الريل وفطيرة التفاح

    • الريل وفطيرة التفاح

      الريل وفطيرة التفاح

      كنت بعيدا مع أفكاري وخيالاتي، كعادتي دائما، حين اقتحم حضورها خلوتي واستغراقي. وهي تشير بإصبعها إلى إشارة "ممنوع التدخين"، رمقتني بنظرة من عينين بلون البحر أفسدت، إذ أسدلت رمشيها، حدتها.

      ضغطتُ بشفتي عَقَب السيجارة وتركت لعيني العنان تلتهمان الشفتين المكتنزتين أمامي، قبل أن آخذ نفسا عميقا وأنفثه مع ما تبقى من السيجارة إلى الخارج عبر نافذة قطار الليل. واعتذرْت.

      فضحت عيناي جموح غرائزي حين امتشق قوامها الهواء، وعَلَقَتَا، إذ وقفت تعيد أوراقا تبعثرت بجانبها إلى ح وضعتها على رف فوق رأسها، على جسد ريان، وصدر مكتنز، واستدارة خصر زاده حزام جلد كلون عينيها فتنة وجمالا.

      وواريت رغبتي خلف نصف مجاملة ظلت تراوح مكانها بين شفتيّ بحثا عن كلمات تصلح ما أفسدته عادة التدخين ونظرة لم تكن لي قدرة على كبحها. فقلت، في إشارة إلى كتاب كان بين يديّها، فطفقته بعد أن وضعت إصبعها بين صفحاته: "العوسج لـ: فرجينيا سوارتز"، قلت ذلك وفي صوتي نبرة إعجاب تصنعتها تعويضا عن مبادر مني!
      وبلعت ريقي إذ انفرج مبسمها عن خميلة ليل تدلت عليها قناديل بلون الشمس ورهطا من حور الجنة، فجاء صوتها ناعما كخرير مياه ينبوع ينساب جذلا بين الصخور: "هل قرأت لها؟". سألت بحماس لم تبذل جهدا لإخفائه.
      قلت: بعض رواياتها العاطفية.. ومن بينها هذه التي بين يديك!
      قالت: أجمل قصصها وأكثرها رومانسية. قيل أنها كتبتها وهي على فراش الموت، ويقال أيضا أنها لم تكمل كتابتها.
      قلت: في الموت قد تكمن الحياة.
      وما لبثت أن اكتشفت أن رفيقة قطار الليل ليست فقط عيون زرق واكتناز صدر واستدارة خصر وروايات عاطفية، حين ردت: "ككل الشرقيين.. أنبياء أو مجانين!". قلت: لسنا كلنا من صنف جبران!
      وسألت: "من أي صنف إذا أنت؟". وأجبت بعد أن تذكرت لازمة ترددها مدرسة الفلسفة في الجامعة: " Its for you to find out (ابحث عن الجواب بنفسك). ابتسمت، فأذابت ما بقى في داخلي من وقار!
      قلت اعرفها بنفسي:"أنا سيف". فأعادت اسمي: "سيف!". قلت: "نعم سيف، وأنت ما اسمك؟". سكتت..
      لحظات، والتفت إلى نفسها، وقالت: "لطالما تمنيت لو كان لي اسم غير تقليدي.. مختلف. لا يشبه الأسماء المبتذلة تماما ككل شيء من حولنا.. نسخ كربونية أفقدت الناس والأشياء تمايزهم واختلافاتهم!". وعلقت في سراي: "أجل، لكي يكون الاسم على مسي!".

      ولمعت فكرة في رأسها فكرة طفحت بها نظرتها قبل الوجنتين: "ما رائك أن تسميني أنت، سميني ما شئت؟". ولم أطل التفكير، قلت:"سومر!". وانتظرت قليلا أبحث في وجهها عن إجابة سؤال لم أطرحه:"هل أعجبك؟".
      عطرت بسمتها الندية الهواء، وهي تستفهم:"هل هي حبيبتك؟".
      قلت: "لا"، وكدت أضيف: "ولكن طالما حلمت بحبيبة غير تقليدية تكون من زمن الأوليين!".
      ـ "اسم جميل ويناسب اسمي الأخير.. سومر مور". ورددت اسمها الجديد بالكامل عدة مرات: "سومر مور، الله.. سومر مور".

      ناقشنا رواية الـ"عوسج"، واختفينا بـ"البعد الثالث" ـ الإصدار الجديد لـ"تومس هاملتون"، وترجمت لها شيئا من "عصفور النار"، وقرأت لي بصوت ملائكي شجي شيئا من أشعار طاغور، وأسمعتني بعض ما كتبت. وأطلعتها على سر الأسرار: وشم على كتفي: صورة "جيفارا" والنجمة الحمراء. وعزفت لها على الـ"عوتار" وغنيت:
      مرّينه بيكم حمد، واحنه ابقطار الليل..
      واسمعنه دك اكهوه وشمينه ريحة هيل..
      يا ريل صِيح ابقهر.. صيحة عشك، يا ريل

      تحدثنا في السياسة فاختلفنا، وتحدثا في الأدب فاتفقنا واختلفنا، وتكلمنا في الحب فاتفقنا، وأمضينا الطريق نتجاذب أطراف أحاديث شتى قبل أن يتوقف قطار الليل. ونحن على الرصيف قالت بشيء أقرب إلى الدعوة: "تعال نأكل شيئا في هذا المقهى؟". جلسنا على مقعدين متقابلين. وسألتني:
      ـ ماذا تأكل؟
      ـ قلت: أي شيء.
      قالت: هل تعجبك فطائر التفاح؟
      قلت: سمعت عنها، وشاهدتها، لكن لم أتذوقها بعد!
      نظرت بخبث، وولت سومر مور، وأخذت معها عيني، فلم أكف النظر إليها طوال وقوفها أمام طاولة طلب الطعام وعجوز، لم تكف النظر إلينا منذ دخولنا. وعادت وفي يديها صينية عليها قطعتان من فطائر التفاح وكوبين من القهوة وفازة خزامية اللون يحتضن عنقها بلطف عود زهرة "قرنفل".

      قالت سومر وهي تذيب آخر قطعة من فطيرة التفاح في فمها: "ألذ فطائر التفاح على طول خط هذا القطار". وعقبت: "وأنت ألذ فتاة على طول خطوط قطارات الدنيا كلها". وابتسمت.. فبانت في عينيها أنوثة بعبير المسك.. زادها الخجل غنجا.

      أمضينا ما تبقى من الوقت حتى منتصف الليل، نحتسي القهوة، ونسمع الموسيقى، ونسقي بذرة الحب همسا حينا، وبأعلى عقيرة الصوت أحيانا. ثم انتقلنا إلى رصيف المحطة ننتظر قطار الفجر، فجلسنا على دكة الانتظار.. فرشت لها فخذي وسادة ولحفتها بكفيّ وأنفاسي. وأغمضتُ عينيّ على انتظام نبض قلب الحسناء النائمة على عروقي وتحت لهاثي. ولا ريب أنني أسلمت نفسي للأوهام والأحلام، كعادتين فحلقت فوق السحاب، وشربت من السراب، وبنيت قصورا على أجنحة الوهن، ونهضت على هدير قطار الفجر وحيدا إلا من بقايا طَعْم فطيرة التفاح على شفتيّ!

      ركضت أبحث عنها: نظرت من خلف زجاج الباب إلى داخل المقهى المغلق، واختلط صوتي وأنا أسأل عنها بأصوات جلبة المسافرين والمشردين على أرصفة القطار وبقايا سكارى لفظتهم الخمارات وعلب الليل.. ولا أثر! اختفت سومر، ورحل قطار الفجر يجر خلفه دخان متثاقل بلون الرماد، وأنا والوحدة من جديد.. تنهك روحي على رصيف الانتظار.

      عدت إلى دكة المحطة.. وحيدا، إلا من حزني وفرحة قاصرة صنعتها أوهامي وأحلامي، وخيبات أمل لا تحصى ولا تعد.. مصلوبا أمام حيرتي، وحسرتي. وارتباك نبض قلبي حين تذكرت آخر حديث بيننا، إذ سألت:
      ـ سيف.
      ـ نعم.
      واستدركت: "ماذا يعني اسمك في لغتك؟". أجبت: "Sword". وعلقت: "في لغتي أنت أمان وفي لغتك أنت جارح!"، وتساْءلت: "هل يستوي الاثنان "السيف والأمان" في واحد. وأردفت تتساءل دون أن تنتظر ردا: "هل حقا الشرق شرق.. والغرب غرب، ولن يلتقيا قط؟!".
    • وتظل ذكريات السفر..لحظات ذكرى

      [TABLE='width:70%;background-color:transparent;background-image:url(backgrounds/15.gif);border:3 outset skyblue;'][CELL='filter:;']


      بن عزان

      اسلوبك جميل

      وقصة استمتعنا بقرائتها...


      ونتظر بقية مشاركاتك...


      واهلا بك وبحروفك معنا...

      [/CELL][/TABLE]
    • [TABLE='width:70%;'][CELL='filter:;']
      واستدركت: "ماذا يعني اسمك في لغتك؟". أجبت: "Sword". وعلقت: "في لغتي أنت أمان وفي لغتك أنت جارح!"، وتساْءلت: "هل يستوي الاثنان "السيف والأمان" في واحد. وأردفت تتساءل دون أن تنتظر ردا: "هل حقا الشرق شرق.. والغرب غرب، ولن يلتقيا قط؟!".

      اذا هي اقصوصة الشرق والغرب !!!
      ابن عزان ..
      سعدنا بقراءة أسطرك .. ونبض فكرك بيننا ..
      نرحب بك معنا .. ونتمنى دوام التواصل ..
      شكرا لك ولك تحية طيبة ..
      [/CELL][/TABLE]