اصلاح دول من الداخل

    • اصلاح دول من الداخل

      السلام عليكم

      اصاتح دولة من الداخل

      عندما ينظر المراقب إلى ما يجري في المنطقة العربية من تطورات مفاجئة ومفصلية، يتبادر إلى الذهن مباشرة تساؤل أساسي حول خلفية وأسباب تلك التحولات الكبيرة. خصوصا أنها تتم بتوال زمني عجيب أشبه بسلسلة متوالية الحلقات تسلم كل منها التالية على الرغم من تباين معطيات كل حالة عن الأخرى. ولا شك في أن أسهل التفسيرات هو ذلك التآمري، حيث يكون الخارج والمتآمرون معه المتهم الأقرب دائما لتحميله مسؤولية ما يجري. بيد أن الأمر أعمق من ذلك وأشد تعقيدا. إذ تتجاوز أسبابه ودواعيه تلك القوالب الجاهزة من التفسيرات، بل إن ذاك التفسير التآمري كان بذاته ضمن أسباب تراكم أوضاع مختلة وتفاقم أزمات هيكلية تم غض الطرف عنها ركونا واتكالا على اتهام الخارج بكل ما هو سيئ في سياساتنا بل وفي تركيبة وخصائص مجتمعاتنا.
      إذن نقطة البدء في استعادة الاستقرار والأمان إلى المنطقة العربية، تكمن في الاعتراف بأن الخلل وجوهرالمشكلة داخلي وليس خارجيا. دون إغفال أهمية الخارج أو دوره، لكن مع وضعه في حجمه الحقيقي، حتى يمكن منح الداخل ما يستحق من اهتمام وتركيز وبالتالي التعرف بحق على جذور المشكلة وطبيعتها، ما يساعد بدوره على تحديد ووضع أفكار عملية وواقعية للتعامل معها.
      وأول ما يجب التوقف عنده في هذا الخصوص أن الثورات والاحتجاجات التي تسود المنطقة العربية حاليا،– وعلى اختلاف حالاتها- إنما تشترك جميعها في مطلب أساسي عام هو التغيير، ما يعني أن أحد أبرز أسباب تلك الفورات الاجتماعية المفاجئة هو عدم التغيير، أو بعبارة صريحة مباشرة “الجمود” الذي أصاب المجتمعات العربية في مختلف مناحي الحياة. فعلى الرغم من شعارات التغيير والتطوير المعلنة منذ سنوات طويلة، إلا أن واقع الأمر والسياسات الفعلية المتبعة لم تكن تحمل تغييرا ذا شأن في أي اتجاه، بل إن النذر اليسير من التغيير كان دائما يصب في اتجاه تعميق الخلل القائم سواء في التهميش السياسي واحتكار السلطة، أو في ضعف دولاب الاقتصاد وتفاقم تأثيراته السلبية على الشرائح الدنيا وهي الغالبية من المجتمعات، مقابل مزيد من الغنى والرفاهية الاقتصادية للشرائح العليا وهي أقلية. وعدا ذلك فإن تغييرا فعليا لم يكن يتم في أي مجال. لذلك لوحظ أن كثيرا من مطالب الاحتجاجات والثورات العربية الجديدة تتمحور حول فكرة التغيير أحيانا دون تحديد لماهيته أو اتجاهه، حتى بدا الأمر في جانب منه وكأن المطلوب مجرد التغيير لذاته ليس أكثر.
      لذا فإن المطلوب هو إحداث تغيير شامل وجذري، يتعدى حدود تغيير الأشخاص والسياسات والأفكار، إلى تغيير الرموز والمسميات بل وربما الهياكل والمؤسسات، بعد أن تسبب الجمود والتكلس فيما يشبه عقدة نفسية لدى الشعوب العربية، حتى إنها لم تعد تطيق سماع اسم رمز أو التعامل مع مؤسسة أو قبول سياسة معينة فقط لارتباطها في الذهنية العامة بالعهد السابق.
      الخطوة التالية في ذلك الاتجاه، أن يكون التغيير مصحوبا بإجراءات تنفيذية وآليات عمل ولا يقتصر على شعارات أو عناوين عريضة لتوجهات ومبادئ كبيرة لم تكن تطبق على أرض الواقع. لذلك لابد أن يكون كل وعد مقرونا بقرارات تنفيذية كفيلة بتحويله إلى واقع، إن لم يكن بشكل فوري وعاجل، فحسبما يقتضي التنفيذ من مدى زمني وإجراءات عملية.
      ولا يمكن الحديث عن إجراءات وسياسات تنفيذية ناجحة دون رقابة أو محاسبة فعالة ومحايدة، وإلا فقدت الإجراءات نزاهتها وافتقدت السياسات قوة الدفع الأساسية لها بغياب مبدأ الثواب والعقاب. على أن كل ما سبق يظل غير ذي جدوى في مجتمع متجمد لا يسعى نحو الأفضل ولا يقبل بالتداول والإحلال في شتى المجالات، فإذا ظل المجتمع محكوما بالسلطة ذاتها سواء كشخوص أو كأحزاب وتنظيمات أو كقوى سياسية واجتماعية دون أمل في تغيير أي منها، فلن يكون هناك وازع ولا دافع لا نحو التغيير ولا نحو تطبيق سياسات فعالة وناجحة. ففي هذه الحالة تكون فكرة الحكم والسلطة قد فقدت جوهرها وهو السعي نحو النجاح في تطبيق سياسات ترضى عنها الشعوب، حتى يمكن الاستمرار في السلطة استنادا إلى ذلك الرضا، فإذ كان الاستمرار مضمونا فلا داعي ولا مبرر للإجادة أو للإجهاد في استرضاء الشعب، إذ ليس لرضاه أو سخطه أهمية. وهذه هي السقطة الأساسية التي وقعت فيها حكومات ونظم الدول التي تعرضت للثورة أو لا تزال تعيش حالة احتجاج شعبي. حيث تمردت الشعوب على تلك المعادلة القائمة على حكم أبدي لا حاجة للحكام فيه إلى الشعوب.
      من هنا فإن فكرة تداول السلطة وأن تعبر الحكومات عن آراء الشعوب واختياراتها، تعد هي المدخل الأول للإصلاح الداخلي الضروري لعودة الاستقرار والأمان إلى المنطقة. فدون رسوخ فكرة التداول والقابلية للإزاحة عن الحكم بشكل سلمي ونزيه، فإن أي حديث عن التغيير والتطوير والتحديث والتنمية يفقد صدقيته.
      ولما كان تداول السلطة حجر زاوية في الحكم الرشيد، فإن المقصد هنا يصبح السعي إلى تلك الرشادة في الحكم وليس فقط إلى تغيير الحاكم، وإلا لكانت الانقلابات وسيلة شرعية للحكم وتحقيق فكرة التداول. ومن الضروري في ذلك السياق لفت الانتباه إلى أن مفهوم الحكم الرشيد قد لا ينصرف بالضرورة إلى الديمقراطية الليبرالية بمعناها الغربي، أو إلى أي صيغة محددة أخرى، فالغاية ليست الديمقراطية لذاتها، وإنما هي في النهاية وسيلة وطريقة حياة يرضى فيها الفرد والمجتمع عن نفسه وعمن يحكمونه.
      المغزى أن التحول نحو حكم صالح رشيد بغض النظر عن صيغته أو اسمه أو آلياته التفصيلية، هو الطريق السليم نحو الاستقرار بمعناه السياسي، على ألا تكون الصيغة أو الآليات بدورها محل خلاف أو تنابذ، فإذا رضي الشعب بصيغة ما أيا كانت، فبها ونعمت. وعندها ربما تتراجع أولوية التداول في السلطة، لكن لا تنتفي أهمية التغيير والتطوير كأداة جوهرية في تحقيق التطور والتنمية أحد المقاصد الأساسية للحكم.
      ولا ينفصل ذلك المنحى السياسي في السعي إلى الاستقرار، عن مناح أخرى لا تقل أهمية بل ربما تزيد، وهي المناحي الاجتماعية والاقتصادية. وتتضافر كلها لتشكل معا ما يسمى القوة الشاملة للدولة، بمقومات عسكرية واقتصادية وسياسية واجتماعية ومعنوية. أي القوة بمختلف أوجهها الصلبة والناعمة. ويصعب الحديث عن تطور سياسي وحكم رشيد وحرية في إبداء الرأي دون سند اقتصادي وأرضية اجتماعية تكفل الرقي بالمجتمع والدولة سياسيا دون انقسامات وأزمات. فالمجتمع المنشغل بالبحث عن قوت يومه تكون قدرته على التفكير السياسي السليم محدودة حيث يستهلك قدرا كبيرا من طاقته الفكرية والعملية في تلبية الاحتياجات الأساسية. لذلك يلاحظ أن المجتمعات الغنية أقل اضطرابا بشكل عام، وأقل بحثا عن التغيير السياسي بشكل خاص. فغالبا ما يرتبط النزوع إلى الاعتراض والتمرد على الوضع القائم سياسيا، بأوضاع اقتصادية سيئة، أخذا في الاعتبار أن غنى الدولة أو وفرة مواردها ليست وحدها مقياسا للوضع الاقتصادي، فمن جهة تحتل عدالة التوزيع في الموارد وعوائدها أهمية قصوى في الشعور بالرضا لدى المواطن وإلا أصبحت الموارد والوفرة عامل إثارة وليست عامل استقرار إذ تثير الفرقة والواقيعة بين شرائح المجتمع. ومن جهة ثانية فإن مفهوم الاقتصاد القوي يتجاوز كثيرا توافر الموارد أو الوفرة المالية. إذ تكتمل عناصر قوة أي اقتصاد إذا ما تم توظيف موارد متنوعة ومتكاملة بتمويل كاف في إنتاج محلي يحقق استغناء ذاتيا، بل ويزيد من عوائد الدولة ليعاد ضخها مرة في دولاب الاقتصاد بما فيه عجلة الإنتاج وكذلك رفاهية الفرد والمجتمع. ما يعني بإيجاز أن وفرة السيولة المالية لا تعني اقتصادا قويا وإنما فقط تعطي المجتمعات فرصة تحصيل احتياجاتها اعتمادا على الخارج، مما يؤدي إلى ارتباطات وتشابكات سياسية ودفاعية تنعكس بدورها على حرية القرار. الأمر الذي يعيدنا مجددا إلى الحديث عن السياسة كمدخل للإصلاح الداخلي، فإذا كان الاقتصاد أساسا لا يمكن للمجتمعات بناء قوتها بدونه، فإن الحرية السياسية والسعي الدؤوب نحو الحكم الرشيد بصيغة ملائمة لكل مجتمع وإتاحة الفرصة لأجيال جديدة عمريا وفكريا لتمارس بحرية ما جبلت عليه البشرية من نزوع للتغيير والتطوير، تظل هي المقومات الأساسية والبذور التي يجب البدء في غرسها بشكل فوري في المجتمعات العربية كافة، سواء لاستعادة الاستقرار والأمان في دول فقدته بالفعل، أو لتثبيت وتحصين دول لا تزال مستقرة.. حتى الآن