براءة الأباضية ....

    • براءة الأباضية ....

      منقول


      {} {{ بــراءة الإباضيــة }}{} مقال للأستاذ: فهمي هويدي بعد انفجار أحدث حريق مذهبي في المنطقة
      استطاع مؤتمر الفقه الإسلامي الذي انعقد في سلطنة عمان(1) ، أن يطفيء أحدث حريق مذهبي شب في المنطقة ، منجزا بذلك عملا توحيديا جليلا ، يرجى له أن يتواصل على مختلف الجبهات المهددة بالاستغلال. فقد حدث أن توجه بعض الشباب السعودي إلى الشيخ عبدالعزيز بن باز –رئيس الإفتاء بالمملكة- وسألوه قائلين: وفد علينا بعض أتباع المذهب الإباضي ، فهل تجوز الصلاة وراءهم؟ رد الشيخ ابن باز بالسب ، وأفتى بأن الإباضية فرقة ضالة ، ولا تجوز الصلاة وراء أتباعها. قالها الشيخ في كلمات معدودة ، كان لها وقع الصاعقة على رؤوس تجمعات الإباضية في زماننا ، الذين يتوزعون بين بعض دول شمال إفريقيا وسلطنة عمان. إذ نكأت الفتوى جراحا قديمة ، وأثارت لغطا عفا عليه الزمن ، وفتحت ملفا حسبنا أنه انغلق. وإزاء ذلك ، فقد تعين على الإباضية أن يجددوا سعيهم التاريخي ، ويرفعوا أصواتهم التي بحت ، وهم يحاولون إثبات براءتهم من تهمة الغلو والتكفير ومن وصمة الضلال التي تلاحقهم منذ أكثر من ألف عام. والتي كلما ردوها ، وظنوا أنهم دحضوها ، ظهر بين المسلمين من يعود للترويج لها ، وتجريح سمعتهم بها ، الأمر الذي يعود بالمشكلة إلى نقطة الصفر. وحسب الروايات التي تتردد في الكواليس ، فقد سافر مفتي السلطنة –الشيخ أحمد الخليلي- إلى السعودية لتدارك الموقف ، في مهمة يبدو أنها لم تنجح. وبالمقابل فإن مبعوثا سعوديا رسميا زار السلطنة في محاولة لتطويق المشكلة ، وللإيحاء بأن الخلاف المذهبي ، إن تفجر بين رموزه ، فينبغي ألا تكون له تأثيرات سلبية على العلاقات السياسية بين البلدين ، وإن رأي بعض أهل المذاهب ليس هو بالضرورة ولا هو دائما رأي السلطة في المملكة. في ظل تلك الظروف برزت فكرة الدعوة إلى عقد مؤتمر فقهي في مسقط ، لحسم المشكلة ، وإعلان براءة الإباضية مما ترمى به. وفضل أهل النظر أن يكون عنوان المؤتمر هو الفقه الإسلامي على إطلاقه ، وأن يكون الفقه الإباضي أحد محاوره الأساسية. بحيث تتم مناقشة الموضوع ، وتعلن البراءة من جانب فقهاء الأمة ، بصورة طبيعية وغير مباشرة ، فيطفأ الحريق في هدوء ، ويرد الاعتبار ، وتهدأ النفوس الغاضبة والقلوب الجريحة ، بين عامة الإباضية وخاصتهم. أكثر الذين دعوا للمشاركة في المؤتمر لم يكونوا على علم بتلك الخلفية ، ولكن قائمة المدعوين كانت توحي بأن هناك نوعا من ( الاستنفار ) الفقهي ، لمواجهة أمر طارئ له أخميته ، فقد كان في المقدمة كل رموز الأزهر ، شيخه ووكيله ورئيس جامعته ، ومفتي مصر ، واثنان من وزراء الأوقاف السابقين ، غير نفر من أساتذة الشريعة والأصول. من ناحية أخرى ، فقد شارك من السعودية رئيس مجمع الفقه الإسلامي ، ومن الأردن وزير الأوقاف والشباب ( وله مؤلف عن الإباضية ) إضافة إلى المفتي وعميد كلية الشريعة ، وشيخ فقهاء الشام المعاصرين الشيخ مصطفى الزرقا. كان من بين المشاركين أيضا مفتي سورية وممثلو كليات الشريعة في مختلف الجامعات الخليجية ، وعدد من فقهاء الإباضية في تونس والجزائر ، غير فقهاء المذهب في عمان بطبيعة الحال. ورغم أن البحوث المتعلقة مباشرة بالمذهب الإباضي لم تتجاوز خمسة من بين 14 بحثا عرضت على المؤتمر ، إلا أن محاور البحث الأخرى كانت متصلة بالموضوع بصورة غير مباشرة ، إذ أنها ركزت على وحدة الأمة الإسلامية ، ومرونة الفقه الإسلامي ، ومجالات الاجتهاد عند فقهاء المسلمين. وكأن الرسالة التي أريد لهذه الأبحاث أن تبلغها للكافة هي: أن وحدة الأمة الإسلامية أمر لا ينبغي التفريط فيه ، وأن الإسلام يحتمل كل اجتهاد لا يخل بأصوله ، فارفعوا أيديكم عن الإباضية ، ودعوا مذاهب المسلمين تتعايش ولا تتنازع. ورغم أن موضوع المؤتمر هو الفقه الإسلامي ، إلا أن الشعارات التي رفعت والآيات التي قرئت ، واللافتات التي وزعت في العاصمة كانت تركز على أمر واحد هو: وحدة المسلمين والدعوة إلى نبذ الفرقة بين أهل الملة. وهذه المعاني ذاتها ، سجلها منظمو المؤتمر ، في الكراس الذي وزع على الجميع ، وتضمن عناوين البحوث وبرنامج العمل ، ففي المقدمة أشير إلى أن للندوة أهدافا ستة بينها: تعارف علماء المسلمين ، والسعي لتحقيق الوحدة الإسلامية ، والالتقاء تحت مظلة الإسلام التي تحمي سائر الاجتهادات ، ورأب الصدع ومحاولة القضاء على ما يدعو إلى الفرقة. ويوم افتتاح المؤتمر –التاسع من أبريل- خرجت صحيفة عمان اليومية الرئيسية بمقال افتتاحي لأحد مشاهير الكتاب العمانيين –حمود بن سالم السيابي- تحت عنوان ( متى يكون في اختلاف العلماء رحمة ) ؟. وفيه دعا إلى ( ضرورة تنقية الفقه الإسلامي من الشوائب التي افرزتها بعض التأويلات الخاطئة ) ، وفهم أنه يعني بهذه الإشارة مختلف الاتهامات التي رددتها كتب التراث حول سلامة عقائد الإباضية. وفي موضع آخر من المقال ، أخذ الكاتب على بعض الفقهاء تورطهم في " التسابق والتنافس لاستعراض مناقب مذاهبهم ، وتكفير مخافيهم ، مهما كانت شمس الحق هي سيماهم التي على وجوههم " ... ولم يكن هؤلاء الأخيرون سوى أتباع المذهب الإباضي ، الذين لاحقتهم الاتهامات ، وأفتى الشيخ ابن باز ببطلان الصلاة وراءهم. وأيـّـاً كان الأسلوب في إخراج الموضوع ، فإن مختلف الشواهد تدل على أن أساس المؤتمر ومرماه هو: تبرئة ساحة الإباضية ورد الاعتبار لهم وهو هدف مشروع ، وبلوغه مطلوب من قبل كل الداعين إلى وحدة المسلمين ، ولم شمل شراذمهم المبعثرة ، خصوصا في زماننا الذي يخطط فيه لمستقبل العالم الإسلامي على أساس تفتيته وتقطيع أوصاله ، وتفجير الصراعات المذهبية بين أهله. وما مثل لبنــان منا بعيد! وحتى لا نظلم الشيخ ابن باز ، فإن الإنصاف يقتضينا أن نقر بأن الرجل لم يبتدع ما قاله ولم يختلقه ، وإنما كان حكمه مستندا إلى ما ذكرته كتب السلف حسبما ذكرنا(!!) توا. وفي مقدمة تلك الكتب ( مقالات الإسلاميين ) للأشعري ، و ( الفرق بين الفرق ) للبغدادي ، و ( الفصل في الملل والنحل ) لابن حزم ، و ( الملل والنحل ) للشهرستاني. وكتاب الأشعري صدر في الربع الأول من القرن الرابع الهجري ، أي أن عمره يتجاوز ألف عام ، وفيه عديد من الإشارات إلى ضلال الإباضية ، وانتسابهم إلى الخوارج واتهامهم لمخالفيهم بالكفر دون الشرك. وعنه نقل أكثر لاحقيه ممن كتبوا عن الإباضية ، ولم يتح لهم أن يطلعوا على مؤلفات أصحاب المذاهب ، ليتحققوا من مدى صحة تلك " المقالات ". ومنذ اثني عشر عاما –في سنة 1976- صدر في مصر كتاب لأحد فقهاء الإباضية ، وهو الشيخ علي يحيى معمر – عنوانه ( الإباضية بين الفرق الإسلامية ) – وفيه جمع كل مقولات السلف والخلف ، وكافة الاتهامات التي وجهت إلى المذهب ودعاته ، وفنــدها جميعـا وهو يتولى الرد عليها. وقد هدم مقولات الأشعري مثبتا أن فرق الإباضية التي أشار إليها وأسماء الفقهاء الذين ذكرهم ، لا وجود لهم على الإطلاق ، لا في تاريخ الإباضية أو في مصنفاتهم – وانتهى إلى أن الأشعري " لا يعرف عن الإباضية شيئا ، وإن أكثر ما كتبه لا علاقة لهم به ، ولا علاقة له بهم ". وذهب المؤلف إلى أن الإباضية ليسوا من الخوارج ، غلاتهم أو معتدليهم ، وكونهم رفضوا أن يظل الحكم حكرا على قريش ، واعتبروا التحكيم بين على ومعاوية خطأ ما كان له أن يقع ، فإن ذلك لا يصنفهم ضمن الخوارج. فالإباضية –بنص عبارته- لا يريدون أن ينتسبوا إلى الخوارج ، ولا يحسبون أنفسهم كذلك ، ولا يعتزون بالخارجية ، لسبب بسيط هو: أنهم لا يحكمون على غيرهم من المسلمين بأحكام المشركين ، ولا ينفذون فيهم تلك الأحكام )-( ص417). استشهد الشيخ معمر بما كتبه الدكتور مصطفى الشكعة – صاحب كتاب ( إسلام بلا مذاهب ) عندما قال إن الإباضية رموا بتهمة الخوارج لأنهم رفضوا القرشية ، أي غلتزام كون الإمام من القرشيين. وأضاف إن التقاءهم مع الخوارج في هذا الموقف ، إضافة إلى تخطئتهم للتحكيم بين علي ومعاوية ، هو الذي فتح عليهم باب الاتهامات التي لاحقتهم منذ العصر الأموي وحتى العصر الحديث. لقد اتهمهم الأمويون بأنهم خوارج بسبب مواقفهم من الإمامة القرشية ، ولاحقوهم بتلك التهمة ، ثم جاء أعوانها فاخترعوا للإباضية عقائد وشنائع بثوها عنهم ، فانتشرت بين الناس ، وقامت حائلا دون أن يفهم بعضهم البعض ، واختفى في زحمة النقاش السبب الرئيسي للموضوع ، وطغت تلك وراجت حتى تناولتها الأقلام بالإثبات والترسيخ ( ص159 ) ومما اسشهد به الشيخ معمر أيضا ، وهو يبريء الإباضية من الانتساب إلى الخوارج ، ما كتبه الأديب عزالدين التنوخي ، عضو المجمع العربي بدمشق ، أن من دلائل " جهالتنا بعمان وأهلها ، أن السواد الأعظم من العرب والمسلمين يظنونهم من غلاة الخوارج " ... مع مع إن إطلاق لفظة الخوارج على الإباضية عند واحد من فقهائهم – هو أبو إسحاق طفيش – يعد من الدعايات الفاجرة التي نشأت عن التعصب السياسي أولا ، ثم عن التعصب المذهبي ثانيا ، لما ظهر غلاة الخوارج ( ص133 ). لقد أصر الشيخ معمر على أن الإباضية من أهل السنة وليسوا من الخوارج ، وإلى هذا يذهب أكثر فقهاء الإباضية المحدثين ، إلا أن الاتجاه الغالب بين الباحثين المعاصرين يصنفهم باعتبارهم من معتدلي الخوارج. بهذا يقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه عن المذاهب الإسلامية ، والكتور عوض خليفات أستاذ التاريخ بالجامعة الأردنية ووزير الشباب الحالي في مؤلفه ( نشأة الحركة الإباضية ). ومن الطريف هنا أني وجدت أحد الباحثين يضع الإباضية في تصنيف ثالث ، بعيدا عن السنة والخوارج ، فيعتبرهم من فرق الشيعة ، رغم إشارته (!) إلى أنهم ينتسبون إلى عبدالله بن إباض ، الذي وصفه بأنه من زعماء الخوارج والباحث هو الدكتور السيد المطري ، الأستاذ بجامعة الملك عبدالعزيز وعنوان كتابه الذي حمل إسم لجنة البحث العلمي بالجامعة هو: (( دراسات في سكان العالم الإسلامي )). وقد أحالنا الباحث في صدد هذه المعلومة إلى كتاب ( البلدان الإسلامية ) ، الذي صدر في السعودية أيضاً (سنة 1979م ) لثلاثة من كبار الأساتذة المهتمين بالدراسات السكانية في العالم الإسلامي. هذا التفاوت في تصنيف الإباضية يعكس جانبا من الالتباس الذي أحاط بمذهبهم وأهله طوال القرون التي انقضت من التاريخ الإسلامي ، وكان سببا في حيرة بعض الباحثين وتخبطهم. فهم خرجوا فعلا على الإمام علي ومعاوية بن أبي سفيان ، لكنهم يبرؤون من الخوارج. والتقاؤهم مع الخوارج في الموقف السياسي لم يؤثر على التقائهم مع أهل السنة في الموقف الفكري أو الفقهي وهم ينسبون إلى عبدالله بن إباض ، بينما المؤسس الحقيقي لمذهبهم هو الإمام جابر بن زيد ، وهم دائما كانوا جزءا من جغرافية الواقع الإسلامي!. وعلى كثرة وفخامة مصنفاتهم الفقهية ، فإنها لم تر النور إلا منذ سنوات قليلة ، عندما أنشأت سلطنة عمان وزارة للتراث القومي ، نهضت بتلك المهمة. لقد لاحقهم الأمويون عمليا وأدبيا ، منذ وقفوا في صف المعارضة لهم ، كما ذكر الدكتور الشكعة بحق. وعندما برز عبدالله بن إباض متحدثاً بأسمهم ومناظرا لمخالفيهم ، فإنهم أرادوا به ستر قيادتهم الفكرية الحقيقية المتمثلة في الإمام جابر بن زيد ( ولد حوالي سنة 20 هجرية وعاش حتى نهاية القرن الأول ). وهو يعد من التابعين المرموقين ، العارفين بكتاب الله ، وباعه لا ينكر في رواية الحديث ، وفي الفتوى التي كان يباشرها مع الحسن البصري في البصرة وغيرها. وبسبب من تلك الملاحقة ، فإن الإباضية اتجهوا إلى مناطق الأطراف ، ليأمنوا من بطش الحكام والولاة ، فنزح بعضهم إلى ما وراء جبال عمان ، في ركن قصي من الجزيرة العربية. وهناك أقاموا دولتهم (سنة 132هـ ) التي ما زالت قائمة إلى الآن ، وانطلق آخرون منهم إلى الشمال الإفريقي والأندلس ، فأقاموا دولة في ليبيا (سنة 140هـ) استمرت ثلاثة أشهر ، انسحبوا بعدها إلى منطقة جبل نفوسة في أقصى الجنوب ، وكذلك فعلوا في الجزائر ، أقاموا دولة استمرت ثلاثين عاما (160-190هـ) (1) ثم نزحوا إلى وادي ميزاب واستقروا هناك ولا يزالون. وفي تونس تمركزوا في جزيرة (جربة) حتى الآن ، وفي الأندلس اعتصموا بجزيرتي (ميورقة ومينورقة) ثم غادروها إلى الشمال الإفريقي بعدما سقطت دولة المسلمين. ومن الإباضية جماعة استقرت في واحة سيوه بصحراء مصر ، وتعد دار الكتب المصرية مصدرا هاما لمخطوطاتهم ، وفقيههم أبو إسحاق طفيش الذي أشرنا إليه كان أحد موظفي الدار ، وإن صرف كل جهده لتحقيق تلك المخطوطات ودراستها. بهذا الاحتماء بالمناطق النائية ، غدت تجمعات الإباضية بعيدة عن الأنظار ، وغائبة عن المعترك السياسي والفكري الذي ارتبط بمقر الخلافة في المشرق العربي . مما ساهم في التجهيل بهم ، فضلا عن الترويج لمختلف الاتهامات التي ألصقت بهم ، وفي مقدمتها نسبتهم إلى الخوارج وإضافتهم إلى من ضل في فرق المسلمين . ورغم أن عدد الإباضية الآن قد لا يتجاوز مليونين من الأشخاص ، إلا أن الحركة الإباضية كان لها حضورها في التاريخ الإسلامي ، الذي لم يظهر بحجمه في مختلف كتب التراث ، وما ظهر منها إما جاء مشوها ، أو مبتسراً للغاية . والشكوى من ندرة المعلومات في هذا الصدد ، سجلها أساتذة التاريخ الذين تناولوا الحركة الإباضية ، وفي مقدمتهم الدكتور سعيد عاشور ، والدكتور عوض خليفات . فموسوعات التاريخ الإسلامي لا تمر على عمان وأهلها الإباضية إلا مروراً سريعاً وخاطفاً. ودورهم في الأندلس غير مذكور على الإطلاق ، وعلماء الإباضية لا يشار إليهم في كتب الطبقات ، وأشهر تلك الكتب – طبقات ابن سعد- لم يذكر سوى الإمام جابر بن زيد في عرض مقتضب . ولفت ذلك نظر بعض الباحثين العمانيين ، فقرر مؤلف كتاب ( عمان - تاريخ يتكلم ) ، أن ابن سعد أشار إلى الإمام ابن زيد ( رغم أنفه ) حسنا فعل مؤتمر مسقط ، عندما ركز على فقه الإباضية ، ولم يحْتَفِ بأمر تصنيفهم أو ما نسب إليهم من اتهامات في الموقف أو في العقيدة ، فتحديد طبيعة الفقه ومصادره وركائزه كفيل بحسم كل ما ينبني بعد ذلك من استنتاجات أو تأويلات . إذ الخوض في التاريخ لا طائل من ورائه ، والجدل حول رؤية الله سبحانه وتعالى يوم القيامة ، الذي يقول الإباضية باستحالته ، بينما يقرر آخرون وقوعه ، ويرون المخالفة فيه من قبيل الاجتهاد في شأن العقيدة الذي يستدل به على الضلال ... هذا الجدل يظل من قبيل الثرثرة في شأن الغيب ، التي تضر ولا تفيد . بالتالي ، فقد أصبح الحوار حول منابع أصول الفقه الإباضي هو الاختيار – أو الاختبار – الصحيح . من هذه الزاوية ، تلفت أنظارنا في الأبحاث المقدمة ، العناصر والإشارات التالية : في بحث الدكتور يحي محمد بكوش ( الجزائر ) حول مدرسة جابر بن زيد وأثرها في الفقه الإسلامي مسح للظروف التي نشأ فيها ذلك الفقه ، من حيث الزمان والمكان . ذلك أن بيئة العراق ، التي ظهر فيها الفكر الإباضي ، تعرف تاريخياً بأنها مدرسة الرأي والاجتهاد والاستنباط في الفقه الإسلامي ، التي افرزت عديداً من الائمة الذين كانوا من كبار التابعين . جابر بن زيد في المقدمة من هؤلاء ، ومعه الحسن البصري وعلقمة بن قيس ، وإبراهيم النخعي . في الوقت ذاته ، فقد كان لأعلام هذه المدرسة نصيبهم الوافر من علوم الحديث . وثبت أن جابر بن زيد كان كثير الترحال إلى الحجاز ، ولزم عبدالله بن عباس ، حتى عرف أحدهما بالآخر . وقد اعتبر جابر بن زيد أحد أئمة السنة في البصرة ، حتى وثقه جميع نقاد الحديث ، وأجمعوا على عدالته وضبطه . بل إنه اعتبر من رجال أصح الأسانيد . وقد استفتي عبدالله بن عباس مرة في أمر فقال : عجباً لأهل العراق ، كيف يحتاجون إلينا وعندهم جابر بن زيد ، لو قصدوا نحوه لوسعهم علمه. الخلاصة أن ابن زيد –مؤسس المذهب- نشأ في عصر كبار التابعين ، الذين تحرروا من التقاليد والتعصب ، ولم يكن يلزمهم سوى القيود الشرعية المتفق عليها بين أهل الثقة والورع. وكان هذا العصر هو حلقة الوصل بين عصر النبوة والصحابة ، وعصر تكوين المذاهب الفقهية التي ظهرت فيما بعد. فمدرسة جابر بن زيد هي التي أفرزت الفقه الإباضي ، الذي انتشر مبكرا في عمان والمغرب وحضرموت. ومدرسة إبراهيم النخعي هي التي خرَّجت الإمام أبو حنيفة ومذهبه الذي انتشر من الكوفة إلى أرجاء العالم. وفكر سعيد بن المسيب هو الذي تطور وتأصل من بعد على يد الإمام مالك ومذهبه المعروف ... وهكذا. في البحث الذي قدمه الفقيه التونسي الدكتور فرحات بن علي الجعبيري حول المدرسة الإباضية في الفقه والحضارة الإسلامية ، خلص إلى أن هذه المدرسة سلكت منذ يومها الأول المسلك المتفق عليه في الفقه والاجتهاد ، فاعتبرت مصادر الشريعة الأساسية متمثلة في الكتاب والسنة والرأي. وفي ذلك رد على من يدعون أن الإباضية فرقة مبتدعة وبعدما تغيرت هذه النظرة في الدراسات الحديثة ، إلا أن الباحث سجل اعترضه على إشارات الكتاب المعاصرين إلى أن الإباضية أقرب المذاهب إلى أهل السنة . وتساءل في هذا الصدد : لماذا هذا التصنيف ، بعد أن أثبت أن المذهب الإباضي أسبق المذاهب اعتماداً على السنة اعتمادا كلياً في تأصيل الشريعة ؟ أضاف الباحث إن : أثر العقيدة الإباضية واضح في الفقه ، ويتمثل في اعتبار العمل لا يتجزأ من الإيمان . وفي اعتقاد الخلود لمن يموت مصراً على الكبائر ، ويتجلى هذا في كثرة التحري ، مما يجعل الناس يتهمونهم بالتشدد والمغلاة . والفرق واضح بين الذي يجتهد في تحري الحقيقة داخل إطار النص ، وبين الذي يخرج عن النص فيحمله ما لا يتحمل . _____________الهوامش:(1) الصحيح أن الدولة الرستمية دامت من (160 إلى 296هـ)
    • هذا المقال نشر في جريد الخليج الامارتية في عام 1988 م ... وقد وجدت صورة من المقال بالصدفة في بيتنا واعجبت كثيرا بالفكر المستنير للكاتب الكبير فهمي هويدي ...

      وكلمة حق فان المسلمين اليوم بحاجة لتناسي الخلافات المذهبية والطائفية لكي تعود لهم كلمتهم وايامهم العظيمة المجيدة