الإدارة الرشيدة للأموال العامة أخبار الشبيبة

    • الإدارة الرشيدة للأموال العامة أخبار الشبيبة

      الدكتور. عبدالحكيم الفارسي
      * إن إعداد وإدارة ومتابعة الموازنة السنوية بالأجهزة الحكومية يجب أن يرتبط بوجود رؤية مستقبلية وسياسات وأهداف وطنية تضمن تحقيق التنمية المطلوبة والعدالة والتوازن في توزيع المخصصات المالية على القطاعات الإنتاجية المختلفة

      في خطابه السامي الذي ألقاه بتاريخ 11 نوفمبر من العام 2008 وجه جلالة السلطان قابوس -حفظه الله ورعاه- إلى ضرورة مراجعة الجهاز الإداري للدولة لسياساته وأنظمته، مشدداً على مدى المسؤولية الجسيمة المنوطة بالموظفين الذين يديرون عجلة العمل في مختلف القطاعات الحكومية، ومؤكداً في الوقت ذاته على عدد من المبادئ والقيم التي يتوجب على الموظف العام التحلي بها والمتمثلة في الأمانة والإخلاص، وتقديم المصلحة العامة، ونبذ تحقيق المكاسب الذاتية على حساب المنافع العامة للمجتمع، فضلاً عن تجنب سوء استخدام السلطة والنفوذ، وضرورة محاسبة المقصرين وفقاً لمبادئ العدل والقانون. وامتثالاً للتوجيهات السامية المتسقة مع المطالب الشعبية والرامية إلى إحداث الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإضافة إلى الإصلاحات السريعة التي تم الإعلان عنها مؤخراً، فإن الواقع الراهن يقتضي وضع أجندة وطنية شاملة ومعلنة للإصلاح تستمد مرتكزاتها الأساسية من التوجيهات السامية، والتطلعات الشعبية المشروعة وليس المطالب الفئوية التي باتت تتزايد يوماً بعد يوم بدون ضابط. ولعل من أبرز الإصلاحات المنشودة ما يتعلق منها بتحسين وتطوير سياسات وأساليب إدارة الأموال العامة والرقابة عليها بالمؤسسات الحكومية، حيث إن الموازنة العامة تُعد أداة أساسية لتحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية سواء على الصعيد الوطني أو على صعيد الوزارات والأجهزة الحكومية، ولذلك فقد بات من الأهمية بمكان أن يتم التركيز على تحسين وتطوير أداء الإدارات المسؤولة عن الشؤون المالية بالمؤسسات الحكومية لكونها المسؤول الأول عن إدارة الموازنة السنوية للمؤسسة.
      إن إعداد وإدارة ومتابعة الموازنة السنوية بالأجهزة الحكومية يجب أن يرتبط بوجود رؤية مستقبلية وسياسات وأهداف وطنية تضمن تحقيق التنمية المطلوبة والعدالة والتوازن في توزيع المخصصات المالية على القطاعات الإنتاجية المختلفة، كما يجب أن تقترن عملية إعداد الموازنة وإدارة الموارد المالية بعدد من المبادئ المهمة والمتمثلة في تحقيق الشفافية والشراكة والمساءلة، وذلك لضمان الرقابة على المستويين المؤسسي والمجتمعي، وبالتالي المساهمة في الحد من هدر أو ضياع للمال العام في تنفيذ مشاريع غير مدروسة أو أنشطة ترفيهية لا تعود بالفائدة للاقتصاد الوطني والمجتمع.
      ولتعزيز التوجهات الحكومية الرامية إلى إجراء الإصلاحات المالية والإدارية المنشودة، فيمكن هنا الاسترشاد بمبادئ الإدارة الرشيدة أو ما يُطلق عليها الحوكمة (Governance) التي تساهم في القضاء على سوء استخدام السلطة ومكافحة الفساد الإداري والمالي الذي يؤدي إلى تعثر جهود التنمية في مختلف القطاعات. فبالرجوع إلى وقائع المؤتمر الإقليمي الذي انعقد بالمملكة الاردنية خلال بالفترة (6-7 فبراير 2005)، قام برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) من خلال برنامجه حول إدارة الحكم في الدول العربية (POGAR) بالتعاون مع عدد من المنظمات الدولية والإقليمية بإطلاق "مبادرة الإدارة الرشيدة لخدمة التنمية في الدول العربية" والتي حددت ستة محاور رئيسية لتحقيق الحكم الرشيد وهي: المحور الأول: تكريس ثقافة الخدمة المدنية والنزاهة، ومكافحة الفساد وإجراء الإصلاح المُستدام، المحور الثاني:
      الحكومة الالكترونية وتبسيط الاجراءات، والاصلاح التنظيمي، المحور الثالث: تحسين إدارة الأموال العامة، والمحور الرابع: تقديم الخدمات العامة، والشراكة بين القطاعين العام والخاص، المحور الخامس: إصلاح القضاء وتنفيذ الأحكام، والمحور السادس: تعزيز دور المواطنين والمجتمع المدني في إصلاح القطاع العام بالمنطقة العربية.
      ورغم تعدد التعريفات لمفهوم الإدارة الرشيدة، إلا إنه وباختصار يعني "الجمع بين الرقابة من الأعلى (الدولة) والرقابة من الاسفل (المجتمع المدني)". ولضمان ذلك، فإن مبادرة الإدارة الرشيدة بمؤسسات القطاع العام أو ما يُطلق عليها مصطلح الحوكمة بالنسبة لمؤسسات القطاع الخاص تتبنى عدد من المبادئ التي يتعين مراعاتها في إدارة المؤسسات لاسيما ما يتعلق بإدارة الاموال العامة والموارد المالية لهذه المؤسسات، وتتجسد أبرز هذه المبادئ في الآتي: التخطيط: أي العمل من خلال الرؤى المستقبلية والخطط والبرامج المتوسطة والطويلة الأجل التي تعكس الاحتياجات الحقيقية للمجتمع، وليس من خلال الأعمال التي تنفذ لاعتبارات آنية ومجتزأة، الشراكة: أي سيادة العمل الجماعي وليس الفردي في إعداد الموازنة العامة وإدارة وتوزيع الموارد المالية ومتابعة التنفيذ، الشفافية: وتعني الإفصاح وليس التعتيم بالنسبة للبيانات والمعلومات والتقارير المالية الصحيحة والدقيقة، الرقابة: من خلال تطبيق نظام رقابي كفؤ ومستقل، مع وضع معايير متنوعة لقياس الأداء المؤسسي، المساءلة: من خلال متابعة وتقييم الأداء ومحاسبة المقصرين، ووضع آليات قانونية فعَّالة لمكافحة الفساد المالي والإداري، وضمان استقلالية القضاء، التحفيز: للموظفين المجيدين والمبدعين، والاهتمام بالموارد البشرية كمحور أساسي للتنمية، وأخيراً التطوير: عبر تحديث النظم المالية وتوظيف التكنولوجيا في إدارة الاموال العامة.
      وفي الواقع، أن ما يظهر على السطح بين الحين والآخر من قضايا الفساد المالي والاختلاس أو هدر المال العام سواء بالمؤسسات الحكومية أو الخاصة ما هو إلا تعبير عن غياب العمل الحقيقي بمبادئ الإدارة الرشيدة، كما أنه يعود في الأساس إلى جملة من الأسباب التي ترسخت عبر السنين، والتي تحول بعضها بمرور الزمن إلى ممارسات إدارية محبذة تهدف إلى ضمان السرية في العمل، والحد قدر الإمكان من تدفق ونشر البيانات المالية التي قد تثير تساؤلات تسبب الإحراج لمسؤولي المؤسسة، وهم في غنى عنها. ويمكن إيجاز هذه الأسباب في الآتي:
       سوء استخدام السلطة في إدارة الأموال العامة من خلال حجب واخفاء البيانات والمعلومات المالية، وذلك من منطلق المبدأ الأساسي السائد في بعض الأجهزة الحكومية؛ ألا وهو الحفاظ على السرية والغموض، وبالتالي فقدان الشفافية، وتغييب العمل الرقابي من القيام بالدور المنوط به.
       غياب المشاركة وروح العمل الجماعي في وضع خطط الموازنة بالمؤسسات الحكومية، وتكريس أسلوب العمل الانفرادي؛ حيث تُناط عملية اعداد الموازنة –عادةً- إلى الإدارة المالية بالمؤسسة الحكومية والتي تقوم بدورها بوضع المخصصات لكل بند قياساً ببنود موازنة السنة المنصرمة دون إشراك حقيقي للوحدات الإنتاجية المعنية بالمؤسسة.
       غياب التخطيط الاستراتيجي على صعيد الأجهزة الحكومية، الأمر الذي ينعكس سلباً على نوعية الأعمال والمشاريع التي تنفذ من خلال الموازنة السنوية –إذا ما استثنينا برامج الموازنات الإنمائية- والاعتماد فقط على أسلوب ردود الفعل في تخصيص الموارد أو في بعض الأحيان أسلوب المساومة في رصد المخصصات السنوية. وفي هذه الحالة غالباً ما تكون عملية توزيع الموارد المالية رهينة للاجتهادات الشخصية، وقد تتحكم بها طبيعة العلاقات الشخصية السائدة بالمنظمة.
       عدم إلمام بعض مسؤولي الإدارة العليا بأسس المحاسبة الحكومية وأصول إعداد وإدارة الموازنة العامة، الأمر الذي يجعل الإدارة العليا في النهاية ترضخ لتوجهات مسؤولي الإدارات المالية والذين عادة ما يبررون سياساتهم المالية وأدائهم في إدارة الموارد المالية بعبارات مستهلكة وغامضة من قبيل "لا توجد مخصصات"، "يوجد عجز بالبند"، "الموازنة لا تتحمل المزيد المصروفات"، مستغلين في ذلك غياب الشفافية والتعتيم على البيانات المالية.
       انتشار ثقافة إدارية سلبية لدى بعض مسؤولي الإدارة المالية تقوم على التكريس السافر لما يُسمى إدارياً بممارسة سلطة الموارد، وانتهاج مبدأ التقتير في تخصيص الاعتمادات المالية، حيث لا يُنظر هنا للوحدات الإدارية الأخرى بالمؤسسة كشريك في التنمية وإنما يُنظر إليها على أنها وحدات منافسة متربصة للاستيلاء على الأموال التي بحوزة إدارة الشؤون المالية بغية استخدامها في أغراض ليست ذات جدوى. وفي المقابل تلجأ بعض الإدارات الإنتاجية بالمبالغة في طلب المخصصات المالية لتنفيذ مشاريعها وذلك تحسباً لمرحلة المساومة مع إدارة الشئون المالية والتي عادة ما تسفر عن الحصول على جزء من المخصصات المطلوبة أصلاً.
       عدم تدوير وظائف العاملين في الشؤون المالية لفترات طويلة، حيث يقبع البعض منهم على كرسي الوظائف المالية لعقود من الزمن، الأمر الذي يؤدي إلى حجب وإخفاء الأخطاء المالية والتجاوزات لفترات زمنية طويلة دون أن يتم اكتشافها.
      وأمام هذه الممارسات السلبية في إدارة الأموال العامة نجد بأنه قد آن الأوان إلى إعادة صياغة دور المديرين المسؤولين عن الإدارات المالية، وذلك من خلال تكريس أساليب إدارية جديدة في ادارة الموارد المالية للموازنات الخاصة بالمؤسسات العامة تقوم على الشفافية والشراكة الحقيقية في إعداد الموازنات والرقابة عليها وقياس الأداء المؤسسي، وإدخال الإصلاحات المالية والإدارية اللازمة، ويمكن في هذا السياق أيضاً إلزام الإدارات المالية بعقد لقاءات دورية سنوية أو نصف سنوية يحضرها كافة مسؤولي الإدارة العليا بالمؤسسة لعرض إنجازات موازنة العام المنصرم أو الفترة الماضية، واستعراض تفاصيل الموازنة للعام الجديد أو النصف الثاني من السنة المالية، مع توضيح الأهداف والنتائج المنشودة لخطة الموازنة. كما ينبغي التأكيد على ربط إعداد الموازنة السنوية للوزارة بأهداف التنمية من خلال وضع خطط استراتيجية منشورة للجميع؛ تبين الرؤية والأهداف المستقبلية على المستويين المؤسسي والمجتمعي، وتضمن الشفافية والرقابة والحد من إهدار المال العام عبر تنفيذ مشاريع وأنشطة ترفيهية لا تتسق مع أهداف التنمية والمتطلبات والاحتياجات الفعلية الراهنة والمستقبلية للمجتمع، إلى جانب الأمر المهم وهو تدوير وظائف العاملين في مجال الشؤون المالية بصوره مباشرة او غير مباشرة كل أربع سنوات على الأكثر، وذلك للحد من فرص الفساد المالي.
      واتساقاً مع هذه المقترحات الإصلاحية، يتوجب أيضاً تعزيز ثقافة النزاهة من خلال البرامج التوعوية، ووضع ميثاق شرف للوظيفة العامة اتساقاً مع مضامين "مبادرة الإدارة الرشيدة لخدمة التنمية في الدول العربية"، بحيث يتضمن أخلاقيات المهنة، وتعريف واضح وشامل للفساد الإداري والمالي وأنواعه ومجالاته وتأثيراته الخطيرة على الاقتصاد الوطني وتماسك المجتمع، على أن يُصار أيضاً إلى تغيير عقلية الموظفين العموميين من ثقافة "تمثيل السلطة" إلى ثقافة "الموظف المدني" المسؤول عن تقديم الخدمة للمواطنين بجودة عالية.

      باحث في مجال التطوير والدراسات الإدارية
      dr-farsi1@hotmail.com

      أكثر...


      ¨°o.O ( على كف القدر نمشي ولا ندري عن المكتوب ) O.o°¨
      ---
      أتمنى لكم إقامة طيبة في الساحة العمانية

      وأدعوكم للإستفادة بمقالات متقدمة في مجال التقنية والأمن الإلكتروني
      رابط مباشر للمقالات هنا. ومن لديه الرغبة بتعلم البرمجة بلغات مختلفة أعرض لكم بعض
      المشاريع التي برمجتها مفتوحة المصدر ومجانا للجميع من هنا. تجدون أيضا بعض البرامج المجانية التي قمت بتطويرها بذات الموقع ..
      والكثير من أسرار التقنية في عالمي الثاني
      Eagle Eye Digital Solutions