فطيـرة التفـاح (قصة قصيرة)

    • فطيـرة التفـاح (قصة قصيرة)

      فطيرة التفاح

      كنت بعيدا مع أفكاري وخيالاتي، كعادتي دائما، حين اقتحم حضورها الطاغي خلوتي واستغراقي! فعلى حين غرة رأيتها منتصبة أمامي تشير بإصبعها إلى إشارة "ممنوع التدخين" فوق رأسي، وترمقني بنظرة من عينين بلون السماء أفسدت، إذ أسدلت رمشيها، حدتها.

      لم أحرك ساكنا، غير أني انتظرت ريثما أصلحت جلستها على المقعد أمامي، قبل أن أضغطت شفتاي ونصف ابتسامة على عَقَب السيجارة، وأترك لعيني العنان تلتهمان الشفتين المكتنزتين، وآخذ نفس دخان عميقا وأنفثه مع ما تبقى من السيجارة إلى الخارج عبر نافذة قطار الليل. هي ابتسمت، وأنا اعتذرْت!

      فضحت عيناي جموح غرائزي حين امتشق قوامها الهواء، وعَلَقَتَا، إذ وقفت تعيد أوراقا تبعثرت بجانبها إلى حقيبة وضعتها على رف فوق رأسها، على جسد ريان، وصدر مكتنز، واستدارة خصر زاده حزام جلد كلون عينيها فتنة وجمالا.

      وأخفيت رغبتي خلف شبه مجاملة ظلت تراوح مكانها بين شفتيّ بحثا عن كلمات تصلح ما أفسدته عادة التدخين ونظرة تعذر عليّ كبحها. فقلت، في إشارة إلى كتاب طفقته بين يديها بعد أن وضعت إصبعها بين صفحاته: "العوسج لـ: فرجينيا سوارتز.. ما زال هناك من يهوى قراءة القصص الرومانسية!"، قلت ذلك وفي صوتي نبرة إعجاب تصنعتها تعويضا عن ما بدر مني!

      وبلعت ريقي إذ انفرج مبسمها عن خميلة تدلت على اغصانها قناديل بلون الشمس ورهطا من حور الجنة، فجاء صوتها ناعما كخرير مياه ينبوع ينساب جذلا بين الصخور: "هل قرأت لها؟". سألت بحماس لم تبذل جهدا لإخفائه. قلت: "بعض رواياتها العاطفية.. ومن بينها هذه التي بين يديك!".

      قالت: "أجمل قصصها وأكثرها رومانسية. قيل أنها كتبتها وهي على فراش الموت، ويقال أيضا أنها لم تكمل كتابتها". قلت: "في الموت قد تكمن الحياة"، بعد أن تأملت الجالسة أمامي: زينتها، تسريحة الشعر، وملابسها.. بحثا عن ما يختلف فيها عن سائر النساء اللاتي قابلتهن أو تعرفت عليهن خلال فترة وجودي في هذا المكان القصي من العالم، وما وجدت شيء!

      وما لبثت أن اكتشفت، إذ ردت على تعليقي الأخير قائلة: "ككل الشرقيين.. أنبياء أو مجانين!"، أن رفيقة قطار الليل ليست فقط عيون زرق واكتناز صدر واستدارة خصر وروايات عاطفية! وعقبت: "لا.. لسنا كلنا من صنف جبران!". فسألت: "من أي صنف إذا أنت؟". فأجبت بعد أن تذكرت لازمة ترددها مدرسة الفلسفة في الجامعة: "Its for you to find out"*. وأذابت، اذ ابتسمت، ما بقى في داخلي من وقار!

      قلت أعرفها بنفسي: "أنا سيف". فأعادت نطق اسمي وبعض من دهشة على وجهها: "سيف!". قلت: “نعم سيف، وأنت ما اسمك؟". صمتت لحظات، والتفت إلى نفسها، وقالت: "لطالما تمنيت لو كان لي اسم غير تقليدي.. مختلف. لا يشبه الأسماء المبتذلة والمكررة تماما ككل شيء حولنا.. نسخ كربونية أفقدت الناس والأشياء تمايزهم واختلافاتهم!". وعلقت في سراي: "أجل، لكي يكون الاسم على مسي!".

      ولمعت فكرة في رأسها.. طفحت بها نظرتها قبل الوجنتين: "ما رائك أن تسميني أنت؟". وأردفت سميني ما شئت؟" ثم استدركت: "أريد اسما شرقيا من زمن الأولين". ولم أطل التفكير، قلت: "سومر!".

      ونظرت في عينيها الزرق ابحث عن إجابة سؤال لم أطرحه: "هل أعجبك؟". فعطرت بسمتها الندية الهواء، وهي تستفهم: "هل هي حبيبتك؟". أجبت: "لا"، وكدت أضيف: "ولكن طالما حلمت بحبيبة غير تقليدية لها اسم من زمن الأوليين!".

      "اسم جميل ويناسب اسمي الأخير.. سومر مور. ورددت اسمها الجديد تماهيا عدة مرات: "سومر مور، الله.. سومر مور".

      ناقشنا رواية الـ"عوسج"، واختفينا بـ"البعد الثالث" ـ الإصدار الجديد لـ”تومس هاملتون"، وترجمت لها شيئا من "عصفور النار"، وقرأت لي بصوت ملائكي شجي شيئا من أشعار طاغور، وأسمعتني بعض ما كتبت. وأطلعتها على سر الأسرار: وشم على كتفي: صورة “جيفارا” والنجمة الحمراء، وعزفت لها على الـ”عوتار” وغنيت:

      مرّينه بيكم حمد، واحنه ابقطار الليل..

      واسمعنه دك اكهوه وشمينه ريحة هيل..

      يا ريل صِيح ابقهر.. صيحة عشك، يا ريل.



      تحدثنا في السياسة فاختلفنا، وتحدثا في الأدب فاتفقنا واختلفنا، وتكلمنا في الحب فاتفقنا، وأمضينا الطريق نتجاذب أطراف أحاديث شتى قبل أن يتوقف قطار الليل. وفي مقهى رصيف الانتظار جلسنا على مقعدين متقابلين. وسألتني:
      ـ ماذا تأكل؟

      قلت: أي شيء.

      قالت: هل تعجبك فطائر التفاح؟

      قلت: سمعت عنها، ورأيتها، لكن لم أتذوقها بعد!

      ونظرت في عينيّ بخبث.

      وولت سومر مور، ومعها، أخذت رموشي وابتسامتي، فلا كفت عيناي النظر إليها، ولا ملت شفتاي ملاحقتها طوال وقوفها أمام منضدة طلب الطعام. وعادت وفي يديها صينية عليها قطعتان من فطائر التفاح وكوبين من القهوة وفازة خزامية اللون يحتضن عنقها بعشق عود زهرة "قرنفل".

      وقالت، وهي تذيب آخر قطعة من فطيرة التفاح في فمها: "ألذ فطائر التفاح على طول خط هذا القطار". وعقبت: "وأنت ألذ فتاة على طول خطوط قطارات الدنيا". فابتسمت، وبانت في عينيها أنوثة بعبير المسك.. زادها تورد الخدين والخجل غنجا.

      أمضينا ما تبقى من الوقت حتى منتصف الليل، نحتسي القهوة، ونسمع الموسيقى، ونسقي بذرة الحب همسا حينا، وبأعلى عقيرة الصوت أحيانا، ثم انتقلنا إلى الرصيف ننتظر قطار الفجر.

      جلسنا على دكة الانتظار.. فرشت لها فخذي وسادة ولحفتها بكفيّ وأنفاسي، وأغمضتُ عينيّ على انتظام نبض قلب الحسناء النائمة على عروقي وتحت لهاثي. ولا ريب أنني أسلمت نفسي للأوهام والأحلام.. فحلقت فوق السحاب، وشربت من السراب، وبنيت قصورا على أجنحة الوهن، ونهضت على هدير قطار الفجر وحيدا إلا من بقايا طَعْم فطيرة التفاح على شفتيّ!

      ركضت أبحث عنها: نظرت من خلف زجاج الباب إلى داخل المقهى المغلق، واختلط صوتي وأنا أسأل عنها بأصوات جلبة المسافرين والمشردين على أرصفة القطار وبقايا سكارى لفظتهم الخمارات وعلب الليل.. ولا أثر! اختفت سومر، ورحل قطار الفجر يجر خلفه دخان متثاقل بلون الرماد، وأنا والوحدة من جديد.. تنهك روحي على رصيف الانتظار.. وحيدا، إلا من حزني وفرحة قاصرة صنعتها أوهامي وأحلامي، وخيبات أمل لا تحصى ولا تعد.. مصلوبا أمام حيرتي، وحسرتي. وارتباك نبض قلبي حين تذكرت آخر حديث بيننا، إذ قالت:

      ـ سيف.

      قلت: نعم.

      سألت: ماذا يعني اسمك في لغتك؟”.

      أجبت: “Sword”. وعلقت: “في لغتي أنت أمان وفي لغتك أنت جارح!”، وتساْءلت: “هل يستوي الاثنان “السيف والأمان” في واحد. وأردفت دون أن تنتظر ردا: “هل حقا الشرق شرق.. والغرب غرب، ولن يلتقيا قط؟!”.

      ـ

      * ابحثي عن الجواب بنفسك.
    • محمد العريمي

      رائعة هذه القصة بكل معنى

      سرد وأحداث , وفلسفة فكرية جميلة

      ولكن لي سؤال :

      هل هذه الرائعة منقولة

      أم إنها من كتاباتك وقد نشرتها قبل اليوم في منتدى من المنتديات

      فإن هذه القصة قد قرأتها مسبقاً

      فهل قمت بنشرها

      عموماً القصة في منتهى الروعة

      تقبل التحية

      رسام الغرام


    • سرد اكثر من رائع استاذي واعذرني ... فان فضولي حتم علي البحث ... وهذا ما وصلت اليه araimi.com/1st.htm

      هذه وصله لموقع الاستاذ محمد العريمي لمزيد من الفائدة .

      وهذا موقع اخر نزلت به هذه القصه arabicstory.net/index.php?p=text&tid=3416
    • الأخطبوط

      أشكر لك هذا الحضور الجميل

      والحقيقة أنا قرأت القصة سلفاً

      وهي بحق رائعة , وواضح أنها لكاتب متمرس

      وأستميحك عذراً فقد إحتفظت بموقع الأستاذ محمد العريمي

      بعد إذنك طبعاً .

      تقبل أجل التحايا

      رسام الغرام
    • [TABLE='width:70%;'][CELL='filter:;']
      مساء جميل ..

      علمت جيدا منذ قراءة المشاركات الاولى لأستاذ محمد العريمي .. بأنه كاتب متمكن جدا ..ومانحن الا تلامذة وجب علينا الاستفادة من تواجده بيننااا ..
      ولكنني للأسف لم نعي الا بوقتنا القصير ..

      وليس لدينا سوى شكرة الجزيل .. لتواجده الكريم بيننااا ..

      لي ملاحظة .. وهي أعتذار منا لك ..( منذ قراءة الاسطر الاولى لقصتك كنت متأكدة بأنني قرائتها يوما بين أورقة الساحة الادبية .. لجمال الاسلوب لم أنساها .. لهذا بحثت بين الصفحات وكانت الحقيقة ..)
      وهي .. قصتك نشرت لدينا منذ فترة بعيدة جدا .. ولكن تحت أسم أخر .. وللأسف تحدث معنا كثيرا ..
      والاسم .. ضيف .. بن عزان .. بأختلاف بسيط وهو عنوان القصه الريل وفطيرة التفاح ... !!!!

      وبما أنك صاحب القصة .. نقدم أعتذارنا لك .. ويبقى عذرنا .. لم نكن نعلم ..
      أتمنى ان تتقبلة ..
      والشكر الجزيل لك أستاذنا الكريم ..

      تحية طيبة ..
      [/CELL][/TABLE]
    • الاخوات والاخوة الاعزاء: سهاد، رسام الغرام، الاخطبوط، No_One، قصي93، ZeeR، ياقوت القلوب، أمل الحياة.. وكل اعضاء وزوار الساحة الكرام..

      اعتذر اشد الاعتذار على تاخر ردي عليكم، وهذا ليس من طبعي وانما خارج عن ارادتي.. اشكر لكم مروركم الكريم على "فطيرة التفاح".. وسعيد انها نالت على اعجابك..

      دمتم بخير
    • محمد العريمي ..

      قصة رائعة بالفعل ..

      جميلة في معانيها ..

      متناسقة في افكارها ..

      لك من الخيال الخصب .. الذي ينبىء عن مولد كاتب ..

      لقد حلقت بنا في قصتك الى عالم اليوم .. وما به من جمال ..

      بوركت سيدي ..

      واتمنى ان اقرا جديدك ... إعصار ...