أطلق زفيراً طويلاً بعد شهيق عميق من سيجارته العربية الملتفة، واعتدل في جلسته، وإذا بفتاةٍ تقف أمامه، كانت معالم الجمال قد أقسمت أن تجتمع فيها، فالسارية على السفينة طولها، وأسود الفحم لون عينها، وملمس ورد الياسمين يداها، والكبرياء صدرها، وصدرها الكبرياء، خرجت مع هندسة الفواكه الربيعية بجسم لا يعرف التعثر، ولا الاهتزاز، ومن فوح المعاني خرجت بقلبٍ لو اشتبك مع سبعين جسد لأحياها، ولأعطاها أسمى معاني الحب والسلام، كان وسيط أصوات العصافير صوتها، لا تعلم كيف أتى، وهل أحبالها الصوتية كأحبالنا أو هي من الجنة ؟ ولأول مرة، لم يشعر الرجل بأدنى حسٍّ لمعنى الزمن، وكاد أن يُقتلَ مما رآه، فلولا أنه يعلم ألا وجود للحور العين على الأرض، لقال هي أم الحور العين، انتفض فجأةً ونظر بسرعة إلى جانبه، ليجد يده قد اهتزت وألقت ببقايا سيجارته بعيداً، فقد اقترب لهيبها من إصبعيه، وتنبه لحرق النار، ليرتسم أمامه معنيان متضادان تماماً، نار سيجارته، وجنة الجمال التي تقف أمامه، عاد بوجهه إليها وقال :
" من أنتِ بحق الله ؟! ".
-" أنا ؟ ألا تعرفني أيها العربي ؟ أنا أم الأوطان ". قالت بحياء تأبى السماء على علوها حين تراه .
" أم الأوطان ؟! وهل للأوطان أم يا جميلتي ؟ ". سأل الرجل .
-" كم أنت مظلوم أيها العربي، كم أنت مظلوم ! ألا تعرف ذلك، ألم يعلمك أبوك تلك المفاهيم العالية، والمعاني الأصيلة ؟ ".
-" لا أدري، لا أستطيع القول بأنه لم يعلمني، فربما كان قد أفرغ سلال العلم في رأسي، لكن رأسي وجموده أبيا أن يفهما ما يعنيه ذلك " .
-" أغبيٌّ أنت ؟ " . سألت الفتاة .
-" كلا، فقد قالوا عني في طفولتي بأنني الأذكى بين الأطفال " .
سكت الرجل هنيهة، وتابع :
" نعم، نعم لقد قرأت ذلك، قرأت أن الطفل العربي هو الأذكى بين أطفال العالم " . ثم عادت الفتاة تسأل :
" حسنـاً، وماذا حلَّ بك الآن ؟ " .
-" لا أعلم، ربما كان هناك سبب لذلك ".
-" هل لك أعداء ؟ ".
ضحك الرجل طويلاً، وانقلب على ظهره مقهقهاً ضاماً حجرة بطنه بكلتا يديه، وصمت تدريجياً وقال :
" بل قولي هل لك أصدقاء " .
-" مــاذا ؟! ". سألت الفتاة متعجبة .
-" نعم، ليس للعربي أصدقاء، الكل يريدني غبياً " .
حزنت الفتاة طويلاً، واشتد نور غريب قوي الإنارة في الغرفة، ليضع الرجل ساعديه على عينيه، بعد أن أغمضهما، وسمع أنينــــــاً قصـيراً متقطعاً، علم بعد ذلك أن دمعة الفتاة قد أضاءت المكان، أخذ الرجل يصرخ راجياً :
" كفى، كفى، ما بالك تبكين ؟ عليك أن تغضبي وألا تحزني، الغضب هو من سيقودنا للعلا، لا الحزن يا فتاتي، لا الحزن ".
-" لكنني لا أغضب، ولا أعرف شعور الغضب، لقد خُلقتُ كاملة الأوصاف أيها العربي، كاملة الأوصاف بلا نقص، وقلبي كتفاحة حمراء تخلو من أدنى وقعةٍ لدودة الفاكهة، أنا لا أعرف الغضب، لا أعرف سوى الفرح والحزن، بهما أعيش، بهما أنتظر، أنتظر اليوم الذي فيه تأتون، وما زلت أنتظر، وقد طال الانتظار، لذا أتيتك سائلة ما أخركم عني ؟ أو هل انقلبت نعمة النسيان لتكون نقمةً فتنسوني، ماذا جرى لكم ؟ ".
-" ما اسمك بحق ربك يا فتاتي ؟!! ". سأل راجياً الإجابة .
-" أنا أم الأوطان، ألم أقل لك ؟ أنا أم الأوطان " .
-" أأنت فلسطين يا صغيرتي ؟ ". سأل بهمس سنجاب في الشتاء .
-" نعم، لقد عرفت أخيراً، أنا هي، أنا فلسطين أم الأوطان أيها العربي ". أجابت فرحةً ضاحكة .
عاد الرجل وركن ظهره إلى الحائط، أخرج مسبحته الغليظة، وقال بحزن :
" ماذا حصل لك يا فلسطين ؟ أجيبيني " .
-" أنا في سجن من الأشواك الصلبة، تحت سقف يمطر اللهب، وفوق أرض لا تحمل إلا معاني الجفاف والقحط، آن لكَ أن تأتي وتساعدني في الخلاص أيها العربي، تعال هيـا، وسأعطيك ما تريد " .
بكى الرجل طويلاً، وما سلمت مسبحته من ملح دمعه، والفتاة تنظر إليه وتراقبه، لتسأله مستغربة :
" الحزن ؟! إنه الحزن الذي وبختني لأجله قبل قليل، أين الغضب الذي أوصيتني به الآن، أين هو ؟ " .
-" الغضـــب ؟ هل تسأليني الغضـــب ؟ كل الأشواك يكسرها الغضـــب، إلا تلك التي زرعت في صدرك يا حبيبتي " .
-" مـاذا ؟ لماذا يا رجل ؟ " . سألت بحزن .
-" كل الطرق مفتوحة إلا طريقك، فأنت خلف سد الماء الذي منه نشرب، وإذا أردناك، يهدم السد أولاً، ولا نشرب بعدها " .
-" من علمك ذلك ؟ من لقنك ذلك أيها العربي ؟ " .
-" هم الذين علموني ذلك، أولئك الذين لا أعرفهم، ففي كل يوم خلف وجهٍ هم يختبئون " .
-" إذاً، سأعود خائبة أيها العربي، أهناك ما تريد قوله ؟ " .
نظر الرجل إلى قدميه ترتجفان من أيام الزمان، فكر قليلاً وقال :
" هناك كلام أريد قوله يا جميلتي " .
-" ما هو ؟ " .
-" أنا أحبك، وأبنائي يحبونك، أنا أحزن كثيراً لأجلك، في كل وقت أتذكرك فيه يا حبيبة الله، وأقسم، لولا عذاب جهنم لاتخذت منك قبلةً أتعبد إليها " . وغاب في صمتٍ طويل .
" ها أنا عائدة أيها العربي، عائدة للعذاب الذي أنا وأنتم فيه، لعلكم يوماً تأتون إلي، وداعـــاً " . وطارت بعيداً. قام الرجل عن الأرض وما زالت دموعه تصله بها، وأراد أن يصرخ لولا أن الحزن يكتم الصوت، وقال :
" سوف نأتيك، سوف نأتيك يوماً، أعدك بذلك، سوف نأتيك يوماً فانتظرينا أرجوك " .
بقي الرجل مكانه أياماً طويلة، إلى أن مات من شدة العطش، فمياه السدود لم تعد تروي حبه الطاهر، لأن تلك المياه لا تروي سوى الجسد، أما أن تحب وطنك، فحبك مَيْتٌ بحكم السدود .
قصة :نبيــــه سليم
" من أنتِ بحق الله ؟! ".
-" أنا ؟ ألا تعرفني أيها العربي ؟ أنا أم الأوطان ". قالت بحياء تأبى السماء على علوها حين تراه .
" أم الأوطان ؟! وهل للأوطان أم يا جميلتي ؟ ". سأل الرجل .
-" كم أنت مظلوم أيها العربي، كم أنت مظلوم ! ألا تعرف ذلك، ألم يعلمك أبوك تلك المفاهيم العالية، والمعاني الأصيلة ؟ ".
-" لا أدري، لا أستطيع القول بأنه لم يعلمني، فربما كان قد أفرغ سلال العلم في رأسي، لكن رأسي وجموده أبيا أن يفهما ما يعنيه ذلك " .
-" أغبيٌّ أنت ؟ " . سألت الفتاة .
-" كلا، فقد قالوا عني في طفولتي بأنني الأذكى بين الأطفال " .
سكت الرجل هنيهة، وتابع :
" نعم، نعم لقد قرأت ذلك، قرأت أن الطفل العربي هو الأذكى بين أطفال العالم " . ثم عادت الفتاة تسأل :
" حسنـاً، وماذا حلَّ بك الآن ؟ " .
-" لا أعلم، ربما كان هناك سبب لذلك ".
-" هل لك أعداء ؟ ".
ضحك الرجل طويلاً، وانقلب على ظهره مقهقهاً ضاماً حجرة بطنه بكلتا يديه، وصمت تدريجياً وقال :
" بل قولي هل لك أصدقاء " .
-" مــاذا ؟! ". سألت الفتاة متعجبة .
-" نعم، ليس للعربي أصدقاء، الكل يريدني غبياً " .
حزنت الفتاة طويلاً، واشتد نور غريب قوي الإنارة في الغرفة، ليضع الرجل ساعديه على عينيه، بعد أن أغمضهما، وسمع أنينــــــاً قصـيراً متقطعاً، علم بعد ذلك أن دمعة الفتاة قد أضاءت المكان، أخذ الرجل يصرخ راجياً :
" كفى، كفى، ما بالك تبكين ؟ عليك أن تغضبي وألا تحزني، الغضب هو من سيقودنا للعلا، لا الحزن يا فتاتي، لا الحزن ".
-" لكنني لا أغضب، ولا أعرف شعور الغضب، لقد خُلقتُ كاملة الأوصاف أيها العربي، كاملة الأوصاف بلا نقص، وقلبي كتفاحة حمراء تخلو من أدنى وقعةٍ لدودة الفاكهة، أنا لا أعرف الغضب، لا أعرف سوى الفرح والحزن، بهما أعيش، بهما أنتظر، أنتظر اليوم الذي فيه تأتون، وما زلت أنتظر، وقد طال الانتظار، لذا أتيتك سائلة ما أخركم عني ؟ أو هل انقلبت نعمة النسيان لتكون نقمةً فتنسوني، ماذا جرى لكم ؟ ".
-" ما اسمك بحق ربك يا فتاتي ؟!! ". سأل راجياً الإجابة .
-" أنا أم الأوطان، ألم أقل لك ؟ أنا أم الأوطان " .
-" أأنت فلسطين يا صغيرتي ؟ ". سأل بهمس سنجاب في الشتاء .
-" نعم، لقد عرفت أخيراً، أنا هي، أنا فلسطين أم الأوطان أيها العربي ". أجابت فرحةً ضاحكة .
عاد الرجل وركن ظهره إلى الحائط، أخرج مسبحته الغليظة، وقال بحزن :
" ماذا حصل لك يا فلسطين ؟ أجيبيني " .
-" أنا في سجن من الأشواك الصلبة، تحت سقف يمطر اللهب، وفوق أرض لا تحمل إلا معاني الجفاف والقحط، آن لكَ أن تأتي وتساعدني في الخلاص أيها العربي، تعال هيـا، وسأعطيك ما تريد " .
بكى الرجل طويلاً، وما سلمت مسبحته من ملح دمعه، والفتاة تنظر إليه وتراقبه، لتسأله مستغربة :
" الحزن ؟! إنه الحزن الذي وبختني لأجله قبل قليل، أين الغضب الذي أوصيتني به الآن، أين هو ؟ " .
-" الغضـــب ؟ هل تسأليني الغضـــب ؟ كل الأشواك يكسرها الغضـــب، إلا تلك التي زرعت في صدرك يا حبيبتي " .
-" مـاذا ؟ لماذا يا رجل ؟ " . سألت بحزن .
-" كل الطرق مفتوحة إلا طريقك، فأنت خلف سد الماء الذي منه نشرب، وإذا أردناك، يهدم السد أولاً، ولا نشرب بعدها " .
-" من علمك ذلك ؟ من لقنك ذلك أيها العربي ؟ " .
-" هم الذين علموني ذلك، أولئك الذين لا أعرفهم، ففي كل يوم خلف وجهٍ هم يختبئون " .
-" إذاً، سأعود خائبة أيها العربي، أهناك ما تريد قوله ؟ " .
نظر الرجل إلى قدميه ترتجفان من أيام الزمان، فكر قليلاً وقال :
" هناك كلام أريد قوله يا جميلتي " .
-" ما هو ؟ " .
-" أنا أحبك، وأبنائي يحبونك، أنا أحزن كثيراً لأجلك، في كل وقت أتذكرك فيه يا حبيبة الله، وأقسم، لولا عذاب جهنم لاتخذت منك قبلةً أتعبد إليها " . وغاب في صمتٍ طويل .
" ها أنا عائدة أيها العربي، عائدة للعذاب الذي أنا وأنتم فيه، لعلكم يوماً تأتون إلي، وداعـــاً " . وطارت بعيداً. قام الرجل عن الأرض وما زالت دموعه تصله بها، وأراد أن يصرخ لولا أن الحزن يكتم الصوت، وقال :
" سوف نأتيك، سوف نأتيك يوماً، أعدك بذلك، سوف نأتيك يوماً فانتظرينا أرجوك " .
بقي الرجل مكانه أياماً طويلة، إلى أن مات من شدة العطش، فمياه السدود لم تعد تروي حبه الطاهر، لأن تلك المياه لا تروي سوى الجسد، أما أن تحب وطنك، فحبك مَيْتٌ بحكم السدود .
قصة :نبيــــه سليم