فصل العقوبات التي جاءت بها الشريعة لمن عصى الله ورسوله نوعان : أحدهما : عقوبة المقدور عليه من الواحد والعدد كما تقدم . والثاني : عقاب الطائفة الممتنعة كالتي لا يقدر عليها إلا بقتال .
فأصل هذا هو جهاد الكفار أعداء الله ورسوله فكل من بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين الله الذي بعثه به فلم يستجب له ; فإنه يجب قتاله { حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } .
ولأن الله لما بعث نبيه وأمره بدعوة الخلق إلى دينه : لم يأذن له في قتل أحد على ذلك ولا قتاله حتى هاجر إلى المدينة فأذن له وللمسلمين بقوله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير } { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز } { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور } .
ثم إنه بعد ذلك أوجب عليهم القتال بقوله تعالى : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون } .
وأكد الإيجاب وعظم أمر الجهاد في عامة السور المدنية وذم التاركين له ووصفهم بالنفاق ومرض القلوب فقال تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } . وقال تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } وقال تعالى : { فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم } { طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم } { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } . فهذا كثير [ ص: 351 ] في القرآن .
وكذلك تعظيمه وتعظيم أهله في " سورة الصف " التي يقول فيها : { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } { تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } { يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم } { وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين } . وقوله تعالى { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين } { الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون } { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم } { خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم } . وقوله تعالى { من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم } . وقال تعالى : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين } { ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون } . فذكر ما يتولد من أعمالهم وما يباشرونه من الأعمال .
مسألة: الجزء الثامن والعشرون
فَصْلٌ الْعُقُوبَاتُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الشَّرِيعَةُ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : عُقُوبَةُ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْ الْوَاحِدِ وَالْعَدَدِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَالثَّانِي : عِقَابُ الطَّائِفَةِ الْمُمْتَنِعَةِ كَاَلَّتِي لَا يُقْدَرُ عَلَيْهَا إلَّا بِقِتَالِ .
فَأَصْلُ هَذَا هُوَ جِهَادُ الْكُفَّارِ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَكُلُّ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى دِينِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ ; فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهُ { حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } .
وَلِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا بَعَثَ نَبِيَّهُ وَأَمَرَهُ بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ إلَى دِينِهِ : لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي قَتْلِ أَحَدٍ عَلَى ذَلِكَ وَلَا قِتَالِهِ حَتَّى هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ فَأَذِنَ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } { الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } .
ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } .
وَأَكَّدَ الْإِيجَابَ وَعَظَّمَ أَمْرَ الْجِهَادِ فِي عَامَّةِ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ وَذَمَّ التَّارِكِينَ لَهُ وَوَصَفَهُمْ بِالنِّفَاقِ وَمَرَضِ الْقُلُوبِ فَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ } { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } . فَهَذَا كَثِيرٌ [ ص: 351 ] فِي الْقُرْآنِ .
وَكَذَلِكَ تَعْظِيمُهُ وَتَعْظِيمُ أَهْلِهِ فِي " سُورَةِ الصَّفِّ " الَّتِي يَقُولُ فِيهَا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } { تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } { وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } . وقَوْله تَعَالَى { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } . وقَوْله تَعَالَى { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } . وَقَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } { وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . فَذَكَرَ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَمَا يُبَاشِرُونَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ .
مسألة: الجزء الثامن والعشرون
فصل العقوبات التي جاءت بها الشريعة لمن عصى الله ورسوله نوعان : أحدهما : عقوبة المقدور عليه من الواحد والعدد كما تقدم . والثاني : عقاب الطائفة الممتنعة كالتي لا يقدر عليها إلا بقتال .
فأصل هذا هو جهاد الكفار أعداء الله ورسوله فكل من بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين الله الذي بعثه به فلم يستجب له ; فإنه يجب قتاله { حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } .
ولأن الله لما بعث نبيه وأمره بدعوة الخلق إلى دينه : لم يأذن له في قتل أحد على ذلك ولا قتاله حتى هاجر إلى المدينة فأذن له وللمسلمين بقوله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير } { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز } { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور } .
ثم إنه بعد ذلك أوجب عليهم القتال بقوله تعالى : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون } .
وأكد الإيجاب وعظم أمر الجهاد في عامة السور المدنية وذم التاركين له ووصفهم بالنفاق ومرض القلوب فقال تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } . وقال تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } وقال تعالى : { فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم } { طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم } { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } . فهذا كثير [ ص: 351 ] في القرآن .
وكذلك تعظيمه وتعظيم أهله في " سورة الصف " التي يقول فيها : { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } { تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } { يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم } { وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين } . وقوله تعالى { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين } { الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون } { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم } { خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم } . وقوله تعالى { من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم } . وقال تعالى : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين } { ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون } . فذكر ما يتولد من أعمالهم وما يباشرونه من الأعمال .
والأمر بالجهاد وذكر فضائله في الكتاب والسنة : أكثر من أن يحصر .
ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة ومن الصلاة التطوع والصوم التطوع . كما دل عليه الكتاب والسنة حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم { رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد } وقال : { إن في الجنة لمائة درجة ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله } متفق عليه وقال : { من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار } رواه البخاري وقال صلى الله عليه وسلم { رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه . وإن مات أجري عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان } رواه مسلم وفي السنن : { رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل } وقال صلى الله عليه وسلم { عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرص في سبيل الله } قال الترمذي حديث حسن . وفي مسند الإمام [ ص: 353 ] أحمد : { حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها } وفي الصحيحين : { أن رجلا قال : يا رسول الله أخبرني بشيء يعدل الجهاد في سبيل الله ؟ قال : لا تستطيع . قال : أخبرني به ؟ قال : هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم لا تفطر وتقوم لا تفتر ؟ قال لا . قال : فذلك الذي يعدل الجهاد } . وفي السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال : { إن لكل أمة سياحة وسياحة أمتي الجهاد في سبيل الله } .
وهذا باب واسع لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه .
وهو ظاهر عند الاعتبار فإن نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين والدنيا ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة فإنه مشتمل من محبة الله تعالى والإخلاص له والتوكل عليه وتسليم النفس والمال له والصبر والزهد وذكر الله وسائر أنواع الأعمال : على ما لا يشتمل عليه عمل آخر .
والقائم به من الشخص والأمة بين إحدى الحسنيين دائما . إما النصر والظفر وإما الشهادة والجنة .
فإن الخلق لا بد لهم من محيا وممات ففيه استعمال محياهم ومماتهم [ ص: 354 ] في غاية سعادتهم في الدنيا والآخرة وفي تركه ذهاب السعادتين أو نقصهما ; فإن من الناس من يرغب في الأعمال الشديدة في الدين أو الدنيا مع قلة منفعتها فالجهاد أنفع فيهما من كل عمل شديد وقد يرغب في ترفيه نفسه حتى يصادفه الموت فموت الشهيد أيسر من كل ميتة وهي أفضل الميتات .
وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا فمن امتنع من هذا قوتل باتفاق المسلمين . وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزمن ونحوهم فلا يقتل عند جمهور العلماء ; إلا أن يقاتل بقوله أو فعله وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر ; إلا النساء والصبيان ; لكونهم مالا للمسلمين . والأول هو الصواب ; لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله كما قال الله تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم { أنه مر على امرأة مقتولة في بعض مغازيه قد وقف عليها الناس . فقال : ما كانت هذه لتقاتل } { وقال لأحدهم : الحق خالدا فقل له : لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا } . وفيهما أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : { لا تقتلوا شيخا فانيا ولا [ ص: 355 ] طفلا صغيرا ولا امرأة } .
وذلك أن الله تعالى أباح من قتل النفوس ما يحتاج إليه في صلاح الخلق كما قال تعالى : { والفتنة أكبر من القتل } . أي أن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين لله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه ; ولهذا قال الفقهاء : إن الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة يعاقب بما لا يعاقب به الساكت .
وجاء في الحديث : { أن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها ; ولكن إذا ظهرت فلم تنكر ضرت العامة } .
ولهذا أوجبت الشريعة قتال الكفار ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم ; بل إذا أسر الرجل منهم في القتال أو غير القتال مثل أن تلقيه السفينة إلينا أو يضل الطريق أو يؤخذ بحيلة فإنه يفعل فيه الإمام الأصلح من قتله أو استعباده أو المن عليه أو مفاداته بمال أو نفس عند أكثر الفقهاء كما دل عليه الكتاب والسنة . وإن كان من الفقهاء من يرى المن عليه ومفاداته منسوخا
[ ص: 343 ] فصل وأما المعاصي التي ليس فيها حد مقدر ولا كفارة كالذي يقبل الصبي والمرأة الأجنبية أو يباشر بلا جماع أو يأكل ما لا يحل كالدم والميتة أو يقذف الناس بغير الزنا أو يسرق من غير حرز ولو شيئا يسيرا أو يخون أمانته كولاة أموال بيت المال أو الوقوف ومال اليتيم ونحو ذلك إذا خانوا فيها وكالوكلاء والشركاء إذا خانوا أو يغش في معاملته كالذين يغشون في الأطعمة والثياب ونحو ذلك أو يطفف المكيال والميزان أو يشهد بالزور أو يلقن شهادة الزور أو يرتشي في حكمه أو يحكم بغير ما أنزل الله أو يعتدي على رعيته أو يتعزى بعزاء الجاهلية أو يلبي داعي الجاهلية إلى غير ذلك من أنواع المحرمات : فهؤلاء يعاقبون تعزيرا وتنكيلا وتأديبا بقدر ما يراه الوالي على حسب كثرة ذلك الذنب في الناس وقلته . فإذا كان كثيرا زاد في العقوبة ; بخلاف ما إذا كان قليلا . وعلى حسب حال المذنب ; فإذا كان من المدمنين على الفجور زيد في عقوبته ; بخلاف المقل من ذلك . وعلى حسب كبر الذنب وصغره ; فيعاقب من يتعرض لنساء الناس وأولادهم بما لا يعاقب من لم يتعرض إلا لمرأة [ ص: 344 ] واحدة أو صبي واحد .
وليس لأقل التعزير حد ; بل هو بكل ما فيه إيلام الإنسان من قول وفعل وترك قول وترك فعل فقد يعزر الرجل بوعظه وتوبيخه والإغلاظ له وقد يعزر بهجره وترك السلام عليه حتى يتوب إذا كان ذلك هو المصلحة كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه " الثلاثة الذين خلفوا " وقد يعزر بعزله عن ولايته كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعزرون بذلك ; وقد يعزر بترك استخدامه في جند المسلمين كالجندي المقاتل إذا فر من الزحف ; فإن الفرار من الزحف من الكبائر وقطع أجره نوع تعزير له وكذلك الأمير إذا فعل ما يستعظم فعزله عن إمارته تعزيرا له وكذلك قد يعزر بالحبس وقد يعزر بالضرب وقد يعزر بتسويد وجهه وإركابه على دابة مقلوبا ; كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر بمثل ذلك في شاهد الزور فإن الكاذب سود الوجه فسود وجهه وقلب الحديث فقلب ركوبه .
وأما أعلاه ; فقد قيل : " لا يزاد على عشرة أسواط " . وقال كثير من العلماء لا يبلغ به الحد . ثم هم على قولين : منهم من يقول : " لا يبلغ به أدنى الحدود " : لا يبلغ بالحر أدنى حدود الحر وهي الأربعون أو الثمانون ولا يبلغ بالعبد أدنى حدود العبد وهي [ ص: 345 ] العشرون أو الأربعون . وقيل ; بل لا يبلغ بكل منهما حد العبد . ومنهم من يقول : لا يبلغ بكل ذنب حد جنسه وإن زاد على حد جنس آخر فلا يبلغ بالسارق من غير حرز قطع اليد وإن ضرب أكثر من حد القاذف ولا يبلغ بمن فعل ما دون الزنا حد الزاني وإن زاد على حد القاذف كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا نقش على خاتمه وأخذ بذلك من بيت المال فأمر به فضرب مائة ضربة ثم ضربه في اليوم الثاني مائة ضربة ثم ضربه في اليوم الثالث مائة ضربة .
وروي عن الخلفاء الراشدين في رجل وامرأة وجدا في لحاف : " يضربان مائة " . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي جارية امرأته : إن كانت أحلتها له جلد مائة وإن لم تكن أحلتها له : رجم وهذه الأقوال في مذهب أحمد وغيره . والقولان الأولان في مذهب الشافعي وغيره .
وأما مالك وغيره فحكي عنه : أن من الجرائم ما يبلغ به القتل . ووافقه بعض أصحاب أحمد في مثل الجاسوس المسلم إذا تجسس للعدو على المسلمين فإن أحمد توقف في قتله وجوز مالك وبعض الحنابلة - كابن عقيل - قتله ومنعه أبو حنيفة والشافعي وبعض الحنابلة كالقاضي أبي يعلى .
[ ص: 346 ] وجوز طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما : قتل الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وكذلك كثير من أصحاب مالك . وقالوا : إنما جوز مالك وغيره قتل القدرية لأجل الفساد في الأرض ; لا لأجل الردة ; وكذلك قد قيل في قتل الساحر ; فإن أكثر العلماء على أنه يقتل وقد روي { عن جندب رضي الله عنه موقوفا ومرفوعا : إن حد الساحر ضربه بالسيف } رواه الترمذي . وعن عمر وعثمان وحفصة وعبد الله بن عمر وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم قتله . فقال بعض العلماء : لأجل الكفر وقال بعضهم : لأجل الفساد في الأرض . لكن جمهور هؤلاء يرون قتله حدا . وكذلك أبو حنيفة يعزر بالقتل فيما تكرر من الجرائم إذا كان جنسه يوجب القتل كما يقتل من تكرر منه اللواط أو اغتيال النفوس لأخذ المال ونحو ذلك .
وقد يستدل على أن المفسد متى لم ينقطع شره إلا بقتله فإنه يقتل : بما رواه مسلم في صحيحه { عن عرفجة الأشجعي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه } وفي رواية : { ستكون هنات وهنات . فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان } .
[ ص: 347 ] وكذلك قد يقال في أمره بقتل شارب الخمر في الرابعة ; بدليل ما رواه أحمد في المسند { عن ديلم الحميري رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت يا رسول الله : إنا بأرض نعالج بها عملا شديدا وأنا نتخذ شرابا من القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا . فقال : هل يسكر ؟ قلت نعم . قال : فاجتنبوه . قلت إن الناس غير تاركيه . قال : فإن لم يتركوه فاقتلوهم } . وهذا لأن المفسد كالصائل . فإذا لم يندفع الصائل إلا بالقتل قتل .
وجماع ذلك أن العقوبة نوعان : ( أحدهما على ذنب ماض جزاء بما كسب نكالا من الله كجلد الشارب والقاذف وقطع المحارب والسارق .
و ( الثاني العقوبة لتأدية حق واجب وترك محرم في المستقبل كما يستتاب المرتد حتى يسلم فإن تاب ; وإلا قتل . وكما يعاقب تارك الصلاة والزكاة وحقوق الآدميين حتى يؤدوها . فالتعزير في هذا الضرب أشد منه في الضرب الأول . ولهذا يجوز أن يضرب مرة بعد مرة حتى يؤدي الصلاة الواجبة أو يؤدي الواجب عليه والحديث الذي في الصحيحين . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يجلد فوق عشرة [ ص: 348 ] أسواط إلا في حد من حدود الله } قد فسره طائفة من أهل العلم بأن المراد بحدود الله ما حرم لحق الله ; فإن الحدود في لفظ الكتاب والسنة يراد بها الفصل بين الحلال والحرام : مثل آخر الحلال وأول الحرام . فيقال في الأول : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } . ويقال في الثاني : { تلك حدود الله فلا تقربوها } .
وأما تسمية العقوبة المقدرة حدا فهو عرف حادث . ومراد الحديث : أن من ضرب لحق نفسه كضرب الرجل امرأته في النشوز لا يزيد على عشر جلدات .
والجلد الذي جاءت به الشريعة : هو الجلد المعتدل بالسوط ; فإن خيار الأمور أوساطها قال علي رضي الله عنه " ضرب بين ضربين وسوط بين سوطين " ولا يكون الجلد بالعصي ولا بالمقارع ولا يكتفى فيه بالدرة ; بل الدرة تستعمل في التعزير .
أما الحدود فلا بد فيها من الجلد بالسوط وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يؤدب بالدرة ; فإذا جاءت الحدود دعا بالسوط ولا تجرد ثيابه كلها ; بل ينزع عنه ما يمنع ألم الضرب من الحشايا والفراء ونحو ذلك . ولا يربط إذا لم يحتج إلى ذلك ولا يضرب وجهه ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا قاتل أحدكم [ ص: 349 ] فليتق الوجه ولا يضرب مقاتله } فإن المقصود تأديبه لا قتله ويعطى كل عضو حظه من الضرب كالظهر والأكتاف والفخذين ونحو ذلك .
مسألة: الجزء الثامن والعشرون
[ ص: 343 ] فَصْلٌ وَأَمَّا الْمَعَاصِي الَّتِي لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ وَلَا كَفَّارَةٌ كَاَلَّذِي يُقَبِّلُ الصَّبِيَّ وَالْمَرْأَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ أَوْ يُبَاشِرُ بِلَا جِمَاعٍ أَوْ يَأْكُلُ مَا لَا يَحِلُّ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ أَوْ يَقْذِفُ النَّاسَ بِغَيْرِ الزِّنَا أَوْ يَسْرِقُ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ وَلَوْ شَيْئًا يَسِيرًا أَوْ يَخُونُ أَمَانَتَهُ كَوُلَاةِ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ الْوُقُوفِ وَمَالِ الْيَتِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا خَانُوا فِيهَا وَكَالْوُكَلَاءِ وَالشُّرَكَاءِ إذَا خَانُوا أَوْ يَغُشُّ فِي مُعَامَلَتِهِ كَاَلَّذِينَ يَغُشُّونَ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ يُطَفِّفُ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ أَوْ يَشْهَدُ بِالزُّورِ أَوْ يُلَقِّنُ شَهَادَةَ الزُّورِ أَوْ يَرْتَشِي فِي حُكْمِهِ أَوْ يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ أَوْ يَعْتَدِي عَلَى رَعِيَّتِهِ أَوْ يَتَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ يُلَبِّي دَاعِيَ الْجَاهِلِيَّةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُحَرَّمَاتِ : فَهَؤُلَاءِ يُعَاقَبُونَ تَعْزِيرًا وَتَنْكِيلًا وَتَأْدِيبًا بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ الْوَالِي عَلَى حَسَبِ كَثْرَةِ ذَلِكَ الذَّنْبِ فِي النَّاسِ وَقِلَّتِهِ . فَإِذَا كَانَ كَثِيرًا زَادَ فِي الْعُقُوبَةِ ; بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ قَلِيلًا . وَعَلَى حَسَبِ حَالِ الْمُذْنِبِ ; فَإِذَا كَانَ مِنْ الْمُدْمِنِينَ عَلَى الْفُجُورِ زِيدَ فِي عُقُوبَتِهِ ; بِخِلَافِ الْمُقِلِّ مِنْ ذَلِكَ . وَعَلَى حَسَبِ كِبَرِ الذَّنْبِ وَصِغَرِهِ ; فَيُعَاقِبُ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِنِسَاءِ النَّاسِ وَأَوْلَادِهِمْ بِمَا لَا يُعَاقَبُ مَنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ إلَّا لِمَرْأَةِ [ ص: 344 ] وَاحِدَةٍ أَوْ صَبِيٍّ وَاحِدٍ .
وَلَيْسَ لِأَقَلِّ التَّعْزِيرِ حَدٌّ ; بَلْ هُوَ بِكُلِّ مَا فِيهِ إيلَامِ الْإِنْسَانِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ وَتَرْكِ قَوْلٍ وَتَرْكِ فِعْلٍ فَقَدْ يُعَزَّرُ الرَّجُلُ بِوَعْظِهِ وَتَوْبِيخِهِ وَالْإِغْلَاظِ لَهُ وَقَدْ يُعَزَّرُ بِهَجْرِهِ وَتَرْكِ السَّلَامَ عَلَيْهِ حَتَّى يَتُوبَ إذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمَصْلَحَةِ كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ " الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا " وَقَدْ يُعَزَّرُ بِعَزْلِهِ عَنْ وِلَايَتِهِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يُعَزِّرُونَ بِذَلِكَ ; وَقَدْ يُعَزَّرُ بِتَرْكِ اسْتِخْدَامِهِ فِي جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ كَالْجُنْدِيِّ الْمُقَاتِلِ إذَا فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ ; فَإِنَّ الْفِرَارَ مِنْ الزَّحْفِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَقَطْعَ أَجْرِهِ نَوْعُ تَعْزِيرٍ لَهُ وَكَذَلِكَ الْأَمِيرُ إذَا فَعَلَ مَا يُسْتَعْظَمُ فَعَزَلَهُ عَنْ إمَارَتِهِ تَعْزِيرًا لَهُ وَكَذَلِكَ قَدْ يُعَزَّرُ بِالْحَبْسِ وَقَدْ يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ وَقَدْ يُعَزَّرُ بِتَسْوِيدِ وَجْهِهِ وَإِرْكَابِهِ عَلَى دَابَّةٍ مَقْلُوبًا ; كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي شَاهِدِ الزُّورِ فَإِنَّ الْكَاذِبَ سَوَّدَ الْوَجْهَ فَسَوَّدَ وَجْهَهُ وَقَلَبَ الْحَدِيثَ فَقَلَبَ رُكُوبَهُ .
وَأَمَّا أَعْلَاهُ ; فَقَدْ قِيلَ : " لَا يُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ " . وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَا يَبْلُغُ بِهِ الْحَدَّ . ثُمَّ هُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : " لَا يَبْلُغُ بِهِ أَدْنَى الْحُدُودِ " : لَا يَبْلُغُ بِالْحُرِّ أَدْنَى حُدُودِ الْحُرِّ وَهِيَ الْأَرْبَعُونَ أَوْ الثَّمَانُونَ وَلَا يَبْلُغُ بِالْعَبْدِ أَدْنَى حُدُودِ الْعَبْدِ وَهِيَ [ ص: 345 ] الْعِشْرُونَ أَوْ الْأَرْبَعُونَ . وَقِيلَ ; بَلْ لَا يَبْلُغُ بِكُلِّ مِنْهُمَا حَدَّ الْعَبْدِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا يَبْلُغُ بِكُلِّ ذَنْبٍ حَدَّ جِنْسِهِ وَإِنْ زَادَ عَلَى حَدِّ جِنْسٍ آخَرَ فَلَا يَبْلُغُ بِالسَّارِقِ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ قَطْعَ الْيَدِ وَإِنْ ضُرِبَ أَكْثَرَ مَنْ حَدِّ الْقَاذِفِ وَلَا يَبْلُغُ بِمَنْ فَعَلَ مَا دُونَ الزِّنَا حَدَّ الزَّانِي وَإِنْ زَادَ عَلَى حَدِّ الْقَاذِفِ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا نَقَشَ عَلَى خَاتَمِهِ وَأَخَذَ بِذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ مِائَةَ ضَرْبَةٍ ثُمَّ ضَرَبَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِائَةَ ضَرْبَةٍ ثُمَّ ضَرَبَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِائَة ضَرْبَةٍ .
وَرُوِيَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وُجِدَا فِي لِحَافٍ : " يُضْرَبَانِ مِائَةً " . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي يَأْتِي جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ : إنْ كَانَتْ أَحَلَّتْهَا لَهُ جُلِدَ مِائَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَلَّتْهَا لَهُ : رُجِمَ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ .
وَأَمَّا مَالِكٌ وَغَيْرُهُ فَحُكِيَ عَنْهُ : أَنَّ مِنْ الْجَرَائِمِ مَا يَبْلُغُ بِهِ الْقَتْلَ . وَوَافَقَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد فِي مِثْلِ الْجَاسُوسِ الْمُسْلِمِ إذَا تَجَسَّسَ لِلْعَدُوِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ أَحْمَد تَوَقَّفَ فِي قَتْلِهِ وَجَوَّزَ مَالِكٌ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ - كَابْنِ عَقِيلٍ - قَتْلَهُ وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى .
[ ص: 346 ] وَجَوَّزَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا : قَتْلَ الدَّاعِيَةِ إلَى الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ . وَقَالُوا : إنَّمَا جَوَّزَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ قَتْلَ الْقَدَرِيَّةِ لِأَجْلِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ ; لَا لِأَجْلِ الرِّدَّةِ ; وَكَذَلِكَ قَدْ قِيلَ فِي قَتْلِ السَّاحِرِ ; فَإِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ وَقَدْ رُوِيَ { عَنْ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا : إنَّ حَدَّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ . وَعَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَحَفْصَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَتْلُهُ . فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لِأَجْلِ الْكُفْرِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لِأَجْلِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ . لَكِنَّ جُمْهُورَ هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ قَتْلَهُ حَدًّا . وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ يُعَزَّرُ بِالْقَتْلِ فِيمَا تَكَرَّرَ مِنْ الْجَرَائِمِ إذَا كَانَ جِنْسُهُ يُوجِبُ الْقَتْلَ كَمَا يُقْتَلُ مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ اللِّوَاطُ أَوْ اغْتِيَالُ النُّفُوسِ لِأَخْذِ الْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ الْمُفْسِدَ مَتَى لَمْ يَنْقَطِعْ شَرُّهُ إلَّا بِقَتْلِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ : بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ { عَنْ عرفجة الأشجعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ } وَفِي رِوَايَةٍ : { سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ . فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ } .
[ ص: 347 ] وَكَذَلِكَ قَدْ يُقَالُ فِي أَمْرِهِ بِقَتْلِ شَارِبِ الْخَمْرِ فِي الرَّابِعَةِ ; بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ { عَنْ دَيْلَمَ الْحِمْيَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّا بِأَرْضِ نُعَالِجُ بِهَا عَمَلًا شَدِيدًا وَأَنَّا نَتَّخِذُ شَرَابًا مِنْ الْقَمْحِ نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى أَعْمَالِنَا وَعَلَى بَرْدِ بِلَادِنَا . فَقَالَ : هَلْ يُسْكِرُ ؟ قُلْت نَعَمْ . قَالَ : فَاجْتَنِبُوهُ . قُلْت إنَّ النَّاسَ غَيْرُ تَارِكِيهِ . قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَتْرُكُوهُ فَاقْتُلُوهُمْ } . وَهَذَا لِأَنَّ الْمُفْسِدَ كَالصَّائِلِ . فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ الصَّائِلُ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلَ .
وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ نَوْعَانِ : ( أَحَدُهُمَا عَلَى ذَنْبٍ مَاضٍ جَزَاءٌ بِمَا كَسَبَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ كَجَلْدِ الشَّارِبِ وَالْقَاذِفِ وَقَطْعِ الْمُحَارِبِ وَالسَّارِقِ .
وَ ( الثَّانِي الْعُقُوبَةُ لِتَأْدِيَةِ حَقٍّ وَاجِبٍ وَتَرْكِ مُحَرَّمٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ حَتَّى يُسْلِمَ فَإِنْ تَابَ ; وَإِلَّا قُتِلَ . وَكَمَا يُعَاقَبُ تَارِكُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ حَتَّى يُؤَدُّوهَا . فَالتَّعْزِيرُ فِي هَذَا الضَّرْبِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ . وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَضْرَبَ مَرَّةً بَعْد مَرَّةٍ حَتَّى يُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ الْوَاجِبَةَ أَوْ يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ . عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ [ ص: 348 ] أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ } قَدْ فَسَّرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِحُدُودِ اللَّهِ مَا حَرُمَ لِحَقِّ اللَّهِ ; فَإِنَّ الْحُدُودَ فِي لَفْظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُرَادُ بِهَا الْفَصْلُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ : مِثْلَ آخِرِ الْحَلَالِ وَأَوَّلَ الْحَرَامِ . فَيُقَالُ فِي الْأَوَّلِ : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا } . وَيُقَالُ فِي الثَّانِي : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا } .
وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْعُقُوبَةِ الْمُقَدَّرَةِ حَدًّا فَهُوَ عُرْفٌ حَادِثٌ . وَمُرَادُ الْحَدِيثِ : أَنَّ مَنْ ضُرِبَ لِحَقِّ نَفْسِهِ كَضَرْبِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِي النُّشُوزِ لَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرِ جَلَدَاتٍ .
وَالْجَلْدُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ : هُوَ الْجَلْدُ الْمُعْتَدِلُ بِالسَّوْطِ ; فَإِنَّ خِيَارَ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " ضَرْبٌ بَيْنَ ضَرْبَيْنِ وَسَوْطٍ بَيْنَ سَوْطَيْنِ " وَلَا يَكُونُ الْجَلْدُ بِالْعِصِيِّ وَلَا بِالْمُقَارِعِ وَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالدِّرَّةِ ; بَلْ الدِّرَّةُ تُسْتَعْمَلُ فِي التَّعْزِيرِ .
أَمَّا الْحُدُودُ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْجَلْدِ بِالسَّوْطِ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُؤَدِّبُ بِالدِّرَّةِ ; فَإِذَا جَاءَتْ الْحُدُودُ دَعَا بِالسَّوْطِ وَلَا تُجَرَّدُ ثِيَابُهُ كُلُّهَا ; بَلْ يُنْزَعُ عَنْهُ مَا يَمْنَعُ أَلَمَ الضَّرْبِ مِنْ الْحَشَايَا وَالْفِرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَلَا يُرْبَطُ إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذَلِكَ وَلَا يُضْرَبُ وَجْهُهُ ; فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ [ ص: 349 ] فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ وَلَا يَضْرِبْ مُقَاتِلَهُ } فَإِنَّ الْمَقْصُودَ تَأْدِيبُهُ لَا قَتْلُهُ وَيُعْطَى كُلُّ عُضْوٍ حَظُّهُ مِنْ الضَّرْبِ كَالظَّهْرِ وَالْأَكْتَافِ وَالْفَخِذَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
مسألة: الجزء الثامن والعشرون
[ ص: 343 ] فصل وأما المعاصي التي ليس فيها حد مقدر ولا كفارة كالذي يقبل الصبي والمرأة الأجنبية أو يباشر بلا جماع أو يأكل ما لا يحل كالدم والميتة أو يقذف الناس بغير الزنا أو يسرق من غير حرز ولو شيئا يسيرا أو يخون أمانته كولاة أموال بيت المال أو الوقوف ومال اليتيم ونحو ذلك إذا خانوا فيها وكالوكلاء والشركاء إذا خانوا أو يغش في معاملته كالذين يغشون في الأطعمة والثياب ونحو ذلك أو يطفف المكيال والميزان أو يشهد بالزور أو يلقن شهادة الزور أو يرتشي في حكمه أو يحكم بغير ما أنزل الله أو يعتدي على رعيته أو يتعزى بعزاء الجاهلية أو يلبي داعي الجاهلية إلى غير ذلك من أنواع المحرمات : فهؤلاء يعاقبون تعزيرا وتنكيلا وتأديبا بقدر ما يراه الوالي على حسب كثرة ذلك الذنب في الناس وقلته . فإذا كان كثيرا زاد في العقوبة ; بخلاف ما إذا كان قليلا . وعلى حسب حال المذنب ; فإذا كان من المدمنين على الفجور زيد في عقوبته ; بخلاف المقل من ذلك . وعلى حسب كبر الذنب وصغره ; فيعاقب من يتعرض لنساء الناس وأولادهم بما لا يعاقب من لم يتعرض إلا لمرأة [ ص: 344 ] واحدة أو صبي واحد .
وليس لأقل التعزير حد ; بل هو بكل ما فيه إيلام الإنسان من قول وفعل وترك قول وترك فعل فقد يعزر الرجل بوعظه وتوبيخه والإغلاظ له وقد يعزر بهجره وترك السلام عليه حتى يتوب إذا كان ذلك هو المصلحة كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه " الثلاثة الذين خلفوا " وقد يعزر بعزله عن ولايته كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعزرون بذلك ; وقد يعزر بترك استخدامه في جند المسلمين كالجندي المقاتل إذا فر من الزحف ; فإن الفرار من الزحف من الكبائر وقطع أجره نوع تعزير له وكذلك الأمير إذا فعل ما يستعظم فعزله عن إمارته تعزيرا له وكذلك قد يعزر بالحبس وقد يعزر بالضرب وقد يعزر بتسويد وجهه وإركابه على دابة مقلوبا ; كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر بمثل ذلك في شاهد الزور فإن الكاذب سود الوجه فسود وجهه وقلب الحديث فقلب ركوبه .
وأما أعلاه ; فقد قيل : " لا يزاد على عشرة أسواط " . وقال كثير من العلماء لا يبلغ به الحد . ثم هم على قولين : منهم من يقول : " لا يبلغ به أدنى الحدود " : لا يبلغ بالحر أدنى حدود الحر وهي الأربعون أو الثمانون ولا يبلغ بالعبد أدنى حدود العبد وهي [ ص: 345 ] العشرون أو الأربعون . وقيل ; بل لا يبلغ بكل منهما حد العبد . ومنهم من يقول : لا يبلغ بكل ذنب حد جنسه وإن زاد على حد جنس آخر فلا يبلغ بالسارق من غير حرز قطع اليد وإن ضرب أكثر من حد القاذف ولا يبلغ بمن فعل ما دون الزنا حد الزاني وإن زاد على حد القاذف كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا نقش على خاتمه وأخذ بذلك من بيت المال فأمر به فضرب مائة ضربة ثم ضربه في اليوم الثاني مائة ضربة ثم ضربه في اليوم الثالث مائة ضربة .
وروي عن الخلفاء الراشدين في رجل وامرأة وجدا في لحاف : " يضربان مائة " . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي جارية امرأته : إن كانت أحلتها له جلد مائة وإن لم تكن أحلتها له : رجم وهذه الأقوال في مذهب أحمد وغيره . والقولان الأولان في مذهب الشافعي وغيره .
وأما مالك وغيره فحكي عنه : أن من الجرائم ما يبلغ به القتل . ووافقه بعض أصحاب أحمد في مثل الجاسوس المسلم إذا تجسس للعدو على المسلمين فإن أحمد توقف في قتله وجوز مالك وبعض الحنابلة - كابن عقيل - قتله ومنعه أبو حنيفة والشافعي وبعض الحنابلة كالقاضي أبي يعلى .
[ ص: 346 ] وجوز طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما : قتل الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وكذلك كثير من أصحاب مالك . وقالوا : إنما جوز مالك وغيره قتل القدرية لأجل الفساد في الأرض ; لا لأجل الردة ; وكذلك قد قيل في قتل الساحر ; فإن أكثر العلماء على أنه يقتل وقد روي { عن جندب رضي الله عنه موقوفا ومرفوعا : إن حد الساحر ضربه بالسيف } رواه الترمذي . وعن عمر وعثمان وحفصة وعبد الله بن عمر وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم قتله . فقال بعض العلماء : لأجل الكفر وقال بعضهم : لأجل الفساد في الأرض . لكن جمهور هؤلاء يرون قتله حدا . وكذلك أبو حنيفة يعزر بالقتل فيما تكرر من الجرائم إذا كان جنسه يوجب القتل كما يقتل من تكرر منه اللواط أو اغتيال النفوس لأخذ المال ونحو ذلك .
وقد يستدل على أن المفسد متى لم ينقطع شره إلا بقتله فإنه يقتل : بما رواه مسلم في صحيحه { عن عرفجة الأشجعي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه } وفي رواية : { ستكون هنات وهنات . فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان } .
[ ص: 347 ] وكذلك قد يقال في أمره بقتل شارب الخمر في الرابعة ; بدليل ما رواه أحمد في المسند { عن ديلم الحميري رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت يا رسول الله : إنا بأرض نعالج بها عملا شديدا وأنا نتخذ شرابا من القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا . فقال : هل يسكر ؟ قلت نعم . قال : فاجتنبوه . قلت إن الناس غير تاركيه . قال : فإن لم يتركوه فاقتلوهم } . وهذا لأن المفسد كالصائل . فإذا لم يندفع الصائل إلا بالقتل قتل .
وجماع ذلك أن العقوبة نوعان : ( أحدهما على ذنب ماض جزاء بما كسب نكالا من الله كجلد الشارب والقاذف وقطع المحارب والسارق .
و ( الثاني العقوبة لتأدية حق واجب وترك محرم في المستقبل كما يستتاب المرتد حتى يسلم فإن تاب ; وإلا قتل . وكما يعاقب تارك الصلاة والزكاة وحقوق الآدميين حتى يؤدوها . فالتعزير في هذا الضرب أشد منه في الضرب الأول . ولهذا يجوز أن يضرب مرة بعد مرة حتى يؤدي الصلاة الواجبة أو يؤدي الواجب عليه والحديث الذي في الصحيحين . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يجلد فوق عشرة [ ص: 348 ] أسواط إلا في حد من حدود الله } قد فسره طائفة من أهل العلم بأن المراد بحدود الله ما حرم لحق الله ; فإن الحدود في لفظ الكتاب والسنة يراد بها الفصل بين الحلال والحرام : مثل آخر الحلال وأول الحرام . فيقال في الأول : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } . ويقال في الثاني : { تلك حدود الله فلا تقربوها } .
وأما تسمية العقوبة المقدرة حدا فهو عرف حادث . ومراد الحديث : أن من ضرب لحق نفسه كضرب الرجل امرأته في النشوز لا يزيد على عشر جلدات .
والجلد الذي جاءت به الشريعة : هو الجلد المعتدل بالسوط ; فإن خيار الأمور أوساطها قال علي رضي الله عنه " ضرب بين ضربين وسوط بين سوطين " ولا يكون الجلد بالعصي ولا بالمقارع ولا يكتفى فيه بالدرة ; بل الدرة تستعمل في التعزير .
أما الحدود فلا بد فيها من الجلد بالسوط وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يؤدب بالدرة ; فإذا جاءت الحدود دعا بالسوط ولا تجرد ثيابه كلها ; بل ينزع عنه ما يمنع ألم الضرب من الحشايا والفراء ونحو ذلك . ولا يربط إذا لم يحتج إلى ذلك ولا يضرب وجهه ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا قاتل أحدكم [ ص: 349 ] فليتق الوجه ولا يضرب مقاتله } فإن المقصود تأديبه لا قتله ويعطى كل عضو حظه من الضرب كالظهر والأكتاف والفخذين ونحو ذلك .
فصل ومن الحدود التي جاء بها الكتاب والسنة وأجمع عليها المسلمون حد القذف فإذا قذف الرجل محصنا بالزنا أو اللواط وجب عليه الحد ثمانون جلدة والمحصن هنا : هو الحر العفيف وفي باب حد الزنا هو الذي وطئ وطئا كاملا في نكاح تام
فأصل هذا هو جهاد الكفار أعداء الله ورسوله فكل من بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين الله الذي بعثه به فلم يستجب له ; فإنه يجب قتاله { حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } .
ولأن الله لما بعث نبيه وأمره بدعوة الخلق إلى دينه : لم يأذن له في قتل أحد على ذلك ولا قتاله حتى هاجر إلى المدينة فأذن له وللمسلمين بقوله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير } { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز } { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور } .
ثم إنه بعد ذلك أوجب عليهم القتال بقوله تعالى : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون } .
وأكد الإيجاب وعظم أمر الجهاد في عامة السور المدنية وذم التاركين له ووصفهم بالنفاق ومرض القلوب فقال تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } . وقال تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } وقال تعالى : { فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم } { طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم } { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } . فهذا كثير [ ص: 351 ] في القرآن .
وكذلك تعظيمه وتعظيم أهله في " سورة الصف " التي يقول فيها : { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } { تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } { يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم } { وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين } . وقوله تعالى { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين } { الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون } { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم } { خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم } . وقوله تعالى { من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم } . وقال تعالى : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين } { ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون } . فذكر ما يتولد من أعمالهم وما يباشرونه من الأعمال .
مسألة: الجزء الثامن والعشرون
فَصْلٌ الْعُقُوبَاتُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الشَّرِيعَةُ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : عُقُوبَةُ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْ الْوَاحِدِ وَالْعَدَدِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَالثَّانِي : عِقَابُ الطَّائِفَةِ الْمُمْتَنِعَةِ كَاَلَّتِي لَا يُقْدَرُ عَلَيْهَا إلَّا بِقِتَالِ .
فَأَصْلُ هَذَا هُوَ جِهَادُ الْكُفَّارِ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَكُلُّ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى دِينِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ ; فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهُ { حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } .
وَلِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا بَعَثَ نَبِيَّهُ وَأَمَرَهُ بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ إلَى دِينِهِ : لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي قَتْلِ أَحَدٍ عَلَى ذَلِكَ وَلَا قِتَالِهِ حَتَّى هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ فَأَذِنَ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } { الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } .
ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } .
وَأَكَّدَ الْإِيجَابَ وَعَظَّمَ أَمْرَ الْجِهَادِ فِي عَامَّةِ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ وَذَمَّ التَّارِكِينَ لَهُ وَوَصَفَهُمْ بِالنِّفَاقِ وَمَرَضِ الْقُلُوبِ فَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ } { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } . فَهَذَا كَثِيرٌ [ ص: 351 ] فِي الْقُرْآنِ .
وَكَذَلِكَ تَعْظِيمُهُ وَتَعْظِيمُ أَهْلِهِ فِي " سُورَةِ الصَّفِّ " الَّتِي يَقُولُ فِيهَا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } { تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } { وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } . وقَوْله تَعَالَى { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } . وقَوْله تَعَالَى { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } . وَقَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } { وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . فَذَكَرَ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَمَا يُبَاشِرُونَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ .
مسألة: الجزء الثامن والعشرون
فصل العقوبات التي جاءت بها الشريعة لمن عصى الله ورسوله نوعان : أحدهما : عقوبة المقدور عليه من الواحد والعدد كما تقدم . والثاني : عقاب الطائفة الممتنعة كالتي لا يقدر عليها إلا بقتال .
فأصل هذا هو جهاد الكفار أعداء الله ورسوله فكل من بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين الله الذي بعثه به فلم يستجب له ; فإنه يجب قتاله { حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } .
ولأن الله لما بعث نبيه وأمره بدعوة الخلق إلى دينه : لم يأذن له في قتل أحد على ذلك ولا قتاله حتى هاجر إلى المدينة فأذن له وللمسلمين بقوله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير } { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز } { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور } .
ثم إنه بعد ذلك أوجب عليهم القتال بقوله تعالى : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون } .
وأكد الإيجاب وعظم أمر الجهاد في عامة السور المدنية وذم التاركين له ووصفهم بالنفاق ومرض القلوب فقال تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } . وقال تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } وقال تعالى : { فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم } { طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم } { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } . فهذا كثير [ ص: 351 ] في القرآن .
وكذلك تعظيمه وتعظيم أهله في " سورة الصف " التي يقول فيها : { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } { تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } { يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم } { وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين } . وقوله تعالى { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين } { الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون } { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم } { خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم } . وقوله تعالى { من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم } . وقال تعالى : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين } { ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون } . فذكر ما يتولد من أعمالهم وما يباشرونه من الأعمال .
والأمر بالجهاد وذكر فضائله في الكتاب والسنة : أكثر من أن يحصر .
ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة ومن الصلاة التطوع والصوم التطوع . كما دل عليه الكتاب والسنة حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم { رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد } وقال : { إن في الجنة لمائة درجة ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله } متفق عليه وقال : { من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار } رواه البخاري وقال صلى الله عليه وسلم { رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه . وإن مات أجري عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان } رواه مسلم وفي السنن : { رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل } وقال صلى الله عليه وسلم { عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرص في سبيل الله } قال الترمذي حديث حسن . وفي مسند الإمام [ ص: 353 ] أحمد : { حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها } وفي الصحيحين : { أن رجلا قال : يا رسول الله أخبرني بشيء يعدل الجهاد في سبيل الله ؟ قال : لا تستطيع . قال : أخبرني به ؟ قال : هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم لا تفطر وتقوم لا تفتر ؟ قال لا . قال : فذلك الذي يعدل الجهاد } . وفي السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال : { إن لكل أمة سياحة وسياحة أمتي الجهاد في سبيل الله } .
وهذا باب واسع لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه .
وهو ظاهر عند الاعتبار فإن نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين والدنيا ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة فإنه مشتمل من محبة الله تعالى والإخلاص له والتوكل عليه وتسليم النفس والمال له والصبر والزهد وذكر الله وسائر أنواع الأعمال : على ما لا يشتمل عليه عمل آخر .
والقائم به من الشخص والأمة بين إحدى الحسنيين دائما . إما النصر والظفر وإما الشهادة والجنة .
فإن الخلق لا بد لهم من محيا وممات ففيه استعمال محياهم ومماتهم [ ص: 354 ] في غاية سعادتهم في الدنيا والآخرة وفي تركه ذهاب السعادتين أو نقصهما ; فإن من الناس من يرغب في الأعمال الشديدة في الدين أو الدنيا مع قلة منفعتها فالجهاد أنفع فيهما من كل عمل شديد وقد يرغب في ترفيه نفسه حتى يصادفه الموت فموت الشهيد أيسر من كل ميتة وهي أفضل الميتات .
وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا فمن امتنع من هذا قوتل باتفاق المسلمين . وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزمن ونحوهم فلا يقتل عند جمهور العلماء ; إلا أن يقاتل بقوله أو فعله وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر ; إلا النساء والصبيان ; لكونهم مالا للمسلمين . والأول هو الصواب ; لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله كما قال الله تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم { أنه مر على امرأة مقتولة في بعض مغازيه قد وقف عليها الناس . فقال : ما كانت هذه لتقاتل } { وقال لأحدهم : الحق خالدا فقل له : لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا } . وفيهما أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : { لا تقتلوا شيخا فانيا ولا [ ص: 355 ] طفلا صغيرا ولا امرأة } .
وذلك أن الله تعالى أباح من قتل النفوس ما يحتاج إليه في صلاح الخلق كما قال تعالى : { والفتنة أكبر من القتل } . أي أن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين لله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه ; ولهذا قال الفقهاء : إن الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة يعاقب بما لا يعاقب به الساكت .
وجاء في الحديث : { أن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها ; ولكن إذا ظهرت فلم تنكر ضرت العامة } .
ولهذا أوجبت الشريعة قتال الكفار ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم ; بل إذا أسر الرجل منهم في القتال أو غير القتال مثل أن تلقيه السفينة إلينا أو يضل الطريق أو يؤخذ بحيلة فإنه يفعل فيه الإمام الأصلح من قتله أو استعباده أو المن عليه أو مفاداته بمال أو نفس عند أكثر الفقهاء كما دل عليه الكتاب والسنة . وإن كان من الفقهاء من يرى المن عليه ومفاداته منسوخا
[ ص: 343 ] فصل وأما المعاصي التي ليس فيها حد مقدر ولا كفارة كالذي يقبل الصبي والمرأة الأجنبية أو يباشر بلا جماع أو يأكل ما لا يحل كالدم والميتة أو يقذف الناس بغير الزنا أو يسرق من غير حرز ولو شيئا يسيرا أو يخون أمانته كولاة أموال بيت المال أو الوقوف ومال اليتيم ونحو ذلك إذا خانوا فيها وكالوكلاء والشركاء إذا خانوا أو يغش في معاملته كالذين يغشون في الأطعمة والثياب ونحو ذلك أو يطفف المكيال والميزان أو يشهد بالزور أو يلقن شهادة الزور أو يرتشي في حكمه أو يحكم بغير ما أنزل الله أو يعتدي على رعيته أو يتعزى بعزاء الجاهلية أو يلبي داعي الجاهلية إلى غير ذلك من أنواع المحرمات : فهؤلاء يعاقبون تعزيرا وتنكيلا وتأديبا بقدر ما يراه الوالي على حسب كثرة ذلك الذنب في الناس وقلته . فإذا كان كثيرا زاد في العقوبة ; بخلاف ما إذا كان قليلا . وعلى حسب حال المذنب ; فإذا كان من المدمنين على الفجور زيد في عقوبته ; بخلاف المقل من ذلك . وعلى حسب كبر الذنب وصغره ; فيعاقب من يتعرض لنساء الناس وأولادهم بما لا يعاقب من لم يتعرض إلا لمرأة [ ص: 344 ] واحدة أو صبي واحد .
وليس لأقل التعزير حد ; بل هو بكل ما فيه إيلام الإنسان من قول وفعل وترك قول وترك فعل فقد يعزر الرجل بوعظه وتوبيخه والإغلاظ له وقد يعزر بهجره وترك السلام عليه حتى يتوب إذا كان ذلك هو المصلحة كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه " الثلاثة الذين خلفوا " وقد يعزر بعزله عن ولايته كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعزرون بذلك ; وقد يعزر بترك استخدامه في جند المسلمين كالجندي المقاتل إذا فر من الزحف ; فإن الفرار من الزحف من الكبائر وقطع أجره نوع تعزير له وكذلك الأمير إذا فعل ما يستعظم فعزله عن إمارته تعزيرا له وكذلك قد يعزر بالحبس وقد يعزر بالضرب وقد يعزر بتسويد وجهه وإركابه على دابة مقلوبا ; كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر بمثل ذلك في شاهد الزور فإن الكاذب سود الوجه فسود وجهه وقلب الحديث فقلب ركوبه .
وأما أعلاه ; فقد قيل : " لا يزاد على عشرة أسواط " . وقال كثير من العلماء لا يبلغ به الحد . ثم هم على قولين : منهم من يقول : " لا يبلغ به أدنى الحدود " : لا يبلغ بالحر أدنى حدود الحر وهي الأربعون أو الثمانون ولا يبلغ بالعبد أدنى حدود العبد وهي [ ص: 345 ] العشرون أو الأربعون . وقيل ; بل لا يبلغ بكل منهما حد العبد . ومنهم من يقول : لا يبلغ بكل ذنب حد جنسه وإن زاد على حد جنس آخر فلا يبلغ بالسارق من غير حرز قطع اليد وإن ضرب أكثر من حد القاذف ولا يبلغ بمن فعل ما دون الزنا حد الزاني وإن زاد على حد القاذف كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا نقش على خاتمه وأخذ بذلك من بيت المال فأمر به فضرب مائة ضربة ثم ضربه في اليوم الثاني مائة ضربة ثم ضربه في اليوم الثالث مائة ضربة .
وروي عن الخلفاء الراشدين في رجل وامرأة وجدا في لحاف : " يضربان مائة " . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي جارية امرأته : إن كانت أحلتها له جلد مائة وإن لم تكن أحلتها له : رجم وهذه الأقوال في مذهب أحمد وغيره . والقولان الأولان في مذهب الشافعي وغيره .
وأما مالك وغيره فحكي عنه : أن من الجرائم ما يبلغ به القتل . ووافقه بعض أصحاب أحمد في مثل الجاسوس المسلم إذا تجسس للعدو على المسلمين فإن أحمد توقف في قتله وجوز مالك وبعض الحنابلة - كابن عقيل - قتله ومنعه أبو حنيفة والشافعي وبعض الحنابلة كالقاضي أبي يعلى .
[ ص: 346 ] وجوز طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما : قتل الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وكذلك كثير من أصحاب مالك . وقالوا : إنما جوز مالك وغيره قتل القدرية لأجل الفساد في الأرض ; لا لأجل الردة ; وكذلك قد قيل في قتل الساحر ; فإن أكثر العلماء على أنه يقتل وقد روي { عن جندب رضي الله عنه موقوفا ومرفوعا : إن حد الساحر ضربه بالسيف } رواه الترمذي . وعن عمر وعثمان وحفصة وعبد الله بن عمر وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم قتله . فقال بعض العلماء : لأجل الكفر وقال بعضهم : لأجل الفساد في الأرض . لكن جمهور هؤلاء يرون قتله حدا . وكذلك أبو حنيفة يعزر بالقتل فيما تكرر من الجرائم إذا كان جنسه يوجب القتل كما يقتل من تكرر منه اللواط أو اغتيال النفوس لأخذ المال ونحو ذلك .
وقد يستدل على أن المفسد متى لم ينقطع شره إلا بقتله فإنه يقتل : بما رواه مسلم في صحيحه { عن عرفجة الأشجعي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه } وفي رواية : { ستكون هنات وهنات . فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان } .
[ ص: 347 ] وكذلك قد يقال في أمره بقتل شارب الخمر في الرابعة ; بدليل ما رواه أحمد في المسند { عن ديلم الحميري رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت يا رسول الله : إنا بأرض نعالج بها عملا شديدا وأنا نتخذ شرابا من القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا . فقال : هل يسكر ؟ قلت نعم . قال : فاجتنبوه . قلت إن الناس غير تاركيه . قال : فإن لم يتركوه فاقتلوهم } . وهذا لأن المفسد كالصائل . فإذا لم يندفع الصائل إلا بالقتل قتل .
وجماع ذلك أن العقوبة نوعان : ( أحدهما على ذنب ماض جزاء بما كسب نكالا من الله كجلد الشارب والقاذف وقطع المحارب والسارق .
و ( الثاني العقوبة لتأدية حق واجب وترك محرم في المستقبل كما يستتاب المرتد حتى يسلم فإن تاب ; وإلا قتل . وكما يعاقب تارك الصلاة والزكاة وحقوق الآدميين حتى يؤدوها . فالتعزير في هذا الضرب أشد منه في الضرب الأول . ولهذا يجوز أن يضرب مرة بعد مرة حتى يؤدي الصلاة الواجبة أو يؤدي الواجب عليه والحديث الذي في الصحيحين . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يجلد فوق عشرة [ ص: 348 ] أسواط إلا في حد من حدود الله } قد فسره طائفة من أهل العلم بأن المراد بحدود الله ما حرم لحق الله ; فإن الحدود في لفظ الكتاب والسنة يراد بها الفصل بين الحلال والحرام : مثل آخر الحلال وأول الحرام . فيقال في الأول : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } . ويقال في الثاني : { تلك حدود الله فلا تقربوها } .
وأما تسمية العقوبة المقدرة حدا فهو عرف حادث . ومراد الحديث : أن من ضرب لحق نفسه كضرب الرجل امرأته في النشوز لا يزيد على عشر جلدات .
والجلد الذي جاءت به الشريعة : هو الجلد المعتدل بالسوط ; فإن خيار الأمور أوساطها قال علي رضي الله عنه " ضرب بين ضربين وسوط بين سوطين " ولا يكون الجلد بالعصي ولا بالمقارع ولا يكتفى فيه بالدرة ; بل الدرة تستعمل في التعزير .
أما الحدود فلا بد فيها من الجلد بالسوط وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يؤدب بالدرة ; فإذا جاءت الحدود دعا بالسوط ولا تجرد ثيابه كلها ; بل ينزع عنه ما يمنع ألم الضرب من الحشايا والفراء ونحو ذلك . ولا يربط إذا لم يحتج إلى ذلك ولا يضرب وجهه ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا قاتل أحدكم [ ص: 349 ] فليتق الوجه ولا يضرب مقاتله } فإن المقصود تأديبه لا قتله ويعطى كل عضو حظه من الضرب كالظهر والأكتاف والفخذين ونحو ذلك .
مسألة: الجزء الثامن والعشرون
[ ص: 343 ] فَصْلٌ وَأَمَّا الْمَعَاصِي الَّتِي لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ وَلَا كَفَّارَةٌ كَاَلَّذِي يُقَبِّلُ الصَّبِيَّ وَالْمَرْأَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ أَوْ يُبَاشِرُ بِلَا جِمَاعٍ أَوْ يَأْكُلُ مَا لَا يَحِلُّ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ أَوْ يَقْذِفُ النَّاسَ بِغَيْرِ الزِّنَا أَوْ يَسْرِقُ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ وَلَوْ شَيْئًا يَسِيرًا أَوْ يَخُونُ أَمَانَتَهُ كَوُلَاةِ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ الْوُقُوفِ وَمَالِ الْيَتِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا خَانُوا فِيهَا وَكَالْوُكَلَاءِ وَالشُّرَكَاءِ إذَا خَانُوا أَوْ يَغُشُّ فِي مُعَامَلَتِهِ كَاَلَّذِينَ يَغُشُّونَ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ يُطَفِّفُ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ أَوْ يَشْهَدُ بِالزُّورِ أَوْ يُلَقِّنُ شَهَادَةَ الزُّورِ أَوْ يَرْتَشِي فِي حُكْمِهِ أَوْ يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ أَوْ يَعْتَدِي عَلَى رَعِيَّتِهِ أَوْ يَتَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ يُلَبِّي دَاعِيَ الْجَاهِلِيَّةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُحَرَّمَاتِ : فَهَؤُلَاءِ يُعَاقَبُونَ تَعْزِيرًا وَتَنْكِيلًا وَتَأْدِيبًا بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ الْوَالِي عَلَى حَسَبِ كَثْرَةِ ذَلِكَ الذَّنْبِ فِي النَّاسِ وَقِلَّتِهِ . فَإِذَا كَانَ كَثِيرًا زَادَ فِي الْعُقُوبَةِ ; بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ قَلِيلًا . وَعَلَى حَسَبِ حَالِ الْمُذْنِبِ ; فَإِذَا كَانَ مِنْ الْمُدْمِنِينَ عَلَى الْفُجُورِ زِيدَ فِي عُقُوبَتِهِ ; بِخِلَافِ الْمُقِلِّ مِنْ ذَلِكَ . وَعَلَى حَسَبِ كِبَرِ الذَّنْبِ وَصِغَرِهِ ; فَيُعَاقِبُ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِنِسَاءِ النَّاسِ وَأَوْلَادِهِمْ بِمَا لَا يُعَاقَبُ مَنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ إلَّا لِمَرْأَةِ [ ص: 344 ] وَاحِدَةٍ أَوْ صَبِيٍّ وَاحِدٍ .
وَلَيْسَ لِأَقَلِّ التَّعْزِيرِ حَدٌّ ; بَلْ هُوَ بِكُلِّ مَا فِيهِ إيلَامِ الْإِنْسَانِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ وَتَرْكِ قَوْلٍ وَتَرْكِ فِعْلٍ فَقَدْ يُعَزَّرُ الرَّجُلُ بِوَعْظِهِ وَتَوْبِيخِهِ وَالْإِغْلَاظِ لَهُ وَقَدْ يُعَزَّرُ بِهَجْرِهِ وَتَرْكِ السَّلَامَ عَلَيْهِ حَتَّى يَتُوبَ إذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمَصْلَحَةِ كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ " الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا " وَقَدْ يُعَزَّرُ بِعَزْلِهِ عَنْ وِلَايَتِهِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يُعَزِّرُونَ بِذَلِكَ ; وَقَدْ يُعَزَّرُ بِتَرْكِ اسْتِخْدَامِهِ فِي جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ كَالْجُنْدِيِّ الْمُقَاتِلِ إذَا فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ ; فَإِنَّ الْفِرَارَ مِنْ الزَّحْفِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَقَطْعَ أَجْرِهِ نَوْعُ تَعْزِيرٍ لَهُ وَكَذَلِكَ الْأَمِيرُ إذَا فَعَلَ مَا يُسْتَعْظَمُ فَعَزَلَهُ عَنْ إمَارَتِهِ تَعْزِيرًا لَهُ وَكَذَلِكَ قَدْ يُعَزَّرُ بِالْحَبْسِ وَقَدْ يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ وَقَدْ يُعَزَّرُ بِتَسْوِيدِ وَجْهِهِ وَإِرْكَابِهِ عَلَى دَابَّةٍ مَقْلُوبًا ; كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي شَاهِدِ الزُّورِ فَإِنَّ الْكَاذِبَ سَوَّدَ الْوَجْهَ فَسَوَّدَ وَجْهَهُ وَقَلَبَ الْحَدِيثَ فَقَلَبَ رُكُوبَهُ .
وَأَمَّا أَعْلَاهُ ; فَقَدْ قِيلَ : " لَا يُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ " . وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَا يَبْلُغُ بِهِ الْحَدَّ . ثُمَّ هُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : " لَا يَبْلُغُ بِهِ أَدْنَى الْحُدُودِ " : لَا يَبْلُغُ بِالْحُرِّ أَدْنَى حُدُودِ الْحُرِّ وَهِيَ الْأَرْبَعُونَ أَوْ الثَّمَانُونَ وَلَا يَبْلُغُ بِالْعَبْدِ أَدْنَى حُدُودِ الْعَبْدِ وَهِيَ [ ص: 345 ] الْعِشْرُونَ أَوْ الْأَرْبَعُونَ . وَقِيلَ ; بَلْ لَا يَبْلُغُ بِكُلِّ مِنْهُمَا حَدَّ الْعَبْدِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا يَبْلُغُ بِكُلِّ ذَنْبٍ حَدَّ جِنْسِهِ وَإِنْ زَادَ عَلَى حَدِّ جِنْسٍ آخَرَ فَلَا يَبْلُغُ بِالسَّارِقِ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ قَطْعَ الْيَدِ وَإِنْ ضُرِبَ أَكْثَرَ مَنْ حَدِّ الْقَاذِفِ وَلَا يَبْلُغُ بِمَنْ فَعَلَ مَا دُونَ الزِّنَا حَدَّ الزَّانِي وَإِنْ زَادَ عَلَى حَدِّ الْقَاذِفِ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا نَقَشَ عَلَى خَاتَمِهِ وَأَخَذَ بِذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ مِائَةَ ضَرْبَةٍ ثُمَّ ضَرَبَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِائَةَ ضَرْبَةٍ ثُمَّ ضَرَبَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِائَة ضَرْبَةٍ .
وَرُوِيَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وُجِدَا فِي لِحَافٍ : " يُضْرَبَانِ مِائَةً " . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي يَأْتِي جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ : إنْ كَانَتْ أَحَلَّتْهَا لَهُ جُلِدَ مِائَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَلَّتْهَا لَهُ : رُجِمَ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ .
وَأَمَّا مَالِكٌ وَغَيْرُهُ فَحُكِيَ عَنْهُ : أَنَّ مِنْ الْجَرَائِمِ مَا يَبْلُغُ بِهِ الْقَتْلَ . وَوَافَقَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد فِي مِثْلِ الْجَاسُوسِ الْمُسْلِمِ إذَا تَجَسَّسَ لِلْعَدُوِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ أَحْمَد تَوَقَّفَ فِي قَتْلِهِ وَجَوَّزَ مَالِكٌ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ - كَابْنِ عَقِيلٍ - قَتْلَهُ وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى .
[ ص: 346 ] وَجَوَّزَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا : قَتْلَ الدَّاعِيَةِ إلَى الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ . وَقَالُوا : إنَّمَا جَوَّزَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ قَتْلَ الْقَدَرِيَّةِ لِأَجْلِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ ; لَا لِأَجْلِ الرِّدَّةِ ; وَكَذَلِكَ قَدْ قِيلَ فِي قَتْلِ السَّاحِرِ ; فَإِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ وَقَدْ رُوِيَ { عَنْ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا : إنَّ حَدَّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ . وَعَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَحَفْصَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَتْلُهُ . فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لِأَجْلِ الْكُفْرِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لِأَجْلِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ . لَكِنَّ جُمْهُورَ هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ قَتْلَهُ حَدًّا . وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ يُعَزَّرُ بِالْقَتْلِ فِيمَا تَكَرَّرَ مِنْ الْجَرَائِمِ إذَا كَانَ جِنْسُهُ يُوجِبُ الْقَتْلَ كَمَا يُقْتَلُ مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ اللِّوَاطُ أَوْ اغْتِيَالُ النُّفُوسِ لِأَخْذِ الْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ الْمُفْسِدَ مَتَى لَمْ يَنْقَطِعْ شَرُّهُ إلَّا بِقَتْلِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ : بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ { عَنْ عرفجة الأشجعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ } وَفِي رِوَايَةٍ : { سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ . فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ } .
[ ص: 347 ] وَكَذَلِكَ قَدْ يُقَالُ فِي أَمْرِهِ بِقَتْلِ شَارِبِ الْخَمْرِ فِي الرَّابِعَةِ ; بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ { عَنْ دَيْلَمَ الْحِمْيَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّا بِأَرْضِ نُعَالِجُ بِهَا عَمَلًا شَدِيدًا وَأَنَّا نَتَّخِذُ شَرَابًا مِنْ الْقَمْحِ نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى أَعْمَالِنَا وَعَلَى بَرْدِ بِلَادِنَا . فَقَالَ : هَلْ يُسْكِرُ ؟ قُلْت نَعَمْ . قَالَ : فَاجْتَنِبُوهُ . قُلْت إنَّ النَّاسَ غَيْرُ تَارِكِيهِ . قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَتْرُكُوهُ فَاقْتُلُوهُمْ } . وَهَذَا لِأَنَّ الْمُفْسِدَ كَالصَّائِلِ . فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ الصَّائِلُ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلَ .
وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ نَوْعَانِ : ( أَحَدُهُمَا عَلَى ذَنْبٍ مَاضٍ جَزَاءٌ بِمَا كَسَبَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ كَجَلْدِ الشَّارِبِ وَالْقَاذِفِ وَقَطْعِ الْمُحَارِبِ وَالسَّارِقِ .
وَ ( الثَّانِي الْعُقُوبَةُ لِتَأْدِيَةِ حَقٍّ وَاجِبٍ وَتَرْكِ مُحَرَّمٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ حَتَّى يُسْلِمَ فَإِنْ تَابَ ; وَإِلَّا قُتِلَ . وَكَمَا يُعَاقَبُ تَارِكُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ حَتَّى يُؤَدُّوهَا . فَالتَّعْزِيرُ فِي هَذَا الضَّرْبِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ . وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَضْرَبَ مَرَّةً بَعْد مَرَّةٍ حَتَّى يُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ الْوَاجِبَةَ أَوْ يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ . عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ [ ص: 348 ] أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ } قَدْ فَسَّرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِحُدُودِ اللَّهِ مَا حَرُمَ لِحَقِّ اللَّهِ ; فَإِنَّ الْحُدُودَ فِي لَفْظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُرَادُ بِهَا الْفَصْلُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ : مِثْلَ آخِرِ الْحَلَالِ وَأَوَّلَ الْحَرَامِ . فَيُقَالُ فِي الْأَوَّلِ : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا } . وَيُقَالُ فِي الثَّانِي : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا } .
وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْعُقُوبَةِ الْمُقَدَّرَةِ حَدًّا فَهُوَ عُرْفٌ حَادِثٌ . وَمُرَادُ الْحَدِيثِ : أَنَّ مَنْ ضُرِبَ لِحَقِّ نَفْسِهِ كَضَرْبِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِي النُّشُوزِ لَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرِ جَلَدَاتٍ .
وَالْجَلْدُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ : هُوَ الْجَلْدُ الْمُعْتَدِلُ بِالسَّوْطِ ; فَإِنَّ خِيَارَ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " ضَرْبٌ بَيْنَ ضَرْبَيْنِ وَسَوْطٍ بَيْنَ سَوْطَيْنِ " وَلَا يَكُونُ الْجَلْدُ بِالْعِصِيِّ وَلَا بِالْمُقَارِعِ وَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالدِّرَّةِ ; بَلْ الدِّرَّةُ تُسْتَعْمَلُ فِي التَّعْزِيرِ .
أَمَّا الْحُدُودُ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْجَلْدِ بِالسَّوْطِ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُؤَدِّبُ بِالدِّرَّةِ ; فَإِذَا جَاءَتْ الْحُدُودُ دَعَا بِالسَّوْطِ وَلَا تُجَرَّدُ ثِيَابُهُ كُلُّهَا ; بَلْ يُنْزَعُ عَنْهُ مَا يَمْنَعُ أَلَمَ الضَّرْبِ مِنْ الْحَشَايَا وَالْفِرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَلَا يُرْبَطُ إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذَلِكَ وَلَا يُضْرَبُ وَجْهُهُ ; فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ [ ص: 349 ] فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ وَلَا يَضْرِبْ مُقَاتِلَهُ } فَإِنَّ الْمَقْصُودَ تَأْدِيبُهُ لَا قَتْلُهُ وَيُعْطَى كُلُّ عُضْوٍ حَظُّهُ مِنْ الضَّرْبِ كَالظَّهْرِ وَالْأَكْتَافِ وَالْفَخِذَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
مسألة: الجزء الثامن والعشرون
[ ص: 343 ] فصل وأما المعاصي التي ليس فيها حد مقدر ولا كفارة كالذي يقبل الصبي والمرأة الأجنبية أو يباشر بلا جماع أو يأكل ما لا يحل كالدم والميتة أو يقذف الناس بغير الزنا أو يسرق من غير حرز ولو شيئا يسيرا أو يخون أمانته كولاة أموال بيت المال أو الوقوف ومال اليتيم ونحو ذلك إذا خانوا فيها وكالوكلاء والشركاء إذا خانوا أو يغش في معاملته كالذين يغشون في الأطعمة والثياب ونحو ذلك أو يطفف المكيال والميزان أو يشهد بالزور أو يلقن شهادة الزور أو يرتشي في حكمه أو يحكم بغير ما أنزل الله أو يعتدي على رعيته أو يتعزى بعزاء الجاهلية أو يلبي داعي الجاهلية إلى غير ذلك من أنواع المحرمات : فهؤلاء يعاقبون تعزيرا وتنكيلا وتأديبا بقدر ما يراه الوالي على حسب كثرة ذلك الذنب في الناس وقلته . فإذا كان كثيرا زاد في العقوبة ; بخلاف ما إذا كان قليلا . وعلى حسب حال المذنب ; فإذا كان من المدمنين على الفجور زيد في عقوبته ; بخلاف المقل من ذلك . وعلى حسب كبر الذنب وصغره ; فيعاقب من يتعرض لنساء الناس وأولادهم بما لا يعاقب من لم يتعرض إلا لمرأة [ ص: 344 ] واحدة أو صبي واحد .
وليس لأقل التعزير حد ; بل هو بكل ما فيه إيلام الإنسان من قول وفعل وترك قول وترك فعل فقد يعزر الرجل بوعظه وتوبيخه والإغلاظ له وقد يعزر بهجره وترك السلام عليه حتى يتوب إذا كان ذلك هو المصلحة كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه " الثلاثة الذين خلفوا " وقد يعزر بعزله عن ولايته كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعزرون بذلك ; وقد يعزر بترك استخدامه في جند المسلمين كالجندي المقاتل إذا فر من الزحف ; فإن الفرار من الزحف من الكبائر وقطع أجره نوع تعزير له وكذلك الأمير إذا فعل ما يستعظم فعزله عن إمارته تعزيرا له وكذلك قد يعزر بالحبس وقد يعزر بالضرب وقد يعزر بتسويد وجهه وإركابه على دابة مقلوبا ; كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر بمثل ذلك في شاهد الزور فإن الكاذب سود الوجه فسود وجهه وقلب الحديث فقلب ركوبه .
وأما أعلاه ; فقد قيل : " لا يزاد على عشرة أسواط " . وقال كثير من العلماء لا يبلغ به الحد . ثم هم على قولين : منهم من يقول : " لا يبلغ به أدنى الحدود " : لا يبلغ بالحر أدنى حدود الحر وهي الأربعون أو الثمانون ولا يبلغ بالعبد أدنى حدود العبد وهي [ ص: 345 ] العشرون أو الأربعون . وقيل ; بل لا يبلغ بكل منهما حد العبد . ومنهم من يقول : لا يبلغ بكل ذنب حد جنسه وإن زاد على حد جنس آخر فلا يبلغ بالسارق من غير حرز قطع اليد وإن ضرب أكثر من حد القاذف ولا يبلغ بمن فعل ما دون الزنا حد الزاني وإن زاد على حد القاذف كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا نقش على خاتمه وأخذ بذلك من بيت المال فأمر به فضرب مائة ضربة ثم ضربه في اليوم الثاني مائة ضربة ثم ضربه في اليوم الثالث مائة ضربة .
وروي عن الخلفاء الراشدين في رجل وامرأة وجدا في لحاف : " يضربان مائة " . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي جارية امرأته : إن كانت أحلتها له جلد مائة وإن لم تكن أحلتها له : رجم وهذه الأقوال في مذهب أحمد وغيره . والقولان الأولان في مذهب الشافعي وغيره .
وأما مالك وغيره فحكي عنه : أن من الجرائم ما يبلغ به القتل . ووافقه بعض أصحاب أحمد في مثل الجاسوس المسلم إذا تجسس للعدو على المسلمين فإن أحمد توقف في قتله وجوز مالك وبعض الحنابلة - كابن عقيل - قتله ومنعه أبو حنيفة والشافعي وبعض الحنابلة كالقاضي أبي يعلى .
[ ص: 346 ] وجوز طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما : قتل الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وكذلك كثير من أصحاب مالك . وقالوا : إنما جوز مالك وغيره قتل القدرية لأجل الفساد في الأرض ; لا لأجل الردة ; وكذلك قد قيل في قتل الساحر ; فإن أكثر العلماء على أنه يقتل وقد روي { عن جندب رضي الله عنه موقوفا ومرفوعا : إن حد الساحر ضربه بالسيف } رواه الترمذي . وعن عمر وعثمان وحفصة وعبد الله بن عمر وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم قتله . فقال بعض العلماء : لأجل الكفر وقال بعضهم : لأجل الفساد في الأرض . لكن جمهور هؤلاء يرون قتله حدا . وكذلك أبو حنيفة يعزر بالقتل فيما تكرر من الجرائم إذا كان جنسه يوجب القتل كما يقتل من تكرر منه اللواط أو اغتيال النفوس لأخذ المال ونحو ذلك .
وقد يستدل على أن المفسد متى لم ينقطع شره إلا بقتله فإنه يقتل : بما رواه مسلم في صحيحه { عن عرفجة الأشجعي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه } وفي رواية : { ستكون هنات وهنات . فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان } .
[ ص: 347 ] وكذلك قد يقال في أمره بقتل شارب الخمر في الرابعة ; بدليل ما رواه أحمد في المسند { عن ديلم الحميري رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت يا رسول الله : إنا بأرض نعالج بها عملا شديدا وأنا نتخذ شرابا من القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا . فقال : هل يسكر ؟ قلت نعم . قال : فاجتنبوه . قلت إن الناس غير تاركيه . قال : فإن لم يتركوه فاقتلوهم } . وهذا لأن المفسد كالصائل . فإذا لم يندفع الصائل إلا بالقتل قتل .
وجماع ذلك أن العقوبة نوعان : ( أحدهما على ذنب ماض جزاء بما كسب نكالا من الله كجلد الشارب والقاذف وقطع المحارب والسارق .
و ( الثاني العقوبة لتأدية حق واجب وترك محرم في المستقبل كما يستتاب المرتد حتى يسلم فإن تاب ; وإلا قتل . وكما يعاقب تارك الصلاة والزكاة وحقوق الآدميين حتى يؤدوها . فالتعزير في هذا الضرب أشد منه في الضرب الأول . ولهذا يجوز أن يضرب مرة بعد مرة حتى يؤدي الصلاة الواجبة أو يؤدي الواجب عليه والحديث الذي في الصحيحين . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يجلد فوق عشرة [ ص: 348 ] أسواط إلا في حد من حدود الله } قد فسره طائفة من أهل العلم بأن المراد بحدود الله ما حرم لحق الله ; فإن الحدود في لفظ الكتاب والسنة يراد بها الفصل بين الحلال والحرام : مثل آخر الحلال وأول الحرام . فيقال في الأول : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } . ويقال في الثاني : { تلك حدود الله فلا تقربوها } .
وأما تسمية العقوبة المقدرة حدا فهو عرف حادث . ومراد الحديث : أن من ضرب لحق نفسه كضرب الرجل امرأته في النشوز لا يزيد على عشر جلدات .
والجلد الذي جاءت به الشريعة : هو الجلد المعتدل بالسوط ; فإن خيار الأمور أوساطها قال علي رضي الله عنه " ضرب بين ضربين وسوط بين سوطين " ولا يكون الجلد بالعصي ولا بالمقارع ولا يكتفى فيه بالدرة ; بل الدرة تستعمل في التعزير .
أما الحدود فلا بد فيها من الجلد بالسوط وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يؤدب بالدرة ; فإذا جاءت الحدود دعا بالسوط ولا تجرد ثيابه كلها ; بل ينزع عنه ما يمنع ألم الضرب من الحشايا والفراء ونحو ذلك . ولا يربط إذا لم يحتج إلى ذلك ولا يضرب وجهه ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا قاتل أحدكم [ ص: 349 ] فليتق الوجه ولا يضرب مقاتله } فإن المقصود تأديبه لا قتله ويعطى كل عضو حظه من الضرب كالظهر والأكتاف والفخذين ونحو ذلك .
فصل ومن الحدود التي جاء بها الكتاب والسنة وأجمع عليها المسلمون حد القذف فإذا قذف الرجل محصنا بالزنا أو اللواط وجب عليه الحد ثمانون جلدة والمحصن هنا : هو الحر العفيف وفي باب حد الزنا هو الذي وطئ وطئا كاملا في نكاح تام