التنازلات

لن تكون مبالغة ولا مغالاة مني إذا ما قلت إنني عاجز تماما ، وليس بقدرتي ولا بإمكاني أن أتكلم عن مبلغ الألم الذي أشعر به في قلبي وعن الأثر البليغ الذي خلفه ذلك الألم ، إنني بالتأكيد أبقى عاجزا عن تصوير هاتيك الأحزان التي تحيط بي ، منذ البدء لم يكن ثمة سوى الحزن الذي تلبسني وغلف نفسي فأصاب شغاف فؤادي ، والحزن الذي تشربته منذ نعومة أظفاري ، والذي ظل يعتمل داخلي عبر مراحل نموي المتعاقبة ، حتى بلغ اليوم مرحلة نضوجه وتطوره الكامل ، فصار على عمري الذي لا يعد بالسنين ولكن بالأحزان أن يهضمه مضاعفا ، حتى أصبحت أجد متعة متجددة في تذوق ألوان العذاب ، وعلقمه المصحوب بحرقة الألم ، وحر اللوعة التي بت أتجرع غصصها المريرة ، وأذرفها عبرات ، وأصعدها زفرات واتنهداها آهات ، وأزفرها تأوهات وأشهقها أنات ، إلى أن ولدت لدي مناعة قوية وحصانة حقيقية ضد الفرح الذي لم أعد أتاثر بأسبابه بسبب السور المنيع والحصن والحصين اللذين يفصلان بيننا ، مما يجعلني دائما أخاف الفرح ، وأخشى الاقتراب منه أو حتى الحلم به ، لأنه لم يخلق أبدا لي ، بل الحزن هو الذي أحتمي به ، لأنه هو القدر المسلط على الذي لا أملك الإفلات أو الفكاك من بطش قبضته القوية ، ولا أستطيع كسر طوق المعاناة الملتف حول عنقي ، يكفي إحساسي بالعزلة الروحية ، والاستغراق في التفكير الذاتي المنطوي مما يجعلني أحيا وحيدا مع عالمي الذي اخترته لنفسي بعيدا عن سخافات وحماقات الأشباح التي يسمونها الناس ، بعيدا عن كذبهم وظلمهم ونفاقهم وخداعهم وفسادهم أهل الضمائر الفاسدة ، والقلوب المتعفنة الذين يطأطئون رؤوسهم ، وينحنون في سبيل مصالحهم الفردية ، أصحاب الوجوه الماحلة والكبرياء القاحط ..

ألا عجب من يحيا في زمن الخطايا والذنوب
أن يجد قيمة الفضيلة تقدر باحتواء الجيوب
ما تعفنت المبادئ إلا بعدما فسدت القلوب
وما انحطت الأخلاق إلا عندما دنستها العيوب

إن من يعاين الواقع اليوم ويمعن النظر ويعايشه ، ويتأمل ما يجري فيه يكتشف أن كل شئ فيه مؤكد لشعوري الحزين .
عندما يدعوك الواقع للتنازل عما تحمل من أحلام وطموحات ليصهرك في بوتقة أنظمته وقوانينه تجد نفسك ذائبا في إحباطاتك ويأسك وعذابك ، مكتفيا بالمساحة الضيقة التي حوصرت فيها ، مما يجعلك لا تملك محاولة الالتصاق بالحياة بسبب ضعف الإدارة التي عطلت لديك ، لأن الإدارة لن تفعل شيئا ما لم تعتقد بأنه ممكن ، بل تتهالك وتستأسر وتخر صريعة تحت أثقال الهموم ، بفعل معاول الإحباط الكثيرة التي حطمتها ، وبفؤوس القهر العديدة التي قطعتها ، التي لا تبقى فيك ، ولا تذر سوى صرخات نفسك الخافتة المنصهرة بالألم المطبوعة بطابع الحسرة والشقاء والبؤس الإنساني .
النفس الممتلئة كالبحر ملحا ووحشة ومرارة ، التي لم يظل بها إلا بكاء الضمير ، والأعصاب المتألمة ، والكيان الخافت بالحلم الممتزج بالألم المتمخض من إيغال المعاناة المنهكة المتفجرة بالحزن المتدفق من أعماق الوجدان المنهمر بغزارة متوثبة في نشوة وحماسة فائضة مؤكدة وقوعك تحت وطأة الإحساس بمرارة الهزيمة الساحقة التي تجعلك مهزوما مندحرا تنعي نفسك وترثيها بسخرية حارقة تذوي معها أحلامك وطموحاتك الممتزجة في انتصاراتك و انكساراتك وإنصهارتك

همسة ...
ووقفت أحدق نحو الغروب
والقلب من ألم الجراح يذوب
سئمت الحياة مللت الدروب
وحمق المشاعر وخفق القلوب