لا للتفصيل - جديد tahyati

    • لا للتفصيل - جديد tahyati





      عندما تشغل الماسحة الضوئية الخاصة بدماغك على المنطقة العربية تجد أن المشاكل تتكرر هنا وهناك بجوهر واحد ونسب متفاوتة. هناك شعور طاغي بالظلم وتذمر مستمرلدى المواطنين من حكوماتهم وهناك أخطاء حكومية متكررة تغذي التذمر وتوصله إلى ذروته. نتيجة لسوء الأحوال وكثرة البطالة حاولت الشعوب العربية أن تغير الوضع في كل من تونس، مصر، ليبيا وجزئيا في اليمن ولا تزال في سوريا. ركزت المحاولات فقط على تغيير رموز الأنظمة ظناً منها أنها أي الأنظمة السبب الوحيد فيما آلت إليه تلك البلدان من تخلف وفقر وجهل وسوء استغلال للموارد وسوء إدارة لتلك الموارد. في نهاية المطاف خرجت الرموز من المشهد وظلت الشعوب تعاني من نفس المشاكل. القيادات الجديدة بدأت تستخدم نفس أدوات القيادات التي خلعتها. نسيت الناس أسباب ثوراتها وبدأت تتجيش ضد بعضها البعض بعد أن نجح السياسيون في توجيه الرأي العام إلى الصراع بين نتاج الثورة وفلول الأنظمة السابقة. أرجعت القيادات الجديدة الفشل إلى وجود عدو "قوي" وهو ما يعرف بالدولة العميقة التي تجذرت في كل مفاصل الدولة والتي يصعب القضاء عليها. هذا هو أروع منتج عربي منذ الاستقلال من الاستعمار الغربي في الخمسينات والستينات من القرن العشرين. لابد من البحث عن عدو خارجي أو داخلي من أجل السيطرة على الشعب وممارسة أنواع معينة من التسلط.
      كنا نسمع عن المستعمر وكيف أنه سيئ وظالم وسفاح وسارق. كنا نسمع عن نهبه لثروات الشعوب ولكن في نفس الوقت كنا نعلم(في فترة متأخرة فقط) أن ذلك ما كان إلا محاولة من أنظمتنا العربية لتبريرالاستحواذ على الموارد الوطنية وتسخيرها لأغراض خاصة بالنظام ومرتزقته فقط.
      معظم الأنظمة العربية بدأت وطنية أو قومية أو ثورية منطلقة إلى حد كبير من رؤى الشعب وأهدافه ولكنها عندما استقرت في الحكم نزهت نفسها عن الأخطاء وبررت كل تصرف خاطئ بل وصلت إلى مرحلة من تأليه ذاتها ورموزها وتعاملت مع الشعوب كعالة وحمل ثقيل على كاهلها.
      كانت قضية فلسطين ووجود إسرائيل أيضاً من أقوى أسباب تسلط بعض الأنظمة على شعوبها حتى أن الكثيرمن العرب يعلمون أن ما يجري في سوريا الآن مؤامرة ولكنهم في نفس الوقت يرون أن النظام السوري كان نظاماً مذلاً لشعبه بحيث يبررون للسوريين التعاون مع إبليس للتخلص منه.
      بما أن تلك القيادات والأنظمة بدأت وطنية وظلت تتغنى بالوطنية طوال حياتها فإنني أظن أنها وطنية بالفعل ولكن بمستوى فهمها وعلى قدر تكلس تفكيرها. كانت وطنية عندها على الأرض مبررات قوية من أهمها المستعمر والجهل والفقر وحتى المرض. بدأت بشعارات رنانة؛ كانت لديها أماني وطموحات ولكنها لم تبحث عن آليات لتحقيق الطموح. ظلت غارقة في أوهام الخطر الأمني والمؤامرات وانشغلت بمراقبة مواطنيها بدلاً من تعليمهم والنهوض بهم لاستغلال موارد بلادهم وانتشالها من براثن التخلف والجهل. أوجدت عدو وهمي هو العدو الإستعماري وعزفت على سيمفونية فلسطين وإسرائيل. هربت أو تهربت من مشاكلها الحقيقية وبدأت في الكذب على شعوبها. توقفت عن التطوير وتهيئة الشعوب للمشاركة والخلق والإبداع وتعاملت مع الشعوب كقطيع بدعوى أنها أي الشعوب قاصرة ولم تنضج بعد وأن الوصاية عليها واجبة إلى يوم الدين. كانوا يرون أن دواعي الوطنية هي التي تبقيهم في مناصبهم وهذا مؤشر على أنهم يرون أن الشعوب مشكوك في وطنيتها ولا يمكن إلا الدوس على رقابها بالأحذية الأمنية. إذن بدأت القيادات من منطلقات وطنية تدعوا إلى الحرية والمساواة واحترام الانسان وصون موارد الوطن وانتهت إلى التسلط والقمع. كان استقبالها في مواقع القيادة بالورود والأهازيج(خاصة تلك التي طردت المستعمر) بينما ودعتها شعوبها بعد عدة عقود بالحديد والنار .
      الآن تحررت بعض الشعوب وأنتجت قيادات جديدة بدأنا نسمع منها أي القيادات ما كنا نسمع من سابقاتها وكذلك بدأنا نرى منها ما كانت سابقاتها تفعل. تُرى أين المشكلة؟!!
      الإجابة قد تكون مؤلمة جداً لأننا لم ندرك بعد أن ما كان موجوداً لم يكن إلا إفراز الشعوب. المشكلة الرئيسية هي مشكلة إدارة والشعوب العربية متأخرة جداً في الادارة وبالتالي أفرزت قيادات غير جاهزة لإدارة بلدانها. يبدو أننا استعجلنا على طرد المستعمر الذي أفرز لنا حكام نصف متعلمين. المشكلة الأكبر هي عدم وجود جدية في التطوير سواء في أعلى الهرم أم في قاعدته. لا نجد الأفراد يجيدون إدارة ذواتهم ولا يحاولون تطوير مهاراتهم بل نجدهم يقفون عند كل عقبة ويستدعون كل مبررات الفشل لتبرير اخفاقاتهم. كذلك الأمر بالنسبة إلى القيادات التي أفرزتها شعوبنا؛ لم تحاول تطوير ذاتها ولم تستعن بالموهوبين من أبنائها للتطوير وللتطيط للمستقبل بل استغلتهم لأغراض أمنية وعسكرية فقط أي للبحث عن سبل السيطرة على شعوبهم وإبقائها خائفة وربما أقول جاهلة إلى الأبد من أجل تبرير استمرار وجودها أطول فترة زمنية ممكنة. لا توجد مؤشرات تفاؤل بأن التفكير الجمعي للشعوب العربية مهيأ لتحمل المسئولية. لا زلنا نبحث عن مبررات لفشلنا بينما نحن نتفرج بدون سعي حقيقي للأخذ بأسباب التغيير.



      *******





      الوضع في عمان على سبيل المثال هو وضع مصغر لما يجري في بقية أو معظم البلدان العربية باستثناء أن شعبنا مسالم وقنوع إلى أبعد حد. لكن لا نستطيع أن ننكر أن عمان كنظام عبارة عن بلد عسكري وأمني من الطراز الأول رغم مسالمة الشعب وشخصياً أعزي سبب ""تأخرنا"" الرئيسي إلى هذا التوجه العسكري الأمني القوي. بطبيعة الحال يمكن كشف هذا الأمر من خلال عاملين رئيسيين؛ الأول هو النفقات الهائلة في هذا الجانب أي الجانب العسكري والأمني والثاني مكانة العسكريين والأمنيين في المخصصات المالية والمحفزات مقارنة بالكوادر المدنية المتعلمة. فما هي دواعي هذه القبضة الأمنية وما هي مبرراتها؟!
      هناك عوامل عدة لعبت دور في هذا الشأن وأخص بالذكر ثورتي الجبل الأخضر وظفار. فقد كانتا المبرر الأول لصب المال في الجوانب العسكرية والأمنية. بالتأكيد كان الأمر مبرراً في بداية الأمر ولكن بمرور الوقت وبعد ثقة الشعب بصاحب الجلالة واستقرار البلاد لم تعد هناك مبررات قوية لذلك الصرف الهائل على حساب الجوانب التنموية الأخرى. هناك عامل آخر وهو ضمان ولاء الأجهزة العسكرية المطلق للسلطان وهو أحد أهم العوامل التي تبرر هذا الإسراف المالي خاصة بعد أن استقرت البلاد وتوحدت. ضمان ولاء الجيش والأجهزة الأمنية يأتي من أجل ضمان استمرار صاحب الجلالة كسلطان للبلاد في وجه أي محاولة انقلابية من اقاربه الذين لا يعلمون(مثلنا) من سيكون الحاكم القادم. وكما أنا السلطان انقلب على أبيه وكما أنا أبيه كان قد انقلب على جده فلا يمكن أن نغفل هذا الهاجس المخيف للجميع. بالطبع هذا افتراض ولكن هناك على الارض ما يثبت أن السلطان غير مطمئن وهناك ما يثبت أن الجيش ولاؤه مطلق للسلطان ناهيك عن الأجهزة الأخرى.
      ما أود قوله يتلخص في أن الوضع الراهن بحاجة إلى وقفة قوية من المواطن والقيادة من أجل البحث عن حلول لمستقبل البلاد بدل الجمود والحلول الأمنية الصرفة التي لا تسمن ولا تغني من جوع. لابد من خلق قنوات حوار تقفز بنا إلى المستقبل وأن نعي أن الحلول الأمنية وخلق قوانين خانقة لحرية المواطن والتعامل معه من زاوية أمنية فقط لن تدفعنا للأمام بل سترجعنا إلى المربع الأول الذي كنا نظن أننا قد تجاوزناه.
      كلما طبخنا الحل في المطبخ الأمني سننتهي بالصدام والمواجهة الغير مطلوبة. البلدان المتقدمة تتعامل مع المشاكل التي تصادفها بكل شفافية بينما نرسل نحن مشاكلنا إلى المطبخ الأمني لكي يتعامل مع ما يخصه وما لا يخصه، بل نصنع قوانين مفصلة(أمنياً) لمواجهة التغيير.
      الحكم الذي صدر في الإخوة الذين أدينوا بتهمة "التجمهر" لهو خير دليل على القوانين الأمنية المفصلة. شخصياً لا أرى أي مبرر لوجود هذا القانون الذي صدر بسبب الاعتصامات. نعم قضائياً الحكم كان ""مبررا"" بحكم وجود قانون مفصل من أجل منع المواطنين من التعبير عن امتعاضهم أو اعتراضهم على أي سلوك أو تصرف حكومي يرونه خاطئا. لكن هل هذا كل شئ؟ هل نترك الجهات الأمنية تفصل القوانين حسب رؤيتها لكي تمنع البلاد من التقدم والشعب من الحرية؟ لا يمكن قبول هذا التراجع الحكومي. شخصيا أعرف بعض المحكومين في هذه القضية وأعلم أنهم وطنيين إلى النخاع وأنهم لم يتجمهروا من أجل الاخلال بالنظام العام ولا بالأمن العام ناهيك عن أنهم لم يقطوا طريق ولم يسببوا زحام حسبما أفادوا. فقط القانون المفصل أمنياً وضعهم في هذه الزاوية الضيقة. لا يمكن أن نفتخر بقوانين ""مفصلة"" غير صادرة عن رؤية وقناعة وطنية مدنية، كما لا يمكن أن نشعر بالسعادة لأحكام قضائية صدرت بناء على تلك القوانين المفصلة.
      الشباب والشابات الذين حكم عليهم في قضية التجمهر وغيرهم الكثير من الشباب العماني الذي يحلم بعمان مدنية وبوطن للجميع، كل هؤلاء هم صمام الأمان لمستقبل هذا الوطن. الحراك هو الذي سيصنع عمان جديدة خالية من العقد والخوف والتخلف. بينما صناعة القوانين المكبِّلة للحرية ستؤخر تطورنا وستؤجل المشاكل الراهنة لتنفجر في وقت آخر.
      بالأمس القريب صدرت أحكام في قضية ما يسمى بالإعابة أو"الكتابات المسيئة" التي لم نكن نتمنى أن نصل لها، فهل يمكن أن ننظر لهذا الموضوع المسيء للرمز من زاوية أمنية وأنه إعابة فقط؟!! إذا كان الأمر كذلك فبكل تأكيد نحن سائرون في الطريق الخاطئ. اليوم كتابات مسيئة وغداً سيكون الأمر مختلف بل أسوأ ما دامت الرؤية هي نفس الرؤية وآلية الحل هي نفسها الآلية الأمنية المحضة.
      هذا الكلام لا يعني أن عمان بلد سيء أو بلد بوليسي كبعض البلدان العربية المجاورة. هناك حراك شبابي طبيعي مسالم لا يطمح إلى المواجهة وهدفه وغايته الوطن. وهناك ارتباك في الأجهزة الأمنية من الحراك الأخير(الربيع العماني 2011) ولا نتمنى له أي الارتباك أن يسيطر على الأداء العام وينسف كل الانجازات. عمان بلد رائع وهو يمر بتجربة سنخرج منها بنتائج واعدة للأجيال القادم. هذا التصادم الناعم بين القوانين الأمنية والحراك الشبابي سيولد قوانين مدنية أكثر ملاءمة للوضع والحالة العمانية.
      من أجل الحفاظ على العلاقة الطبيعية بين المواطن والقيادة لابد من كبح جماح الشهوة الأمنية للصدام مع أي حراك يضع يده بيد القيادة من أجل التغيير والإصلاح.
      عمان مهيأة لأن تكون أفضل دولة في الجزيرة العربية. لديها شباب متحمس ووطني إلى النخاع ولا توجد أحقاد بين القيادة والشعب كما أن المقومات الحضارية والثقافية والموقع الجغرافي كل ذلك يعطينا ميزة قوية لأن نكون رواد المنطقة في المستقبل، فلماذا القوانين المكبلة ولماذا نُعيق التغيير؟!.




      ملاحظة: نحن لا نطمح لأن نكون كالدول المجاورة.. عمان أكبر وطموح العماني أكبر.. لا للمقارنة بالوضع الأمني أو الاقتصادي أو السياسي مع الجوار.




      المصدر : مدونة tahyati