
لا شك أن الشم من أقدم الحواس التي تطورت عند الإنسان من خلال استخدامه لها في البحث والصيد والأكل وممارسة الجنس. وكان القاتل في رواية «العطر» الشهيرة لباتريك زوزكند يلاحق ضحاياه من الفتيات الصغيرات على مسافة كيلومترات معتمدا على أنفه المرهف.
إلا أنه من الثابت علميا أن الإنسان الحديث، وخصوصا الإنسان الساكن في البلدان الصناعية، قد فقد الكثير من حاسة شمه وما عاد يستخدمها حتى في إستكناه رائحة الأنثى الراقدة قربه. وسبق لدراسات أخرى أن أشارت إلى أن سكان أفريقيا ما زالوا يحتفظون بحاسة شم قوية بالمقارنة مع سكان أوروبا وأميركا الشمالية. وهذا ما دفع فريق من العلماء الاميركان والألمان للبحث في أسباب اختلاف تطور حاسة الشم بين الإنسان في مختلف القارات.
ويرى عالم الوراثة الاميركي البروفيسور دورون لانسيت وزميله الألماني سفينت بيبو أن هذه العملية لم تتوقف بعد وإن الإنسان يفقد المزيد من حاسة شمه مع مرور الوقت. وتشكل «عائلة الشم الجينية» في اللبائن أكبر مجموعة من الجينات بالمقارنة مع الحواس الأخرى. وتتألف هذه العائلة من اكثر من 1000 جين تتوزع بشكل مجاميع على سطوح كافة الكروموسومات. إلا أن العشرات، وربما المئات من هذه الجينات، فقدت وظيفتها مع مرور الزمن.وذا كانت الفئران قد فقدت خلال القرون الماضية 15% من الجينات الناشطة في حاسة الشم فأن الإنسان فقد، حسب موقعه الجغرافي وعلاقته بالبيئة، ما بين 30 إلى 66% من هذه الجينات. وتحولت هذه الجينات حسب رأي العالمين إلى «جينات كاذبة» لا تعين الإنسان في اكتشاف أشد الروائح. ويعتقد لانسيت وزميله بيبو، من معهد ماكس بلانك للأبحاث الوراثية في لايبزج (شرق)، أن تطور حاسة البصر الخاصة بالألوان في القرون الأخيرة أدت إلى تنكس الجينات الخاصة بالشم وأدت بالتالي إلى إضعاف حاسة الشم عند الإنسان. وتوصل العالمان إلى هذه النتيجة من خلال تفحصهم «لعائلة الشم» عند قرود العالم القديم (آسيا وأفريقيا) والحديث (الاميركتان). وظهر من البحث أن معظم قرود العالم القديم تعاني من «عمى الألوان» لكنها احتفظت في ذات الوقت بحاسة الشم قوية.
وانطبقت هذه النتائج على كافة القرود عدا عن نوع واحد من القرود المنتشرة في جنوب أميركا. إذ كانت هذه القرود تحتفظ بحاسمة شم متطورة كما هي الحال مع قرود أفريقيا وآسيا، إلا انها كانت قادرة على التمييز بين الألوان ونجحت في التمييز بين الفواكه الحقيقية والبلاستيكية (رمادية) من لونها ومن دون الحاجة إلى شمها. واستنتج العلماء من هذه الحقائق أن «ثورة الألوان» في القرون الأخيرة وتعدد أطيافها واستخداماتها قد طور جهاز الحس البصري اللوني على حساب حاسة الشم.
ولم تنطبق نتائج البحث التي أجريت على القرود على الإنسان لأن البشر من مختلف القارات فقدوا الكثير من حاسة شمهم وأن بدرجات مختلفة. ولم يقع لانسيت وبيبو في تجاربهما على البشر على علاقة بين عمى الألوان وتضاؤل حاسة الشم. وثبت لهما من خلال دراسة شملت 200 متطوع أن حاسة الشم عند الناس تختلف باختلاف موقعهم الجغرافي وتنوعهم الأثني. وظهر أن عدد الجينات المكرسة لحاسة الشم عند الأفارقة والآسيويين، وحتى المقيمين منهم في الغرب، اكبر من عددها عند الأوروبيين والاميركيين الشماليين. وهذا يعني أنهم يشمون أفضل وانهم كانوا اقل تأثرا بظاهرة تضاؤل حاسة الشم.
والمثير في نتائج البحث حول الشم هو أن الاختلاف بين أفراد المجموعة السكانية الواحدة كان اكبر من الفرق بين الأفراد من مختلف الأثنيات. وتبين أنه في حين يتعرف بعض الأفراد على مناطق زراعة العنب باستخدام انوفهم ويحبون النساء من روائح أجسادهن، لا يتعرف البعض الآخر على الطعام الفاسد إلا من قراءة تاريخ نفاد مهلته ويقع في حب المرأة بسبب لون شعرها.
تحياتي
