليكون سلطانا عليه، ولا سلطان على القضاء؟ ذلك المثقف الذي هاتفني من واشنطن دي سي كان نعم الانسان المفكر المتزن الذي وزن قيمة الوطن والمواطن قبل أن يفكر فيما لو كانت العواقب وخيمة. نعم، كان هناك أكثر من تخوف حول قضيتي مفاده تشديد العقوبة عليّ، وكان لا بد من التفكير بصوت عال، لكن الصوت العالي قد لا يجلب إلا الضجة؛ إذن يجب أن نفكر بصوت التعقل وصوت الوطن وصوت المواطن الذي يجب أن يثق في حكومته أولا، وإذا كان الأمر خلاف ذلك فلكل حادثة حديث..
دعاني اليحيائي للظهور في برنامج "عين على الديموقراطية" ليتناول قضيتي بشكل إنساني أكثر منه سياسي، وشخصيا ترددت في الظهور رغم طلب العزيز محمد، فقد احتسبت إلى عدة أمور؛ من بينها الضجيج الهائل الذي يدور حول قناة الحرة كقناة أمريكية يشك الكثير في نواياها وان كانت تقدم الديموقراطية بشكل اعلامي جيد لكن ماذا وراء تلك الديموقراطية في الوطن العربي؟ ومن نافذة القول على ذلك أن الموالاة لأمريكا أمر محتوم للعرب حتى وإن ادعوا بخلاف ذلك، فسياسيا، فإن كافة حكام العرب أصبحوا بلا استثناء موالين لأمريكا. فالقذافي الذي كان يسب ويشتم الرؤساء الأمريكان ليل نهار فقد طلب العفو والولاء بعد الاطاحة بصدام حسين ليقدم لأمريكا أكثر من ملياري دولار في شكل تعويضات لضحايا لاكوربي، وهذا أمر لم يحدث اطلاقا في تاريخ الطيران المدني، فاتفاقية "وارسو" الموقعة عام 1929 كانت تفرض تعويضا لأهل ضحايا حوادث الطيران مهما كانت الأسباب مبلغا لا يزيد على الـ20 ألف دولار، وأتت اتفاقية "مونتريال" عام 1999 لتزيد المبلغ إلى 75 ألف دولار. كما فتح القذافي كافة ملفاته عن الأسلحة البيولوجية والكيماوية التي ينوي تطويرها، فضلا عن فتح أسواقه المنغلقة للتجار الأمريكان. وليس حسني مبارك أفضل عن أي رئيس عربي يتفاخر بالدعم الأمريكي الذي يتجاوز مليارات الدولارات سنويا، والدول الخليجية عازمة على ابقاء الولاء للولايات المتحدة بعدما تسلحت بأغلى الأسلحة من طائرات ودبابات وصواريخ تجاوزت حدود المعقول في منطقة يحيط بها الأمن والسلام، لكن تزرع فيها أمريكا الخوف من ايران ايضا. فضلا عن وجود القواعد الأمريكية ما هي معروفة بمكانها!!!
أما الشعب العربي فينظر إلى أمريكا نظرة فيها خليط من الحب والكراهية، يحبونها لعلمها وثقافة شعبها وتقدمها في مجالات الانترنت والبرامج والتطبيقات، ويكرهونها في دعمها المستمر لاسرائيل ولعدائها المباشر وغير المباشر وفي احتلالها للعراق وافغانستان وفي تنكيلها بالعرب والمسلمين في سجون أبو غريب وجوانتنامو، والشعب العربي ثار مرات ومرات في شكل مقاطعة للمنتجات الأمريكية لكن تلك المقاطعات لم تمنع من مواصلة أمريكا لدعم اسرائيل بالعدة والعتاد وعلى مسمع ومرأى من دول الأمم المتحدة التي تعترض على قرارات أمريكا من خلال ذلك المجلس الأممي فترفع أمريكا حق الفيتو في وجه المجلس. والعمانيون وكشعب عربي مسلم ساهم في المقاطعة وحتى قام بالمظاهرات السلمية التي كانت خجولة وراء تشدد مبرر وغير مبرر من الجهات الأمنية التي تحافظ على الأمن المستتب وتمنع الفوضى لكن قد تكون هناك مبالغة في بعض الأمور.
ولذا فقد كان ردي على ذلك العماني المبدع اليحيائي آنذاك بأنني انتظر الحكم العادل من القضاء العماني ليقول كلمته والتي يجب أن تنطلق من منظار المصلحة الوطنية أيضا، فخروج قضيتي إلى الاعلام الخارجي الأمريكي خاصة يعني احداث "شوشرة" كان بمكان المامها من الداخل وقيام مجلس الوزراء بسحب القضية، لكن بمجلس الوزراء أكثر من وزير رفض ذلك بل وتعنت برأيه، ربما لأنه يريد أن "يؤدب" علي الزويدي الذي أزعجه في يقظته وفي منامه، والذي اعتدى على "خصوصية" ذلك الفكر الوزاري التقليدي الذي جعل المواطن يعيش في ضبابية مغلقة في عصر الانفتاح العالمي الذي دخلت فيه الانترنت ودخلت فيه قناة "الحرة" في مجلسه وحتى غرفة نومه....
(24)
قررت أن أتصل بمحمد اليحيائي أثناء تواجدي بسياتل، فقد مرت شهور عديدة منذ آخر اتصال قام به هو بعدما وعدته بالتفكير في الظهور في قناة الحرة، لكن رأيت انه ليس من صالحي أيضا أن أظهر في ذلك البرنامج (عين على الديموقراطية) خاصة أن نظرية التآمر والتخابر مازالت تعشعش في رأس أكثر من شخص عادي أو حتى مسئول حكومي. ومع ذلك اتخذ اليحيائي مسارا آخر لتبني قضيتي عندما استضاف مجموعة من الناشطين سواء من منظمة "الخط الأمامي" أو لبعض العمانيين الذين ظهروا بشكل لم يسبق له مثيل، فها هو "سالم آل توية" يتحدث وبكل جرأة عن الفساد وعن حرية التعبير عن الرأي بالسلطنة لدرجة أنني اعتقدت أنه لن ينام تلك الليلة إلا في القسم الخاص بشرطة عمان السلطانية الذي تشرفت بالمبيت فيه (11) يوما. لكن عندما اتصلت بسالم فيه وجدته كما هو لم يتغير ولم يتعرض له أحد، ربما عامل الخوف الذي زرعه البعض فينا من أن الذي يتحدث فسوف يلاقى من الويل والبلاء ما لا يجعله يفكر مرة أخرى في الظهور في أي برنامج خارجي يعني بالشأن المحلي، فأبو عماد وكذلك طيبة المعولية وكذلك باسمة الراجحية ظهروا في تلك القناة، وهم يمارسون حياتهم كما هي. إذ لم يساقوا في "جونية فلفل" معصبي الأعين ولم يتلقوا التهديد والتوبيخ والصفع. ومع ذلك فإن بداية دخول الانترنت خاصة أيام سبلة العرب شهدت من الاعتقالات والتحقيقات والتعهدات ماجعل من أمثال "داهية العرب" و"قاهر الظلام" و"حنفي الأبهة" و"أبو تركي" و"أبو يحيى" و"محمد بن زاهر" يهجرون الساحة الالكترونية للأبد ليتم وأد ذلك الابداع والقلم الساخر الذي سخرته المنتديات العمانية، ففي النهاية هم مواطنون أغلبهم في بداية مشوار حياته ومحتاج لأن يعيش حياة أفضل بعيدا عن زيارات آخر الليل. أما اليوم فقد تغير الأسلوب البوليسي في الاستدعاء والتحقيق بشكل أكثر تحضرا وأكثر قانونية مراعاة لقانون الاجراءات الجنائية وربما لجان حقوق الانسان التي لا تتردد في أن تكتب وتنشر ما يصل إليها من أنباء.
والحديث مع أي مخضرم من مخضرمي الاعلام والأدب يطول ويجول في سياقات ومساحات شاسعة كلها تنصب في مسار وتاريخ الكلمة الحرة التي اغتيلت كثيرا في السلطنة، فوزارة الاعلام وعلى رأسها الرواس بقيت تحجب الحقائق بشرائها أقلاما كانت حرة يوما ما لكن المال سرعان ما اشترى النفوس؛ أفلا تغير الفلوس النفوس؟ كم من مثقف عماني نطق قليلا فأعطي كثيرا، برع في السرد والوصف فذهب إلى مجلس الدولة أو إلى كرسي الوكالة (أي صار وكيل وزارة) أو كرسي الوزارة، ولنا أمثلة في الأستاذين الكريمين أحمد الفلاحي وحمود السيابي. وكم من مجلة أجنبية تحدثت الكثير والكثير. ولما فاحت الريحة وأتت سبلة العرب فقد شن العديد من أصحاب الأقلام الحرة مطالبين الرواس بإخراجه من كرسي الوزارة لكن الرواس لم يخرج بعد تعيين تلميذه الذي رباه منذ أن كان رئيس تحرير جريدة عمان، فالراشدي ترعرع في المدرسة الرواسية التي كانت لا تتورع في أن تدخل اعلاميا السجن وبامر من معاليه، ولما أتى حمد الراشدي فإنه هو الآخر لم يتورع في أن يمنع محمد الحارثي أو عبدالله الريامي من الكتابة في الصحافة العمانية، وما صاحب الراشدي هو عبدالله الحوسني الذي ومنذ أن كان معلقا رياضيا فقد عايش القفول الفكرية الاعلامية ليصبح مديرا عاما ومن ثم وكيلا للاعلام ويستدعي الدكتور محمد العريمي ليمنعه عن المشاركة في أية ندوة فكرية بعدما كان ضيفا في ندوة الكلمة وفضاءات الحرية. كما لم يتورع الحوسني أيضا في الاحتكاك المباشر مع المبدعة بسمة الراجحية ويتصادم معها حتى على المستوى الشخصي.
هذه المرة فتح محمد اليحيائي الملف من جديد؛ دعاني للظهور في قناة الحرة ليس للتحدث عن قضيتي ولكن للتحدث عن المدونات والتجربة التي يعيشها الكثيرون، على أن يتم التركيز على بعض النقاط التي تخدم الكلمة الحرة التي ترد من خلال تلك المدونات، وبعد شد وجذب وافقت في الظهور في ذلك البرنامج (عين على الديموقراطية)، وقد تم الاتفاق على أن يكون هناك بث مباشر من خلال احدى الاستديوهات من سياتل ليتم ربطه مع الاستوديو الرئيسي في مدينة واشطن العاصمة (دي سي). كان الاتفاق أن أتجه الى مكان الاستوديو القريب من فندقي بحسب الخارطة التي تلقيتها بالايميل من خلال جوجل ايرث وذلك في الساعة السادسة إلا ربعا صباحا (بسبب فارق التوقيت بين سياتل وواشنطن بثلاث ساعات). جهزت نفسي واتصلت في الصباح الباكر بالاستقبال بالفندق على أن يقوموا بالاتصال مع شركة الاجرة، وبالفعل كان السائق الذي بدا من لهجته أنه مهاجر نيجيري مسلم. سألني عن اسمي فأخبرته. لما أوصلني إلى العنوان الذي كتبته في ورقة صغيرة لم أجد اسم المبنى ولا حتى رقمه بالضبط وإنما وجدت الأرقام المئوية وليست الأحادية أو العشرات. وبعد عراك معه كونه لم يدلني على العنوان بالضبط قال لي أنه مسلم وأن المسلم لا يكذب، تمنيت في تلك اللحظة لو يكون كلامه صحيح وهو أن المسلم لا يكذب! خرجت من التاكسي بعدما وجدت العداد وهو يحسب ونحن كنا واقفين أصلا على أمل أن استدله بنفسي. بحثت في كل عمارة قريبة وفي كل محل، بل وسألت من كان خارجا في ذلك الصباح البارد والمظلم نوعا ما، فلم أجد أحدا يدلني عل العنوان. وعلى مدى أكثر من نصف ساعة وأنا أبحث عن العنوان فلم أجده. اضطررت أن أعود إلى الفندق مشيا رغم البرودة بسبب عدم توفر سيارة أجرة في ذلك الوقت على الشارع العام. لم يكن لدي هاتف الاستوديو ولا هاتف اليحيائي ولا حتى هاتفي لأنني اعتقدت أنني سوف اصل الاستوديو بكل بساطة.
هل كان القدر يريدني لسبب آو لآخر ألا أظهر في قناة الحرة؟ اتصلت باليحيائي بعد ساعات، لم يخبرني بشكل مباشر بأنه استاء لعدم ظهوري بالبرنامج المباشر، فقد كان يحضر مفاجأة لظهوري أمام المدونين العمانيين من أمثال معاوية الرواحي، فضلا عن تكبد القناة مئات الدولارات وربما الآلاف لاستئجار فترة البث المباشر عبر الاقمار الصناعية، لكن ولما اتصلت به فقد بدأ بالسؤال عن صحتي وعما إذا كان قد أصابني مكروه لا قدر الله، لم يكن يهمه الاحراج والخسارة بل كان همه سلامتي خاصة في الصباح الباكر الذي قد لا يخلوا من الجرائم. كنت عفويا معه، فلم أكذب ولا أخال أنه كذبني أصلا!! ومع ذلك جلست ذلك المساء أفكر عن القدر الذي ضرب لي الحدث بذلك الشكل؛ كيف صادف أن أتى إلى الفندق سائق مهاجر مسلم لا يعرف عناوين المدينة كثيرا بل طلب مني أن أدله على المكان، ونظرا لضيق الوقت فلم يكن لدي المجال أن أفعل شيئا آخر، فالارسال المباشر مرتبط وبالدقيقة بمواعيد مع استضافة الشخصيات من عدة أماكن في أنحاء العالم. فأي تأخير لذلك الضيف يعني ضياع فرصته للظهور.. ومع ذلك استمر الاتصال بيني وبين محمد اليحيائي لحين غادرت الولايات المتحدة ونحن أصدقاء قررنا التواصل فيما بيننا كلما سنحت لنا الفرصة.....
(25)
كعادة الشركات، تقوم بتقديم الضيافة لزبائنها ليشعروا وكأنهم في بيتهم، وقد كنت ضيفا عندهم. غير أن بعض أنواع الضيافة تتجاوز الأمور القانونية خاصة عند مناقشة شراء أو الدخول في صفقات بعشرات أو حتى مئات الملايين من الدولارات. وتلك الضيافة غير القانونية أثارت ضجة هائلة عندما أصدر الكونجرس قانونا عام 1977 (تم تعديله عام 1998) يسمى " قانون ممارسة الفساد الأجنبي The Foreign Corrupt Practices Act" والذي في مضمونه يمنع قيام الشركات الأمريكية بدفع رشاوى أو الهدايا للمسئولين الذين يمثلون المؤسسات أو الحكومات الأجنبية بغرض فوز الشركات الأمريكية بعقود أجنبية مع هؤلاء المسئولين، أو الاستمرار في القيام بأعمال حالية، أو حتى قيام الشركات الأجنبية العاملة في امريكا برشوة الأمريكان أنفسهم. إن أمور الفساد الأجنبي قد تتمثل فيما يلي:
أ) التأثير على المسئولين لاتخاذ قرار معين يكون من ضمن سلطاته أو قادر على تمرير ذلك القرار، أو ذو صلاحية لالغاء أمر مخالف أو الحصول على مصلحة خاصة.
ب) حث المسئول الأجنبي على استخدام صلاحياته مع حكومته للتأثير على اتخاذ قرار من شأنه تمرير موضوع قد يكون بشكل مخالف. وهناك العديد من الأمور التي تطرق إليها القانون والموجودة على الوصلة التالية:-
justice.gov/criminal/fraud/docs/statute.html
إن الضجة التي أثارتها الشركات الأمريكية وقوة اللوبي لديها تتمثل في أن ذلك القانون هو بمثابة تعطيل للمصالح الأمريكية في الخارج، فالشركات الأوروبية تقدم الرشوة للمسئولين في أفريقيا وآسيا والدول العربية ودول أمريكا اللاتينية، ويعني ذلك ان الشركات الأوروبية هي التي سوف تفوز بعقود المناقصات والمشاريع العملاقة في حين تبقى الشركات الأمريكية مقيدة بذلك القانون. وفي مجال الطيران فإن أحد أسباب نجاح شركة الايرباص هو قيامها برشوة عشرات المسئولين في الدول العربية (رشوة وزير المواصلات السوري الذي انتحر بعد اكتشف الفضيحة) ورشوة الهنود والصينيين والافارقة. فإما رشوة هؤلاء المسئولين الأجانب للحصول على الصفقات أو التقيد بالقانون. ولقد أثارت مؤخرا ضجة قيام عملاق صناعة الطيران البريطانية (British Aerospace) برشوة المسئولين لتمرير صفقات بمئات الملايين من الدولارات، وبخلاف الصحافة لدينا، فقد نشرت كل من "دايلي مايل" و"الجارديان" وصحف بريطانية أخرى مقالات حول مزاعم فساد تلك الشركة العملاقة إزاء الصفقات مثل "صفقة اليمامة" التي اشترت السعودية من خلالها مجموعة من الأسلحة بمليارات الدولارات. وقد قام "مكتب الاحتيالات الخطيرة Serious Fraud Office" بالتحقيق في الأمر ومزاعم قيام تلك الشركة بالقيام برشاوى المسئولين في تنزانيا وجمهورية التشيك وجنوب أفريقيا، بخلاف تحقيقات الفساد التي تطال مسئولينا والتي لا نعرف عنها شيئا إلا إذا تم نشره في الصحف الأجنبية، كما هو الحال في قضية "اركيسون" والتي كان فيها وزير البريد والبرق والهاتف طرفا.
dailymail.co.uk/money/article-…legations-face-trial.htmlguardian.co.uk/world/2009...s-fraud-office
(26)
لقد كانت ضيافتي في شركة البوينج لتصنيع الطائرات عبارة عن دعوة لحضور حفل عشاء. كان الاتفاق على أن يأتي سائق الشركة ويمر عليّ الساعة الخامسة والربع مساء، لكن وبسبب زحمة العمل لإنهاء اجراءات تسجيل الطائرة التابعة للطيران العماني الجديدة (بقرطاسها) فقد بقيت مع الأخوة حتى ما بعد الخامسة والنصف في ذلك المساء. قام السائق بإنزال كافة الأخوة إلى فنادقهم وكنت الأخير، قام بإنزالي على أن ينتظرني أمام الفندق لأجهز نفسي. في غضون ربع ساعة كنت قد استعدت للذهاب معه وأخذ بقية الأخوة. كان المكان بعيدا، وقد خرجنا من مدينة سياتل لنتجه إلى ضواحيها، وفجأة يأخذنا السائق إلى مكان مرتفع شارعه ملتوي وكأنك تتجه إلى منتجع بر الجصة حيث يقطن الهوامير هناك. بعدما أنزلنا السائق استقبلنا بعض موظفي شركة البوينج من بينهم تلك الفتاة التي لم تتورع في الحديث عن كلبها بمناسبة أو بدون مناسبة، وذكرت في سياق حديثها أنها لن تستطع أن تبقى في حفلة العشاء ما بعد الثامنة مساء بسبب ضرورة ذهابها إلى المنزل لإطعام ذلك الكلب!!
طلب أحد الموظفين أن نذهب إلى الفناء حيث يوجد نادي الجولف. بصراحة كنت أشاهد ملاعب الجولف في السينما أو في التلفزيون فقط، ولم أدخلها قط؛ ربما لعدم ممارستي لأي نوع من أنواع الرياضة بعدما كبرت الكرش، وربما لأنني لا أفهم هذه الرياضة التي تكلف ملايين الدولارات في الاشتراك السنوي فيها، فبحسبما قرأت فإن العضوية في أي نادي للجولف باليابان يكلف أكثر من مليون دولار سنويا، هذه الرياضة الغريبة الأطوار لم أجد فيها اية متعة، فماذا يعني أن يقوم أحدهم بضرب كرة صغيرة لا يتعدى حجمها حجم ليمونة صغيرة ويدخلها في ثقب صغير في الأرض!! بالطبع لابد أن أظهر أنني شخص متمدن، فمسكت مقبض الكرة وعبثا حاولت ادخالها في ذلك الثقب. وحتى لا أجعل نفسي أضحوكة تعللت بأنني مضطر لأن أذهب إلى دورة المياه لقضاء الحاجة...
تأملت ذلك المنظر الشائع من الأراضي الخضراء التي تم قص "حشيشها" بعناية تامة، والأرض لم تكن منسبطة تماما، بل كانت متمايلة وسط تلة من التراب المرتب بشكل يبدو أن تكلفته لم تكن بسيطة، فضلا عن وجود سيارات صغيرة وأدوات للعب يستخدمها الأثرياء لبعثرة فلوسهم التي يبخلون بها على السائل والمسكين كلما طلب شيئا منها. كنت قد قرأت مقالا في العدد الخامس من مجلة "أجنحة عمان" التي تصدرها الطيران العماني. فالمقال والذي كان بعنوان "درة ملاعب الجولف" يتحدث عن مشاريع الجولف في السلطنة والتي أصبحت تتجاوز الـ(250) مليون ريال عماني. قلت في نفسي وأنا أقرأ ذلك المقال: ذلك المبلغ يكفي لانشاء عشرات الجامعات والكليات التخصصية في السلطنة. هل وصل بنا الترف لكي ينفق أغنياؤنا ذلك المبلغ في مشروع يكاد يكون فاشلا بسبب حرارة الجو المرتفعة والرطوبة التي "تطفش" الشخص الذي يريد ان يلعب في الهواء أو العراء!!! كما أن المقال يتحدث عن ذلك المصمم العالمي واسمه "بول توماس" ليصمم ملعب الجولف العماني. وما أثارني في المقال أيضا قول كاتبه أن محبي الجولف بالسلطنة استقبلوا هذا الحدث الرياضي "بسعادة عارمة" كونه مجهزا بأعلى المقاييس العالمية ، ويشتمل على وحدات سكنية فخمة وبه نادي ريفي وفندق بمستوى خمس نجوم، بالإضافة إلى مرافق لبيع أدوات الجولف، وإنشاء أكاديمية تعليمية لرابطة الجولف للمحترفين. وبدلا من أن ننشيء كليات فنية تخصصية فإن السوق العماني بحاجة إلى أكاديمية تعلمنا كيف نلعب الجولف مع الأغنياء.
تذكرت أيضا نظرية "ماسلو" للاحتياجات البشرية، فالسلطنة بحاجة إلى الأساسيات وأهمها التعليم والصحة والمسكن والمأكل، في حين تسعى بعض الجهات الحكومية وبعض رجال الاعمال في ترفيه علية القوم بإنشاء ملاعب الجولف في مرتفعات غلا وكذلك في مدينة الموج والمدينة الزرقاء التي لم تنشأ أصلا إلا للهوامير الذي تاجروا فيها قبل أن يسكنوها أصلا. فليس للعمانيين أن يسكن كثير منهم فوق مياه البحر التي تصيب الشخص بالرطوبة العالية خلال فترة الصيف الطويلة. ولقد استغربت وأن أقرأ تلك الأرقام وكأنها تخرج من جيب الهامور أو جيب الوطن لذلك العائد المادي المجزي أو ربما المخزي الذي سوف يتناثر هباء وضياعا للمال العام والخاص. إذا كانت الدول الغربية قد صنعت ميادين الجولف فلأنها وفرت البنية التحتية لها، في حين تبقى الكثير من مدننا وقرانا وهي تنتظر تلك البنية التحتية، ولأنني أسكن خلف "ستي سنتر" أي في مسقط فإن الشوارع الداخلية لمنطقتي السكنية لم يتم رصفها إلا مؤخرا وبعدما أتى رئيس البلدية الجديد ليصلح ما أفسده سلفه الذي ركز على مصالحه الشخصية وإرضاء علية القوم في شوارعهم التي تصل منازلهم قبل أن تكمل هؤلاء المنازل البناء....
(27)
كنت قد تعرفت على صاحبة الكلب من خلال التقائي بها في شركة البوينج كونها المهندسة المعنية بتنفيذ كافة الملاحظات التي يتطرق إليها الزبائن القادمون من شتى أنحاء الكرة الأرضية. كانت في قمة الحركة، ورغم أن شكلها الذي يوحي بالشذوذ المتمثل في قصة شعرها وملابسها الأقرب إلى الرجال إلا أنها تمتلك روح الدعابة والابتسامة ما يجعل أيام العمل الطويلة التي تمتد إلى الساعة السادسة مساء ممتعة. فبعد الانتهاء من لعبة الجولف دخل الجميع إلى صالة الطعام، وقد كان هناك بعض الوقت للحديث الشيق معها. كان أحد الزملاء "الملتزم" قد حاول أن يتحاشى الحديث معها ربما معتقدا أن مثل هذه الأحاديث لا تجوز مع الفتيات وإن كان الحديث عاما، وحتى عندما أتى الأكل فقد وجه سؤالا إلى "الجرسون" قائلا له: هل هذا الدجاج حلال؟ المسكين لم يفهم كلمة "حلال" فرد عليه بكل سذاجة: نعم إنه أكل طيب!! هل بالفعل لا يجوز الحديث مع امرأة أمام الجميع؟ وهل لا يجوز أكل "أهل الكتاب" من لحم ودجاج؟
كنت قد سألتها عن سبب اهتمامها المبالغ بذلك الكلب الذي يأخذ من الوقت وربما مالها الشيء الكثير، ردت علي قائلة بأنه أفضل صديق لها خاصة في محنتها التي استغرقت طويلا لكي تتجاوزها. قادني الفضول لسؤالها عن نوع المحنة، فردت بأنها كانت مصابة بسرطان الثدي، ولم تخجل في أن تضع يدها على ذلك الثدي الذي تم استئصاله في البداية، لكن مع العملية التجميلية المتقدمة ومع وجود مادة السيليكون فقد عاد إلى حجمه الطبيعي. حديثها ذكرني بذلك المرض الذي دخل علينا مع دخول الحضارة ودخول المواد الكيماوية ودخول أمور لم تكن معروفة مثل الاشعاعات الصادرة من أجهزة التلفزيون والكمبيوتر والميكرويف وحتى المحولات الكهربائية القريبة من بيوتنا.
تذكرت معاناة خالتي التي ربتني مع المرحومة والدتي وكيف كانت تعاني من سرطان المعدة الذي قضى عليها في فترة لم تتجاوز الشهرين، فقد أحست بالآلام فذهبت إلى مستشفى نزوى ليعطوها "الباندول" أقراصا تلو الأخرى في كل مرة تذهب إليهم شاكية من المرض، ولما اشتد الحال وأصر الابن على إجراء المزيد من التشخيص فقد اتضح وجود السرطان لديها في المرحلة الرابعة وهي المرحلة المتأخرة التي لا ينفع فيها العلاج، ذهب بها زوجها وأحد أبنائها إلى الهند على أمل أي يقول الدكتاترة الهنود في بلادهم بخلاف ما قالوه في بلادنا، لكن كان الرد السلبي نفسه: لا يمكن علاجها حتى بالعلاج الكيماوي لضعف حالتها البدنية وتقدم المرض كثيرا. بعد جهد واتصالات عديدة حصلت على مقعد مستشفى السلطاني لتمضي أسابيع قليلة تعاني من ذلك المرض، أتذكر آخر كلمات خالتي وهي تقول لي أنها تشعر بالمزيد من الاعياء والتعب. لم أكن أعلم أنني لن أراها مرة أخرى على قيد الحياة، فيأتيني الخبر كالصاعقة بوفاتها بعد يومين فقط من وداعي لها. لم تعاني طويلا كما يعاني الكثيرون من المرضى ولسنون طويلة، رحمها القدر في معاناتها القصيرة لتعود روحها إلى بارئها.
في لقاء صحفي أخير، أشار سعادة وكيل الشئون الصحية أن السرطان يصيب ما لا يقل عن ألف شخص بالسلطنة سنويا، كما أن احصاءات وزارة الصحة تشير إلى أن اصابات النساء بالسلطنة في المعدة تتجاوز العشرين سنويا، في حين تبلغ اصابات الثدي أكثر من مئة حالة. وقد وصلت إجمالي اصابات النساء بالسرطان عام 2007 أكثر من (400) حالة، وزادت اصابات الرجال العمانيين بثلاث حالات فقط عن النساء. ومع زيادة مؤسسات المجتمع المدني فقد تسأست "الجمعية الأهلية للتوعية بالسرطان" والتي تهدف إلى خلق مجتمع واعي يدرك مخاطر ومسببات ذلك المرض الذي قد لا يتم اكتشافه في وقت مبكر يمكن علاجه آنذاك، فيمرض الشخص ليذهب الى المراكز الصحية ليحصل على "الباندول" في حين ينتشر المرض بسرعة فيفتك بالخلايا المقاومة، ومتى تم التشخيص بشكل سليم يكون المرض قد استفحل وتكون الحالة قد استعصت، فلا ينفع العلاج آنذاك..
ocancer.org.om/arWebsite/arMain.aspx
(28)
إذا كانت تلك المهندسة الأمريكية التي أصيبت بسرطان الثدي تعتبر أن الكلب هو الشخص الوفي الذي وقف في محنتها، فهي من بين (300) مليون أمريكي يقومون برعاية ما يقارب (75) مليون كلب، بحسب احصاءات جمعية الرفق بالحيوان الأمريكية US Humane Society فهناك بعض الأرقام المثيرة عن الكلاب في أمريكا:-
* تمتلك (39%) من الأسر الأمريكية الكلاب.
* نسبة (63%) من مالكي المنازل يمتلكون كلبا واحدا على الأقل.
* نسبة (25%) يمتلكون كلبين.
* نسبة (12%) يمتلكون ثلاثة كلاب.
* ينفق الأمريكي (219) دولار (أي حوالي 85 ريال) في السنة لأخذ كلبه لتلقي العلاج في العيادات البيطرية.
أما موقع Marketresearch.com فإنه يذكر أن ايرادات قطاع الكلاب والقطط للعام 2008 تجاوزت الـ(15) مليار دولار، والأرباح لوحدها شكلت أكثر من (47%)، وفي حين بلغت السلع المستوردة للكلاب بقيمة زادت على (367) مليون دولار من (26) دولة فإن الصادرات تجاوزت مليار و(200) مليار دولار إلى (109) دولة.
ألا تدعو تلك الأرقام للتأمل؟ فبعملية حسابية بسيطة نجد أن الأمريكي ينفق مئات الدولارات على كلابه وقططه، في حين يوجد ملايين البشر في العالم من يعيش تحت خط الفقر، أي أقل من دولار في اليوم (أقل من 400 بيسة). أحيانا يقود ذلك الوضع إلى التأمل: ما هي قيمة الانسان أمام الانسان؟ وما هي قيمة الكلب أمام الإنسان؟ أتذكر أحد الأفلام الساخرة للمستر "بين" الذي صوّب "الحرامي" فوهة البندقية على رأس ملكة بريطانيا طالبا منها التنازل عن العرش الملكي، فرفضت بل استعدت للتضحية بحياتها من أجل ذلك العرش. طرأت على ذلك الحرامي فكرة ذكية وهي تصويب البندقية على رأس الكلب الصغير المدلل التي كانت تحضنه الملكة، فتنازلت عن العرش في الحال.. إنه موقف كوميدي ساخر لهؤلاء البشر الذين يتنازلون عن العرش ولا يتنازلون عن حيوان نجس يلهث ويلعق!!!
لديهم: الكلب أفضل صديق للإنسان A dog is a man's best friend. فهم يعتبرون ان الاخلاص يأتي من ذلك الحيوان، أما الانسان أو الصديق فليس فيه ذرة اخلاص. بالطبع نحن اليوم لا يمكن أن نتبنى ذلك الفكر، لكن المدنية التي لا تجعل حتى الجار يعرف جاره قد تجذب لنا نفس الفكر. وبالمناسبة، فسوق الكلاب لا بأس به في السلطنة. اذهب الى "سابكو" أو "مركز البهجة" لتجد الكلاب وهي تباع بمئات الريالات العمانية، واذهب إلى "اللولو" أو "كارفور" لتجد طعام تلك الكلاب تباع في أرففها وبأسعار توازي أسعار غذاء الإنسان. كما أن الكلاب مزعجة أيضا في بلادنا، فتجدها تنبح في المناطق السكنية الحديثة خاصة. ربما لأنها كانت هي الساكن الأصلي فأتى الانسان فاحتل سكنها فأصبحت تصرخ غاضبة على ذلك الاحتلال فتنادي بأعلى صوتها بأن يخرج ذلك القاطن المحتل وإلا أرهقت نومه وقطعت أحلامه وأصابته بالكوابيس.
(29)
بعد عودتي من تلك الحفلة التي "عزمتنا" شركة البوينج فيها، توجهت إلى الفندق، ونظرا لوجود بعض الوقت قبل النوم فقد ارتأيت أن أتصفح بعض الصحف المتواجدة في ردهة الفندق ومن بينها USA Today وكذلك New York Times. كانت الأخيرة قد نشرت قصة طويلة عن جذور "السيدة الأولى The First Lady" والتي تعود إلى عهد العبودية واسترقاق البيض للسود. فقد كتبت كل من "رايتشل سوارنس وجودي كانتور" قصة تلك الفتاة التي اشتراها أحد البيض بمبلغ (475) دولارا (أي حوالي 180 ريالا) عام (1850). ها هي الولايات المتحدة تذكر في صحفها كيف استعبدت الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا، وكيف تغيرت الأقدار لتكون تلك "العبدة" هي "السيدة الأولى" في البيت الأبيض الذي اعتلاه الجنس الأبيض على مدى أكثر من قرنين ونصف من الزمان..
عادت بي الذاكرة إلى عهد العبودية في بلاد الجزيرة العربية، حيث كان المرء يشتري آخرا بأبخس الاسعار، بل كانت أسواق النخاسة مثل سوق "عكاظ" رائجة بسلع الاتجار بالبشر. فكانت القبيلة تغزو قبيلة أخرى لتبيع رجالها ونسائها بدراهم أو دنانير معدودة ليصبح الرجل خادما وتصبح المرأة جارية أو حتى أمة ينكحها سيدها متى أراد. ومن يتابع مسلسلات تاريخية (مثل صقر قريش وصدق وعده وعمرو بن العاص وسيف الله المسلول) عن عظمة الاسلام يرى تصويرا رائعا عن تلك الحقبة التي استعبد فيها الناس فأذلوا القوم إلى أن أتى سيد البشرية ينقذهم من الجهل والتخلف ويرشدهم الطريق القويم، وأن خلق القادر المقتدر هو ليتعارف الناس بشتى قبائلهم وشعوبهم وليس ليذلوا القوم الآخرين. ولقد ساوى ذلك الدين القويم بالعربي والأعجمي فجعل بلال رضي الله عنه مؤذنا في قبلة تتوسط الكرة الأرضية زوجوه بأفضل نساء اليمن العربيات، وجعلوا سليمان الفارسي ذو الفكر اللوجستيكي ليخرج الأحزاب بقدرته عز وجل وليكون ذلك الأعجمي منارا فاصلا بين ما أراده المشركون واليهود والمنافقون بالدين الجديد وبين ما أراده المولى ليعم نوره ولو كره الكافرون.
لكن العبودية في الجزيرة العربية لم تختفي في عقلية البشر، فحتى اليوم مازالت هناك ألقاب (مثل السيد والخادم والبيسر وحتى الزطي) سائدة، ومازالت الدولة تكرس نظام القبلية التي ركزت العبودية حتى في جيل اليوم. وللأسف الشديد فهناك من "العنصريين" من يحمل فكره الضيق ليأخذه مستعبدا الناس ظانا أنه الأفضل وأن المولى عز وجل فضله على العالمين ليس لأنه فعل شيئا ولكن لأن أجداده فعلوا شيئا دون أن يدرك أن في أجداده الظالم والقاتل وحتى الشاذ والمخنث. ومازال البعض يرى أنه أحق بثروات الوطن لأنه "شيخ ابن شيخ" فيذهب إلى الديوان طالبا تلك المعونة الشهرية التي تكلف الدولة ما لا يقل عن (50) مليون ريال سنويا، واضرب ذلك المبلغ على عشر سنوات لتجد أن الدولة صرفت أكثر من نصف مليار ريال على أمر ليس بنافع وليس بمفيد للبلاد في ظل السلطة المركزية التي مسكت فتمكنت واستمكنت.
(30)
تعود "عبودية" سيدة أمريكا الأولى إلى عام 1850 إلى قيام اقطاعي من البيض ببيع فتاة عمرها ست سنوات بمبلغ (475) دولارا. يقتادها القدر لتعيش في ولاية جورجيا حيث تحمل من رجل أبيض يصبح أبا لابنها وهي في سن المراهقة. تلك الفتاة وذلك الأب يكونان أجداد أجداد السيدة الأولى "ميشيل أوباما". بعد وفاة سيد الفتاة المراهقة عام 1855 وجدت "ميلفينيا" نفسها في مرزعة بعشرات الهكتارات، وكان تعيش وسط (21) عبدا - كما تقول نيويورك تايمز. وكان تخدم في المنزل وفي المزارع تزرع وتحصد القمح والذرة والبطاطا والقطن، وترعى 3 من الأحصنة و5 من الأبقار و17 خنزيرا و20 عنزة. وعلى الرغم من عدم معرفة من ذلك الرجل الأبيض الذي قام بزرع جنين في أحشائها إلا أن الاغتصاب والاستغلال الجنسي كان سائدا آنذاك بسبب العبودية. بعد ذلك أنجبت ميلفينيا أربعة أطفال حملوا أسماء سيدهم. بعدما أصبحت حرة فقد بقيت ساكنة تقوم بأعمال الزراعة. على أنه وبعدما وصل عمرها في الثلاثينات أو الأربعينات فقد هربت من ذلك المنزل لتلتحق ببقية العبيد الذين عاشت معهم في طفولتها فتزوجت أحدهم فهاجرا إلى مدينة برمنجهام التي اشتهرت بجذبها للعبيد للعمل في مصانع الصلب والحديد بها. لقد أصبح بعلها نشطا في الحقوق المدنية واستطاع أن يحصل على منزل خاص به وشارك في تأسيس أول كنيسة للمذهب البابوي، وكان قد اتخذ أسلوبا مختلفا للحياة، وقد استمر التزاوج في مراحل لاحقة تذكرها نيويورك تايمز بشيء من التفصيل لتأتي السيدة الأولى إلى الحياة فتعيش حرة في البيت الأبيض:-
http://www.nytimes.com/2009/10/08/us...genealogy.html
أليست سخرية الأقدار تأتي بمن تشاء وتذهب بمن تشاء؟ ففي وقت نشط فيه رجال الحقوق المدنية من أمثال مارتن لوثر كينج ومالكوم أكس من السود لتفك الحصار الذي فرضه الرجل الأبيض على ذلك العبد الذي أتي به من الأدغال الأفريقية، فإن ذلك الأبيض فضل رجلا أسودا ليجلس في كرسي الحكم بدلا من رجل أبيض جلس فيه أكثر من أربعين مرة. إنه نصر فرح به ذلك الأسود القادم من كينيا والذي عاش في اندونيسيا، لكنه ليس كعبد استعبده الأبيض منذ مئات السنين وإنما كشخص وصل بفكره ودبلوماسيته وعبقريته إلى أن وصل إلى مكان لم يصل إليه أحد أسود قبله، ربما يبقى حتى تنتهي السنوات الأربع، وربما تتجدد لسنوات أربع أخرى، وربما يتم اغتياله - كما تنبأ أحدهم. فمناصر العبيد ابراهام لينكولن أصابته رصاصة من عنصري لأنه أراد أن يحرر السود، وجون كيندي كان يريد أن يفتح المجال أكثر للسود فحصل هو الآخر على أكثر من رصاصة أردته قتيلا.
نحن سبقناهم بأكثر من الف وأربعمئة عام عندما حررنا الاسلام من الرق والعبودية، لكن البعض منا لم يتحرر حتى اليوم. صحيح انه قد لا يستطيع أن يجاهر علنا بعنصريته لكنه يمارسها في حياته الاجتماعية وفي تفضيل الآخرين في الزواج، وقد يمارسها في إدارته الحكومية بأن يقرب هذا الشخص "العربي" ويبعد ذلك "البيسر"، وقد يمارسها عندما يختار عضوا يمثله في مجلس الشورى الفاقد الصلاحية، وقد يتعالى على الناس ولا يختلط بهم كلما سنحت له الفرصة حتى في مجالس الأفراح أو العزاء - كما لاحظت شخصيا. لكنهم - أي الغرب - لحقونا وتجاوزنا من اليمين ومن اليسار. يتساؤل أحدهم مؤخرا: لماذا لم تعين الحكومة العمانية رجلا أسودا في المناصب العليا؟ أي لماذا لا يوجد لدينا وزير أسود أو حتى وكيل وزارة؟ ولماذا لا يوجد لواء في أية مؤسسة أمنية (الجيش، الشرطة، الأمن، المكتب السلطاني)؟ فأعلى رتبة وصل إليها أسود في بلادنا هي رتبة عميد وهو شخص واحد فقط، وهو معروف بطيبة وحسن خلقه..
لقد وصلت ميشيل أوباما إلى البيت الأبيض فكتبت عن عبودية أسلافها نيويورك تايمز لكنها لم ترفع قضية "تشهير" أو "تجريح". أتذكر أحد الذين رفعوا قضية ضد سبلة العرب أن أحدهم سمى أباه "طاغية الجبل" وهي حقيقة تاريخية، لكنه اعتبر تلك التسمية اهانة كرامة وتشويه بشخص والده المتوفي فلا بد أن يتم ملاحقة الكاتب رغم ان التاريخ لا يظلم أحدا. كما أن "ميسز اوباما" لم تتصل بوزارة الاعلام (التي لا توجد أصلا) تطلب تشميع نيويورك تايمز بالشمع الأحمر، فضلا عن أنها لم تتصل بـ"لاري كينج" الذي أجرى مقابلة تلفزيونية مع إحدى كاتبات المقال وتهدده بمقاضاته لأنه تجرأ أن يجري المقابلة في محطة سي أن أن كما يفعل الكثير ازاء قناة الجزيرة مثلا. وأخيرا فإن "سمعة" ميشيل أوباما لم تتأثر لأنهم ذكروا اسمها في الصحافة وفي التلفزيون عن استرقاق أجدادها أو أسلافها، بل أنها أطلقت ضحكة عفوية عندما عرفت حقيقة أصلها وفصلها وكأنها توجه شكرا على الذين أظهروا الجانب الغائب لتذكرهم بأن أصلها وفصلها لم يمنعاها أن تكون السيدة الأولى في امريكا وربما السيدة الأقوى في العالم...
انتهـــــــــــــــى
المصدر : بن دارس
¨°o.O ( على كف القدر نمشي ولا ندري عن المكتوب ) O.o°¨
---
أتمنى لكم إقامة طيبة في الساحة العمانية
---
أتمنى لكم إقامة طيبة في الساحة العمانية
وأدعوكم للإستفادة بمقالات متقدمة في مجال التقنية والأمن الإلكتروني
رابط مباشر للمقالات هنا. ومن لديه الرغبة بتعلم البرمجة بلغات مختلفة أعرض لكم بعض
المشاريع التي برمجتها مفتوحة المصدر ومجانا للجميع من هنا. تجدون أيضا بعض البرامج المجانية التي قمت بتطويرها بذات الموقع ..
والكثير من أسرار التقنية في عالمي الثاني Eagle Eye Digital Solutions
رابط مباشر للمقالات هنا. ومن لديه الرغبة بتعلم البرمجة بلغات مختلفة أعرض لكم بعض
المشاريع التي برمجتها مفتوحة المصدر ومجانا للجميع من هنا. تجدون أيضا بعض البرامج المجانية التي قمت بتطويرها بذات الموقع ..
والكثير من أسرار التقنية في عالمي الثاني Eagle Eye Digital Solutions