
قراءة في كتاب
قراءة- سمية النبهانية
-
يدأب الإنسان منذ نعومة أظافره في البحث عن السعادة والراحة، كيفما عنت تلك السعادة حينها له؛ الحصول على لعبة جديدة، منزل مطل على الشاطئ، السفر والجنس.. أي شيء بعيد عن متناوله، حيث لا تبدو السعادة جلية فيما يملكه بعد أن فقد الإحساس بها.
رواية "السجينة"، تجردك من علاقتك بالمكان والأشياء. تتعمق بالصفحات وتشعر بالدهشة والجوع والبرد والخوف، لتعي معنى أن تفقد كل شيء، وتفقد علاقتك بالأشياء والمكان ولا يتبقى لك سوى الإيمان والعائلة، لتتمسك لاحقًا بمفردات طالما تجاهلتها كالحرية والأسرة. تفاصيل يصل عمقها حد الخيال، ولا يفيقك من عيشها إلا التواريخ والأحداث السياسية لتذكرك بأنّها قصة واقعية.
رواية "السجينة" لمؤلفتها مليكة أفقير وكاتبتها ميشيل فيتوسي تقع في 369 صفحة من القطع الكبير، ترجمتها غادة موسى الحسيني. دار الجديد، الطبعة السادسة، 2006.
تصنف الرواية في أدب السجون وهي عبارة عن سيرة ذاتية تحكي فيها أوفقير قصة حياة امرأة عاشت حياة الغنى الفاحش والدلال، حياة القصور بكل معانيها المتمثلة في الترف الوشاية والبرتوكولات، ثمّ وبكل وحشية انتقلت حياة هذه الراوية وعائلتها إلى الدرك، أدنى ما قد يعيشه الإنسان.
مليكة هي بنت الجنرال أوفقير، الساعد الأيمن للملك محمد الخامس في نهاية عهده والرجل القوي في بداية عهد الحسن الثاني، فكان وزير الدفاع الذي أمسك بجميع السلطة لفترة ما.
تبنى محمد الخامس مليكة أفقير، لتعيش رفيقة للأميرة للا مينا في القصر، فعاشت وتربت حياة الأميرات، وبعد بلوغها مرحلة المراهقة أصرت على العودة إلى بيت عائلتها لتبدأ مشوارًا جديدًا في حياتها، وتترك نظام وصرامة القصور، لتتم دراستها شأنها شأن العائلات المخمليّة في الرباط، حيث الرفاهية والحرية المطلقة والأسفار والملاهي الليلية.
تورط أبوها الجنرال محمد أوفقير في الانقلاب العسكري الثاني على الحسن الثاني مما كلف الجنرال حياته، وتمّ سجن عائلته في أعماق الصحراء المغربية لنحو 15 عامًا، حيث عاشت العائلة حياة السجن بكل معانيه المتمثلة في الذل والقهر، البؤس والأمراض، والشعور بالظلم لأنّ الأسرة تعاقب بجريمة الأب لا بجريمتها هي. ثمّ الحبس في بيت لنحو 4 سنوات بعد أن هربوا من السجن وطالبوا بالحرية .
استطاعت مليكة أن تحافظ على حياتها وحياة عائلتها في السجن كي لا يتحولوا إلى وحوش في غياهب تلك السجون، فكانت المعلمة والمربية والأنيسة في الوحدة. وهي من حفرت نفق هروبهم بمساعدة الآخرين مستخدمة يديها بجانب أدوات بدائية كأنبوبة حديدية وعلبة سردين.
القارئ للرواية لا يستطيع تركها بدون إنهائها في أقل من 3 أيام، ليقف إجلالا للصمود والمقاومة التي أبدتها مليكة وعائلتها، لتنتقل بهم إلى عالم الحرية، ونقل قضيتها إلى الرأي العام الوطني والدولي.
استطاعت المؤلفة مليكة بمعاونة الكاتبة ميشيل فيتوسي السرد واستعادة الماضي بتفاصيله، وتوظيفها، ثمّ السخرية السوداء التي تنقل القارئ من مأساوية المشهد إلى النكتة والترفيه.
تقول مليكة – السجينة- في أحد الأسطر: تعلمت ماذا تعني الحياة وماذا يعني الموت. أي طالع أشد سوءاً من أن تكون اِمرأة في مجتمع لا يقدس إلا الفحولة، ويقود بالعصا قطيع النساء. أنظر إلى العالم من خلال زجاج السيارات الفاخرة التي كانت تقلنا من قصر إلى آخر. لم أكن أعرف من أنا ومن أكون, ولأي زمان ومكان انتمي؟ كنت أشعر بغربة دائمة تخنقني وتحول حياتي إلى جحيم لايطاق. لأنّي كنت أنتقل فقط من باب السيارة إلى باب القصر أو العكس, إنّ مجرد باب كان يفصلني عن الدنيا.
في تلك الأجواء السحرية الفاخرة تعلمت كيف أصبح أميرة.. كنت أعيش في عالم كل شيء فيه ممكن, ومتاح , ومتوفر.. فوق العادة، لكن.. ما أقسى هذا التغيير, وما أشد وطأته, بين ليلة وضحاها تنتقل من العز والجاه إلى الفقر والبؤس.
اللافت في الرواية هو تحول آل فقير من الإسلام إلى النصرانية، عللت مليكة ذلك بأنّ الإسلام لم ينقذها، ولم يقدم لها في محنتها عكس النصرانية والتي رأت من العذراء مريم علامات مدهشة على وقوفها معها في محنتها بعد أن تخلى عنها الإسلام، لكن الظاهر هو أنّ تربيتها على يد المربيات النصارى هو ما أثّر في ذلك، خاصة وأنّ أمها أيضًا تربت على يد الراهبات في المغرب أيام الاحتلال، مما جعل هذه العائلة لا تعرف عن الإسلام إلا الإسم، وعن النصرانية كل شيء.
كذلك فإنّ شغف المؤلفة للكتابة وعكفها على اختلاق وتأليف القصص لعائلتها في السجن لتسليتهم وإحياء الأمل فيهم، وذكرها في أحد أسطر الرواية أنّ فقدهم بالإحساس للمكان والزمان عمّق المأساة التي عاشوها جعلهم يختلطون لاحقًا في تذكر جميع الأحداث وما وقع بالفعل ومن قام به، جميع ذلك يجعل بعض تفاصيل الرواية أقرب إلى الوصف الأدبي والتشبيه المأساوي والخيالي للمأساة وحياة السجون.