بلاغــــــــة القران الكـــــــــــريم

    • بلاغــــــــة القران الكـــــــــــريم


      بلاغــــــــة القران الكـــــــــــريم




      إنّ إدراك الكلام البليغ لا يتأتّى إلا عن طريق الدراسة و البحث و التأمل، و من أجل ذلك جاء علم البلاغة ليكشف للدارسين عن العناصر البلاغية المميِّزة للكلام البليغ عن غيره، و ليس في الوجود كلام أبلغ من كلام ربّ العالمين؛ إذ لا نظم يدانيه على الإطلاق.

      قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) فصلت: 41-42


      وقال أيضا: ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) الإسراء:88، و قال: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) آل عمران: 138 ، و علم البلاغة هو السبيل إلى إثبات هذا التفوق و الإعجاز للنظم القرآني على سائر ما جادت به قرائح الفطاحل من الخطباء و الشعراء و غيرهم، و قد اهتم العلماء قديما و حديثا بدراسة بلاغة القرآن، و الكشف عن أوجه الإعجاز فيه من أجل أن تظهر للعالمين معجزة القرآن الخالدة؛ فتقوم الحجة على الجاهل، و تزول الشبهة عن المبطل، و يطمئن قلب المؤمن.



      إن إعجاز القرآن الكريم يتمثل في قوة نظمه العجيب، و هو ما ذهب إليه منظِّر علم البلاغة الإمام عبد القاهر الجرجاني حيث قال:( بأن النظم البليغ هو أن يوضع الكلام وضْعه الذي يقتضيه علم النحو، و العمل وفق قوانينه و أصوله، و معرفة مناهجه فلا يُزاغ عنها، و لا يُخَلَّ برسومه التي رُسمت في وجوه كل باب و فروقه، و النظر في الجمل التي تسرد فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل، و يعرف فيما حقه الوصل، و موضع الواو من موضع الفاء، و موضع الفاء من موضع "ثم"، و موضع "لكن" من موضع "بل"، و معرفة كيفية التصرّف في التعريف و التنكير، و التقديم و التأخير في الكلام، و في الحذف و التكرار و الإضمار، فيوضع كلاًّ من ذلك مكانَه، و يستعمل على الصحة وعلى ما ينبغي ).(دلائل الإعجاز،ص:95،94).

      ولاشك أن أساليب القرآن الكريم كثيرة و متعددة، وعليه فإن صور بلاغته تتعدد بتعدد تلك الأساليب و تنوعها.
    • [FONT=&quot]تكرار اللفظ من أجل المبالغة في المدح أو الذمّ




      المـــــــــــدح :


      قال تعالى: (فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) الحج: 78. ولم يقل: نعم المولى و النصير مع ما فيها من الإيجاز، و فائدة التكرار هنا هي إرادة المبالغة و الإطناب في المدح و الزيادة فيه و تقويته .

      الــــــــــــــذمّ :


      حين ذم الله اليهود بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) آل عمران: 21. كرر لفظ (يقتلون) و ذلك من أجل المبالغة في تشنيع الجرم الذي ارتكبوه، و استفظاع الذنب الذي اكتسبوه .

      التـــــــــــوبيخ :


      قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ )الصف: 2-3.. هذه الآية في ذمّ الذين يخالف قولُهم فعلَهم وفعلُهم قولَهم، ومن أجل المبالغة في تقبيح هذه الصفة التي تستوجب غضب الله و مقته كرر قوله :(ما لا تفعلون)، قال ابن المنيِّر:"...و زائد على هذه الوجوه الأربعة وجه خامس، و هو تكرار قوله :(ما لا تفعلون)، و هو لفظ واحد في كلام واحد، و من فوائد التكرار:التهويل و الإعظام، و إلا فقد كان الكلام مستقيما لو قيل:كبر مقتا عند الله ذلك، فما إعادته هنا إلا لمكان هذه الفائدة الثانية و الله أعلم"[حاشية ابن المنير على تفسير الكشاف،مج4، ص:523].


      [/FONT]
    • التّوكيد للمبالــــــــــغة في المدح أو الذمّ









      يستخدم أسلوب التوكيد - غالبا - حينما يكون المخاطب منكرا، أو منزلا منزلة المنكر، و عندما يمدح الله تعالى نبيه الكريم بقوله ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم: 4 ، أو غيره من الأنبياء بقوله: (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) الصافات: 123. و قوله: (وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) الصافات: 133 ، أو يذمّ بعض أعدائه، كما جاء في ذمّ الوليد بن المغيرة: (كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا )المدثر: 16، فالأنبياء لا ينكرون أنهم مرسلون أو أنهم على خلق عظيم، و الوليد لا ينكر أنه معاند للحق بعدما تبين، فلم يبق إلا أن يقال: جيء بالتوكيد من أجل المبالغة في المدح أو الذم والتأثير على المخاطب، و لعلّ السّر في استخدام هذا الأسلوب في المدح و الذم هو أن المدح و الذم إنما يحسن إذا زال الشك من السامع فيما يمدح به أو يذم.

      قال الجرجاني:" و ذلك أن من شأن المادح أن يمنع السامعين من الشك فيما يمدح به، و يباعدهم من الشبهة، و كذلك المفتخر." [ دلائل الإعجاز، ص:138] .

    • استخدام اللفظ الدال على المبالغة في المدح أو الذم








      استخدمت في القرآن الكريم ألفاظ مقام المدح أو الذم أضْفتْ عليهما قوة في المعنى و زيادة في التأثير، و من ذلك قوله تعالى:(لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ )المائدة: 63 ، قال الزمخشري:"... لأن كل عامل لا يسمى صانعا، ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه و يتدرب و ينسب إليه، وكأن المعنى في ذلك أن مُواقع المعصية مع الشهوة التي تدعوه إليها و تحمله على ارتكابها، و أما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره، فإذا فرط في الإنكار كان أشد حالا من المواقع".

      إن هذه الآية تذمّ العلماء الذين يتهاونون في إنكار المنكر ذما أبلغ من ذم المواقعين له أنفسهم، حيث عبر في الآية الأخرى في ذم المواقعين للمنكر بلفظ العمل فقال تعالى: (لبئس ماكانوا يعملون) المائدة: 62 ، و بالنسبة للعلماء عبر بلفظ الصناعة فجعل ترك الإنكار ليس مجرد عمل، بل صناعة للعلماء، و كأنهم بذلك تمكنوا في ترك المنكر و تدربوا عليه حتى صار وصفا لهم، ولهذا كانت هذه الآية من أشد الآيات في القرآن ذما للعلماء التاركين للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

      قال الطبري:"و كان العلماء يقولون:ما في القرآن آية أشد توبيخا للعلماء من هذه الآية و لا أخوف عليهم منها.". لا جرم أن هذه الآية مما يقُذّ السمع و ينعى على العلماء توانيهم. و انظر - رحمك الله- إلى المبالغة في الذم لتلك المقالة الشنعاء التي تفوّه بها من لم يقدر الله حق قدره بأن الله اتخذ ولدا - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- قال تعالى: (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا" الكهف (5)، فوصف الكلمة بالخروج و فيه مبالغة ظاهرة حيث جعلها كالشيء له جرم يخرج، و في هذا استعظام لقبح تلك الكلمة حتى كأنها من عظمها و هولها فارقت جنس الكلام و صارت من جنس الأجسام. قال الزمخشري:"(تخرج من أفواههم) صلة لكلمة تفيد استعظاما لاجتراهم على النطق بها و إخراجها من أفواههم." .



    • أسلوب الحصر للمبالغة في المدح أو الذم







      من أمثلته قوله تعالى على لسان النسوة اللاتي خرج عليهن يوسف (عليه السلام) فانبهرن بجماله . قال تعالى : (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّامَلَكٌ كَرِيمٌ) يوسف: 31 ، و لم يقلن: هذا ملك كريم على سبيل التشبيه البليغ، و ذلك أنهن أوهمن السامع أن يوسف(عليه السلام) ملك على الحقيقة لا على التشبيه، فهذه هي فائدة الحصر هنا، فيوسف(عليه السلام) لا يكون إلا ملكا كريما و لا يكون شيئا آخر، فكأنه خلصت له صفات الملكية حتى لم يبق له من صفات البشرية شيء، وهذه-بلا شك- مبالغة عظيمة في مدحه بالجمال و الطهر و العفاف.


    • التنكــــــــــــير للتفـــــــــــخيم





      التنكير نوع من الإبهام يكسب المدح و الذم قوة و فخامة، و من أمثلته قوله تعالى: " أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" البقرة: 5

      قال القنوجي:"والإبهام المفهوم من التنكير في (هدى) لكمال تفخيمه، أي:على هدى أيّ هدى، لا يبلغ كنهه ولا يقادر قدره."

      و من ذلك أيضا قوله تعالى: "هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ" الجاثية: 11.



      قال الزمخشري:"(هذا) إشارة إلى القرآن...، أي: هذا القرآن كامل في الهداية، كما تقول: زيد رجل،تريد: كامل في الرجولة، و أّيما رجل.".





    • التشبــــــــــــيه والتمـــثيل للمدح أو الــــــــذم





      قال تعالى: " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ"الأعراف: 175-176

      قال الشيخ مصطفى المراغي:" وإن جاء التمثيل في باب الذم كان وقعه أشدُّ و حدّهُ أحدُّ."، ففي هذه الآية مثّل الله تعالى حال ذلك الحبر اليهودي الذي آتاه الله العلم فبدل أن يستفيد منه و يعمل به تركه و انسلخ منه و اتبع هواه فلم يعد ينفع فيه وعظ أو نصح، فصار كالكلب اللاهث في جميع أحواله، و في هذا تشبيه للأعلى بالأدنى، و هو جيّد في باب الذمّ.




      قال ابن حجّة الحموي:" و من الشروط اللازمة في التشبيه أن يشبِّه البليغ الأدون بالأعلى إذا المدح، اللهم إلا إذا أراد الهجو فالبلاغة أن يشبه الأعلى بالأدنى."

      ومن استعمال أسلوب التمثيل في المدح قوله تعالى: "خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ" المطففين26 ، فإن أهل الجنة يسقون من رحيق مختوم، و هو من ألذ الأشربة، و معنى ختامه مسك، أي أن الختام الذي ختم به عن أن يداخله شيء يفسد لذته أو طعمه، أو أن الختام هو آخر الرحيق و حثالته،وأيا كان المعنى فلفظ المسك إما أن يكون مستعملا على الحقيقة، أو من باب التمثيل، بمعنى أن ختامه طيب كطيب المسك، وفي هذا من المبالغة في المدح مع الإيجاز ما فيه، و العرب من شأنها أن تشبه الشيء الطيب بالمسك.

    • التخــــــــــــــيـيل للمدح أو الــــــــذم




      [FONT=&quot]من أسلوب التخييل ما جاء من تشبيه المجهول بالمجهول، كما في قوله تعالى: " أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ " الصافات: 62-65.

      شجرة الزقوم شجرة تنبت في وسط النار، وهي غيب عنا، و طلعها كأنه رؤوس شياطين، والشياطين غيب أيضا، فإذا كان الغرض من التشبيه الإيضاح و البيان فكيف يشبه المجهول بالمجهول؟، والغيب بالغيب؟!، و ذلك في قانون البلاغة نقص و عيب، و الجواب عنه يكشف عن سر من أسرار البلاغة القرآنية عجيب، و لا يدع مجالا لريب مريب. إن الله شبه طلع شجرة الزقوم برؤوس الشياطين وهو تشبيه مبهم بمبهم، و هل يفسر الإبهامَ الإبهامُ؟! والجواب هو أن في ذلك الإبهام عين البيان؛ لأن الله لم يشأ أن يحدد البشاعة في شيء واحد نعرفه، ومعلوم أن القبح و البشاعة مما تختلف فيه الأنظار، فقد يكون الشيء قبيحا عند زيد غير قبيح عند عمرو، فلما قال تعالى: "رُءُوسُ الشَياطِينٍ" فإن الناس سيتوهمونها على اختلاف مذاهبهم، كلّ سيتوهمها بالبشاعة التي تفزعه، و عليه ستتعدد ألوان البشاعة، وهذا عين البيان .

      قال الزمخشري:" فيقولون في القبيح الصورة كأنه وجه شيطان، كأنه رأس شيطان، وإذا صوره المصورون جاؤوا بصورته على أقبح ما يقدر وأهوله."
      [/FONT]
    • [FONT=&quot]

      [FONT=&quot]
      [/FONT]

      [FONT=&quot]القرآن من أوله إلى آخره بمختلف أساليبه متميز بالقوة في البيان بما يعجز عن الإتيان بمثله إنس أو جانّ، لقد عجز عن مضاهاته العرب البلغاء و الجهابذة الفصحاء من الشعراء و الخطباء، فقد أدهشهم نظمه العجيب و أخرس ألسنتهم أسلوبه الغريب، حيث استمرت البلاغة فيه من جميع أنحائها في جميعه استمرارا لا يوجد له فترة و لا يقدر عليه أحد من البشر، فهو الكتاب الكامل الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، و لاغرو في ذلك، فالكمال لله وحده، لقد صار هذا القرآن إلى أقصى غايات البلاغة و الفصاحة، و انتهى إلى أبعد نهايات الحسن و الملاحة، ترى انسجاما فيه بين لألفاظه و معانيه، و لله در القائل فيه:[/FONT]


      [/FONT]



      تزين معانيه ألفاظَه * * * و ألفاظُه زائنات المعاني






    • الجناس في الـــــــــــقرآن الكريم



      إن التناسب الصوتي في القرآن الكريم لا يمكن حصره في التوازنات الصوتية الشكلية، التي يمكن عدها وقياسها، ولا في تقارب مخارج الحروف وصفاتها كما قد يتراءى لأصحاب النظرة العجلى في البيان القرآني، بل إن الأمر يتجاوز ذلك بكثير . فقد اهتم القرآن الكريم بالمناسبة بين المقال والمقام والسياق، وما لذلك من تأثيرفي نفس المتلَقِّين من العرب الفصحاء فوقفوا مشدوهين أمامه لا يؤمنون به ، وفي الوقت نفسه لا يستطيعون إنكار روعته وجلاله . و قد استخدم البيان القرآني بدائع بليغة كثيرة ، أعجزتْ مَن عاصروه عن أن يأتوا و لو بأقصر سورة من مثله وأعجزتْ مَن بعدهم و لا زالت تُعجزُ كل عالم بأسرار اللغة إلى يومنا هذا .
      و من بين هذه البدائع و الدلائل الإعجازية الجناس الذي وظَّفه القرآن الكريم لتحقيق التوازن الصوتي ، و لملاءمة السياق والمقام . حيث استُعملت هذه الآلية البديعية لِما فيها من جمع بين كلمتين متماثلتين أو متشابهتين من حيث اللفظ ، مختلفتين من حيث المعنى ، مما يُحدثُ من الناحية الصوتية تكرارا منتظما للأصوات ، موافقاً لتوقعات المتلقي، وفي الوقت نفسه متضمِّناً لمعانٍ جديدة ، مما يفسح مجالا رحبا للتأمل والنظر، فيحقق بذلك متعتين : متعة السماع بالتلذذ بما يُحدثه التجانس الصوتي عن طريق استعمال الجناس ، ومتعة العقل بما يفتحه ذلك التعبير من آفاق للتفكر.
      كما أن الجناس من الوسائل التداولية الفعّالة، بحَمْلها و تشويقِها المتلقي إلى الإصغاء والانتباه وإعمال الفكر في هذا المتشابِه صوتيا، المختلِف دلاليا.
      وقد أكثر القرآن الكريم من استخدام هذه الآلية البديعية بجميع أنواعها ،ومن أهمها ثلاثة أنواع من الجناس .








    • الجناس في الـــــــــــقرآن الكريم

      * الجناس التامّ المفرد

      وهو ما اتفق لفظاه في نوع الحروف وعددها وترتيبها وهيئتها ( أي حركاتها و سكناتها ) : ومنه قوله تعالى : " يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلّب الليل و النهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار " . النور : 43 / 44 ، حيث وردت كلمة الأبصار الأولى للدلالة على جمع (بصر) وهو الحاسة المعروفة، بينما عَنى لفظ الأبصار الثاني جمع (بصيرة) . و قوله : " و يوم تقوم الساعة يُقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة " . الروم / 55 ، فالساعة الأولى يقصد بها يوم القيامة، بينما تعني الثانية القطعة من الزمان أو مفرد ساعات. ذلك أنها تعبر أدق تعبير عن إحساس المجرمين، فهم يحسون أنهم قضوا في حياتهم الدنيا وقتاً وجيزاً هو ساعة من الزمن .
      و قوله عز و جل : " قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد " . الإخلاص : من 1 إلى 4. فلفظ أحد الثاني غير الأول فالأول بمعنى الواحد أو المتوحد، خاص بالله ، لا يطلق على غيره... وأحد الثاني بمعنى الجمع وهو من الألفاظ التي تستعمل في النفي، نحو ما جاءني أحد.


      * الجناس المغاير



      وهو ما تشابه لفظاه في الحروف و اختَلفا في الحركات ، كقوله : "و الجار الجُنُب و الصاحب بالجَنْب" النساء / 36 . فكلمة الجُنُب تعني الذي يقرُب منك و يكون إلى جانبك ، و الصاحب بالجَنْب هو كلّ من صحبَك و كان إلى جانبك إما في السفر، أو بالجوار ، أو في العلم ، أو في مجلس معيّن ، أو في المسجد ، فكلّ هؤلاء لهم حق الجوار . و قوله سبحانه : " و لقد أرسلنا فيهم مُنذِرين فانظر كيف كان عاقبة المُنْذَرين " . الصافات / 72 . حيث دلت كلمة المنذِرين على اسم الفاعل الجمع من أَنذَرَ ، بينما دلت المنذَرين على اسم المفعول الجمع من الفعل نفسه .


      * الجناس الناقص



      وهو الذي يختلف رُكناه في عدد الحروف سواء كان الحرف المزيد في أول الكلمة ، كقوله جل و علا : ( و التفَّت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق ). القيامة : 29 / 30 . حيث يتجلى الجناس بين لفظي الساق ، و هي ساق القدَم ، و المساق الذي زيد ت في أوله ميم المصدر ، فهو مصدر ميمي من ساقَ / يسوق / سوْقاً و سِياقاً ، أم كان الحرف المزيد في وسطها ، أم في آخرها كقوله سبحانه : ( ثم كلي من كلّ الثمرات ). النحل / 69 .





    • الإيــــــــجاز في الــــقرآن الكــــــريم

      * من ذلك قوله عز وجل: "لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" فقد أدرج فيه ذكر إقبال كل محبوب عليهم وزوال كل مكروه عنهم ولا شيء أضر بالإنسان من الحزن والخوف لأن الحزن يتولد من مكروه ماض أو حاضر والخوف يتولد من مكروه مستقبل فإذا اجتمعا على امرئ لم ينتفع بعيشه بل يتبرم بحياته ، والحزن والخوف أقوى أسباب مرض النفس كما أن السرور والأمن أقوى أسباب صحتها ، فالحزن والخوف موضوعان بإزاء كل محنة وبلية ، والسرور والأمن موضوعان بإزاء كل صحة ونعمة هنية.

      [B]* ومن ذلك قوله تعالى ذكره "أوفوا بالعقود" فهما كلمتان جمعتا ما عقده الله على خلقه لنفسه وتعاقده الناس فيما بينهم[/B]

      [B]* ومن ذلك قوله عز وجل: "والفلك تجري في البحر بما ينفع الناس" فهذه الكلمات الثلاث الأخيرة تجمع من أصناف التجارات وأنواع المرافق في ركوب السفن ما لا يبلغه الإحصاء .[/B]

      * ومن ذلك قوله جل جلاله: "فاصدع بما تؤمر" ثلاث كلمات اشتملت على شرائط الرسالة وشرائعها وأحكامها وحلالها وحرامها .

      [B]* ومن ذلك قوله تبارك اسمه: "لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" وهو كلام يجمع جميع ما يأكله الناس مما تنبته الأرض.[/B]

      [B]* ومن ذلك قوله عز وعلا: "ولهنّ مثل الذي عليهن" وهو كلام يتضمن جميع ما يجب على الرجال من حسن معاشرة النساء وصيانتهن وإزاحة عللهن وبلوغ كل مبلغ فيما يؤدي إلى مصالحهن وجميع ما يجب على النساء من طاعة الأزواج وحسن مشاركتهم وطلب مرضاتهم وحفظ غيبتهم وصيانتهم عن خيانتهم . [/B]

      [B]* و من ذلك قوله تبارك وتعالى: "ولكم في القصاص حياة". ويحكى عن أردشير الملك ما ترجمه بعض البلغاء فقال: القتل أنفى للقتل: ففي كلام الله تعالى كل ما في كلام أردشير الملك وفيه زيادة معان حسّنته ؛ فمنها إبانة العدل بذكر القصاص والإفصاح عن الغرض المطلوب فيه من الحياة والحث بالرغبة والرهبة على تنفيذ حكم الله تعالى به والجمع بين ذكر القصاص والحياة والبعد عن التكرير( التكرار ) الذي يشق على النفس فإن قوله القتل أنفى للقتل تكرير غيره أبلغ منه. [/B]



      عن كتاب " الإيجاز والإعجاز للثعالبي " بتصرف




    • الإطــــــــناب في الــــقرآن الكــــــريم

      الاطناب هو عكس الايجاز ومن أقوال العرب المأثورة التي تدل على أن الضربين أصل من أصول البيان قولهم: "الإيجاز في غير عجز، والإطناب في غير خطل".
      ومن يدرس تراث العرب الشعري والنثري يجد المعاني البارعة قد صيغت بالأسلوبين معاً، هذه الخصائص الأسلوبية في كلام العرب لها تأثير قوي في الإبداع، لأن الأسلوبين يساعدان المبدع للتعبير عن خواطره وأفكاره بأشكال متعددة من الرؤى.
      وأسلوب الإطناب في القرآن مثل أسلوب الإيجاز، تميز بخصائص بيانية معبرة عن الإعجاز، ووافق خطابه المقام، وبهذا المنهج لم يخرج عما تعارف عليه العربي في بلاغتهم، بسط وتفصيل في غير خطل، وإيجاز واختصار في غير عجز·

      ومن هنا يبدو سر البسط والتفصيل في بيان القرآن في قوله تعالى: ( هي عصاي أتوكأ عليها، وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى) سورة طه: 18.
      إن الجواب في الآية الكريمة جاء رداً على سؤال وجه لسيدنا موسى عليه السلام في قوله تعالى:(وما تلك بيمينك يا موسى)،وكان من الممكن أن يقتصر الجواب على قدر السؤال، كأن يقول موسى عليه السلام: عصاي، أو هي عصاي، ويكون الجواب تماماً على قدر السؤال، إنما كان البسط في هذه الآية الكريمة مراعاة لأحوال موسى عليه السلام، وللظرف الذي كان فيه، وبرغم أن هذا التعبير المعجز قد ذكر بعض الأسباب، فإنه أضاف عبارة بليغة وجامعة لمعان كثيرة، وهي(ولي فيها مآرب أخرى) إنهاعبارة تجعل السامع يتخيل أشياء كثيرة في الاستفادة من هذه العصا، كما أن هذا البسط لا تخفي دلالته في كيفية معاملة أصناف من الناس، فمنهم الذكي الفطن الذي يعرف خبايا السؤال، فيقنع السائل بجواب شاف، ومنهم القليل الفهم والإدراك، أو لا يبالي بالأشياء فيكون جوابه مختلفا أو غير مقنع، ويدخل في هذا البسط أيضا مراعاة العادات والتقاليد والأعراف، ونمط الحياة والفكر السائد في المجتمع·

      وجاء البيان في إطناب القرآن أجناس معينة، يلزم بيانها لأن ذكرها من دون قصد قد يجعلها غامضة في ذهن السامع، أو تختلط مع أجناس أخرى، فيكون البسط في هذه الحال ضرورة بلاغية لإزالة اللبس والغموض، قال تعالى: ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه) سورة الأنعام: 38.
      البسط في الآية زيادة في بيان الجنس المقصود من الدابة والطائر، فكان ذكر الأرض والجناحين إطناباً، لكنه إطناب من أجل تحديد النوع·

      ومن أسلوب الإطناب الذي جاء مراعياً لأحوال المخاطبين قوله تعالى: ( إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل اللّه من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ) سورة البقرة:164.
      لا ريب أن الحديث بتفصيل عن الظواهر الطبيعية التي ذكرتها الآية قصد به تعميم الفائدة لجميع الناس، لأنهم من ينكر هذه الحقائق إذا أوجز له الكلام، أويخامره شك وارتياب في قدرة الله على تصريف الأمور والتحكم فيها، فلذلك جاء البيان القرآني مفصَّلا لها لتكون حجة على الحاضر والغائب·




    • الإحــــــــتباك في الــــقرآن الكــــــريم

      [B]يعرف أبو البقاء الكفوي الاحتباك فيقول "الاحتباك هو من الحَبْك الذي معناه الشدُّ والإحكام، وتَحسين أثر الصَّنعة في الثَّوب، والاحتباك من ألطَفِ أنواع البديع وأبدَعِها، وقد يُسَمَّى حذْفَ المقابل، وهو أن يُحذف من الأول ما أُثبت نظيرُه في الثاني، ومن الثاني ما أُثبت نظيرُه في الأول؛ كقوله تعالى: " وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ "[الأحزاب: 24]؛ فلا يعذِّبَهم، وكقوله تعالى: " فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ" [آل عمران: 13]. "

      [/B]

      أمثــــــــــــــلة :

      قوله تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ ﴾ [البقرة: 171]؛ الآية، التقدير: ومَثَلُ الأنبياء والكفار كمثل الذي ينعق، والذي ينعق به، فحذف من الأوَّل الأنبياء؛ لدلالة "الذي ينعق" عليه، ومن الثاني الذي ينعق به؛ لدلالة "الذين كفروا" عليه.
      وفي "الغرائب" للكرماني: في الآية الأُولى التقدير: "مثل الذين كفروا معَك يا محمَّد كمثَلِ النَّاعق مع الغنم"، فحذف من كلِّ طرَفٍ ما يدلُّ عليه الطرفُ الآخر، وله في القرآن نظائر، وهو أبلغ ما يكون من الكلام؛ انتهى.

      وقولِه: " وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ "[النمل: 12] التقدير: تَدْخُلْ غير بيضاء، وأخرِجْها تخرُجْ بيضاء، فحذف من الأول "غير بيضاء"، ومن الثاني "وأخرِجها".

      وقال الزركشيُّ: هو أن يَجتمع في الكلام متقابلان، فيحذف من كلِّ واحد منهما مُقابِلُه؛ لدلالة الآخر عليه؛ كقوله تعالى: " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ " [هود: 35]؛ التقدير: "إن افتريتُه فعليَّ إجرامي، وأنتم بُرَآء منه، وعليكم إجرامُكم، وأنا بريءٌ مما تجرمون".

      وقوله: " وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ " [الأحزاب: 24] التقدير: "ويعذب المنافقين إن شاء فلا يتوب عليهم، أو يتوب عليهم فلا يعذِّبهم".

      وقوله: وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ " [البقرة: 222]؛ أيْ: حتَّى يَطْهُرن من الدَّم، ويتطهَّرن بالماء، فإذا طَهُرن وتطهَّرن فأْتُوهن.

      وقوله: "خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا " [التوبة: 102]؛ أيْ: عملاً صالِحًا بسيِّئ، وآخر سيِّئًا بصالح.

      ومن لطيفِه قولُه: " فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ " [آل عمران: 13]؛ أي: فئةٌ مؤمنةٌ تُقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرةٌ تقاتل في سبيل الطاغوت.


    • اللف والنشــــــــر في الــــقرآن الكــــــريم




      مبحث اللف والنشر من مباحث علم البديع الذي هو قسم من أقسام علم البلاغة الثلاثة (المعاني، والبيان، والبديع).


      وهو ذكر عدة أشياء على سبيل الإيجاز، ثم ذكرها على سبيل التفصيل، وهو قسمان:

      1. اللف والنشر المرتب، وهو الأصل:
      وهو ذكر الأشياء المتعددة، ثم ذكر ما يتصل بها على سبيل الترتيب، الأول للأول، والثاني للثاني، وهكذا..

      من ذلك قوله تعالى: "وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ"، فقد جمع في هذه الآية الليل والنهار أولاً، ثم ذكر السكون لليل وابتغاء الرزق للنهار على الترتيب.

      2. اللف والنشر المشوش (المعكوس)، وهو الفرع، ويعدّ خروجاً عن الأصل:
      وهو أن نذكر الأشياء ثم نذكر ما يتصل بها، ولكن لا على سبيل الترتيب، فربما نذكر المتقدم للمتأخر، والمتأخر للمتقدم، وهكذا.... وذلك لنكتة بيانية.


      كقوله تعالى: "يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ".


      هذه الآية الكريمة من النوع الثاني، وعدم الترتيب فيها لنكتة بيانية، ذكرها المفسرون، كأبي السعود، حيث قال:

      { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ** تفصيلٌ لأحوال الفريقين بعد الإشارةِ إليها إجمالاً، وتقديمُ بـيانِ هؤلاءِ لما أن المَقام مقامُ التحذيرِ عن التشبه بهم مع ما فيه من الجمع بـين الإجمال والتفصيلِ والإفضاءِ إلى ختم الكلامِ بحسن حالِ المؤمنين كما بُدىء بذلك عند الإجمالِ.

      وقال العلامة الألوسي:

      { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ** تفصيل لأحوال الفريقين وابتدأ بحال الذين اسودت وجوههم لمجاورته { وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ** وليكون الابتداء والاختتام بما يسر الطبع ويشرح الصدر.

      وجاء في التحرير والتنوير:

      وقوله تعالى: { فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم ** تفصيل للإجمال السابق، سُلك فيه طريق النشَّر المعكوس، وفيه إيجاز لأنّ أصل الكلام، فأمّا الَّذين اسودّت وجوههم فهم الكافرون يقال لهم أكفرتم إلى آخر: وأمّا الَّذين ابيضّت وجوههم فهم المؤمنون وفي رحمة الله هم فيها خالدون.
      قدّم عند وصف اليوم ذكر البياض، الَّذي هو شعار أهل النَّعيم، تشريفاً لذلك اليوم بأنَّه يوم ظهور رحمة الله ونعمته، ولأنّ رحمة الله سبقت غضبه، ولأنّ في ذكر سمة أهل النَّعيم، عقب وعيد بالعذاب، حسرةً عليهم، إذ يعلم السَّامع أنّ لهم عذاباً عظيماً في يوم فيه نعيم عظيم، ثُمّ قُدّم في التفصيل ذكر سمة أهل العذاب تعجيلاً بمساءتهم.