"فِطرةُ الاختِلاف "

نُعايش في حياتِنا اليوميّة الكثير من المواقِف الّتي نُفسِّرها بـ اختلافِ " وجهات نظر" ، وغالِبا ما نسعى دون فائِدة إلى اقناع الآخر بوجهة نظرِنا _ظنّا منّا أنّها الصّحيحة _غير مكترثين أنّ نظرة الآخر للأمر جاءت من زاويةٍ أُخرى تُحدِّدها الكثير من المحمولات الاجتماعيّة والنّفسيّة والحضاريّة الّتي قد تختلِف جذريّا عن المُحدِّدات الّتي تؤطِّر وجهة نظرِنا الخاصّة.
إنّ المقاييس الّتي نُميِّز بها بين الأمور هي في الواقِع مقاييس نسبيّة ، فالإطارّ الفِكري الّذي يُحيط بالعقلِ البشريِّ مكوّنٌ غالِبا من معايير ترتبطُ بالمُحيط والبيئة ومنظورهما للأمور ، ومن عُقد نفسيّة وعادات وتقاليد ، وهو بذلِك يكون إطارا فكريّا اجتماعيّا جاهِزا ، يؤطِّر نظرَ الفرد عبر تراكُماتٍ وخِبراتٍ حياتيّة.. ينظُر الفرد من خِلالِ ذلِك الإطار لكلّ حادثةٍ وموقِفٍ يواجهه، فلا يُصدِّق بالأمور الّتي لا تتوافق وإطارِه الفِكري ، ومن هُنا ينشأ اختلافُ وجهاتِ النّظر ، ويؤكِّد الغزالي تأثير الإطار الفِكري على الفرد بقولِهِ : " إنّ الإنسان يستغرِبُ ما لم يعهدهُ ، حتّى لو حدّثه أحدٌ أنّه لو حكّ خشبةً بخشبةٍ لخرجَ منها شئٌ أحمرٌ بمقدارِ عدسةٍ يأكُلُ هذِهِ البلدة وأهلِها ، ولم يكُن قد رأى النّارَ قط ، لاستغربَ ذلِكَ و أنكره" ، فالإنسان كما نرى أسيرُ ما يُعايش ، وغالِبا لا يستطيع استساغة ما لا يتوافق وما عهدهُ ، لكنّ مكوّنات الإطار الفِكري للفردِ تتغيّر بتغيُّر بيئتِه وخِبراته الحياتيّة ، فهو يضمُّ خبراته الجديدة ، ومُعايشاتِه مع خبراتِهِ السّابِقة يُناسبها وإطارِه الفِكري ومُكتسباتِه الاجتماعيّة السّابِقة ، وفي بعضِ الأحيان تحدُث تعديلات جذريّة لنظرةِ الفرد للأمور ؛ وذلِك حالما يعي زاوية رؤيته ، لكنّ من جهةٍ أُخرى قد لا يتغيّر منظور الفرد للأمور مهما عايش عوالِمَ جديدة ، ومردُّ ذلِك إلى قوّة تأثيرِ الإطار الفِكري على الفرد ، غير أنّ القلّة الّتي يكون تأثير المُستجدات عليها أقوى من تأثيرِ الإطار الفِكري السّابِق ، يُعزى تغيُّرِها إلى الكثير من العوامِل المُحيطة الّتي جعلت من ثبات ارتباطهم بالإطار الفِكري متزعزِعا.
تكمُن قوّة الإطار الفِكري في تجذّره في عقليّة الأفراد ، واتِّصالِه بالعقلِ الباطِن ، إذ يفرُض هيمنتهُ بشكلٍ لا يُمكن للفردِ الانفلات منه تماما ، وغالِبا لا يستطيع المرء التّشكيك في صحّةِ إطارِه الفِكري ، كما أنّه لا يستشعر وجود إطارا فِكريّا يوجّهه ، فهو دائِما ما يدّعي أن لا يُمكن لأيِّ توجُّهٍ أن يُسيطر عليهِ ، غيرَ مُستشعِر هيمنة الإطار الفِكري . يُشكِّلُ الإطار الفِكري عوائِقَ شتّى في وجه الإبداع الحُر ، فالمنغمِسُ في إطارِهِ الفِكري والّذي يجمد على ما اعتادَ عليهِ من مألوفاتٍ اجتماعيّةٍ وحضاريّة يشقُّ عليه أن يكون حُرّا ومُبدِعا ، فهو لا ينظُر إلّا فيما ينظُر فيهِ المُحيط المُعاش ، ولا يقبل إلّا بما يقبلون بِه ، وبذلِك ينتفي الإبداع والتّجديد ، فالإطارُ الفِكري يستطيع جعل الآخر ممسوخ الرّأي ، يتبنّى آراء الجماعةِ ويستميت لأجلِها دونما وعيٍ بِها ، يُصارِع لأجلِها على الرُّغم من أنّه لا يستطيع التّدليل والبرهنة على صِحتها ، فهو مطموسٌ فعليّا ، ومُغيّبٌ .. وكُل ما يُمكنهُ فِعله هو الدِّفاع ولا غير .إذ أنّ تبنِّيه لتِلك الآراء لم ينبُع من استقلاليّةٍ وحُريّةٍ ، بل من تبعيّة فرضها عليهِ إطاره الفِكري ومُحيطه المُعاش.
غالِبا ما يفشل المرء عندما يُحاول إقناع الآخرين بنفسِ البراهين الّتي اقتنع بِها ، ومرد ذلِك إلى اختلاف الإطار الفِكري للآخر ، لذا يجب أوّلا أن يُغيّر وجهة الإطار الفِكري للآخر ليُقنعهُ بالبراهين الّتي اقتنعَ بِها ، وهذا أمرٌ صعب .. أو أن يُحيطُ خبرا بالإطار الفِكري للآخر ويُحاول مُقاربةِ الأمر من تِلكَ الزّاوية ليعذر لهُ موقِفه.
إنّ مُشكلة النِّزاع البشريِّ هي مُشكلةُ المعاييرِ والمناظير ، فاختلاف وجهات النّظر كما أسلفنا هي أمرٌ طبيعيٌّ بل وصحيٌّ إن استندنا على قاعدةِ " والضِّدُ يُظهِرُ حُسنهُ الضِّدُ" إلّا أنّ غير الطّبيعي هو التّخاصُم جرّاء اختلافِ وجهات النّظر ، والتّعصُّب للآراءِ والاستماتة في سبيلِ إثباتِ صحّتِها ، متناسين أنّ التّعصُّب ما هو إلّا حجابٌ يحول دون البحث والتّقصِّي ، مُوجِّها الفِكر شطرَ زاويةٍ واحِدةٍ لا يُمكن معها إضاءة زوايا أُخرى ، وبشكلٍ عامٍّ لا يُمكن لأحد أن يتحرّر بشكلٍ جذريٍّ من إطارِه الفِكري إلّا أنّ ثمّة من يُمكنهُ أن يتنبّه لتأثيرِ الإطارِ الفِكري عليهِ ، فمهما انحاز لمواقِفِه وآرائِهِ يبقى يقِظا ومُنصِفا للآخر.
تفتقِر الكثير من المُجتمعات الواقِع أفرادها تحت سطوةِ المُكتسبات المترسِّخة في العقل الباطِن والّتي تُمثِّل الأُطر الفِكريّة لأفرادِها تفتقِرُ للتّجديدِ والإبداع ، فالعبقريّة والإبداع إنّما هي خروجٌ عن الذّات وانغمارٌ في عالمٍ أسمى وأوسع ، والمُبدع هو الوحيد القادِر على التّحرُّرِ بشكلٍ أكبرٍ من الإطار الفِكري ، وخلق عوالِم أُخرى قد لا تتقاطع والواقِع ؛ ليُنتِج أشكالا جديدة ويبتكِرَ فنونا مُختلِفة ، إلّا أنّ أغلب المُجتمعات المُنغلِقة على نفسِها ، والّتي ترى في كلِّ جديدٍ فِتنة ، وفي كلِّ إبداعٍ بِدعة تُنتِج القليل من العبقريّةِ والإبداع ، إذ أنّها بالانغلاقِ والتّشدُّد تنبُذ كلّ جديدٍ ، وتُحارِب كلّ من يخرُج عن المألوفِ والمُعتاد ولنا في التّاريخِ العربيِّ عِبر ، فحالما نُحاول مُقاربة الأمر بواقِعنا العربيّ ، نجد أنّ سُنّة الاختلافِ لم تكُن من السُّننِ المُرحّبِ بِها ، بل كثيرا ما تعمد الفِرق المُتخالِفة لشنِّ الهجومِ على بعضِها .. والتّاريخُ العربيُّ مليئٌ بالكثيرِ من الخِلافاتِ والاختلافاتِ الدِّينيّةِ المذهبيّة ، والسِّياسيّة والقبليّة ، ولنا في الحلّاجِ عِبرة ، فقد قُتِلَ نتيجةِ مُخالقتِه للعقيدةِ السّائِدة ، وطريقة ارتباطِهِ بربِّهِ ؛ إيمانا من مُحاكميهِ أنّ السّبيل واحِدٌ فقط لعبادةِ الرّبِّ ، وأنّ اتّخاذ غيرها يُعدُّ ابتداعا يوجِبُ العِقاب ، كما أنّ الواقِع الاجتماعِي الّذي يُعتبر مكوّن هام في إطار المرء الفِكري يفرض سطوتِهِ كذلِكَ ، كعائِق كبير في جهِ العبقريّةِ والإبداع .. لذلِكَ قلّة فقط من تُجازِف بالتّفكيرِ خارِج المألوف متجاهِلةٍ التّشنيع والتّحقير الّذي قد يوثق بِها نتيجة المُخالفةِ والابتداع.؛ ولأنّ الأغلب يخشى النّبذ والاحتِقار ، فإنّهم يعمدون لمُسايرة المألوف ، ونبذ التّجديد الّذي يتصادم معه ، رغبةً منهم في التّجانُس ، وتجنُّبا للنّبذِ الّذي من شانِه إلحاق التّشنيعِ ..
إنّ الإيمان المُطلق والتّصديق الجازِم بمُعتقداتِنا ، ونفي المُعتقدات المُناهِضة لها ، وعدّها باطِلة من شأنِه توسيع الهوّة والزّج بالمُخالفين إلى الحروب .. وهذا ما يتجلّى واقِعا في المشهدِ العربيِّ المُسمّى "بالرّبيع العربيّ" ، فما يشهدهُ الوطن العربيّ من ثوراتٍ وانتِفاضاتٍ تُزعزِع العُروش ، وردّة فِعل الحُكّام على تِلك الثّورات ناتِجة تماما عن غشاوةِ الإطارِ الفِكري ، فالحُكّام لا يعترِفون بظُلمهم للشّعوب ، ولا بسوءِ سياساتهم في التّعاطي مع القضايا ، بل يرون أنّهم يفنون من أجلِ راحةِ المحكومين ، وأنّهم يُقدِّمون الأفضل دائِما .. ويظنُّون أنّ كُل ما يحدُث هو جُحودٌ للنّعمةِ ..وفي الوجهةِ الأُخرى يرى المحكومين في الحُكّامِ مِثالا للجشعِ والطّمعِ والرّغبةِ في الإفقارِ والتّجويع ، ونهبٍ للأموال الّتي هي من حقِّهم ، والنّظرتانِ كما نرى مُتباينتانِ تماما ..وما ذلِك إلّا نِتاج للعاطفيّةِ وعدم القُدرة من الانفِلات من فلكِ الذّات .. فعندما يرى الحاكِم فيمن يحكمهم نفسهُ من ناحيةِ الخدمات .. هو بذلِك مُخطِئٌ بلا شك..وعندما يؤمِن الحاكِم أنّ الأرض ومن عليها مُلكهُ نتيجة تولِّيهِ عرش السُّلطة .. وأنّه الحقّ كُلّ الحق وما سِواهُ باطِلٌ هُنا تبدأ الهوّة بالاتِّساع ، ويبدأ التّهميش وتغييبِ الآخر ومُحاولة سحقِهِ حاضِرا بقوّة.
وكما هو مُعتاد يترسّخ في أذهانِ ذوي النّفوذ أنّ الولاء والهيبة واجِبٌ على الجميع ، خاصّةً إذا ما كان ذلِكِ النّفوذ والسُّلطة مُتوارث ، وما أن يرون بوادِر تمرُّد على المألوف الّذي آمنوا بِه ، حتّى يبدأ بطشهم ، في مُحاولةٍ منهم إلى إعادة الأمور إلى نِصابِها الّذي يرونهُ صحيحا ، وفي هذا الأمر تأثيرٌ واضِحٌ للإطارِ الفِكري .. فهُم أوّلا يرون أنّهم الأحق بالعرشِ والنّفوذ نظرا لمَ ألِفوه ، كما أنّهم ثانيا يرون في طريقةِ إدارتهم للأمور الطّريقة الأمثل.. وهُم حالما يُحاولون إعادة الأمور إلى سابِقِ عهدِها بالقوّة والقهرِ والجبر إنّما يُحاولون ذلِك من إيمانٍ مُطلقٍ منهم أنّهم إنّما يخدمون البِلاد ، ويبترون كلّ ما من شأنِه زعزعة الأمن .. الّذي هو أمن كراسيهم ونفوذهم.
ونرى بالمُجملِ الكُتل تتكتّل لمُناصرةِ الفريقين ، فالّذين يُناصرون فريق الحُكّام غالِبا هُم المتنعِّمون بهباتِهم وعطاياهم ، يستظلُّون بِظلالِهم ، ويأكلون من خيراتِهِم .. وهُم بذلِك يظنُّون أنّ الخير الخاص الّذي ينعمون بِه ينعم بِه الجميع ، فيرون في مصلحتِهم الخاصّة مصلحة عامّة ، فيما يرى المُناصِرون لفريقِ المحكومين الواقِع عليهم الظّلم أنّ عهد الحاكِم كلّه سوء ، فينكرون كذلِكَ كلّ خيرٍ وإنجاز ، فهُم مُجملا يصبغون نظرتهم على الواقِع العام ، فمن يتنعّم في عهدِ سُلطةٍ ما يرى أنّه عهدٌ مُزدهِر عمّ الجميع خيرهُ، ومن قُمِعَ في العهدِ ذاتِه يرى أنّه عهدُ بطشٍ وظُلم.
ويبقى أنّ المُنغمِس في إطارِهِ الفِكري والّذي يُحاول أن يُحاكم الأمور جميعا وِفق مُعتقداتِه الّتي يرى فيها الصِّحة المُطلقة ، يصعب عليه أن يُنصِف الأحداث ولو ادّعى ، لكن ما يجعل الأمر أقلُّ وطأةً هو وجود عدد لا بأس بِهِ يُمكنهُ الانفِلات_ بِمقدارٍ مُتفاوت _ من قيدِ المألوفاتِ ، ويُحاكِم الأمور بأقصى حدٍّ من الموضوعيّة الّتي توفّرها لهُ معاييره.
eshabiba.com/articletext.ASPx?ID=238455
المصدر : مدونة بدرية العامري

نُعايش في حياتِنا اليوميّة الكثير من المواقِف الّتي نُفسِّرها بـ اختلافِ " وجهات نظر" ، وغالِبا ما نسعى دون فائِدة إلى اقناع الآخر بوجهة نظرِنا _ظنّا منّا أنّها الصّحيحة _غير مكترثين أنّ نظرة الآخر للأمر جاءت من زاويةٍ أُخرى تُحدِّدها الكثير من المحمولات الاجتماعيّة والنّفسيّة والحضاريّة الّتي قد تختلِف جذريّا عن المُحدِّدات الّتي تؤطِّر وجهة نظرِنا الخاصّة.
إنّ المقاييس الّتي نُميِّز بها بين الأمور هي في الواقِع مقاييس نسبيّة ، فالإطارّ الفِكري الّذي يُحيط بالعقلِ البشريِّ مكوّنٌ غالِبا من معايير ترتبطُ بالمُحيط والبيئة ومنظورهما للأمور ، ومن عُقد نفسيّة وعادات وتقاليد ، وهو بذلِك يكون إطارا فكريّا اجتماعيّا جاهِزا ، يؤطِّر نظرَ الفرد عبر تراكُماتٍ وخِبراتٍ حياتيّة.. ينظُر الفرد من خِلالِ ذلِك الإطار لكلّ حادثةٍ وموقِفٍ يواجهه، فلا يُصدِّق بالأمور الّتي لا تتوافق وإطارِه الفِكري ، ومن هُنا ينشأ اختلافُ وجهاتِ النّظر ، ويؤكِّد الغزالي تأثير الإطار الفِكري على الفرد بقولِهِ : " إنّ الإنسان يستغرِبُ ما لم يعهدهُ ، حتّى لو حدّثه أحدٌ أنّه لو حكّ خشبةً بخشبةٍ لخرجَ منها شئٌ أحمرٌ بمقدارِ عدسةٍ يأكُلُ هذِهِ البلدة وأهلِها ، ولم يكُن قد رأى النّارَ قط ، لاستغربَ ذلِكَ و أنكره" ، فالإنسان كما نرى أسيرُ ما يُعايش ، وغالِبا لا يستطيع استساغة ما لا يتوافق وما عهدهُ ، لكنّ مكوّنات الإطار الفِكري للفردِ تتغيّر بتغيُّر بيئتِه وخِبراته الحياتيّة ، فهو يضمُّ خبراته الجديدة ، ومُعايشاتِه مع خبراتِهِ السّابِقة يُناسبها وإطارِه الفِكري ومُكتسباتِه الاجتماعيّة السّابِقة ، وفي بعضِ الأحيان تحدُث تعديلات جذريّة لنظرةِ الفرد للأمور ؛ وذلِك حالما يعي زاوية رؤيته ، لكنّ من جهةٍ أُخرى قد لا يتغيّر منظور الفرد للأمور مهما عايش عوالِمَ جديدة ، ومردُّ ذلِك إلى قوّة تأثيرِ الإطار الفِكري على الفرد ، غير أنّ القلّة الّتي يكون تأثير المُستجدات عليها أقوى من تأثيرِ الإطار الفِكري السّابِق ، يُعزى تغيُّرِها إلى الكثير من العوامِل المُحيطة الّتي جعلت من ثبات ارتباطهم بالإطار الفِكري متزعزِعا.
تكمُن قوّة الإطار الفِكري في تجذّره في عقليّة الأفراد ، واتِّصالِه بالعقلِ الباطِن ، إذ يفرُض هيمنتهُ بشكلٍ لا يُمكن للفردِ الانفلات منه تماما ، وغالِبا لا يستطيع المرء التّشكيك في صحّةِ إطارِه الفِكري ، كما أنّه لا يستشعر وجود إطارا فِكريّا يوجّهه ، فهو دائِما ما يدّعي أن لا يُمكن لأيِّ توجُّهٍ أن يُسيطر عليهِ ، غيرَ مُستشعِر هيمنة الإطار الفِكري . يُشكِّلُ الإطار الفِكري عوائِقَ شتّى في وجه الإبداع الحُر ، فالمنغمِسُ في إطارِهِ الفِكري والّذي يجمد على ما اعتادَ عليهِ من مألوفاتٍ اجتماعيّةٍ وحضاريّة يشقُّ عليه أن يكون حُرّا ومُبدِعا ، فهو لا ينظُر إلّا فيما ينظُر فيهِ المُحيط المُعاش ، ولا يقبل إلّا بما يقبلون بِه ، وبذلِك ينتفي الإبداع والتّجديد ، فالإطارُ الفِكري يستطيع جعل الآخر ممسوخ الرّأي ، يتبنّى آراء الجماعةِ ويستميت لأجلِها دونما وعيٍ بِها ، يُصارِع لأجلِها على الرُّغم من أنّه لا يستطيع التّدليل والبرهنة على صِحتها ، فهو مطموسٌ فعليّا ، ومُغيّبٌ .. وكُل ما يُمكنهُ فِعله هو الدِّفاع ولا غير .إذ أنّ تبنِّيه لتِلك الآراء لم ينبُع من استقلاليّةٍ وحُريّةٍ ، بل من تبعيّة فرضها عليهِ إطاره الفِكري ومُحيطه المُعاش.
غالِبا ما يفشل المرء عندما يُحاول إقناع الآخرين بنفسِ البراهين الّتي اقتنع بِها ، ومرد ذلِك إلى اختلاف الإطار الفِكري للآخر ، لذا يجب أوّلا أن يُغيّر وجهة الإطار الفِكري للآخر ليُقنعهُ بالبراهين الّتي اقتنعَ بِها ، وهذا أمرٌ صعب .. أو أن يُحيطُ خبرا بالإطار الفِكري للآخر ويُحاول مُقاربةِ الأمر من تِلكَ الزّاوية ليعذر لهُ موقِفه.
إنّ مُشكلة النِّزاع البشريِّ هي مُشكلةُ المعاييرِ والمناظير ، فاختلاف وجهات النّظر كما أسلفنا هي أمرٌ طبيعيٌّ بل وصحيٌّ إن استندنا على قاعدةِ " والضِّدُ يُظهِرُ حُسنهُ الضِّدُ" إلّا أنّ غير الطّبيعي هو التّخاصُم جرّاء اختلافِ وجهات النّظر ، والتّعصُّب للآراءِ والاستماتة في سبيلِ إثباتِ صحّتِها ، متناسين أنّ التّعصُّب ما هو إلّا حجابٌ يحول دون البحث والتّقصِّي ، مُوجِّها الفِكر شطرَ زاويةٍ واحِدةٍ لا يُمكن معها إضاءة زوايا أُخرى ، وبشكلٍ عامٍّ لا يُمكن لأحد أن يتحرّر بشكلٍ جذريٍّ من إطارِه الفِكري إلّا أنّ ثمّة من يُمكنهُ أن يتنبّه لتأثيرِ الإطارِ الفِكري عليهِ ، فمهما انحاز لمواقِفِه وآرائِهِ يبقى يقِظا ومُنصِفا للآخر.
تفتقِر الكثير من المُجتمعات الواقِع أفرادها تحت سطوةِ المُكتسبات المترسِّخة في العقل الباطِن والّتي تُمثِّل الأُطر الفِكريّة لأفرادِها تفتقِرُ للتّجديدِ والإبداع ، فالعبقريّة والإبداع إنّما هي خروجٌ عن الذّات وانغمارٌ في عالمٍ أسمى وأوسع ، والمُبدع هو الوحيد القادِر على التّحرُّرِ بشكلٍ أكبرٍ من الإطار الفِكري ، وخلق عوالِم أُخرى قد لا تتقاطع والواقِع ؛ ليُنتِج أشكالا جديدة ويبتكِرَ فنونا مُختلِفة ، إلّا أنّ أغلب المُجتمعات المُنغلِقة على نفسِها ، والّتي ترى في كلِّ جديدٍ فِتنة ، وفي كلِّ إبداعٍ بِدعة تُنتِج القليل من العبقريّةِ والإبداع ، إذ أنّها بالانغلاقِ والتّشدُّد تنبُذ كلّ جديدٍ ، وتُحارِب كلّ من يخرُج عن المألوفِ والمُعتاد ولنا في التّاريخِ العربيِّ عِبر ، فحالما نُحاول مُقاربة الأمر بواقِعنا العربيّ ، نجد أنّ سُنّة الاختلافِ لم تكُن من السُّننِ المُرحّبِ بِها ، بل كثيرا ما تعمد الفِرق المُتخالِفة لشنِّ الهجومِ على بعضِها .. والتّاريخُ العربيُّ مليئٌ بالكثيرِ من الخِلافاتِ والاختلافاتِ الدِّينيّةِ المذهبيّة ، والسِّياسيّة والقبليّة ، ولنا في الحلّاجِ عِبرة ، فقد قُتِلَ نتيجةِ مُخالقتِه للعقيدةِ السّائِدة ، وطريقة ارتباطِهِ بربِّهِ ؛ إيمانا من مُحاكميهِ أنّ السّبيل واحِدٌ فقط لعبادةِ الرّبِّ ، وأنّ اتّخاذ غيرها يُعدُّ ابتداعا يوجِبُ العِقاب ، كما أنّ الواقِع الاجتماعِي الّذي يُعتبر مكوّن هام في إطار المرء الفِكري يفرض سطوتِهِ كذلِكَ ، كعائِق كبير في جهِ العبقريّةِ والإبداع .. لذلِكَ قلّة فقط من تُجازِف بالتّفكيرِ خارِج المألوف متجاهِلةٍ التّشنيع والتّحقير الّذي قد يوثق بِها نتيجة المُخالفةِ والابتداع.؛ ولأنّ الأغلب يخشى النّبذ والاحتِقار ، فإنّهم يعمدون لمُسايرة المألوف ، ونبذ التّجديد الّذي يتصادم معه ، رغبةً منهم في التّجانُس ، وتجنُّبا للنّبذِ الّذي من شانِه إلحاق التّشنيعِ ..
إنّ الإيمان المُطلق والتّصديق الجازِم بمُعتقداتِنا ، ونفي المُعتقدات المُناهِضة لها ، وعدّها باطِلة من شأنِه توسيع الهوّة والزّج بالمُخالفين إلى الحروب .. وهذا ما يتجلّى واقِعا في المشهدِ العربيِّ المُسمّى "بالرّبيع العربيّ" ، فما يشهدهُ الوطن العربيّ من ثوراتٍ وانتِفاضاتٍ تُزعزِع العُروش ، وردّة فِعل الحُكّام على تِلك الثّورات ناتِجة تماما عن غشاوةِ الإطارِ الفِكري ، فالحُكّام لا يعترِفون بظُلمهم للشّعوب ، ولا بسوءِ سياساتهم في التّعاطي مع القضايا ، بل يرون أنّهم يفنون من أجلِ راحةِ المحكومين ، وأنّهم يُقدِّمون الأفضل دائِما .. ويظنُّون أنّ كُل ما يحدُث هو جُحودٌ للنّعمةِ ..وفي الوجهةِ الأُخرى يرى المحكومين في الحُكّامِ مِثالا للجشعِ والطّمعِ والرّغبةِ في الإفقارِ والتّجويع ، ونهبٍ للأموال الّتي هي من حقِّهم ، والنّظرتانِ كما نرى مُتباينتانِ تماما ..وما ذلِك إلّا نِتاج للعاطفيّةِ وعدم القُدرة من الانفِلات من فلكِ الذّات .. فعندما يرى الحاكِم فيمن يحكمهم نفسهُ من ناحيةِ الخدمات .. هو بذلِك مُخطِئٌ بلا شك..وعندما يؤمِن الحاكِم أنّ الأرض ومن عليها مُلكهُ نتيجة تولِّيهِ عرش السُّلطة .. وأنّه الحقّ كُلّ الحق وما سِواهُ باطِلٌ هُنا تبدأ الهوّة بالاتِّساع ، ويبدأ التّهميش وتغييبِ الآخر ومُحاولة سحقِهِ حاضِرا بقوّة.
وكما هو مُعتاد يترسّخ في أذهانِ ذوي النّفوذ أنّ الولاء والهيبة واجِبٌ على الجميع ، خاصّةً إذا ما كان ذلِكِ النّفوذ والسُّلطة مُتوارث ، وما أن يرون بوادِر تمرُّد على المألوف الّذي آمنوا بِه ، حتّى يبدأ بطشهم ، في مُحاولةٍ منهم إلى إعادة الأمور إلى نِصابِها الّذي يرونهُ صحيحا ، وفي هذا الأمر تأثيرٌ واضِحٌ للإطارِ الفِكري .. فهُم أوّلا يرون أنّهم الأحق بالعرشِ والنّفوذ نظرا لمَ ألِفوه ، كما أنّهم ثانيا يرون في طريقةِ إدارتهم للأمور الطّريقة الأمثل.. وهُم حالما يُحاولون إعادة الأمور إلى سابِقِ عهدِها بالقوّة والقهرِ والجبر إنّما يُحاولون ذلِك من إيمانٍ مُطلقٍ منهم أنّهم إنّما يخدمون البِلاد ، ويبترون كلّ ما من شأنِه زعزعة الأمن .. الّذي هو أمن كراسيهم ونفوذهم.
ونرى بالمُجملِ الكُتل تتكتّل لمُناصرةِ الفريقين ، فالّذين يُناصرون فريق الحُكّام غالِبا هُم المتنعِّمون بهباتِهم وعطاياهم ، يستظلُّون بِظلالِهم ، ويأكلون من خيراتِهِم .. وهُم بذلِك يظنُّون أنّ الخير الخاص الّذي ينعمون بِه ينعم بِه الجميع ، فيرون في مصلحتِهم الخاصّة مصلحة عامّة ، فيما يرى المُناصِرون لفريقِ المحكومين الواقِع عليهم الظّلم أنّ عهد الحاكِم كلّه سوء ، فينكرون كذلِكَ كلّ خيرٍ وإنجاز ، فهُم مُجملا يصبغون نظرتهم على الواقِع العام ، فمن يتنعّم في عهدِ سُلطةٍ ما يرى أنّه عهدٌ مُزدهِر عمّ الجميع خيرهُ، ومن قُمِعَ في العهدِ ذاتِه يرى أنّه عهدُ بطشٍ وظُلم.
ويبقى أنّ المُنغمِس في إطارِهِ الفِكري والّذي يُحاول أن يُحاكم الأمور جميعا وِفق مُعتقداتِه الّتي يرى فيها الصِّحة المُطلقة ، يصعب عليه أن يُنصِف الأحداث ولو ادّعى ، لكن ما يجعل الأمر أقلُّ وطأةً هو وجود عدد لا بأس بِهِ يُمكنهُ الانفِلات_ بِمقدارٍ مُتفاوت _ من قيدِ المألوفاتِ ، ويُحاكِم الأمور بأقصى حدٍّ من الموضوعيّة الّتي توفّرها لهُ معاييره.
eshabiba.com/articletext.ASPx?ID=238455
المصدر : مدونة بدرية العامري
¨°o.O ( على كف القدر نمشي ولا ندري عن المكتوب ) O.o°¨
---
أتمنى لكم إقامة طيبة في الساحة العمانية
---
أتمنى لكم إقامة طيبة في الساحة العمانية
وأدعوكم للإستفادة بمقالات متقدمة في مجال التقنية والأمن الإلكتروني
رابط مباشر للمقالات هنا. ومن لديه الرغبة بتعلم البرمجة بلغات مختلفة أعرض لكم بعض
المشاريع التي برمجتها مفتوحة المصدر ومجانا للجميع من هنا. تجدون أيضا بعض البرامج المجانية التي قمت بتطويرها بذات الموقع ..
والكثير من أسرار التقنية في عالمي الثاني Eagle Eye Digital Solutions
رابط مباشر للمقالات هنا. ومن لديه الرغبة بتعلم البرمجة بلغات مختلفة أعرض لكم بعض
المشاريع التي برمجتها مفتوحة المصدر ومجانا للجميع من هنا. تجدون أيضا بعض البرامج المجانية التي قمت بتطويرها بذات الموقع ..
والكثير من أسرار التقنية في عالمي الثاني Eagle Eye Digital Solutions