اين كان الـجيش العراقي عند سقوط بغداد يوم 9/4/2003؟
10-09-2003
بقلم: فيصل حسون
(رئيس نقابة الصحافيين العراقيين في العهد الملكي)
عندما فوجئ العالم بسقوط حكم صدام حسين صبيحة التاسع من ابريل 2003 باقتحام الدبابات الاميركية لبغداد عاصمة الخلافة العباسية ومهد الحضارة الانسانية، تردد في آفاق الدنيا سؤال كبير: اين الجيش العراقي من هذه الهزيمة النكراء في معركة لم تستغرق عشرين يوما من مزاعم المواجهات، وقد قيل على مدى سنوات انه رابع جيش في عداد جيوش الدول الكبرى؟ اين الجيش الذي زعم «مسيلمة العصر»، ان تعداده ناف على ستة ملايين مقاتل، وانه سيجعل مغول العصر ينتحرون على اسوار بغداد؟ واين هم قادة هذا الجيش المغاوير الذين لطخوا سمعته بعار الهزيمة قبل ان تتاح له فرصة تبرئة الذمة مما نسب اليه او اتهم به من التهاون والتخاذل والتقصير؟
قبل الاجابة عن هذه التساؤلات لابد من ان نضع النقاط على الحروف بالعودة الى تاريخ الجيش العراقي الذي بدأ عند ولادة اول افواجه في السادس من يناير عام 1920 قبل اعلان قيام الحكم الوطني بتتويج فيصل الاول ملكا على العراق في 21 اغسطس 1921 وكان فوج موسى الكاظم.
والجيش العراقي ولد في ظل الاحتلال البريطاني الاول للعراق الذي تم خلال الحرب العظمى 1914/1918 ولم يحظ يوما ما بعناية او رعاية سلطات الاحتلال كما لاقى معارضة من البريطانيين لتوسيع كيانه وتعزيز قوته وتيسير حصوله على حاجته من الاسلحة المتطورة التي يواكب بها تطور الجيوش ويؤمن بحيازتها حدود العراق من اطماع الطامعين ولا ينسى العراقيون ذلك الصراع الذي احتدم بين الملك فيصل الاول ومعه ياسين الهاشمي وجعفر العسكري ونوري السعيد، وبين دار الاعتماد البريطاني التي كان على رأسها المندوب السامي، في مرحلة العشرينات من اجل توسيع نطاق الجيش العراق ونقله من صيغة تأليفه من المتطوعين الى صيغة المجندين المكلفين، ولم تقر عين فيصل الاول حتى وفاته، وحتى بعد ان انعتق العراق من بوتقة الانتداب ودخل عصبة الامم في يوم 3 اكتوبر من عام 1932، باصدار قانون خدمة العلم، ذلك القانون الذي لم يتح له ان يرى نور التشريع والتنفيذ الا في عام 1935 حيث دعيت اول وجبة ينطبق عليها قانون التجنيد الاجباري للالتحاق بخدمة العلم لتدعيم الجيش وتمكينه من اداء واجبه في حماية كيان العراق الجديد داخليا وخارجيا.
وسيلة انقلابات
ومع ما رافق مرحلة نشوء الجيش وتطوره منذ قيام الحكم الوطني وحتى انهيار النظام الملكي في الرابع عشر من تموز 1958 من ايجابيات، او ما افرزته من سلبيات، وعلى الرغم من ان الجيش كان الوسيلة التي استخدمت في تحطيم النظام الملكي واقامة النظام الجمهوري الذي تسببت انقلاباته في آخر الامر ليس في تغييب وجود الجيش العراقي فحسب، بل تغييب استقلال العراق وتهديد الجهود والتضحيات التي بذلت لانتزاعه من براثن الاحتلال البريطاني له، وقد بدأ اولها في اواخر عام 1914 وبدأ الثاني في مطلع صيف 1921، فان ذلك الجيش كان وظل حتى انقلاب 8 فبراير 1963 حريصا على تقاليده التي ارساها على مدى اربعين عاما من عمره، ولم يستطع اول متمرد من قادته واعني به عبدالكريم قاسم قائد انقلاب 14 نوفمبر 1958 ان يتخطى تلك التقاليد بان يمنح نفسه او المقربين من ضباطه رتبا ونياشين دون استحقاقهم لها ليس برضاه عنهم بل بأحقية قدمهم.
وكان من تقاليد الجيش ان لا تعطى رتبة في القوات المسلحة لاي كان وبأي مستوى الا اذا كانت هناك حالة استثنائية تحتمها، وعندئذ تقرن تلك الرتبة بصفة الوقتية، واذكر على سبيل المثال لا الحصر، ما حدث في عام 1941 خلال انتداب فوزي القاوقجي قائد جيش انقاذ فلسطين في عام 1948 لقيادة المتطوعين الذين كانت مهمتهم مواجهة المتسللين الى غربي العراق من جيش الجنرال الانكليزي جون كلوب (المعروف بابي هنيك) فقد اعلن ان القاوقجي منح رتبة مقدم وقتية ليقوم بتلك المهمة الاستثنائية، وحتى عندما تأسست منظمة الضباط الاحرار التي دبرَّت الانقلاب على العهد الملكي لم تتخط التقاليد العسكرية في قدم الرتب عند اختيارها رئىس التنظيم ونائبيه اللذين يليانه في قدم رتبتهما التي كانت رتبته ذاتها.
الانقلاب الاول
ومع ان الجيش العراقي كان اول جيش عربي قام بانقلاب عسكري في القرن العشرين، وهو انقلاب بكر صدقي في 29 اكتوبر الاول 1936 فقد ظل حريصا على تقاليده، ولم تتعرض بنيته لما تعرضت له جيوش اخرى في بلدان عربية في خواء في الروح العسكرية البعيدة عن المطامع والاغراض الشخصية، ولم يتعرض الجيش العراقي الى ضربات الخلل في تقاليده وقوانينه وتركيباته الا عندما حدث انقلاب 8/2/1963 عندما بدأت العصابة التي سطت على السلطة باسم المجلس الوطني لقيادة الثورة بمنح العقيد الركن المتقاعد عبدالسلام محمد عارف رتبة مشير ركن، ومنح المقدم الركن صالح مهدي عماش رتبة فريق ركن وتعيين العميد طاهر يحيى رئيسا لاركان الجيش برتبة فريق وهو لم يكن من خريجي كلية الاركان ليغدو رئىسا للاركان، وذلك كان شأن خليفته عبدالرحمن محمد عارف حين عين بعد الانقلاب على نظام 8 فبراير 63 رئيسا لاركان الجيش، وهو لم ينتسب لكلية الاركان.. وتلك كانت اللمحات الاولى للخروج على تقاليد الجيش العراقي!
عصابة البكر وصدام
وحين حلت كارثة 17 ـ 30 يوليو 1968 واقتحمت عصابة احمد حسن البكر وصدام حسين، القصر الجمهوري متآمرة مع ضباط القصر بزعامة نائب مدير الاستخبارات العسكرية المقدم الركن عبدالرزاق النايف وقائد لواء الحرس الجمهوري العقيد الركن ابراهيم عبدالرحمن الداود، فقد بادرت العصابة الى اغداق الرتب العسكرية على جلاوزتها، فكان من نصيب البكر الذي عينه ما سمي بالمجلس الوطني لمجلس قيادة الثورة، رئىسا للجمهورية تقليد نفسه رتبة «المهيب» وهي اعلى من رتبة الفريق الاول، ويتولى كذلك منصب القائد العام، وليس الاعلى المنصب الشرفي الذي يتقلده الملوك والرؤساء وانما القيادة الفعلية للقوات المسلحة، وهو الذي لم يسمح له تحصيله العلمي الالتحاق بكلية الاركان حيث ان التحاقه بالكلية العسكرية لم يتم بعد تخرجه في الثانوية بل بوصفه خريج دار المعلمين الابتدائىة.. كما منح العقيد الطيار الركن حردان عبدالغفار التكريتي رتبة فريق ركن، وكذلك منح العقيد الركن ابراهيم الداود تلك الرتبة واغدقت رتب الفريق واللواء والعميد والعقيد على من هب ودب من افراد العصابة واتباعها، واكتفى صدام حسين حتى ذلك الوقت بنجمة الملازم التي وضعها على كتف بدلته العسكرية المسروقة عندما دخل القصر الجمهوري في الشاحنة التي حملت رفاق العصابة.
وبعد ان دانت الامور لعصابة البكر ـ صدام حسين في بغداد تطلعت بشرورها الى «درعا» حيث مقر قيادة الجبهة الشرقية التي تألفت من قادة الجيوش العراقية والسورية والاردنية وقواتها العاملة في الجبهة الشرقية منذ ما بعد عدوان 6 حزيران 1967 ومعركة الكرامة على ضفة الاردن الشرقية في 21 مارس 1968. ولان العصابة لم تتريث حتى تظفر باللواء الركن محمود كريم قائد الجبهة الشرقية العراقي فأقالته مبكرا، وآثر ان يستقر في عمان ولا يعود الى بغداد، فان زمرة من الجلاوزة انطلقت الى درعا لتختار مجموعة من الضباط ذوي الرتب المتفاوتة وتصطحبها بدعوى استقدامها لمهام اخرى في العراق، ولم تكن تلك المهام سوى الوقوف مستندة الى اعمدة خشبية اطلقت عليها زخات رصاص لتصعد الى بارئها ارواح ثمانية عشر ضابطا كان منهم المقدم الركن فاضل مصطفى مقدم ركن الحرس الجمهوري الذي رافق عبدالسلام عارف في رحلته الاخيرة الى البصرة حيث لقي مصرعه في حادث طائرة الهليكوبتر، وكان فاضل مصطفى من ركاب الطائرة الثانية التي لم تنفجر كما حدث لطائرة رئيس الجمهورية!.
آلاف الضباط
وللسيطرة على الجيش وافراغه من اي عنصر قد يؤلف خطرا على مستقبل عصابة البكر ـ صدام فقد حرصت العصابة على سد المنافذ امام اي رائحة للخطر بابعاد مئات بل آلاف الضباط من مواقعهم في الجيش فضلا عن احالة اكثريتهم على التقاعد، بينما لم تكن تلك الاكثرية قد خدمت في الجيش لسنوات يسد مرتبهم التقاعدي عنها ابسط حاجياتهم من الغذاء والكساء. وزج في الوقت نفسه انصاف المتعلمين ممن لا يحمل اغلبهم شهادة الدراسة الابتدائية في دورات مرتجلة لشهور معدودة تخرجوا بعدها ضباطا برتب لا يستحقونها وليكسروا بذلك تقاليد الجيش العراقي ومثاليات الضبط والربط فيه.
ولا عجب ان يحدث ذلك بعد ان بات الجيش ذو التقاليد العريقة رهن ارادة وسيطرة المكتب العسكري الذي يرأسه البلطجي ذو السوابق الاجرامية صدام حسين، والذي تعمد في اول جلسة يحضرها اللواء الركن خليل شنشل بصفته الرئىس الجديد لاركان الجيش الذي خلف رئىسه السابق اللواء الركن ابراهيم فيصل الانصاري الذي اقيل من منصبه وحكم عليه بالسجن بتهمة عدم ولائه لعصابة البكر ـ صدام، اقول ان صدام تعمد في تلك الجلسة ان يوجه كلامه للواء الركن شنشل الذي التحق ضابطا في الجيش بعد تخرجه برتبة ملازم في الكلية العسكرية قبل مولد صدام بعام كامل قائلا انه يعرف المصير الذي سينتهي اليه، فيما لو سولت له نفسه ان يفعل ما فعله اخرون، وهكذا ضمن صدام ولاء ذلك الضابط الملتزم بالتقاليد التي لم يكن منها طبعا الخضوع لجلاوزة العصابات ولكن طبيعة الرجل جعلت منه آلة طبعة لاوامر سلطة العصابة حتى جاءه يوم وهو فريق اول ركن يؤدي التحية لصدام حسين الذي قلده احمد حسن البكر في اخريات ايامه في رئاسة الجمهورية رتبة فريق اول ركن مقدم يسبق به شنشل في رتبته المماثلة ليجعله يؤدي التحية بالاستعداد لمن هو اصغر من اولاده!
وتمضي بنا الحكاية الى تسنم صدام حسين منصب رئاسة الجمهورية والقيادة العامة الفعلية وليست الشرفية! للقوات المسلحة بوصفه المهيب الركن، مع انه لم يلتحق باي دورة عسكرية او يتلق اي تدريب مما يتلقاه الجنود حيث تهرب اصلا من الخدمة العسكرية وفق قانون خدمة العلم وبدأ عمله بتعيين حسين بن كامل حسن المجيد (ابن العم المباشر لصدام حسين المجيد) مرافقا له برتبة ملازم، وهو الذي كان حتى ذلك الوقت شرطيا اول من راكبي موتوسيكلات الحراسة التي ترافق موكب احمد حسن البكر رئيس الجمهورية.
اغتيالات
وقبل ذلك، وبعد ان قتل حماد شهاب الذي منح بعد الانقلاب في 18-30 يوليو 1968 رتبتي اللواء فالفريق عندما تولى رئاسة الاركان ثم وزارة الدفاع بعد اقالة حردان التكريتي في عام 1970، وقتله في الكويت في ربيع 1971، وتولي احمد حسن البكر وزارة الدفاع اضافة لرئاسة الجمهورية، ورئاسة الوزراء ورئاسة ما يسمى مجلس قيادة الثورة.. حتى عام 1977 حينما تحول ذلك القائد والزعيم الكبير الى «ظل» لصدام الذي تغوَّل نفوذه فاذا به يعين شقيق زوجته عدنان خير الله الذي لم تزد رتبته عن ملازم عند مشاركته المزعومة في انقلاب 1963، وزيرا للدفاع برتبة فريق اول في 1977، وحتى قتله في حادث طائرة دبره له بمعرفة صدام زوج ابنته رغد العقيد حسين كامل حسن وزير ومسؤول التصنيع العسكري.
في عام 1989 بعد انتهاء الحرب العراقية التي استمرت ثماني سنوات وحصدت من ارواح منتسبي الجيش قادة وضباطا وجنودا مئات الالوف نتيجة الاخطاء التي وقع فيها صدام حسين بقيادته الرعناء للحرب، وفرض جهله وجهل جلاوزته على القادة العسكريين الذين كثيرا ما حملهم صدام جرائر جهله فاوردهم موارد التهكلة في مسرح القتال او بقتلهم بدعوى عدم تنفيذهم اوامر صدام او عدم التزامهم بآرائه وافكاره الفجة . ولا يسعنا تعداد اسماء القادة الكبار الذين جندلهم رصاص صدام، او عدنان خير الله لمجرد انهم وقفوا بوجه اخطائهما الفظيعة، وجرائمهما ضد الانسانية.
وتمهيدا لما حدث بعد غزو الكويت في 2 اغسطس 1990 وخلال حرب تحريرها وبعد انسحاب الجيش القسري منها في فبراير 1991، لابد ان نمر ببعض وثائق عصابة صدام حسين التي مسخت بها الجيش العراقي وغيرت بنيته وتقاليده واجهزت على ما تمتع به على مدى اربعين عاما من سجايا ومزايا.. ففي مرحلة تركيع المجتمع العراقي وترويعه ليخضع لتسلط العصابة التي رفعت زورا رايات القومية واستقدمت لمعاونتها في مهمتها الشريرة مومياءات ماتبقى من قادة تيار البعث العربي الذي سقط في مستنقع الطائفية العشائرية في كثير من مواقعه التي ابتليت بوجوده على ارضها. ومن هذا المنطلق، راح وعاظ السلطان من العفالقة يزينون لعصابة البكر - صدام بأفكارهم الظلامية وآرائهم التضليلية اساليبهم الارهابية لاخضاع الجيش العراقي لنزواتهم وتفريغه من القيادات التي ظلت حتى النهاية امينة على القيم الاخلاقية العسكرية، صادقة في اخلاصها للمبادئ الوطنية والقومية، حريصة على استخلاص وحماية حقوق ومصالح الامة في وطنها العربي الكبير، وتفتقت تلك العقليات الظلامية عن خطط تآمرية على الجيش العراقي بوصفه الاداة الوحيدة الاخيرة الباقية لشعب العراق لاغاثته عندما تحدق به الاخطار، ونجدته حين تطبق عليه الملمات، فكان هناك ما يسمى بالمؤتمر القطري الثامن لفلول المتآمرين العفالقة في العراق، الذي انعقد من الثامن وحتى الثاني عشر من يناير 1974، واعلنت قراراته في ايام 5 و6 و7 مارس 1974. وجاءت الفقرة الخاصة بالجيش والقوات المسلحة بالنص الآتي:
لقد واجه الحزب والثورة - والمقصود هنا سلطة عصابة البكر صدام - منذ اليوم الاول لانقلاب 1968 وبصورة ملحة جدا مهمتين اساسيتين:
الاولى: تعزيز قيادة الحزب للجيش جنبا الى جنب مع تطهيره من العناصر المشبوهة والمتآمرة والمغامرة (كذا) ونشر مبادئ الحزب والثقافة القومية والاشتراكية العامة بين منتسبيه، ووضع الاسس والضوابط المبدئية والعسكرية التي تمكنه من تأدية واجباته على اكمل وجه، وتحصنه ضد الانحرافات والمنزلقات التي ارتكبتها باسمه، في العهدين القاسمي والعارفي «رمز الارستقراطية العسكرية» وضمان التحامه الكامل بالحركة الشعبية التي يقودها الحزب، واسهامه الفعال والصحيح في البناء الثوري وفي تأدية المهمات الوطنية والقومية.
والثانية: هي القضاء على اوضاع التخلف والفوضى التي نشأت في الجيش خلال العهود الماضية، وتنظيمه على اسس علمية حديثة وتطوير اساليب تدريبه وتعبئته وقدراته النضالية والفنية، وزيادة تشكيلاته وامداده باسلحة ومعدات قوية وحديثة.. كي يتمكن، وعلى افضل وجه، من تأدية واجباته المقدسة في الحفاظ على وحدة البلاد ودرء العدوان الخارجي، والاسهام الفعال في المعركة القومية ضد العدوان الامبريالي والصهيوني.
مرحلة انفراد صدام
هكذا خططت عصابة البكر - صدام منذ البداية لمسخ الجيش العراقي وتحويله عما عرف به وأُعد له، وعمل في خدمته وسبيله على مدى عمره الذي ناهز آنذاك الخمسين عاما، والى الترهل وفقدان المصداقية وشيوع الفساد في صفوفه وخراب الذمم عند الغالبية من ضباطه وقادته، او من وضعوا على رأس قياداته من معدومي الكفاءة والجهلة وغير المتعلمين ومن لم يتزودوا من العلم وبخاصة العلم العسكري الحديث ولو بأولوياته وبأقل نصيب.
وعندما ارتفعت وتيرة المقاومة لحكم عصابة البكر - صدام، اثر نجاح الثورة الاسلامية الايرانية في القضاء على حكم الشاه، واحباط مساعي التراضي والتوافق بين جناحي البعث في سوريا والعراق، تحت مظلة الاتحاد المرتجى لدمشق وبغداد، فقد قرر صدام فك رابطة الشراكة بينه وبين البكر، منذ بدء انفراده علنا بالسلطة في العراق كما اعلن عداءه السافر والنهائي لسوريا، ولأنه لم يلمس اي نجاح لدعوته المشبوهة التي اعلنها في 8 فبراير 1980 تحت اسم (الميثاق القومي العربي) الذي حلم بأن يكرس تأييد الدول العربية له، زعيما مرموقا للامة العربية... فقد انتهز مناسبة اقدام طلبة جامعة طهران ممن اطلق عليهم وصف السائرين على نهج الخميني زعيم الثورة الاسلامية الايرانية على محاصرة مبنى السفارة الاميركية في طهران واعتبار الاميركيين فيه اسرى... اقول ان صدام انتهز تلك المناسبة لينفذ قسمه الذي اطلقه عندما اعلن انه سيثأر لكل قطرة دم سالت من جسد طارق عزيز الذي قذفه احد شباب المعارضة العراقية بقنبلة بينما كان يحضر ندوة تضليلية في جامعة المستنصرية، وظنا من صدام - وربما باتفاق تآمري مع واشنطن - انه سيستطيع توجيه ضربة عسكرية قاصمة لإيران يفك بها اسر دبلوماسيي السفارة الاميركية في طهران، وبذلك يكسب رضى الاميركان ورئيسهم رونالد ريغان.
كما يخمد شوكة المقاومة الداخلية العراقية، حينما يشغل الجيش والعراق كله في حرب خارجية. وظن صدام ان حربه مع ايران لن تستغرق سوى اسبوع او اسبوعين، اعتمادا منه على تفكك الجيش الايراني - بفعل الثورة الاسلامية التي استعاضت عنه بمجموعات الحرس الثوري، وبالرعونة والعنجهية اللتين تميز بهما صدام طوال عمره الذي امضاه في التشرد ورفقة الاشرار في بيئة التخلف الحضاري والانساني، اندفع الى زج الجيش في تلك الحرب البائسة التي ظن انها لن تمتد لأكثر من اسبوعين واذا بها تتوالى لثماني سنوات كاملات.
تشاوشيسكو بغداد
لقد كان الجيش في مرحلة تلك الحرب المجنونة بحاجة الى احترام صدام وجلاوزته وضباطه وجنوده، اكثر من حاجته الى حشد عملائه وصنائعه وجواسيسه في صفوفه، ليبدلوا من طبيعته وليخربوا من بنيته الانسانية وليقطعوا الصلة ما بين ماضيه المشرق وحاضره البائس التعيس، حتى ان ما انتهت الحرب بتلك النهاية المفجعة التي اهلكت الحرث والنسل وعاد بقايا ضباط وجنود الجيش الى مدنهم وقراهم دون ان يجدوا الخير الذي كان يفيض به عليهم تراب وطنهم وماء فراتهم ودجلتهم، ولم تكن هناك بشائر ازدهار تنتظرهم بعد اعوام القحط والبوار والدمار التي عاشوها وكانت ثمانية أعوام عجافا.. كان طبيعيا ان تشيع على ألسنة العراقيين تسمية جديدة لصدام انتحلوها مما آل اليه مصير دكتاتور رومانيا «تشاوشيسكو» الذي قتله الثائرون عليه عشية عيد الميلاد عام 1989، حتى صارت تتردد في بغداد وسواها من مدن العراق احاديث وروايات عن «تشاوشيسكو بغداد». وضافت الارض بما رحبت بالطاغية وجلاوزته، وعندما حاول ان يتفادى نتائج وآثار نقمة الشعب والجيش عليه، لم يستطع ان يلجم جماح الشر المستقر في صميم شخصيته المعقدة فاطلق العنان لجلاوزته وصنائعه ليفاجئوا العالم بذلك الغزو البربري للكويت في 2 أغسطس 1990، وكان ذلك العمل هو رصاصة الرحمة التي قضى بها صدام حسين ليس على الجيش العراقي وحده، وانما على استقلال الكيان العراقي ووجوده بين دول وشعوب الأرض، وحين وقعت الهزيمة الشنعاء فقد كان ضحيتها الجيش الذي تلقى وحده نتائجها ودفع من دماء منتسبيه ثمنها، بينما جنب صدام ما سمي بفرق الحرس الجمهوري ويلات أم المعارك، ليستطيع بتلك الفرق ان يجهض انتفاضة الشعب على مظالمه، وفي تلك الايام السوداء اطلق صدام كلابه المسعورة لتنهش في لحوم العراقيين وتعب من دمائهم دون ان تشبع أو ترتوي، وهنا وحيث اضطر قادة الجيش وضباط وحداته الحقيقيون الى التنحي عن مواقع واجباتهم ومسؤولياتهم كرها أو تجنبا للولوغ في دماء أبناء شعبهم الذين ضاقوا ذرعا بالطاغية وحكمه الدكتاتوري، فان صدام كشف عن كل أوراقه عندما راح يبعث برسائل الشكر عبر الراديو والتلفزيون الى الجلاوزة الذين قادوا معركة ضد شعب الانتفاضة، ومن تلك الرسائل عرف العراقيون ان بائع الثلج في صيف بغداد عزت الدوري هو الفريق الأول الركن عزت ابراهيم الذي حقق اخماد التحرك الحباني في قطاع اربيل والسليمانية وان نائب العريف علي حسن المجيد ابن عم صدام وصاحب «أمجاد الأنفال» التي أباد فيها بالسلاح الكيمياوي خمسة آلاف من مواطني مدينة حلبجة في شمال العراق في ربيع 1988، اضاف امجادا أخرى الى سجله، الداكن السواد، بما فعله في مواجهة ثوار الانتفاضة في البصرة والعمارة وجنوب العراق مما استحق به ان يتقلد رتبة الفريق الأول الركن الذي لم يعد غريبا ان يصبح بعد اقل من عام وزيرا للدفاع بعد ان يتخلى الفريق الأول الركن حسين كامل حسن ـ ابن اخ علي الكيماوي ـ عن ذلك المنصب الرفيع الذي لم يعد يتناسب مع مركزه ومجال حظوته عند تشاوشيسكو العراق!، ولم تكتف برقيات الشكر التي وجهها الطاغية لجلاوزته عند الكشف عن هذه الانجازات التي حققها قادته الجدد الذين افرزتهم كارثة «ام المهالك» بل كان هناك آخرون كثيرون بلغوا في سلم الرتب العسكرية مرتبة اللواء الركن وكان من بينهم نائب الضباط طه الجزراوي نائب رئيس الجمهورية، وقاطع التذاكر في مستشفى مرجان في الحلة محمد حمزة الزبيدي الذي وسده الطاغية منصب رئاسة الوزراء اعترافا بشجاعته في قتل ثوار الانتفاضة برصاص رشاشه، ثم ركل جثة كل شهيد ورفسه بقدمه وتصوير تلك الافعال الشنعاء بافلام الفيديو التي بثتها شاشات تلفزيونات العالم، وكأنها تبث بعض افلام الكارتون للأطفال الصغار!
> > >
والآن حان الوقت الذي ينبغي ان نرد فيه على السؤال الذي جعلناه عنوانا لهذا المقال: «أين كان الجيش العراقي عند سقوط بغداد في 9/4/2003؟»، فنقول: ان الجيش الذي غاب عن معركة بغداد لم يكن هو جيش العراق الذي مثلت ولادته اعلان قيام فوج موسى الكاظم في يوم 6/1/1920 والذي لا يجوز ان يعتبر المسؤول عن سقوط بغداد في 9/4/2003، لأن صدام وعصابته قد غيبوه عن الوجود منذ حولوه عما قام من أجله من اهداف ومبادئ سامية، بل منذ ابعدوا عن قيادته وريادة اسلحته ووحداته، الأمناء على مصلحة الوطن والحرّاس على استقلال العراق والذين ظلوا كذك منذ قيام الكيان الوطني حتى بدأت عصابة البكر ـ صدام مهمتها في هدم هذا الكيان في يوم 17 تموز 1968، وكان اول ما فعلته لتحقيق النجاح في تلك المهمة السطو على الجيش والخلاص من كل ما مثله ويمثله من مداميك الحفاظ على العراق وشعبه وكيانه، ذخرا لأمته العربية ودرعا ترد عنها وعن الوطن العربي الكبير، الاطماع والكوارث والنكبات.
ولو كان جيش 6 يناير 1920 لم يزل عندما غزي العراق أخيرا لكان له في 9/4/2003 موقف يجنب بغداد تدنيسها بجنازير دبابات الأميركان، كما فعل عندما تصدى لدبابات الانكليز فمنعها من ان تدخل جنوبي بغداد بالزامها بقبول هدنة مشرفة لا تنال من استقلال العراق على الرغم من هزيمة حرب مايو 1941.
جيش صدام لا العراق
لكن الجيش الذي لم يحم بغداد من غزو الأميركان.. لم يكن جيش العراق، بل جيش دجنه صدام، وهكذا فان بول بريمر الحاكم السياسي الاميركي للعراق بقوة الاحتلال، عندما أعلن حل الجيش، فانه بذلك حل جيش صدام، وما زالت امام العراقيين فرصة اعادة جيشهم ليعيدوا به ومعه استقلال بلدهم، ويحققوا بذلك آمال العروبة والاسلام المعقودة على العراق المتحرر من اعداء الداخل والخارج والمنطلق على طريق الحق والحرية والمجد، ويومئذ نردد الأذان في كل مكان: حي على الكفاح.. حي على الفلاح.. والله اكبر ولله الحمد.
فرق الاعدام
وحين تكشف لصدام وحلفائه من قوى الشر في ارجاء العالم ان السحر انقلب على الساحر، وان ايران لن تستسلم لتلك المفاجأة التي تعرضت لها، هبت تلك القوى لدعم صدام وابتزازه لقاء تأمين صموده حتى يواصل حربه ولا يتوقف عن استنزاف موارده وموارد ايران في تلك الحرب العبثية القذرة، التي لم يكن لها ما يبررها سوى خوف صدام على سلطانه بعدما استفرد بحكم العراق والتحكم بموارده والظهور على الساحة العربية والعالمية بهيئة «البطل» و«الزعيم» و«رجل الاقدار»..! وحين لاح شبح الهزيمة لصدام بتمزق وحدات جيشه التي اقتحم بها ايران ولم تفلح بالصمود حتى في عربستان التي زعم جلاوزته انهم جاءوا لانقاذ عروبة اهلها من استعباد الفرس، راح الطاغية يتخبط فيما يفعل، واطلق لانتهازيته العنان، كما صب جام حقده على الجيش الذي لم تسعفه الظروف في تحقيق اطماعه وتنفيذ كبير جرائمه، فأنشأ فرق الاعدام التي ربضت في الخنادق الخلفية، لتقييد الجنود والضباط المتراجعين عن خطوط النار، سواء بانسحاب منظم، او قسري نتيجة اختلال توازن القوى.. لكن فرق الاعدام لم تتردد في اعتبار اولئك المتراجعين، متخاذلين جبناء لا مكان لهم على وجه الارض بل لا بد ان يقبروا في الخنادق التي تراجعوا فيها، وهكذا اوشكت اعداد ضحايات نيران قوات الباسدران من المقاتلين العراقيين ان تتساوى او تقل احيانا عن ضحايا من تصيبهم نيران فرق الاعدام، وعلى هذا النحو تغلغل الخوف من القتال ومواجهة العدو في خطوط النار في نفوس المقاتلين من افراد الجيش ضباطا وجنودا، وصار التهرب من الخدمة العسكرية والفرار من صفوف المقاتلين دأب كثيرين لم يبالوا حتى بتهديد جلاوزة الطاغية لهم بإعدام كل من يضبط فارا عن الالتحاق بالجيش على الفور ودون اي مساءلة او محاكمة... بينما فضل آخرون ان يكون تهربهم من الخدمة عن طريق افشاء الفساد في صفوف الجيش بانتهازهم الظروف الصعبة التي كان يعيش فيها مسؤولو الوحدات فيصدرون لهم الاجازات التي يتهربون بها من الخدمة في خطوط النار بدعوى ادائهم مهمات في بغداد ومدن اخرى داخل العراق، لقاء مبالغ نقدية او رشاوى مادية يفسدون بها ذمم اولئك المسؤولين عنهم والذين كانوا بدورهم ضحايا فساد صدام وحكمه وسياسته وأساليب ذلك الحكم الأسود التعسفي. ومع ان تطورات حرب السنوات الثماني دفعت صدام الى تكريس كل الموارد العراقية مادية وبشرية لتدعيم الجيش وتزويده بأحدث الاسلحة، والاسراف في الانفاق على التسليح وعسكرة العراق بوقف مشروعات التنمية والإعمار وحتى مشروعات الصيانة والتجديد والبناء، حيث تحمل المستقبل العراقي اعباء ومسؤوليات ديون ترتبت عليه لقاء ما أمد صدام به الجيش من اسلحة وعتاد، ناسيا ومتعمدا ان ينسى امداده بما يقوّم عوده ويشتد به ساعده من مشاعر الاعتداد بالكرامة والشموخ بعزة النفس والشجاعة التي تميز بها منتسبوا الجيش منذ نشأته وهو الذي التصقت به دوما صفة «الباسل».
10-09-2003
بقلم: فيصل حسون
(رئيس نقابة الصحافيين العراقيين في العهد الملكي)
عندما فوجئ العالم بسقوط حكم صدام حسين صبيحة التاسع من ابريل 2003 باقتحام الدبابات الاميركية لبغداد عاصمة الخلافة العباسية ومهد الحضارة الانسانية، تردد في آفاق الدنيا سؤال كبير: اين الجيش العراقي من هذه الهزيمة النكراء في معركة لم تستغرق عشرين يوما من مزاعم المواجهات، وقد قيل على مدى سنوات انه رابع جيش في عداد جيوش الدول الكبرى؟ اين الجيش الذي زعم «مسيلمة العصر»، ان تعداده ناف على ستة ملايين مقاتل، وانه سيجعل مغول العصر ينتحرون على اسوار بغداد؟ واين هم قادة هذا الجيش المغاوير الذين لطخوا سمعته بعار الهزيمة قبل ان تتاح له فرصة تبرئة الذمة مما نسب اليه او اتهم به من التهاون والتخاذل والتقصير؟
قبل الاجابة عن هذه التساؤلات لابد من ان نضع النقاط على الحروف بالعودة الى تاريخ الجيش العراقي الذي بدأ عند ولادة اول افواجه في السادس من يناير عام 1920 قبل اعلان قيام الحكم الوطني بتتويج فيصل الاول ملكا على العراق في 21 اغسطس 1921 وكان فوج موسى الكاظم.
والجيش العراقي ولد في ظل الاحتلال البريطاني الاول للعراق الذي تم خلال الحرب العظمى 1914/1918 ولم يحظ يوما ما بعناية او رعاية سلطات الاحتلال كما لاقى معارضة من البريطانيين لتوسيع كيانه وتعزيز قوته وتيسير حصوله على حاجته من الاسلحة المتطورة التي يواكب بها تطور الجيوش ويؤمن بحيازتها حدود العراق من اطماع الطامعين ولا ينسى العراقيون ذلك الصراع الذي احتدم بين الملك فيصل الاول ومعه ياسين الهاشمي وجعفر العسكري ونوري السعيد، وبين دار الاعتماد البريطاني التي كان على رأسها المندوب السامي، في مرحلة العشرينات من اجل توسيع نطاق الجيش العراق ونقله من صيغة تأليفه من المتطوعين الى صيغة المجندين المكلفين، ولم تقر عين فيصل الاول حتى وفاته، وحتى بعد ان انعتق العراق من بوتقة الانتداب ودخل عصبة الامم في يوم 3 اكتوبر من عام 1932، باصدار قانون خدمة العلم، ذلك القانون الذي لم يتح له ان يرى نور التشريع والتنفيذ الا في عام 1935 حيث دعيت اول وجبة ينطبق عليها قانون التجنيد الاجباري للالتحاق بخدمة العلم لتدعيم الجيش وتمكينه من اداء واجبه في حماية كيان العراق الجديد داخليا وخارجيا.
وسيلة انقلابات
ومع ما رافق مرحلة نشوء الجيش وتطوره منذ قيام الحكم الوطني وحتى انهيار النظام الملكي في الرابع عشر من تموز 1958 من ايجابيات، او ما افرزته من سلبيات، وعلى الرغم من ان الجيش كان الوسيلة التي استخدمت في تحطيم النظام الملكي واقامة النظام الجمهوري الذي تسببت انقلاباته في آخر الامر ليس في تغييب وجود الجيش العراقي فحسب، بل تغييب استقلال العراق وتهديد الجهود والتضحيات التي بذلت لانتزاعه من براثن الاحتلال البريطاني له، وقد بدأ اولها في اواخر عام 1914 وبدأ الثاني في مطلع صيف 1921، فان ذلك الجيش كان وظل حتى انقلاب 8 فبراير 1963 حريصا على تقاليده التي ارساها على مدى اربعين عاما من عمره، ولم يستطع اول متمرد من قادته واعني به عبدالكريم قاسم قائد انقلاب 14 نوفمبر 1958 ان يتخطى تلك التقاليد بان يمنح نفسه او المقربين من ضباطه رتبا ونياشين دون استحقاقهم لها ليس برضاه عنهم بل بأحقية قدمهم.
وكان من تقاليد الجيش ان لا تعطى رتبة في القوات المسلحة لاي كان وبأي مستوى الا اذا كانت هناك حالة استثنائية تحتمها، وعندئذ تقرن تلك الرتبة بصفة الوقتية، واذكر على سبيل المثال لا الحصر، ما حدث في عام 1941 خلال انتداب فوزي القاوقجي قائد جيش انقاذ فلسطين في عام 1948 لقيادة المتطوعين الذين كانت مهمتهم مواجهة المتسللين الى غربي العراق من جيش الجنرال الانكليزي جون كلوب (المعروف بابي هنيك) فقد اعلن ان القاوقجي منح رتبة مقدم وقتية ليقوم بتلك المهمة الاستثنائية، وحتى عندما تأسست منظمة الضباط الاحرار التي دبرَّت الانقلاب على العهد الملكي لم تتخط التقاليد العسكرية في قدم الرتب عند اختيارها رئىس التنظيم ونائبيه اللذين يليانه في قدم رتبتهما التي كانت رتبته ذاتها.
الانقلاب الاول
ومع ان الجيش العراقي كان اول جيش عربي قام بانقلاب عسكري في القرن العشرين، وهو انقلاب بكر صدقي في 29 اكتوبر الاول 1936 فقد ظل حريصا على تقاليده، ولم تتعرض بنيته لما تعرضت له جيوش اخرى في بلدان عربية في خواء في الروح العسكرية البعيدة عن المطامع والاغراض الشخصية، ولم يتعرض الجيش العراقي الى ضربات الخلل في تقاليده وقوانينه وتركيباته الا عندما حدث انقلاب 8/2/1963 عندما بدأت العصابة التي سطت على السلطة باسم المجلس الوطني لقيادة الثورة بمنح العقيد الركن المتقاعد عبدالسلام محمد عارف رتبة مشير ركن، ومنح المقدم الركن صالح مهدي عماش رتبة فريق ركن وتعيين العميد طاهر يحيى رئيسا لاركان الجيش برتبة فريق وهو لم يكن من خريجي كلية الاركان ليغدو رئىسا للاركان، وذلك كان شأن خليفته عبدالرحمن محمد عارف حين عين بعد الانقلاب على نظام 8 فبراير 63 رئيسا لاركان الجيش، وهو لم ينتسب لكلية الاركان.. وتلك كانت اللمحات الاولى للخروج على تقاليد الجيش العراقي!
عصابة البكر وصدام
وحين حلت كارثة 17 ـ 30 يوليو 1968 واقتحمت عصابة احمد حسن البكر وصدام حسين، القصر الجمهوري متآمرة مع ضباط القصر بزعامة نائب مدير الاستخبارات العسكرية المقدم الركن عبدالرزاق النايف وقائد لواء الحرس الجمهوري العقيد الركن ابراهيم عبدالرحمن الداود، فقد بادرت العصابة الى اغداق الرتب العسكرية على جلاوزتها، فكان من نصيب البكر الذي عينه ما سمي بالمجلس الوطني لمجلس قيادة الثورة، رئىسا للجمهورية تقليد نفسه رتبة «المهيب» وهي اعلى من رتبة الفريق الاول، ويتولى كذلك منصب القائد العام، وليس الاعلى المنصب الشرفي الذي يتقلده الملوك والرؤساء وانما القيادة الفعلية للقوات المسلحة، وهو الذي لم يسمح له تحصيله العلمي الالتحاق بكلية الاركان حيث ان التحاقه بالكلية العسكرية لم يتم بعد تخرجه في الثانوية بل بوصفه خريج دار المعلمين الابتدائىة.. كما منح العقيد الطيار الركن حردان عبدالغفار التكريتي رتبة فريق ركن، وكذلك منح العقيد الركن ابراهيم الداود تلك الرتبة واغدقت رتب الفريق واللواء والعميد والعقيد على من هب ودب من افراد العصابة واتباعها، واكتفى صدام حسين حتى ذلك الوقت بنجمة الملازم التي وضعها على كتف بدلته العسكرية المسروقة عندما دخل القصر الجمهوري في الشاحنة التي حملت رفاق العصابة.
وبعد ان دانت الامور لعصابة البكر ـ صدام حسين في بغداد تطلعت بشرورها الى «درعا» حيث مقر قيادة الجبهة الشرقية التي تألفت من قادة الجيوش العراقية والسورية والاردنية وقواتها العاملة في الجبهة الشرقية منذ ما بعد عدوان 6 حزيران 1967 ومعركة الكرامة على ضفة الاردن الشرقية في 21 مارس 1968. ولان العصابة لم تتريث حتى تظفر باللواء الركن محمود كريم قائد الجبهة الشرقية العراقي فأقالته مبكرا، وآثر ان يستقر في عمان ولا يعود الى بغداد، فان زمرة من الجلاوزة انطلقت الى درعا لتختار مجموعة من الضباط ذوي الرتب المتفاوتة وتصطحبها بدعوى استقدامها لمهام اخرى في العراق، ولم تكن تلك المهام سوى الوقوف مستندة الى اعمدة خشبية اطلقت عليها زخات رصاص لتصعد الى بارئها ارواح ثمانية عشر ضابطا كان منهم المقدم الركن فاضل مصطفى مقدم ركن الحرس الجمهوري الذي رافق عبدالسلام عارف في رحلته الاخيرة الى البصرة حيث لقي مصرعه في حادث طائرة الهليكوبتر، وكان فاضل مصطفى من ركاب الطائرة الثانية التي لم تنفجر كما حدث لطائرة رئيس الجمهورية!.
آلاف الضباط
وللسيطرة على الجيش وافراغه من اي عنصر قد يؤلف خطرا على مستقبل عصابة البكر ـ صدام فقد حرصت العصابة على سد المنافذ امام اي رائحة للخطر بابعاد مئات بل آلاف الضباط من مواقعهم في الجيش فضلا عن احالة اكثريتهم على التقاعد، بينما لم تكن تلك الاكثرية قد خدمت في الجيش لسنوات يسد مرتبهم التقاعدي عنها ابسط حاجياتهم من الغذاء والكساء. وزج في الوقت نفسه انصاف المتعلمين ممن لا يحمل اغلبهم شهادة الدراسة الابتدائية في دورات مرتجلة لشهور معدودة تخرجوا بعدها ضباطا برتب لا يستحقونها وليكسروا بذلك تقاليد الجيش العراقي ومثاليات الضبط والربط فيه.
ولا عجب ان يحدث ذلك بعد ان بات الجيش ذو التقاليد العريقة رهن ارادة وسيطرة المكتب العسكري الذي يرأسه البلطجي ذو السوابق الاجرامية صدام حسين، والذي تعمد في اول جلسة يحضرها اللواء الركن خليل شنشل بصفته الرئىس الجديد لاركان الجيش الذي خلف رئىسه السابق اللواء الركن ابراهيم فيصل الانصاري الذي اقيل من منصبه وحكم عليه بالسجن بتهمة عدم ولائه لعصابة البكر ـ صدام، اقول ان صدام تعمد في تلك الجلسة ان يوجه كلامه للواء الركن شنشل الذي التحق ضابطا في الجيش بعد تخرجه برتبة ملازم في الكلية العسكرية قبل مولد صدام بعام كامل قائلا انه يعرف المصير الذي سينتهي اليه، فيما لو سولت له نفسه ان يفعل ما فعله اخرون، وهكذا ضمن صدام ولاء ذلك الضابط الملتزم بالتقاليد التي لم يكن منها طبعا الخضوع لجلاوزة العصابات ولكن طبيعة الرجل جعلت منه آلة طبعة لاوامر سلطة العصابة حتى جاءه يوم وهو فريق اول ركن يؤدي التحية لصدام حسين الذي قلده احمد حسن البكر في اخريات ايامه في رئاسة الجمهورية رتبة فريق اول ركن مقدم يسبق به شنشل في رتبته المماثلة ليجعله يؤدي التحية بالاستعداد لمن هو اصغر من اولاده!
وتمضي بنا الحكاية الى تسنم صدام حسين منصب رئاسة الجمهورية والقيادة العامة الفعلية وليست الشرفية! للقوات المسلحة بوصفه المهيب الركن، مع انه لم يلتحق باي دورة عسكرية او يتلق اي تدريب مما يتلقاه الجنود حيث تهرب اصلا من الخدمة العسكرية وفق قانون خدمة العلم وبدأ عمله بتعيين حسين بن كامل حسن المجيد (ابن العم المباشر لصدام حسين المجيد) مرافقا له برتبة ملازم، وهو الذي كان حتى ذلك الوقت شرطيا اول من راكبي موتوسيكلات الحراسة التي ترافق موكب احمد حسن البكر رئيس الجمهورية.
اغتيالات
وقبل ذلك، وبعد ان قتل حماد شهاب الذي منح بعد الانقلاب في 18-30 يوليو 1968 رتبتي اللواء فالفريق عندما تولى رئاسة الاركان ثم وزارة الدفاع بعد اقالة حردان التكريتي في عام 1970، وقتله في الكويت في ربيع 1971، وتولي احمد حسن البكر وزارة الدفاع اضافة لرئاسة الجمهورية، ورئاسة الوزراء ورئاسة ما يسمى مجلس قيادة الثورة.. حتى عام 1977 حينما تحول ذلك القائد والزعيم الكبير الى «ظل» لصدام الذي تغوَّل نفوذه فاذا به يعين شقيق زوجته عدنان خير الله الذي لم تزد رتبته عن ملازم عند مشاركته المزعومة في انقلاب 1963، وزيرا للدفاع برتبة فريق اول في 1977، وحتى قتله في حادث طائرة دبره له بمعرفة صدام زوج ابنته رغد العقيد حسين كامل حسن وزير ومسؤول التصنيع العسكري.
في عام 1989 بعد انتهاء الحرب العراقية التي استمرت ثماني سنوات وحصدت من ارواح منتسبي الجيش قادة وضباطا وجنودا مئات الالوف نتيجة الاخطاء التي وقع فيها صدام حسين بقيادته الرعناء للحرب، وفرض جهله وجهل جلاوزته على القادة العسكريين الذين كثيرا ما حملهم صدام جرائر جهله فاوردهم موارد التهكلة في مسرح القتال او بقتلهم بدعوى عدم تنفيذهم اوامر صدام او عدم التزامهم بآرائه وافكاره الفجة . ولا يسعنا تعداد اسماء القادة الكبار الذين جندلهم رصاص صدام، او عدنان خير الله لمجرد انهم وقفوا بوجه اخطائهما الفظيعة، وجرائمهما ضد الانسانية.
وتمهيدا لما حدث بعد غزو الكويت في 2 اغسطس 1990 وخلال حرب تحريرها وبعد انسحاب الجيش القسري منها في فبراير 1991، لابد ان نمر ببعض وثائق عصابة صدام حسين التي مسخت بها الجيش العراقي وغيرت بنيته وتقاليده واجهزت على ما تمتع به على مدى اربعين عاما من سجايا ومزايا.. ففي مرحلة تركيع المجتمع العراقي وترويعه ليخضع لتسلط العصابة التي رفعت زورا رايات القومية واستقدمت لمعاونتها في مهمتها الشريرة مومياءات ماتبقى من قادة تيار البعث العربي الذي سقط في مستنقع الطائفية العشائرية في كثير من مواقعه التي ابتليت بوجوده على ارضها. ومن هذا المنطلق، راح وعاظ السلطان من العفالقة يزينون لعصابة البكر - صدام بأفكارهم الظلامية وآرائهم التضليلية اساليبهم الارهابية لاخضاع الجيش العراقي لنزواتهم وتفريغه من القيادات التي ظلت حتى النهاية امينة على القيم الاخلاقية العسكرية، صادقة في اخلاصها للمبادئ الوطنية والقومية، حريصة على استخلاص وحماية حقوق ومصالح الامة في وطنها العربي الكبير، وتفتقت تلك العقليات الظلامية عن خطط تآمرية على الجيش العراقي بوصفه الاداة الوحيدة الاخيرة الباقية لشعب العراق لاغاثته عندما تحدق به الاخطار، ونجدته حين تطبق عليه الملمات، فكان هناك ما يسمى بالمؤتمر القطري الثامن لفلول المتآمرين العفالقة في العراق، الذي انعقد من الثامن وحتى الثاني عشر من يناير 1974، واعلنت قراراته في ايام 5 و6 و7 مارس 1974. وجاءت الفقرة الخاصة بالجيش والقوات المسلحة بالنص الآتي:
لقد واجه الحزب والثورة - والمقصود هنا سلطة عصابة البكر صدام - منذ اليوم الاول لانقلاب 1968 وبصورة ملحة جدا مهمتين اساسيتين:
الاولى: تعزيز قيادة الحزب للجيش جنبا الى جنب مع تطهيره من العناصر المشبوهة والمتآمرة والمغامرة (كذا) ونشر مبادئ الحزب والثقافة القومية والاشتراكية العامة بين منتسبيه، ووضع الاسس والضوابط المبدئية والعسكرية التي تمكنه من تأدية واجباته على اكمل وجه، وتحصنه ضد الانحرافات والمنزلقات التي ارتكبتها باسمه، في العهدين القاسمي والعارفي «رمز الارستقراطية العسكرية» وضمان التحامه الكامل بالحركة الشعبية التي يقودها الحزب، واسهامه الفعال والصحيح في البناء الثوري وفي تأدية المهمات الوطنية والقومية.
والثانية: هي القضاء على اوضاع التخلف والفوضى التي نشأت في الجيش خلال العهود الماضية، وتنظيمه على اسس علمية حديثة وتطوير اساليب تدريبه وتعبئته وقدراته النضالية والفنية، وزيادة تشكيلاته وامداده باسلحة ومعدات قوية وحديثة.. كي يتمكن، وعلى افضل وجه، من تأدية واجباته المقدسة في الحفاظ على وحدة البلاد ودرء العدوان الخارجي، والاسهام الفعال في المعركة القومية ضد العدوان الامبريالي والصهيوني.
مرحلة انفراد صدام
هكذا خططت عصابة البكر - صدام منذ البداية لمسخ الجيش العراقي وتحويله عما عرف به وأُعد له، وعمل في خدمته وسبيله على مدى عمره الذي ناهز آنذاك الخمسين عاما، والى الترهل وفقدان المصداقية وشيوع الفساد في صفوفه وخراب الذمم عند الغالبية من ضباطه وقادته، او من وضعوا على رأس قياداته من معدومي الكفاءة والجهلة وغير المتعلمين ومن لم يتزودوا من العلم وبخاصة العلم العسكري الحديث ولو بأولوياته وبأقل نصيب.
وعندما ارتفعت وتيرة المقاومة لحكم عصابة البكر - صدام، اثر نجاح الثورة الاسلامية الايرانية في القضاء على حكم الشاه، واحباط مساعي التراضي والتوافق بين جناحي البعث في سوريا والعراق، تحت مظلة الاتحاد المرتجى لدمشق وبغداد، فقد قرر صدام فك رابطة الشراكة بينه وبين البكر، منذ بدء انفراده علنا بالسلطة في العراق كما اعلن عداءه السافر والنهائي لسوريا، ولأنه لم يلمس اي نجاح لدعوته المشبوهة التي اعلنها في 8 فبراير 1980 تحت اسم (الميثاق القومي العربي) الذي حلم بأن يكرس تأييد الدول العربية له، زعيما مرموقا للامة العربية... فقد انتهز مناسبة اقدام طلبة جامعة طهران ممن اطلق عليهم وصف السائرين على نهج الخميني زعيم الثورة الاسلامية الايرانية على محاصرة مبنى السفارة الاميركية في طهران واعتبار الاميركيين فيه اسرى... اقول ان صدام انتهز تلك المناسبة لينفذ قسمه الذي اطلقه عندما اعلن انه سيثأر لكل قطرة دم سالت من جسد طارق عزيز الذي قذفه احد شباب المعارضة العراقية بقنبلة بينما كان يحضر ندوة تضليلية في جامعة المستنصرية، وظنا من صدام - وربما باتفاق تآمري مع واشنطن - انه سيستطيع توجيه ضربة عسكرية قاصمة لإيران يفك بها اسر دبلوماسيي السفارة الاميركية في طهران، وبذلك يكسب رضى الاميركان ورئيسهم رونالد ريغان.
كما يخمد شوكة المقاومة الداخلية العراقية، حينما يشغل الجيش والعراق كله في حرب خارجية. وظن صدام ان حربه مع ايران لن تستغرق سوى اسبوع او اسبوعين، اعتمادا منه على تفكك الجيش الايراني - بفعل الثورة الاسلامية التي استعاضت عنه بمجموعات الحرس الثوري، وبالرعونة والعنجهية اللتين تميز بهما صدام طوال عمره الذي امضاه في التشرد ورفقة الاشرار في بيئة التخلف الحضاري والانساني، اندفع الى زج الجيش في تلك الحرب البائسة التي ظن انها لن تمتد لأكثر من اسبوعين واذا بها تتوالى لثماني سنوات كاملات.
تشاوشيسكو بغداد
لقد كان الجيش في مرحلة تلك الحرب المجنونة بحاجة الى احترام صدام وجلاوزته وضباطه وجنوده، اكثر من حاجته الى حشد عملائه وصنائعه وجواسيسه في صفوفه، ليبدلوا من طبيعته وليخربوا من بنيته الانسانية وليقطعوا الصلة ما بين ماضيه المشرق وحاضره البائس التعيس، حتى ان ما انتهت الحرب بتلك النهاية المفجعة التي اهلكت الحرث والنسل وعاد بقايا ضباط وجنود الجيش الى مدنهم وقراهم دون ان يجدوا الخير الذي كان يفيض به عليهم تراب وطنهم وماء فراتهم ودجلتهم، ولم تكن هناك بشائر ازدهار تنتظرهم بعد اعوام القحط والبوار والدمار التي عاشوها وكانت ثمانية أعوام عجافا.. كان طبيعيا ان تشيع على ألسنة العراقيين تسمية جديدة لصدام انتحلوها مما آل اليه مصير دكتاتور رومانيا «تشاوشيسكو» الذي قتله الثائرون عليه عشية عيد الميلاد عام 1989، حتى صارت تتردد في بغداد وسواها من مدن العراق احاديث وروايات عن «تشاوشيسكو بغداد». وضافت الارض بما رحبت بالطاغية وجلاوزته، وعندما حاول ان يتفادى نتائج وآثار نقمة الشعب والجيش عليه، لم يستطع ان يلجم جماح الشر المستقر في صميم شخصيته المعقدة فاطلق العنان لجلاوزته وصنائعه ليفاجئوا العالم بذلك الغزو البربري للكويت في 2 أغسطس 1990، وكان ذلك العمل هو رصاصة الرحمة التي قضى بها صدام حسين ليس على الجيش العراقي وحده، وانما على استقلال الكيان العراقي ووجوده بين دول وشعوب الأرض، وحين وقعت الهزيمة الشنعاء فقد كان ضحيتها الجيش الذي تلقى وحده نتائجها ودفع من دماء منتسبيه ثمنها، بينما جنب صدام ما سمي بفرق الحرس الجمهوري ويلات أم المعارك، ليستطيع بتلك الفرق ان يجهض انتفاضة الشعب على مظالمه، وفي تلك الايام السوداء اطلق صدام كلابه المسعورة لتنهش في لحوم العراقيين وتعب من دمائهم دون ان تشبع أو ترتوي، وهنا وحيث اضطر قادة الجيش وضباط وحداته الحقيقيون الى التنحي عن مواقع واجباتهم ومسؤولياتهم كرها أو تجنبا للولوغ في دماء أبناء شعبهم الذين ضاقوا ذرعا بالطاغية وحكمه الدكتاتوري، فان صدام كشف عن كل أوراقه عندما راح يبعث برسائل الشكر عبر الراديو والتلفزيون الى الجلاوزة الذين قادوا معركة ضد شعب الانتفاضة، ومن تلك الرسائل عرف العراقيون ان بائع الثلج في صيف بغداد عزت الدوري هو الفريق الأول الركن عزت ابراهيم الذي حقق اخماد التحرك الحباني في قطاع اربيل والسليمانية وان نائب العريف علي حسن المجيد ابن عم صدام وصاحب «أمجاد الأنفال» التي أباد فيها بالسلاح الكيمياوي خمسة آلاف من مواطني مدينة حلبجة في شمال العراق في ربيع 1988، اضاف امجادا أخرى الى سجله، الداكن السواد، بما فعله في مواجهة ثوار الانتفاضة في البصرة والعمارة وجنوب العراق مما استحق به ان يتقلد رتبة الفريق الأول الركن الذي لم يعد غريبا ان يصبح بعد اقل من عام وزيرا للدفاع بعد ان يتخلى الفريق الأول الركن حسين كامل حسن ـ ابن اخ علي الكيماوي ـ عن ذلك المنصب الرفيع الذي لم يعد يتناسب مع مركزه ومجال حظوته عند تشاوشيسكو العراق!، ولم تكتف برقيات الشكر التي وجهها الطاغية لجلاوزته عند الكشف عن هذه الانجازات التي حققها قادته الجدد الذين افرزتهم كارثة «ام المهالك» بل كان هناك آخرون كثيرون بلغوا في سلم الرتب العسكرية مرتبة اللواء الركن وكان من بينهم نائب الضباط طه الجزراوي نائب رئيس الجمهورية، وقاطع التذاكر في مستشفى مرجان في الحلة محمد حمزة الزبيدي الذي وسده الطاغية منصب رئاسة الوزراء اعترافا بشجاعته في قتل ثوار الانتفاضة برصاص رشاشه، ثم ركل جثة كل شهيد ورفسه بقدمه وتصوير تلك الافعال الشنعاء بافلام الفيديو التي بثتها شاشات تلفزيونات العالم، وكأنها تبث بعض افلام الكارتون للأطفال الصغار!
> > >
والآن حان الوقت الذي ينبغي ان نرد فيه على السؤال الذي جعلناه عنوانا لهذا المقال: «أين كان الجيش العراقي عند سقوط بغداد في 9/4/2003؟»، فنقول: ان الجيش الذي غاب عن معركة بغداد لم يكن هو جيش العراق الذي مثلت ولادته اعلان قيام فوج موسى الكاظم في يوم 6/1/1920 والذي لا يجوز ان يعتبر المسؤول عن سقوط بغداد في 9/4/2003، لأن صدام وعصابته قد غيبوه عن الوجود منذ حولوه عما قام من أجله من اهداف ومبادئ سامية، بل منذ ابعدوا عن قيادته وريادة اسلحته ووحداته، الأمناء على مصلحة الوطن والحرّاس على استقلال العراق والذين ظلوا كذك منذ قيام الكيان الوطني حتى بدأت عصابة البكر ـ صدام مهمتها في هدم هذا الكيان في يوم 17 تموز 1968، وكان اول ما فعلته لتحقيق النجاح في تلك المهمة السطو على الجيش والخلاص من كل ما مثله ويمثله من مداميك الحفاظ على العراق وشعبه وكيانه، ذخرا لأمته العربية ودرعا ترد عنها وعن الوطن العربي الكبير، الاطماع والكوارث والنكبات.
ولو كان جيش 6 يناير 1920 لم يزل عندما غزي العراق أخيرا لكان له في 9/4/2003 موقف يجنب بغداد تدنيسها بجنازير دبابات الأميركان، كما فعل عندما تصدى لدبابات الانكليز فمنعها من ان تدخل جنوبي بغداد بالزامها بقبول هدنة مشرفة لا تنال من استقلال العراق على الرغم من هزيمة حرب مايو 1941.
جيش صدام لا العراق
لكن الجيش الذي لم يحم بغداد من غزو الأميركان.. لم يكن جيش العراق، بل جيش دجنه صدام، وهكذا فان بول بريمر الحاكم السياسي الاميركي للعراق بقوة الاحتلال، عندما أعلن حل الجيش، فانه بذلك حل جيش صدام، وما زالت امام العراقيين فرصة اعادة جيشهم ليعيدوا به ومعه استقلال بلدهم، ويحققوا بذلك آمال العروبة والاسلام المعقودة على العراق المتحرر من اعداء الداخل والخارج والمنطلق على طريق الحق والحرية والمجد، ويومئذ نردد الأذان في كل مكان: حي على الكفاح.. حي على الفلاح.. والله اكبر ولله الحمد.
فرق الاعدام
وحين تكشف لصدام وحلفائه من قوى الشر في ارجاء العالم ان السحر انقلب على الساحر، وان ايران لن تستسلم لتلك المفاجأة التي تعرضت لها، هبت تلك القوى لدعم صدام وابتزازه لقاء تأمين صموده حتى يواصل حربه ولا يتوقف عن استنزاف موارده وموارد ايران في تلك الحرب العبثية القذرة، التي لم يكن لها ما يبررها سوى خوف صدام على سلطانه بعدما استفرد بحكم العراق والتحكم بموارده والظهور على الساحة العربية والعالمية بهيئة «البطل» و«الزعيم» و«رجل الاقدار»..! وحين لاح شبح الهزيمة لصدام بتمزق وحدات جيشه التي اقتحم بها ايران ولم تفلح بالصمود حتى في عربستان التي زعم جلاوزته انهم جاءوا لانقاذ عروبة اهلها من استعباد الفرس، راح الطاغية يتخبط فيما يفعل، واطلق لانتهازيته العنان، كما صب جام حقده على الجيش الذي لم تسعفه الظروف في تحقيق اطماعه وتنفيذ كبير جرائمه، فأنشأ فرق الاعدام التي ربضت في الخنادق الخلفية، لتقييد الجنود والضباط المتراجعين عن خطوط النار، سواء بانسحاب منظم، او قسري نتيجة اختلال توازن القوى.. لكن فرق الاعدام لم تتردد في اعتبار اولئك المتراجعين، متخاذلين جبناء لا مكان لهم على وجه الارض بل لا بد ان يقبروا في الخنادق التي تراجعوا فيها، وهكذا اوشكت اعداد ضحايات نيران قوات الباسدران من المقاتلين العراقيين ان تتساوى او تقل احيانا عن ضحايا من تصيبهم نيران فرق الاعدام، وعلى هذا النحو تغلغل الخوف من القتال ومواجهة العدو في خطوط النار في نفوس المقاتلين من افراد الجيش ضباطا وجنودا، وصار التهرب من الخدمة العسكرية والفرار من صفوف المقاتلين دأب كثيرين لم يبالوا حتى بتهديد جلاوزة الطاغية لهم بإعدام كل من يضبط فارا عن الالتحاق بالجيش على الفور ودون اي مساءلة او محاكمة... بينما فضل آخرون ان يكون تهربهم من الخدمة عن طريق افشاء الفساد في صفوف الجيش بانتهازهم الظروف الصعبة التي كان يعيش فيها مسؤولو الوحدات فيصدرون لهم الاجازات التي يتهربون بها من الخدمة في خطوط النار بدعوى ادائهم مهمات في بغداد ومدن اخرى داخل العراق، لقاء مبالغ نقدية او رشاوى مادية يفسدون بها ذمم اولئك المسؤولين عنهم والذين كانوا بدورهم ضحايا فساد صدام وحكمه وسياسته وأساليب ذلك الحكم الأسود التعسفي. ومع ان تطورات حرب السنوات الثماني دفعت صدام الى تكريس كل الموارد العراقية مادية وبشرية لتدعيم الجيش وتزويده بأحدث الاسلحة، والاسراف في الانفاق على التسليح وعسكرة العراق بوقف مشروعات التنمية والإعمار وحتى مشروعات الصيانة والتجديد والبناء، حيث تحمل المستقبل العراقي اعباء ومسؤوليات ديون ترتبت عليه لقاء ما أمد صدام به الجيش من اسلحة وعتاد، ناسيا ومتعمدا ان ينسى امداده بما يقوّم عوده ويشتد به ساعده من مشاعر الاعتداد بالكرامة والشموخ بعزة النفس والشجاعة التي تميز بها منتسبوا الجيش منذ نشأته وهو الذي التصقت به دوما صفة «الباسل».