وأغمضت القبة عينيها جديد أولوا الألباب

    • وأغمضت القبة عينيها جديد أولوا الألباب


      كنت أراقبُ السماءَ طويلاً ، أراقب الغيمات السائحة .. بعضُ الغيمات تمر خفيفة ، تلقي بظلها الهادئ على كرمة هانئة ، تبتسمُ .. ثم تمضي .. بعضُ الغيماتِ تمرّ كئيبة ، مثقلةٍ بحبّـاتِ الحزن ، تتكىء على وجعها ، فيسيل دمعها غزيراً ورطباً .. فيغسلُ كلّ منافذ الألم .. ويحيي جفاف القلب والرّوح والأرض .. وبعض الغيوم .. تحمل معها الرياح وزخم العاصفة ، تقلب الأشياء .. وتتركُ هوةً في الرّوح لا تلتئم .
      كنتُ أراقب غيمات العمر .. غيمةٌ واحدةٌ فقط أصابت العمر فانشطر ، غيمة واحدة رمادية تركت حريقاً في شقوقِ القلبِ ، غيمةٌ ولا تزال ماثلةً كأولِ يومٍ قاتمة كآذان الشؤم . ولا زالت تهبطُ عليّ نجواهم ، كلما أسبلتُ جفنيّ ...

      مريم
      لا زلتُ أستحضر كل ما حدث، تتوالى في مخيلتي الصور ، وتتردد في مسمعي الأصوات ، وتغص رئتي برائحة الأحداث والأماكن والأشخاص ، وأتذكرني وأنا طفلةٌ صغيرة ، كان كل ما حولي يدور بسرعة حاسمة ، وكنت أصغر من أن أدرك ما يحدث ، لكني علمتُ أن لا شيء سيعود كما كان ... حينَ سمعنا خبر هزيمة القوات العربية ، وأن استيلاء اليهود على مدينة القدس أمرٌ حتمي .

      وتناقلَ الأهالي الشائعات عن الدماءِ التي تراق في الطرقات ، واليهود الذين لن يتركوا أحياءً في مدينة القدس ، ويحولونها إلى مقبرةٍ ويهدمون البيوت فوق ساكنيها . في ذلك اليوم ، كان البشرُ يتدافعون عبر طرقات المدينة المقدسة ، بأمتعتهم وأشيائهم ، يتركون بيوتهم فزعين ، بعض الجيران تركوا بيوتهم مفتوحةً ، لم يحملوا متاعاً أو غرضاً ، بعضُ الجيران ائتمنوا أبي على مفاتيحهم وأموالهم . جماعاتٍ يهرعون نحوَ الشاحنات ، وأية وسائل نقل متاحة آنذاك، فراراً من الموت نحوَ مصيرٍ مجهول .

      وقال أبي لأمي : " اجمعي أغراضكم يا فاطمة ، وخذي البنات وارحلي مع أخيك ، سأبقى هنا أنا ويحيى نحرسُ البيت ، فالبيوت تموتُ إن لم تؤنسها روح .." ، فتسكت أمي ، وتطأطئ رأسها ، لم تكن قادرةً على أن تترك الحجّ ، والبيت ، والقدس ، وابنها الوحيد يحيى ، لكنها كانت خائفة علينا – ثلاثُ فتياتٍ . كان القرارُ صعباً على الجميع ، ومع الأخبار التي تصلُ عن التنكيل والتعذيب والموت الذي نالَ من تبقى في المدينة ، قررت أمي إرسالنا – أنا وزهرة وسروة – مع خالي ذيب .. نحوَ الضفة الشرقية ، ريثما تهدأ الأمور .

      كان فجراً واجماً .. سرنا نحنُ الأربعة في زقاقٍ ناءٍ .. تاركين خلفنا القدس ، بدت كأمٍ ثكلى .. تنتحبُ بنشيجٍ مكتوم أبناءها الضائعين .. كانت شاحبةًوجميلة ، كعابدة صلبوا قدميها في وحلٍ أحمر ، لكنّ أكفها كانت تتجهُ نحو السماء صافية ونقية .
      رأيتُ قبة الصخرة ، والجنود يقتحمون ساحتها الطاهرة .. فغشتها سحابة مغبرة ، وأظلمت قبتها الذهبية .. فانقبض قلبي ، وشعرتُ أن للدمع ملحٌ حارق ينخرُ خدّي ، وكان هذا آخر ما بدا من القدس .. ثم أخذت تختفي وراء الجبال شيئاً فشيئاً .. فينحدر معها النبض وتغيب الرّوح، ولا تبقى سوى الظلال الشاحبة ، وعويلُ الأحزان .

      لا أتذكر كم سرنا ، لا أتذكر سوى الصمت المخيم على الرّوح ، والصدع الذي لم يهدأ أنينهُ ونزيفهُ ، وآلاف الأسئلةِ التي تصطدمُ بحائط الغيب وترتد حائرة ومفجعة . لم يأكل أحدنا شيئا، لم نشعر بالعطش ، بقدر ما شعرنا بالولع والحريق الذي ألهب ستائر القلب . كنتُ لا أكفّ عن التفكير بكل ما جرى ، بأمي اليائسة ، بأبي – الرّجل الذي بدا أكثر هدوءاً ويقيناً من أي وقت مضى ، بيحيى ... الذي ودعنا ثم توجه نحو المسجد ، لم يلتفت إلى أمي التي حاولت منعه ورجته ، لكنه بدا واثقاً ، لم يقل سوى " نراكم قريباً بإذن الله " .. ثم ذهب .

      ترى .. ماذا يفعلون الآن ؟
      ربما أمي تطرز ثوبي ، وأبي يدخن غليونه ويسافر في مجرات دخانهِ المنبعثة بكسل ، أما يحيى يتلو الآيات بصوتهِ الجميل ، وجميعهم يفكرون بنا ، قلقون علينا ..آه لو يعلمون فقط أننا بخير ، غير أنّ القلبَ تائه .
      على الطريق صادفتنا شاحنة ، وبعد نقاشٍ طويل مع السائق ، قـَبِل أن يوصلنا إلى الضفة الشرقية مقابل أساور وليرة ذهب .. ركبنا ، وأخذني نومٌ عميق ..

      زهرة

      ... كانت السماء تركضُ في الاتجاهِ الآخر ، وهدير المحرك يضغط على أنفاسي .. غطّ الجميع في نومٍ مثقل ، أما أنا .. فقد حملني قلبي إلى يحيى ، وكان نبضي يتخاطفُ حيناً ، ويتقطع حيناً آخر .. لمَ ذهب إلى المسجد ؟ وكان يدرك أن الجنود سيقتحمونه . لِمَ لمْ يسمع رجاءَ أمي ، لمَ ..
      ترى ماذا حلّ بهم الآن ؟ ، عشرات الشباب الذين اختاروا أن يرابطوا في تلك البقعة الطاهرة ، أعرف يا يحيى أنك مستعد لأن تهبَ حياتك فداءً للقدس ، أعلمُ أنّك ستدافع حتى آخر رمقٍ ولن تزعزع قدميكَ قيد أنملة . أعلم أنك ستقف بثباتٍ وصمود وتصميم .. وعندما ذهبتَ ، وغاب عن ناظري وجهك الصبوح ، انتابني شعورٌ غامض – فهل علمتُ أنّك لن تعود ؟ ..

      لقد رأيت عندما أغمضت القبة عينيها ، وغطت جبينها الذهبي بوشاحٍ أسود .. لقد رأيتهم وهم يستبيحون ساحتها الطاهرة ، وسمعت دويّ العيارات النارية والانفجارات ... وكان الألم يدوي في قلبي ، ويمزق أوردتي ، وأنا أخشى .. أخشى ، أنّ جسدك الطاهر لن يحتمل هذا الكمّ من الرصاص .
      ربما أنت الآن بجوارِ نجمةٍ أو كوكب ، ربما تصاعدت روحك النقية إلى السماواتِ سحابةً بيضاء أو طيراً خفوق . ربما أنت في مكان ما هنا أو هناك .. لكنك حيٌّ حتماً أينما كنت .

      سروة

      في أحد مخيمات الضفة الشرقية ، يدرك الإنسانُ أن بعضَ الموتِ أرحم . المأسـاة كانت أكبر وأشد من أن نتحملها فرادى ، وكانَ لابدّ من الاستمرارِ معاً ، حتى لا تنفرط حبّات القلب ، وينقطع حبلُ الحياة الرقيق . كان وقع الأمر أشد على مريم الصغيرة ، كانت تفتقدُ أمّـي وأبي ، الدفء والأمان . أصبحَ نومها متقطعاً ، تتخلله كوابيسٌ عن الجنود الذين يقتحمون كلّ شيء ويسرقون الأطفال .. وكانت تلتزم الصمت أثناءَ النهار ، ولا تتناولُ طعاماً أو شراباً سوى رشفاتٍ قليلة من الماء .
      أما زهرة فقد انتابتها حمّى شديدة ، بعد يومين من وصولنا للمخيم ، كانت تهذي عن يحيى ، وكيف أنها رأت جسده قد تناثر نوراً ، وتحول إلى فراشات ترفرفُ فوق قبة المسجد .. وكيف أنّ أمّـي كانت تلوح له بشالها الأبيض ، وتدعو الله أن يحفظهُ سالماً ومعافى . وكيفَ أنها رأت أبي يرسمُ لها طريق البيت ، ويدعوها للعودة . وأنها عازمة أن تعودَ في الصّبـاح .. وتلحقَ بيحيى ..
      كنتُ أسهر حتى الفجر ، أسمع هذيانها المنهمر كشلالٍ ، أضع القماش المبلل فوقَ قدميها ، واقرأ عند رأسها الأدعية والآيات .
      أما خالي ، فقد كان حملهُ ثقيلاً ، كنا ثلاثتنا أرواحاً معلقة في رقبتهِ ، وكان يمضي النهار يبحث عن ما نعتاشُ بهِ . كان يحاول أن يجدَ مخرجاً ما ، أو وضعاً أفضل من خيمتنا الصغيرة ، وكان كل يومٍ يمضي .. يزداد الحال سوءاً ، وقد كنتُ قلقةً عليه .. وعلينا ، خائفة من أن يتداعى هذا الجبلُ أمامَ موجِ الغربة ، فنغرقُ جميعاً ..

      بعد مدّة ، سمعنا أخباراً جيدة عن القدس ، وعن أن بعضَ السكان تمكنوا من العودة إلى بيوتهم، لكننا لم نسمعَ أي شيء عن بيت الحاج أبي يحيى كنعان ، لم نسمعَ أية أخبارٍ عن ابنهِ أو زوجتهِ ، لم نعرف ماذا حلّ بمن تبقى في القدس .. كانت هناك آمالاً بالعودة ، وأحاسيسَ أخرى قاتمة ، وموجعة ..
      وكان خالي عازماً على أن نعود في أقربِ فرصة ، لأنه لا شفاءَ للقلبِ إلا في أرضهِ .. ولا ارتواءَ للروحِ إلا من ماءِ بلادها . كان حديثهُ عن العودة يطيب نفسَ زهرة ، ويدفعُ مريم للابتسام ، وأصبحت تتحدثُ عن أحلامٍ جميلة ، وبدا أن كوابيسها بدت تغيبُ وتختفي ..
      أما أنا ، فقد كانت القدس في قلبي أقربُ من أي شيء .. وكنت أشم رائحة أبي ، وأسمعُ شكوى أمي ، وأتحسسُ جدران البيت في قلبي ، كنتُ أشعرُ في صميمي أننا سنعودُ قريباً ..
      بيدَ أنني أشعر أن ثمةَ شيء غائب ، وأن الموجة التي انقضت على حياتنا ، لن تتركَ كل شيء كما كان .. وإن انحسرت .

      ذيب عودة

      استطعتُ تدبير طريقٍ آمن للعودة ، وعدنا ..
      كانت حدّة الحمى في القلبِ تهدأ كلما ظهرت القدس من بعيد ، وتشرق الفرحة على الوجوه الشاحبة ، لقد أعيانا البعد جميعاً .. والآن ، ها هو ذات الطريق الذي عبرناه خائفين وهاربين ، نسلكهُ بثقة وإصرار .. وإن كان موتاً فليكن ، فقد كانت الغربة أدهى وأمرّ ..
      عبرنا دروباً وعرة ، وزقاقاً ضيقة ، حتى نصل نحو الممر المؤدي إلى بيت الحاج كنعان ، كنتُ أرى خفقان القلوب المتعبة بريقاً في عيونهن كلما اقتربنا أكثر .. كلما تعرّفت الروح على الرائحة القديمة ، كلما أيقـنّا أننا في المدينة المقدسة ، وفي الاتجاه الصحيح ، هذهِ هي الجدران، هذا هو الطريق .. هذهِ البيوتُ كلها ، موجودة منذ أن فتح القلب جفنيه على هذه المدينة ، كل ما فيها يشيرُ إلينا ، إلى الحياةِ التي كانت هنا ... يوماً .
      لكنّ الهواءَ كانت تفوحُ فيهِ رائحةٌ غريبة ، رائحة كالغرباء ...

      الحاج أبو يحيى

      لم أستطع أن أقول لها في اليومِ الأول ..
      كم كان شجاعاً ، كيف أنهم قتلوه ، ثم نكلوا بجسدهِ وسحبوهُ من ساحةِ المسجد حتى باب العامود ، كيفَ أن دماءه الزكية فاحت بالمسك والزعفران ، واختلطت بترابِ الأرض المقدس، وتلونت بحمرتها النقية جدرانُ القدس .
      كيف أنني خبأتُ قميصهُ في صندوقي القديم ثم احتضنته طوال الليل ، وكتمتُ نزفَ دمي في شريان القلب ، وأغلقتُ على نفسي الغرفة حتّى أبكيهِ قبل الجميع .
      كيفَ أنني تمنيتُ لو أرسلته مع أخواتهِ وخالهِ نحوَ الضفةِ الشرقية ، ثم استغفرتُ ربّي ، عندما أتاني في المنامِ وقال لا تجزع يا أبي ، فقد كنّا رجالاً .
      وعندما عـَرَفـَتْ بعد يومين من أحد الجيران ، ابتسمت ولم تصدق ، ثم قضت ليلةً في البكاءِ المرير ، ثم حطمت كل قوارير الزرعِ والأواني الخزفية ، ثم التجأت للصلاة والدعاءِ .. ولم تقل لي شيئاً أيضاً .. ولرُبّما رأتهُ في المنام وأوصاها بأن لا تجزع ، ولـرُبّما .. أخبرها أشياء أخرى ، فقد هدأت ، ورأيتُ علامةَ الرضا في عينيها ..
      وبدت الأشياء عادية ، لكنها لم تعد كما كانت .. استوطنَ القدس غرباء ، كثيرون ممن رحلوا لم يعودوا .. ولمْ يعد أحد من السفرِ سالماً . كل قلبٍ حمل خسارتهُ المرّة . غيرَ أني كلما توجهتُ للصلاة ، كنت أشعر خطواتهِ تنبضُ في عروق المكان ، وأن لا دماً يغيض هدراً فوق هذه الأرض ، وكانت القبة ذهبية رغم الأسى .. وكلّ ما فيها يشير إلينا رغم كلّ شيء.
      بقلم : a.qarawani
      ::





      المصدر أولوا الألباب


      ¨°o.O ( على كف القدر نمشي ولا ندري عن المكتوب ) O.o°¨
      ---
      أتمنى لكم إقامة طيبة في الساحة العمانية

      وأدعوكم للإستفادة بمقالات متقدمة في مجال التقنية والأمن الإلكتروني
      رابط مباشر للمقالات هنا. ومن لديه الرغبة بتعلم البرمجة بلغات مختلفة أعرض لكم بعض
      المشاريع التي برمجتها مفتوحة المصدر ومجانا للجميع من هنا. تجدون أيضا بعض البرامج المجانية التي قمت بتطويرها بذات الموقع ..
      والكثير من أسرار التقنية في عالمي الثاني
      Eagle Eye Digital Solutions