[ATTACH=CONFIG]59769[/ATTACH]
[ رسـالـة جـدي ]
ـــــــــ
1- الزفارة : عبارة عن فخ وتصنع بأربع أخشاب على شكل مربع .
[ATTACH=CONFIG]59770[/ATTACH]
تنويه : لقد سبق لي وأن قمتُ بنشر هذا النص في جريدة الشبيبة وفي موقع آخر .
[ رسـالـة جـدي ]
*
[ رسـالـة جـدي ]
مازلت أذكر تلك الفخاخ التي كان ينصبها جدي ليصطاد بها الطيور البرية
كان يمشط المكان بحثا عن ارض صلبة ومنبسطة لينصب عليها الفخ .
ثم يقوم برفع مقدمة ( الزَفّارة) (1) وينثر القمح في احشائها
وما أن تأتي الطيور لتقتات على الطعم ، حتى يسقط عليها الفخ
المرفوع بعصى مترددة وقابلة للسقوط عند أية لمسه .
كانت الطيور المسكينة تصارع من أجل الخروج والظفر بالحرية والنجاة من سكين جدي التي لا ترحم ضعفهن . ولكن هيهات ،
فالزفارة أثقل من أن يحملها جناح طير أو حتى عشرة !
وما أن تهدأ الحال ويختلط الدم بالتراب ،
أقف متأملا ما يحدث بعقل يريد أن يعتاد القساوة و اثبت أنا أنني الفتى الضرب !
ولكن ثمة تناقض ، فـ القلب يأبى تحمل مشاهد الدماء ولا يستسيغها كمبدأ ..!
وأنـا ، كـ الطفل الذي افترقت امه عن أبـاه ، فأصبح حزيناً تذروه الجراح
أقف مترددا بين طريقين مزدوجين / متاخمين لبعضهما ، ولكنهما الإتجاه والإتجاه المعاكس .
القلب والعقل وكل منهما يحاول اقناع الآخر ويدونا المشاهد في ذاكرة طفل .
لقد مرت أيام على رحيل جدي إلى السماء ، وقد ترك وراءه وصية أخيرة
همس بها في ورقة ليبعثها إليَ في المدينة ، و قال فيها :
" بنيَ اسس افكارك على فهم عقلي وليس على قبول أبكم وعليكَ
أن تجتاز حاجز الأحلام والتفت إلى الواقع ،
فالحقيقة تكمن فالواقع ، وهي حتماً ستأتي إلى الذين يبحثون عنها "
لم يكن لدي وقفه لتأمل تلك الكلمات ،
فالحزن والذكريات هما كل ما كنت التفت إليه وما أشعر به حد العظم،
كان قلبي ينبض فوق رأسي ،
شاهق كجبل جليدي لدرجة الإنهيار على هيئة شؤون !
كنت أحلم بإقناع جدي بفكرة التخلي عن الإعتقاد بأن الرجولة تتجلى
في كل ما هو قاس وصلب !
يسكنني أشق اللوان الموت ، والمدينة ملأى بالقساة والجامحين في طبعهم
فهم يعربدون فالشوارع المكتظة بالناس ويتذامرون على المنكر
وحين يساقون للعدالة يدقون صدورهم ويمشون الخيلاء : السجن للرجال !
نعم.. السجن للرجال //
في أيام الثورات ، والموت فدائا للوطن ، فلم يكن الجماح نهاية لمعاركهم ..
اما السجن بالنسبة إليهم فهو :
معقل يأجل / يأجج الموت في نفوسهم!
رحلت يا جدي ولم أخبرك بكل هذه الأشياء المنخرعة ، فكان موتك النهائي ولم تنجز ايعادك في اكتمالي انتصاري على الذات ،
فقد استجاف البين واستحكمت حلقات العزلة / الغربة .
إذن أنا رجل ميت يا جدي . وهل يمكن أن يعتاد الإنسان على الموت ؟
لكم حيرني الموت يا جدي ، حين رزأئني في شخص أعتبره كل شيء في حياتي .
لمَ كل هذا الغموض في استيعاب حقيقة الموت؟
أليس الموت هو اليقين الذي لا شك فيه ، ألم ننفق الكثير من الحزن في حضوره ..
لقد جعل موتك من حياتي ساحة للضجر والسأم .
اصبحُ / أمسـي على ذلك الحرمان والفقد وكنت استقصي السماء حد البكاء
وثمة أفكار تولد في عمق ذاتي ولم اجرؤ على ترجمتها
فالعقل جدف في تفكيره وانعطف كثيرا نحو المنطق !
ولكن ثمة فكرة تقول :
" بأن العقل وحده يمكن أن يعطي فكرة غير واضحة عما هو إلهي ".
اما القلب فقد استسلم إزاء الموت كونه من الأقدار التي
خطها صاحب الأزلية في السماء بحروف من نار
أليست اليد التي كتبت الميلاد هي نفسها من كتب الموت ؟!
أعود إلى بيتك الأخيـر لأجثوا بالقرب منكَ ، حامل في يدي تلك الرسالة ،
التي جسدت المشهد الأخير بينا ، وكأنك تختصر كل طفولتي وحاضري ومستقبلي في سطرين ...!
أتأمل الكلمات واقرأها بصمت عال :
" بني أسس افكارك على فهم عقلي وليس على قبول أبكم
و عليك أن تجتاز حاجز الأحلام والتفت إلى الواقع ،
فـ الحقيقة تكمن فالواقع ، وهي تأتي إلى الذين يبحثون عنها!"
كنت اقرأها وكأنها تسقط غضة
من فمك المرتعش ..
لقد اضاءت تلك الاسطر الطريق
التي تفضي إلى الحقيقة ، فلم تكن الفخاخ لإصطياد الطيور فحسب ،
وإنما هي لإصطياد الحقيقة أيضا ،
ألم يصارع الطير من أجل نيل حريته
بينما اصحاب العقول حد البلادة منتشين في سجنهم !
لجأت إليك يا جدي للبحث عن الحقيقة ، وعلى وجهي سيماء شوق كبير ،
فـ اليوم ادركت الكلمات التى تختبئ خلف كلماتك
اما الحزن فقد كار العمامة على الرزيئه وكنهفا نحو الغياب ،
فكم أنت رجل يحسب نهاية لكل شيء يا جدي!
[ رسـالـة جـدي ]
مازلت أذكر تلك الفخاخ التي كان ينصبها جدي ليصطاد بها الطيور البرية
كان يمشط المكان بحثا عن ارض صلبة ومنبسطة لينصب عليها الفخ .
ثم يقوم برفع مقدمة ( الزَفّارة) (1) وينثر القمح في احشائها
وما أن تأتي الطيور لتقتات على الطعم ، حتى يسقط عليها الفخ
المرفوع بعصى مترددة وقابلة للسقوط عند أية لمسه .
كانت الطيور المسكينة تصارع من أجل الخروج والظفر بالحرية والنجاة من سكين جدي التي لا ترحم ضعفهن . ولكن هيهات ،
فالزفارة أثقل من أن يحملها جناح طير أو حتى عشرة !
وما أن تهدأ الحال ويختلط الدم بالتراب ،
أقف متأملا ما يحدث بعقل يريد أن يعتاد القساوة و اثبت أنا أنني الفتى الضرب !
ولكن ثمة تناقض ، فـ القلب يأبى تحمل مشاهد الدماء ولا يستسيغها كمبدأ ..!
وأنـا ، كـ الطفل الذي افترقت امه عن أبـاه ، فأصبح حزيناً تذروه الجراح
أقف مترددا بين طريقين مزدوجين / متاخمين لبعضهما ، ولكنهما الإتجاه والإتجاه المعاكس .
القلب والعقل وكل منهما يحاول اقناع الآخر ويدونا المشاهد في ذاكرة طفل .
لقد مرت أيام على رحيل جدي إلى السماء ، وقد ترك وراءه وصية أخيرة
همس بها في ورقة ليبعثها إليَ في المدينة ، و قال فيها :
" بنيَ اسس افكارك على فهم عقلي وليس على قبول أبكم وعليكَ
أن تجتاز حاجز الأحلام والتفت إلى الواقع ،
فالحقيقة تكمن فالواقع ، وهي حتماً ستأتي إلى الذين يبحثون عنها "
لم يكن لدي وقفه لتأمل تلك الكلمات ،
فالحزن والذكريات هما كل ما كنت التفت إليه وما أشعر به حد العظم،
كان قلبي ينبض فوق رأسي ،
شاهق كجبل جليدي لدرجة الإنهيار على هيئة شؤون !
كنت أحلم بإقناع جدي بفكرة التخلي عن الإعتقاد بأن الرجولة تتجلى
في كل ما هو قاس وصلب !
يسكنني أشق اللوان الموت ، والمدينة ملأى بالقساة والجامحين في طبعهم
فهم يعربدون فالشوارع المكتظة بالناس ويتذامرون على المنكر
وحين يساقون للعدالة يدقون صدورهم ويمشون الخيلاء : السجن للرجال !
نعم.. السجن للرجال //
في أيام الثورات ، والموت فدائا للوطن ، فلم يكن الجماح نهاية لمعاركهم ..
اما السجن بالنسبة إليهم فهو :
معقل يأجل / يأجج الموت في نفوسهم!
رحلت يا جدي ولم أخبرك بكل هذه الأشياء المنخرعة ، فكان موتك النهائي ولم تنجز ايعادك في اكتمالي انتصاري على الذات ،
فقد استجاف البين واستحكمت حلقات العزلة / الغربة .
إذن أنا رجل ميت يا جدي . وهل يمكن أن يعتاد الإنسان على الموت ؟
لكم حيرني الموت يا جدي ، حين رزأئني في شخص أعتبره كل شيء في حياتي .
لمَ كل هذا الغموض في استيعاب حقيقة الموت؟
أليس الموت هو اليقين الذي لا شك فيه ، ألم ننفق الكثير من الحزن في حضوره ..
لقد جعل موتك من حياتي ساحة للضجر والسأم .
اصبحُ / أمسـي على ذلك الحرمان والفقد وكنت استقصي السماء حد البكاء
وثمة أفكار تولد في عمق ذاتي ولم اجرؤ على ترجمتها
فالعقل جدف في تفكيره وانعطف كثيرا نحو المنطق !
ولكن ثمة فكرة تقول :
" بأن العقل وحده يمكن أن يعطي فكرة غير واضحة عما هو إلهي ".
اما القلب فقد استسلم إزاء الموت كونه من الأقدار التي
خطها صاحب الأزلية في السماء بحروف من نار
أليست اليد التي كتبت الميلاد هي نفسها من كتب الموت ؟!
أعود إلى بيتك الأخيـر لأجثوا بالقرب منكَ ، حامل في يدي تلك الرسالة ،
التي جسدت المشهد الأخير بينا ، وكأنك تختصر كل طفولتي وحاضري ومستقبلي في سطرين ...!
أتأمل الكلمات واقرأها بصمت عال :
" بني أسس افكارك على فهم عقلي وليس على قبول أبكم
و عليك أن تجتاز حاجز الأحلام والتفت إلى الواقع ،
فـ الحقيقة تكمن فالواقع ، وهي تأتي إلى الذين يبحثون عنها!"
كنت اقرأها وكأنها تسقط غضة
من فمك المرتعش ..
لقد اضاءت تلك الاسطر الطريق
التي تفضي إلى الحقيقة ، فلم تكن الفخاخ لإصطياد الطيور فحسب ،
وإنما هي لإصطياد الحقيقة أيضا ،
ألم يصارع الطير من أجل نيل حريته
بينما اصحاب العقول حد البلادة منتشين في سجنهم !
لجأت إليك يا جدي للبحث عن الحقيقة ، وعلى وجهي سيماء شوق كبير ،
فـ اليوم ادركت الكلمات التى تختبئ خلف كلماتك
اما الحزن فقد كار العمامة على الرزيئه وكنهفا نحو الغياب ،
فكم أنت رجل يحسب نهاية لكل شيء يا جدي!
* محمد .
ـــــــــ
1- الزفارة : عبارة عن فخ وتصنع بأربع أخشاب على شكل مربع .
[ATTACH=CONFIG]59770[/ATTACH]
تنويه : لقد سبق لي وأن قمتُ بنشر هذا النص في جريدة الشبيبة وفي موقع آخر .
[ بلغت الشيخوخة ومازلت ابحث عن ارجوحة الطفل ]
محمد الماغوط