الكلام في عذاب القبر(( الإمام نور الدين عبدالله بن حميد بن سلُّوم السالمي ))

    • الكلام في عذاب القبر(( الإمام نور الدين عبدالله بن حميد بن سلُّوم السالمي ))

      [FONT=arial, verdana, helvetica]
      ( قوله ثم عاب القبر الخ ) عطف بثم المقتضية للتراخي، وذلك أنه لما استطرد في بيان الرزق وأخذ بالكلام عليه كان بين ذكر الموت وذكر عذاب القبر مهلة فناسب عطفه بثم، وذكر القبر تغليبا لما عليه العادة لأنه هو الغالب في أحوال الموتى، وإلا فكل ميت أراد الله تعذيبه فكذلك حكمة سواء قبر أو أكلته السباع أو حرق وذري في الريح، ولا يمنع منه تفرق الأجزاء، لأن الله على كل شيء قدير، وكذلك أيضا نعيم القبر واقتصاره على ذكر العذاب دون النعيم لكثرة التعبير به عن المقام.

      ( اعلم ) إن العلماء اختلفوا في ثبوت عذاب القبر فذهب جابر بن زيد([1]) رضي الله عنه، والجمهور إلى ثبوته لما ورد من الآيات والأحاديث الدالة على ذلك حتى قال في المعالم إنها متواترة معنى، فمن الآيات قوله تعالى ((النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ))([2]) ولقد تكلف ابن أبي نبهان وهو ممن ينكر عذاب القبر تأويل هذه الآية حتى خرج بها عن أسلوب النظم الشريف فقال: فيها تقديم وتأخير والأصل ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ( ومنها ) قوله تعالى ((سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم ))([3]) فإنه ذكر يعذبون ثلاث مرات فالأول بإقامة الحدود، والثانية في القبر والثالثة بعد البعث كذا قيل ( ومنها ) قوله تعالى حكاية عن الكفار ((ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ))([4]) فذكروا أنهم أميتوا اثنتين كما إنهم أحيوا اثنتين .

      ( ورد ) بأن الحياة الأولى هي الحياة الدنيوية، والثانية الأخروية، وإن الإماتة الأولى هي عبارة عن عدمهم قبل الوجود والإماتة الثانية هي التي فارقوا بها الدنيا.( وأما ) الأحاديث فمنها ما أخرجه ابن شيبة وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((يسلط الله على الكافر في قبره تسعة وتسعين تنينا تنهشه وتلدغه حتى تقوم الساعة لو أن تنينا منها نفخ على الأرض ما انبتت خضراء ))([5]) قال الباجوري: والتنين بكسر المثناة الفوقية وتشديد النون وهو أكبر الثعابين قيل وحكمة هذا العدد أنه كفر بأسماء لله الحسنى وهي تسعة وتسعين ا. هـ .

      والأحاديث في هذا المعنى كثيرة تراجع من محلها ( واحتج ) النافون بقوله تعالى ((يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ))([6]) قالوا: لو كانوا معذبين في القبر ما سموه مرقدا وأجيب بأنهم سموه بلك نظرا إلى ما شاهدوا من هول الموقف حتى صار القبر بالنسبة إليهم كالمرقد، فبقوله تعالى ((يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة ))([7]) قالوا: لو كانوا معذبين لاستطالوا المدة ولما أقسموا أنهم لم يلبثوا إلا ساعة.

      ( وأجيب ) عنه بأنهم إنما سموا تلك المدة ساعة بالنسبة إلى ما كشف لهم من التأبيد الذي لا انقطاع له فمدة البرزخ بالإضافة إلى ما بعدها من الأبد أقل من ساعة ( وبقوله ) تعالى : ((لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ))([8])

      ( قالوا ) لو عذبوا في القبر لزم إحيائهم فيه ثم إماتتهم بعد التعذيب، ويجاب بأن الخطاب لأهل الجنة فإذا أحياهم الله في القبر لما أراده منهم فلا يسمى ما بعد تلك الحياة موتا بالإضافة إليهم، كيف وقد ورد في الحديث أن المؤمن يرى منزله في النار أن لو عصى ومنزله في الجنة لما أطاع فيريد أن ينهض إليه فيقال له: لم يأت أوان ذلك نم سعيدا نومة العروس وليس النوم بموت فلا يذوقون إلا الموتة الأولى.

      ( قوله تواتر الأخبار معنا ) أي تواتر معنى الأخبار النبوية فمعنى تمييز محول عن مضاف، والمتواتر في إصلاحهم : هو خبر جماعة عن جماعة لا يمكن تواطي مثلهم على الكذب عادة مسندين الخبر إلى الحسن فإن رووا الخبر بلفظه سمي تواترا لفظيا، وإن روى كل منهم بلفظ يخالف لفظ الآخر واتفقوا في المعنى سمي التواتر معنويا، لاشتراك جميع الرواة في ذلك المعنى بنفسه وإن اختلفت عباراتهم.

      ( قوله فانتبه ) أي فاستيقظ من غفلتك تكملة للبيت وفائدته التنبيه للسامع من غفلته، والمعنى إذا عرفت أن عذاب القبر جاء به التواتر المعنوي فلا تكن ذا غفلة عن أخذ الحذر منه ولا ذا تماد في الجهل به فإن حق ما جاءت به الأخبار المتواترة أن يكون معلوما لك .

      ( قوله واعتقدن صدقه ) أي مطابقة التواتر المعنوي للواقع أي انتبه للعلم به واعتقد صدقه، فالتواتر مما يقطع بصدقه وكذلك يقطع بصدق كل خبر عرف بالضرورة وبصدق كل خبر عرف بالاستدلال، وبصدق خبر الله تعالى وبصدق خبر رسوله وبصدق من أخبر الصادق بصدقه وبصدق الإجماع وبصدق خبر أخبر به عن قائله وهو حاضر يسمع الخبر ولا ينكره، ولم يمنعه من الإنكار مانع وبصدق الخبر المستفيض المتلقى بالقبول لكن وجوب تصديق ما ذكر من التواتر إنما هو متوقف على من بلغه ذلك أما في زماننا فقد تعذر إدراك التواتر من غيره، وصارت الأخبار كلها منزلة الآحاد لانقطاع الرواة إلا ما اجتمعت عليه الأمة أن هذا متواتر أو أنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فحينئذ يجب تصديق الإجماع والقطع بصدق الخبر، ولذا قال صاحب المرآة : المعتبر في تصحيح الأخبار وفي كونها تواترا أو آحادا هو ما عليه السلف في الثلاثة القرون لا يوجب القطع به على من هو في زماننا لأن كلا متعبد بعلمه ثم إن رواية أنه متواتر في تلك القرون لا تكون غالبا إلا أحادية فينقلب المتواتر أحاديا فيكون مظنون الصدق، والعقائد لا تنبني على ظن فلذا صح الخلاف في عذاب القبر.

      ( فإن قيل ) فما وجه كلام الناظم في قوله واعتقدن صدقه ؟

      ( قلنا :( إنه مبني على غير الوجوب أو على إرادة من بلغه ذلك التواتر الموجب للصدق فلا إشكال.

      ( قوله ولا تحل ) بضم المثناة الفوقية أي ولا تقل بإحالة تعذيب ميت ردا على من قال إن تعذيب الميت خارج عن المعقول قالوا: إن قدرنا إمكانه في القبر لإعادة الروح فيه فلا يمكن ذلك في كل ميت فأنا نشاهد من قتل فصلب بعد القتل مدة طويلة حتى تنفى أجزاؤه فلا نرى أنها حدثت حياة يدرك بها العذاب، وكذلك من أكلته السباع أو أحرق بالنار وأذري في الرياح، أنا نعلم ضرورة أن أجزاؤه تفرقت وحياته مع تفرق أجزاؤه تعذرت.

      ( وأجيب ) عن الأول: بأنه يحتمل أن يخلق فيه حياة لا ندركها نحن وعن الثاني: أنه مبني على انه يشترط في الحياة وجود البنية بتمامها ونحن لا نقول به لإمكان أن يخلق الله لكل جزء انفرد حياة يحس بها ألم العذاب ( قوله لوجوه يحتمل ) أي يحتملها التعذيب وتلك الوجوه هي ما في الأجوبة التي ذكرناها.
      -----------------------------------------------------------------------------

      [1] ـ هو جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي أبو عبدالله تابعي من فقهاء الشيعة من أهل الكوفة، أثنى عليه بعض رجال الحديث واتهمه آخرون بالقول بالرجعة، وكان واسع الرواية غزير العلم بالدين مات بالكوفة عام 128 هـ .

      راجه تهذيب التهذيب 2 : 46 وفهرست الطوسي 45 وميزان الاعتدال 1 : 176 وذيل المذيل 98

      [2] ـ سورة غافر آية رقم 46

      [3] ـ سورة التوبة آية رقم 101 وقد جاءت الآية محرفة في المطبوعة حيث قال ( غليظ ) بدلا من ( عظيم )

      [4] ـ سورة غافر آية رقم 11 وتكملة الآية ( فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ).

      [5] ـ الحديث رواه الإمام أحمد بن حنبل في المسند 3 : 38 – حدثني أبي ، ثنا أبو عبد الرحمن ، ثنا سعيد بن أبي أيوب. قال سمعت أبا السمح يقول سمعت أبا الهيثم يقول ، سمعت أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكره .

      ورواه الدارمي في الرقاق 94 ، ورواه الترمذي في القيامة 36 .

      [6] ـ سورة يس آية رقم 52 وتكملة الآية ( هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ).

      [7] ـ سورة الروم آية رقم 55 .

      [8] ـ سورة الدخان آية رقم 65 وتكملة الآية ( ووقاهم عذاب الجحيم ).


      [/FONT]

      عُمانيٌ وأنطلقُ إلى الغايات نستبقُ وفخري اليوم إسلامي لغير الله لا أثقُ وميداني بسلطنتي وساحُ العلمِ منطلقُ
    • منكري فرية عذاب القبر اعتمدوا الأدلة القرآنية... والتي "يستقر لها القلب ويطمئن بها" ؛ ومثبتوا الفرية يتبعون الروايات الظنية "والتي لا يستقر لها قلب "

      ضدق الله العظيم إذ يقول { ذلك الكتاب لا ريب فيه }