بلوشستان واحدة من المناطق البعيدة عن العالم التي يلجأ إليها الضعفاء هرباً من الأقوياء، فإذا هي بلد يتأرجح بين الوطن وبين القبيلة، وتحت كل مظاهر الرومانسية من مناظر البلاد الخلاّبة إلى زعماء القبائل بقاماتهم الطويلة ولباسهم المزركش، إلى أسواق المهربين والقلاع الحصينة في ممرات الجبال، تكمن مأساة الواقع المتمثل بالتخلف الاقتصادي والاجتماعي والانقسام القبلي والاضطهاد الثقافي والعرقي والسياسي عبر العصور.
تقع بلوشستان على الحدود بين باكستان وأفغانستان وإيران. ثلثا مساحتها في باكستان والثلث الآخر في إيران. بلوشستان الباكستانية تقع في أقصى غرب البلاد ويبلغ عدد سكانها حوالى ثلاثة ملايين نسمة، من أصلهم حوالى مليون من الباتان. مساحتها 135 ألف ميل مربع تجاورها بلوشستان الإيرانية التي تبلغ مساحتها 70 ألف ميل مربع، وعدد سكانها حوالى المليون. وهناك تجمع قبلي للبلوش في أفغانستان يقدر بحوالى نصف المليون. كلا الجناحين يشكلان الوطن الذي يطمح إلى الاستقلال كبلد شاسع من الوديان والهضاب الجرداء وكمجتمع بدوي ذي تنظيم قبلي.
والذي يجمع البلوش الإيرانيين إلى البلوش الباكستانيين إلى البلوش الأفغانيين ليس فقط الحلم بوطن واحد، بقدر ما هو إقصاء البلوش الإيرانيين عن مراكز السلطة في الحياة الإيرانية، ولكون البلوش أقلية من السنّة العرب في وسط أكثرية من الشيعة الفرس. يضاف إلى ذلك البلوش المتواجدون في الجنوب الغربي من أفغانستان. ويتطلع كل من البلوش الإيرانيين والبلوش الأفغانيين إلى البلوش الباكستانيين لثقلهم السياسي وتحركهم العسكري، فالولاء عند البلوش هو للعائلة وللقبيلة، لا للدولة التي رسمت حدودها قوى الاستعمار التي أرادت تقسيمهم.
سقط نظام الشاه في إيران تحت أقدام الثورة الخمينية الإسلامية، بعد أن حاول طوال حكم أسرته أن يلغي الشخصية البلوشية. وترك الشاه فراغاً لم تكن بلوشستان الإيرانية مهيأة له. وأدرك البلوش الإيرانيون أن خيارهم مع الثورة الإيرانية لا بد أن يكون خياراً تاريخياً حاسماً، إما إيجابياً بقيام كيان ذي استقلال ذاتي، لا تزال الثورة الإيرانية ترفض التسليم به وبغيره من الكيانات القومية التي تتألف منها إيران، وإما سلبياً بالخضوع لسياسة الشاه القديمة أو الاصطدام بالثورة.
"كعب أخيل"
لقد كانت قضية بلوشستان بمثابة "كعب أخيل" لكل نظام تعاقب على حكم باكستان منذ نشوء الدولة في العام 1947 إلى اليوم. وظلت مشكلة البلوش، مشكلة تهدد استقرار كل حكم عرفته باكستان. حتى احتل الاتحاد السوفياتي أفغانستان واشتعلت نيران الحرب العراقية ـ الإيرانية، وأصبح الروس إلى شمالهم والأميركيون إلى جنوبهم في المحيط الهندي. وإذا بالبلوش وقضيتهم يصبحان مدار حديث المعنيين بشؤون غرب آسيا، ومثار اهتمام الدوائر السياسية الدولية ـ ما عدا العرب، أقرب الناس إليهم وأكثرهم تأثراً بما قد يحدث على حدودهم.
لقد خاض البلوش حرب مقاومة ضد السلطة الباكستانية منذ تأسيس دولة باكستان العام 1947. الحرب الأعنف قام بها ذو الفقار علي بوتو (والد بنازير بوتو، التي حكمت باكستان فترتين من بعده) عام 1973 وعام 1977 بتحريض من شاه إيران خوفاً من أن تنتقل الحركة الوطنية البلوشية من بلوش باكستان إلى بلوش إيران. لكن بوتو أراد أيضاً في حربه ضد البلوش أن يزيد عمليات التنقيب عن النفط والمعادن في مناطق بلوشستان التي كانت تحد منها وتهددها المقاومة البلوشية. وأسفرت تلك الحرب عن 3300 قتيل باكستاني باعتراف الحكومة. بينما تؤكد "جبهة تحرير بلوشستان" أن الضحايا الباكستانيين كانوا في حدود ستة آلاف قتيل وجريح. ولم يستطع بوتو أن ينقب لا عن النفط ولا عن المعادن. ولم يستطع وقف تصدير البلوش لثورتهم الوطنية إلى إخوانهم البلوش في إيران، حتى جاءت الثورة الإسلامية الإيرنية لتقتلع الشاه، وجاء انقلاب ضياء الحق العسكري ليقتلع بقايا حكم ذو الفقار علي بوتو، ويقوده إلى المشنقة.
قضية بلوشستان بدأت في الظهور بشكل جدّي على سطح الأحداث في غرب آسيا منذ نيسان 1980، إثر فشل محاولة انقلابية ضد نظام ضياء الحق العسكري وحكومته في باكستان، لعب فيه البلوش دوراً أساسياً. قبل ذلك في العام 1968 انقلب الجيش الباكستاني على الرئيس أيوب خان بسبب اتساع التمرد واستمرار الحرب في بلوشستان، الـمُطالِبَة بوقف سيطرة البنجابيين على مقدرات الدولة وبشيء من الحكم الذاتي. وعندما أرسل ذوالفقار علي بوتو (رئيس الوزراء الممثل لمقاطعة السند ونخبة الموظفين السنديين التي تتحكم في أجهزة الدولة) الجيش مجدداً إلى بلوشستان العام 1973، استقال الجنرال غول حسن (الممثل لمقاطعة البنجاب ونخبة الضباط البنجابيين الذين تتألف منهم معظم كادرات الجيش) احتجاجاً على سياسة بوتو في بلوشستان وإقحام الجيش في معركة خاسرة ضد البلوش. فما كان من بوتو إلا أن عيّن الجنرال ضياء الحق ـ البنجابي الآخر ـ مكانه ليقود الحملة العسكرية ضد ثورة البلوش. فيسّر ذلك طريق بوتو إلى المشنقة التي علّقها له ضياء الحق الذي سرعان ما وجد الطريق أمامه سالكاً نحو السلطة.
حكايات من تاريخ القوميات المهملة:
بلوشستان بلاد الطفّار والضعفاء: هوّيات باكستانية وإيرانية وأفغانية لسبط عربي ضائع بين الوطن والقبيلة!
رياض الريس
9 آب 1999
أكمل؟؟؟
تقع بلوشستان على الحدود بين باكستان وأفغانستان وإيران. ثلثا مساحتها في باكستان والثلث الآخر في إيران. بلوشستان الباكستانية تقع في أقصى غرب البلاد ويبلغ عدد سكانها حوالى ثلاثة ملايين نسمة، من أصلهم حوالى مليون من الباتان. مساحتها 135 ألف ميل مربع تجاورها بلوشستان الإيرانية التي تبلغ مساحتها 70 ألف ميل مربع، وعدد سكانها حوالى المليون. وهناك تجمع قبلي للبلوش في أفغانستان يقدر بحوالى نصف المليون. كلا الجناحين يشكلان الوطن الذي يطمح إلى الاستقلال كبلد شاسع من الوديان والهضاب الجرداء وكمجتمع بدوي ذي تنظيم قبلي.
والذي يجمع البلوش الإيرانيين إلى البلوش الباكستانيين إلى البلوش الأفغانيين ليس فقط الحلم بوطن واحد، بقدر ما هو إقصاء البلوش الإيرانيين عن مراكز السلطة في الحياة الإيرانية، ولكون البلوش أقلية من السنّة العرب في وسط أكثرية من الشيعة الفرس. يضاف إلى ذلك البلوش المتواجدون في الجنوب الغربي من أفغانستان. ويتطلع كل من البلوش الإيرانيين والبلوش الأفغانيين إلى البلوش الباكستانيين لثقلهم السياسي وتحركهم العسكري، فالولاء عند البلوش هو للعائلة وللقبيلة، لا للدولة التي رسمت حدودها قوى الاستعمار التي أرادت تقسيمهم.
سقط نظام الشاه في إيران تحت أقدام الثورة الخمينية الإسلامية، بعد أن حاول طوال حكم أسرته أن يلغي الشخصية البلوشية. وترك الشاه فراغاً لم تكن بلوشستان الإيرانية مهيأة له. وأدرك البلوش الإيرانيون أن خيارهم مع الثورة الإيرانية لا بد أن يكون خياراً تاريخياً حاسماً، إما إيجابياً بقيام كيان ذي استقلال ذاتي، لا تزال الثورة الإيرانية ترفض التسليم به وبغيره من الكيانات القومية التي تتألف منها إيران، وإما سلبياً بالخضوع لسياسة الشاه القديمة أو الاصطدام بالثورة.
"كعب أخيل"
لقد كانت قضية بلوشستان بمثابة "كعب أخيل" لكل نظام تعاقب على حكم باكستان منذ نشوء الدولة في العام 1947 إلى اليوم. وظلت مشكلة البلوش، مشكلة تهدد استقرار كل حكم عرفته باكستان. حتى احتل الاتحاد السوفياتي أفغانستان واشتعلت نيران الحرب العراقية ـ الإيرانية، وأصبح الروس إلى شمالهم والأميركيون إلى جنوبهم في المحيط الهندي. وإذا بالبلوش وقضيتهم يصبحان مدار حديث المعنيين بشؤون غرب آسيا، ومثار اهتمام الدوائر السياسية الدولية ـ ما عدا العرب، أقرب الناس إليهم وأكثرهم تأثراً بما قد يحدث على حدودهم.
لقد خاض البلوش حرب مقاومة ضد السلطة الباكستانية منذ تأسيس دولة باكستان العام 1947. الحرب الأعنف قام بها ذو الفقار علي بوتو (والد بنازير بوتو، التي حكمت باكستان فترتين من بعده) عام 1973 وعام 1977 بتحريض من شاه إيران خوفاً من أن تنتقل الحركة الوطنية البلوشية من بلوش باكستان إلى بلوش إيران. لكن بوتو أراد أيضاً في حربه ضد البلوش أن يزيد عمليات التنقيب عن النفط والمعادن في مناطق بلوشستان التي كانت تحد منها وتهددها المقاومة البلوشية. وأسفرت تلك الحرب عن 3300 قتيل باكستاني باعتراف الحكومة. بينما تؤكد "جبهة تحرير بلوشستان" أن الضحايا الباكستانيين كانوا في حدود ستة آلاف قتيل وجريح. ولم يستطع بوتو أن ينقب لا عن النفط ولا عن المعادن. ولم يستطع وقف تصدير البلوش لثورتهم الوطنية إلى إخوانهم البلوش في إيران، حتى جاءت الثورة الإسلامية الإيرنية لتقتلع الشاه، وجاء انقلاب ضياء الحق العسكري ليقتلع بقايا حكم ذو الفقار علي بوتو، ويقوده إلى المشنقة.
قضية بلوشستان بدأت في الظهور بشكل جدّي على سطح الأحداث في غرب آسيا منذ نيسان 1980، إثر فشل محاولة انقلابية ضد نظام ضياء الحق العسكري وحكومته في باكستان، لعب فيه البلوش دوراً أساسياً. قبل ذلك في العام 1968 انقلب الجيش الباكستاني على الرئيس أيوب خان بسبب اتساع التمرد واستمرار الحرب في بلوشستان، الـمُطالِبَة بوقف سيطرة البنجابيين على مقدرات الدولة وبشيء من الحكم الذاتي. وعندما أرسل ذوالفقار علي بوتو (رئيس الوزراء الممثل لمقاطعة السند ونخبة الموظفين السنديين التي تتحكم في أجهزة الدولة) الجيش مجدداً إلى بلوشستان العام 1973، استقال الجنرال غول حسن (الممثل لمقاطعة البنجاب ونخبة الضباط البنجابيين الذين تتألف منهم معظم كادرات الجيش) احتجاجاً على سياسة بوتو في بلوشستان وإقحام الجيش في معركة خاسرة ضد البلوش. فما كان من بوتو إلا أن عيّن الجنرال ضياء الحق ـ البنجابي الآخر ـ مكانه ليقود الحملة العسكرية ضد ثورة البلوش. فيسّر ذلك طريق بوتو إلى المشنقة التي علّقها له ضياء الحق الذي سرعان ما وجد الطريق أمامه سالكاً نحو السلطة.

حكايات من تاريخ القوميات المهملة:
بلوشستان بلاد الطفّار والضعفاء: هوّيات باكستانية وإيرانية وأفغانية لسبط عربي ضائع بين الوطن والقبيلة!
رياض الريس
9 آب 1999
أكمل؟؟؟
