* ماذا حصل حتى تنازعتنا الفتن وعدنا إلى الجاهلية الأولى والعصبية الحيوانية التي لا ترى إلا (هذا من شيعتي وهذا من عدوي) وسياسة فرِّق تسد التي ينشرها العدو.

د. سعيدة بنت خاطر الفارسية

مثل عربي قديم اعتدتُ أن أعنون به مقالي الأخير كل عام قبل السفر والإجازة، والمثل شهير لا داعي لذكر مسبباته.. وللصيف أشعاره وأغنياته يقول الشاعر اللبناني سعيد عقل متغنيا بالصيف والشام.. وقد غنتْ هذه الأغنية المطربة فيروز: يا شَـامُ عَادَ الصّـيفُ متّئِدَاً وَعَادَ بِيَ الجَنَاحُ صَـرَخَ الحَنينُ إليكِ بِي: أقلِعْ، وَنَادَتْني الرّياحُ كلُّ الذينَ أحبِّهُـمْ نَهَبُـوا رُقَادِيَ وَاسـتَرَاحوا فأنا هُنَا جُرحُ الهَوَى، وهُنَاكَ في وَطَني جراحُ وعليكِ عَينِي يا دِمَشـقُ، فمِنكِ ينهَمِرُ الصّبَاحُ في الشَّامِ أنتَ هَوَىً وفي بَيْرُوتَ أغنيةٌ ورَاحُ أهـلي وأهلُكَ وَالحَضَارَةُ وَحَّـدَتْنا وَالسَّـمَاحُ وَصُمُودُنَا وَقَوَافِلُ الأبطَالِ، مَنْ ضَحّوا وَرَاحوا يا شَـامُ، يا بَوّابَةَ التّارِيخِ، تَحرُسُـكِ الرِّمَاحُ هذه إحدى أغاني الزمن الجميل. زمن لم تكن فيه للمذاهب الدينية كل هذا التعصب والتناحر والغباء. زمن كان الشاعر المسيحي (القروي) يكتب روائع الشعر في مولد رسول المسلمين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وكان العراقي الشيعي يتزوج السنية دون أن يسأل هي تنتمي لأي مذهب أو دين، وكان العبقري سيد درويش يكتب (قوم يا مصري مصر دايما بتناديك ويعرج على المسلم والمسيحي واليهودي كمواطنين مصريين لا فرق بينهم..

(يوم مبارك تم لك فيه السعود / حب جارك قبل ما تحب الوجود إيه نصارى ومسلمين قال إيه ويهود / دي العبارة نسل واحد مـ الجدود **** ليه يا مصري كل أحوالك عجب / تشكي فقرك وأنت ماشي فوق دهب مصر جنة طول ما فيها أنت يا نيل / عمر ابنك لم يعيش أبدا ذليل) ماذا حصل حتى تنازعتنا الفتن وعدنا إلى الجاهلية الأولى والعصبية الحيوانية التي لا ترى إلا (هذا من شيعتي وهذا من عدوي) وسياسة فرِّق تسد التي ينشرها العدو وهي لصالحه ونبصم عليها نحن بغباء، أليس الوطن للجميع والدين لله.

كان سعيد عقل يرى الشام وطنه واليوم لبنان يقفل حدوده بوجه السوريين حتى لا يتقوى بهم المسلمون السنة في لبنان.. إنها لعبة السياسة فإيران مصلحتها أن تبقي سوريا تحت حكم أسرة الأسد وإن كان عددهم الأقل في سوريا وفي العالم برمته. أما الموقف الكريم فهو موقف أردوغان هذا الرجل النبيل حتى في فوزه، الأمر الذي أعطى درسا لحكامنا العرب بقوله: (نحن لسنا سادة لهذه الأمة نحن خدم لها وسنظل كذلك على الدوام متواضعين قريبين من تراب هذه الأرض). أردوغان فتح الحدود التركية أمام السوريين وفي كل مرة يكرر لن نقفل الحدود وكأنه يوسم لبنان التي تعد سوريا الأقرب لها نسبا ومصاهرة وتاريخا وجغرافيا.

عندما قلت سأذهب للقاهرة هذا العام؛ تكررت لماذا تذهبين ومصر هذا العام ما زالت تعاني من توابع الثورة؟. قلت: أريد أن أطمئن على رعيتي، فليس الساسة فقط من لديهم رعية حتى نحن الكتاب لدينا رعية واسعة من المثقفين، ورغم التواصل عبر الإيميل، أحببت أن أرى بعيني المتغيرات، وأول ما يلفت النظر قلة السائحين لدرجة انعدامهم، ثانيا: برودة الجو بطريقة ملفتة للنظر حتى لتشكو من عدم تحمل البرد وأنت جالس مساء على النيل مع أن شهر يونيو هو بداية الحر في القاهرة.. ترى هل استخفت الأرض مما حاق بها من ظلم وفساد؟

ثالثا: تحول ميدان التحرير إلى مزار لكل زائر، ولأول مرة أدقق في الميدان بشكل عام فأراه جميلا متسعا ترى هل الهموم تعمي البصر والبصيرة عن رؤية الجمال؟ رابعا: الأمن مستتب بالفعل في القاهرة.

في شقته الجديدة بالمقطم يقيم نجم صالونه الأدبي لنخبة قليلة من أصدقائه، هذه المرة جلس أحمد فؤاد نجم فاقدا لحيويته المعهودة عندما يكتب نصا جديدا عن مبارك، ونجم الشاعر الذي تخصص في شتيمة مبارك لدى كل تصرف يصدر منه قل أو زاد، فعلى سبيل المثال عندما أجرى الرئيس عملية المرارة مثلا كتب أحمد نجم القصيدة الشهيرة (سلامة مرارتك يا ريّس) والتي سأكتفي بنقل مقطعين منها نظرا لطولها وشهرتها: "سلامتك سلامتك / سلامة مراراتك. سلامة مرارتك / مرارة العُـزاز. وإيه يعني إحنا / ما نِوْلع بجاز. إنتَ الحقيقة / وإحنا المجاز".

وهو بعد قصائده الشهيرة والعديدة في مبارك استضافته المذيعة منى الحسيني صاحبة البرنامج الشهير (حوار صريح جدا) حاولتْ منى أن تؤثر عليه بقولها الرئيس الوحيد الذي لم يسجنك هو حسني مبارك، جمال عبدالناصر سجنك، السادات سجنك ومع هذا لما توفى عبد الناصر رثيته بقصيدة رائعة ومؤثرة لماذا؟

رد نجم لأن عبد الناصر صحيح تختلف معه لكن تحترمه وأنا وغيري زعلنا وحزنا جدا على موت عبدالناصر، قالت المذيعة: (يا عمي أحمد لازم نحترم الريس بتاعنا اللي مالوش كبير يشتري له كبير، عيب ننشر غسلينا في الخارج) المهم أن المذيعة أعطت لنجم درسا في الأخلاق لكن نجم لم يكن محششا في ذلك اليوم وهي من المرات القليلة التي تراه فيها صاحيا فردد مع المذيعة أنا أتأسف للريّس متأسف جدا جدا. لكن هذا التأسف لم يمنعه من كتابة أقذع قصيدة هجاء في مبارك بعد خروجه من التلفزيون بساعة.

أما آخر قصيدة في شتيمة مبارك فجاءت عندما رشح نفسه للمرة الألف في الانتخابات. قال فيها نجم: "نؤيد سيادتك لفترة جديدة نكمل خلالها المسيرة السعيدة وبالمرة فيها نبيع الحديدة مفيش حاجة تانية نبيعها خلاص ***** نبايع سيادته ولا حد غيره كفايا علينا نبرطع في خيره ونوم شعب مصر العظيمة وشخيره يقول للحرامي ما تسرق كمان ***** نبايع سيادته وابنه وحفيده مفيش زي فكره قديمه وجديده خرابك يا مالطة حيحصل بايده ومين فيكي يعني بيسمع آذان ***** نبوس أيد سيادتك ورجلك كمان تخليك معانا يا ريّس عشان وجودك ضرورة فرضها الزمان ومن غير وجودك حقيقي نضيع ***** دي مصر بتاعتك واحنا ضيوفك كفايا علينا يا ريس نشوفك وعاذرين سيادتك وفاهمين ظروفك عليك بس تؤمر واحنا نطيع ***** لكن يعني ما دمنا شعب انتساب ودايما وأبدا فـ حالة غياب متعملش لينا يا ريس حساب دي عزبة سيادتك و فيها انت حر".

ولا أدري ما سبب حزن نجم.. لكن يبدو كأنه فقد غريمة الذي يولِّد شيطان الشعر عنده ويغذيه.. ويذكرني هذا بحزن جرير الشديد على وفاة الفرزدق رغم كل الذي كان يحدث بينهما على مدار 40 عاما من الهجاء.

هذا العام يأتي مقالي الختامي وقد سافرتُ بالفعل لا أدري لماذا هذه السنة (2011م) لها خصوصيتها في كل شيء حتى أن الصيف لم يُضع اللبن فقط بل أضاع الدماء والأرواح وأضاع سمعة رؤساء كنا ننظر إليهم من زاوية حرجة بين الشك واليقين.

أكثر...