حـدث في خليجستان / الحدود.. مرة ثانية
كتب: محمد عيد العريمي
"ذات شتاء أوروبي قارص، قرر عربي من فلسطين يقيم في بريطانيا مع أسرته الصغيرة (زوجة وطفلة لم تكمل عامها السادس) الاستمتاع بإجازته تحت دافء شمس الخليج. وفي المطـار، دمغ موظف الجمارك سمة الدخول على صفحات جـواز الطفلة وأعاد وثقتي السفر للرجل وزجته منوها أن عليهما الانتقـال إلى صالة "الترانزيت" والعـودة إلى الجهة التي قدمـا منها أو السـفر إلى دولة أخرى تعترف بوثيقتي السفر، ولكنه رحب بدخول الطفلة التي تحمل جوز سفر بريطاني بحكم الولادة، وعزى الموظف ذلك إلى اتفاقية تسمح لمواطني دولته دخول بريطانيا وبالعكس دون الحاجة إلى تأشيرات دخول".
المفارقة السابقة ليست طرفة، ولا هي مشهد من بنات أفكار الفنان العربي دريد لحام للجزء الثاني من فيلمه "الحدود"، وإنما حقيقة حدثت ومازالت تحدث وإن تباينت الظروف واختلفت الوجوه. ففي عالمنا العربي كل شيء ممكن ولا شيء يثير الاستغراب!
تذكرت تلك الحادثة التي وقعت في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي عندما سمعت عن المعاناة التي يواجهها العراقيون في المراكز الحدودية ومطارات دول ما زالت تصر في بياناتها وخطابات ساستها ومقابلاتهم الإعلامية على استخدام كلمتي "الشقيق" و"الأشقاء" كلما جاءوا على ذكر العراق أو أهله. معانات هؤلاء كثيرة وأشكالها متعددة ولا تقتصر فقط على تعقيدات إجراءات دخولهم وإنما تتجاوز ذلك حيث يصل بعضها إلى حد الابتزاز المادي وغيره!
وسواء صفق بعضنا ساعة سقوط التمثال أم حزن يوم سُلمت بغداد، فإن لا أحد يشك أن العراق حقق في العقود الأخيرة رغم الحرب التي خاضها في الخارج لحماية حدوده وفي الداخل لصون وحدته ـ وإن لم تكن قرارات قيادته موفقة في هذه الحروب ـ والحصار الذي أنهك قدراته حقق ما لم يحققه غيره، إلا إذا اعتبرنا غابات الاسمنت وناطحات السحاب إنجازا يُعتد به!
ولعل قدرة الإنسان العراقي على إعادة بناء ما أتت عليه "عاصفة الصحراء" في غضون ثلاثة أشهر يؤكد صحة ذلك.. خاصة في مجال الخدمات العامة مثل إعادة التيار الكهربائي وإمدادات المياه إلى المنازل وبناء الجسور والطرق ومرافق البنية التحتية الأخرى.. وهو ما عجزت عنه ـ على عظمتها ـ الدول المحتلة للعراق بعد مضي سنة ونصف تقريبا على إعلان انتهاء العمليات العسكرية في العراق!
لن استطرد في ما قد يبدو للبعض دفاعا عن النظام العراقي السابق، فظاهرة صدام حسين ليست استثناء ولا هي بدعة في عالمنا العربي وإنما هي قاعدة رسخت وجودها ودعمت بقائها نفس القوة التي تحاول الآن التخلص من تبعات ذلك النظام بعد أن أصبح يشكل خطرا على مصالحها ومصالح حليفتها في المنطقة، ولكني سأستطرد ـ قدر ما استطعت ـ لاُذكّر كل من يهمه الأمر أن هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم الآن في طوابير الاستجداء للحصول على تأشيرات دخول الدول "الشقيقة"، كانوا ذات ماض قريب يحرسون "بوابة العرب الشرقية". وهي مهمة لم تكن من مآثر صدام حسين ولا كانت شعارا رفعه حزب البعث العراقي كشعاراته الكثيرة، ولا يعزى الفضل في تأصيل هذه المشاعر القومية العظيمة في نفوس العراقيين لحاكم أو طائفة قبلهما، إنما هو دور تاريخي اختاره العراقيون لأنفسهم واضطلعوا منذ "القادسية" وقبل أن تدوس سنابك خيل "هولاكو" أرض الرافدين. وكانوا حتى الأمس القريب يشكلون بثروتهم البشرية والمادية وبقدرات جيشهم العمق الاستراتيجي للعالم العربي لاسيما المشرق منه.
العراق كان يوما ملاذا ووطنا لمن لا يجد في وطنه فرصة للتعليم أو العلاج أو العمل! وأن حقوق المواطن العربي المقيم في العراق كانت تفوق حقوق المواطن العراقي نفسه ودون الزامه بواجبات المواطنة، وأن الدم العراقي سال دفاعا عن قضايا العرب في أكثر من أرض عربية وعلى أكثر من جبهة قتال.
تضييق الخناق على المواطنين العراقيين في المراكز الحدودية والمطارات لا يمكن تفسيره بمعزل عن ما يجري داخل العراق نفسه. فكثير من أصحاب القدرات والدرجات العلمية من علماء وأطباء وأساتذة جامعات فصلوا من أعمالهم ليس بتهمة انتماءاتهم الحزبية أو علاقتهم الوثيقة بالنظام السابق كما يظن البعض، وإنما هي خطة محكمة لتفريغ العراق من مصدر ثروة لا تنضب وإعادته عشرات السنين إلى الوراء.
وظاهرة التصفيات الجسدية لعلماء وخبراء الأسلحة العراقيين (على غرار ما حدث لعالم الذرة المصري يحيى المشد وغيره كثر على يد إسرائيل) إلى جانب تهديد الكثيرين من أساتذة الجامعات بمواجهة نفس المصير وتدمير مراكز البحوث العلمية في الجامعات والمستشفيات، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الأمر يتجاوز مجرد محاربة الإرهاب أو إزالة أسلحة التدمير الشامل. أما الحديث عن إرساء قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان فهذا "خير يراد به باطل"، وذريعة لم تعد تقنع أحد حتى داخل دولهم. فقد أظهرت استطلاعات الآراء مؤخرا أن 52 في المائة من الأمريكيين يعتقدون أن الحرب على العراق غير مبررة والعدد يزداد بعد أن كان قبل فترة وجيزة لا يتجاوز نصف الرقم!
لا قدرة لأحد على استشراف المستقبل، ولا أحد يدري أيضا إذا كان العراق سينهض من كبوته قريبا أم أن قدره سيطول به الوقت في يد غير أهله، بيد أنه يتعذر على المرء تجاهل أصابع الصهيونية في كل ما يجري. فبعد أن تعذر على أمريكا ومن ساند حربها الظالمة إثبات وجود أسلحة تدمير شامل في العراق وتأكيد علاقة صدام بتنظيم القاعدة ـ السببان اللذان بررت أمريكا بهما شن الحرب على العراق، تأكد أن الحرب شنت بالوكالة لصالح إسرائيل حسب قول الجنرال الأمريكي "زيني"، والمرشح الثالث في سباق الانتخابات الأمريكية نحو البيت الأبيض رالف نيدر، وآخرين غيرهم من سياسيين وعسكريين ومثقفين أمريكيين!
وإذ ذاك يتضح أن الرابح الأكبر في هذا كله هو إسرائيل. فوجود تأثير صهيوني يحرك بوصلة مجريات الأحداث على ارض العراق من خلف الكواليس ليس إشاعة. والحديث عن قائمة مطالب تعدها الدولة العبرية كتعويضات لليهود العراقيين الذي تركوا العراق خلال النصف الأول من القرن الماضي لا أحد ينكره، ولا تخفي الدولة العبرية في إعلامها الحديث عن بعض من دخل بغداد على أظهر عربات الـ"الهامر" بأنهم رجالها في العراق، كما أن حملة شراء العقارات في بغداد والسماح لها بالاستيلاء على أراض سواء على الحدود مع سوريا أو إيران لإقامة نقاط تجسس ومراقبة تثبت أن الحرب كانت حربا إسرائيلية وان لم تخضها إسرائيل. ومن ينظر إلى تأزم العلاقة بين تركيا والكيان الصهيوني يدرك أن خلفية الخلاف وراءها تضارب المصالح واشتغال إسرائيل على تأجيج النزعات الانفصالية في شمال العراق وهذا تجاوز يمس ثوابت تركية لا مساومة فيها!
ذات يوم من أيام هزيمة حزيران ـ أو النكسة كما يحلو لبعضهم تسميتها تخفيفا لوطئتها على النفس ـ قال الشاعر العراقي مظفر النواب في واحدة من قصائده الحادة كحد السيف يلوم العرب على ضياع القدس ".. أدخلتم القدس في المحراب ووقفتم خلف الأبواب تسترقون السمع لأصوات بكارتها وتنافختم شرفا..". واليوم تجاوز العرب جميعا ـ شعوبا وقبائل ـ ذلك الموقف عن نية وسبق إصرار وقدموا عاصمة الرشيد عربون صداق على أمل نيل الرضا والقبول.
خوفي أن يأتي يوما نتحول فيه إلى قبائل تشبه بعض قبائل سكان أمريكيا الأصليين التي كانت تزف كل سنة أجمل بناتها قربانا لملك الجن الرابض عند منبع النهر.. المتحكم، حسب اعتقادهم، في خصب الأرض وفي جدبها، الذي إذا غضب تدافع الماء بعيدا عن المنبع ففاض النهر من غضبه وإذا نام انخفض منسوب الماء وجفت ضفافه وإذا ابتسم خصب الزرع وامتلأ الضرع وعم الخير البلاد والعباد.
يخطي من يظن أن الأمر سيتوقف عند هذا الحد، وأن الثور الأسود أو الأبيض (لا فرق أي منهما اُكل قبل صاحبه) سيشبع شراهة ملك الغاب، وأن المطالب ستتوقف عند حذف قصيدة "ابو القاسم الشابي" من كتب اللغة العربية في المدارس على امتداد "بلاد العرب أوطاني"، أو قصف سـكان قرية على رأس جبل ـ كانت سعيدة بوحدتها ذات يوم ـ لا لشيء غير أن إمام مسجدها واصل الدعاء على المحتلين رغم الأمر الذي صدر إليه بالتوقف خوفا من اتهام بلاده بايواء إرهابيين.. يخطي من يظن أن الأمر سيتوقف عند ذلك، فما جئت على ذكره لا يشكل شيئا في قائمة إملاءات تزداد طولا كلما حنينا الرقبة، وخوفي أن يأتي يوما لا نستطيع تحريك رؤوسنا ناهيك عن رفعها بعد أن تتخشب الرقاب من طول الانحناء!
ـ
* جريدة الوطن / 30 يونيو 2004
كتب: محمد عيد العريمي
"ذات شتاء أوروبي قارص، قرر عربي من فلسطين يقيم في بريطانيا مع أسرته الصغيرة (زوجة وطفلة لم تكمل عامها السادس) الاستمتاع بإجازته تحت دافء شمس الخليج. وفي المطـار، دمغ موظف الجمارك سمة الدخول على صفحات جـواز الطفلة وأعاد وثقتي السفر للرجل وزجته منوها أن عليهما الانتقـال إلى صالة "الترانزيت" والعـودة إلى الجهة التي قدمـا منها أو السـفر إلى دولة أخرى تعترف بوثيقتي السفر، ولكنه رحب بدخول الطفلة التي تحمل جوز سفر بريطاني بحكم الولادة، وعزى الموظف ذلك إلى اتفاقية تسمح لمواطني دولته دخول بريطانيا وبالعكس دون الحاجة إلى تأشيرات دخول".
المفارقة السابقة ليست طرفة، ولا هي مشهد من بنات أفكار الفنان العربي دريد لحام للجزء الثاني من فيلمه "الحدود"، وإنما حقيقة حدثت ومازالت تحدث وإن تباينت الظروف واختلفت الوجوه. ففي عالمنا العربي كل شيء ممكن ولا شيء يثير الاستغراب!
تذكرت تلك الحادثة التي وقعت في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي عندما سمعت عن المعاناة التي يواجهها العراقيون في المراكز الحدودية ومطارات دول ما زالت تصر في بياناتها وخطابات ساستها ومقابلاتهم الإعلامية على استخدام كلمتي "الشقيق" و"الأشقاء" كلما جاءوا على ذكر العراق أو أهله. معانات هؤلاء كثيرة وأشكالها متعددة ولا تقتصر فقط على تعقيدات إجراءات دخولهم وإنما تتجاوز ذلك حيث يصل بعضها إلى حد الابتزاز المادي وغيره!
وسواء صفق بعضنا ساعة سقوط التمثال أم حزن يوم سُلمت بغداد، فإن لا أحد يشك أن العراق حقق في العقود الأخيرة رغم الحرب التي خاضها في الخارج لحماية حدوده وفي الداخل لصون وحدته ـ وإن لم تكن قرارات قيادته موفقة في هذه الحروب ـ والحصار الذي أنهك قدراته حقق ما لم يحققه غيره، إلا إذا اعتبرنا غابات الاسمنت وناطحات السحاب إنجازا يُعتد به!
ولعل قدرة الإنسان العراقي على إعادة بناء ما أتت عليه "عاصفة الصحراء" في غضون ثلاثة أشهر يؤكد صحة ذلك.. خاصة في مجال الخدمات العامة مثل إعادة التيار الكهربائي وإمدادات المياه إلى المنازل وبناء الجسور والطرق ومرافق البنية التحتية الأخرى.. وهو ما عجزت عنه ـ على عظمتها ـ الدول المحتلة للعراق بعد مضي سنة ونصف تقريبا على إعلان انتهاء العمليات العسكرية في العراق!
لن استطرد في ما قد يبدو للبعض دفاعا عن النظام العراقي السابق، فظاهرة صدام حسين ليست استثناء ولا هي بدعة في عالمنا العربي وإنما هي قاعدة رسخت وجودها ودعمت بقائها نفس القوة التي تحاول الآن التخلص من تبعات ذلك النظام بعد أن أصبح يشكل خطرا على مصالحها ومصالح حليفتها في المنطقة، ولكني سأستطرد ـ قدر ما استطعت ـ لاُذكّر كل من يهمه الأمر أن هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم الآن في طوابير الاستجداء للحصول على تأشيرات دخول الدول "الشقيقة"، كانوا ذات ماض قريب يحرسون "بوابة العرب الشرقية". وهي مهمة لم تكن من مآثر صدام حسين ولا كانت شعارا رفعه حزب البعث العراقي كشعاراته الكثيرة، ولا يعزى الفضل في تأصيل هذه المشاعر القومية العظيمة في نفوس العراقيين لحاكم أو طائفة قبلهما، إنما هو دور تاريخي اختاره العراقيون لأنفسهم واضطلعوا منذ "القادسية" وقبل أن تدوس سنابك خيل "هولاكو" أرض الرافدين. وكانوا حتى الأمس القريب يشكلون بثروتهم البشرية والمادية وبقدرات جيشهم العمق الاستراتيجي للعالم العربي لاسيما المشرق منه.
العراق كان يوما ملاذا ووطنا لمن لا يجد في وطنه فرصة للتعليم أو العلاج أو العمل! وأن حقوق المواطن العربي المقيم في العراق كانت تفوق حقوق المواطن العراقي نفسه ودون الزامه بواجبات المواطنة، وأن الدم العراقي سال دفاعا عن قضايا العرب في أكثر من أرض عربية وعلى أكثر من جبهة قتال.
تضييق الخناق على المواطنين العراقيين في المراكز الحدودية والمطارات لا يمكن تفسيره بمعزل عن ما يجري داخل العراق نفسه. فكثير من أصحاب القدرات والدرجات العلمية من علماء وأطباء وأساتذة جامعات فصلوا من أعمالهم ليس بتهمة انتماءاتهم الحزبية أو علاقتهم الوثيقة بالنظام السابق كما يظن البعض، وإنما هي خطة محكمة لتفريغ العراق من مصدر ثروة لا تنضب وإعادته عشرات السنين إلى الوراء.
وظاهرة التصفيات الجسدية لعلماء وخبراء الأسلحة العراقيين (على غرار ما حدث لعالم الذرة المصري يحيى المشد وغيره كثر على يد إسرائيل) إلى جانب تهديد الكثيرين من أساتذة الجامعات بمواجهة نفس المصير وتدمير مراكز البحوث العلمية في الجامعات والمستشفيات، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الأمر يتجاوز مجرد محاربة الإرهاب أو إزالة أسلحة التدمير الشامل. أما الحديث عن إرساء قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان فهذا "خير يراد به باطل"، وذريعة لم تعد تقنع أحد حتى داخل دولهم. فقد أظهرت استطلاعات الآراء مؤخرا أن 52 في المائة من الأمريكيين يعتقدون أن الحرب على العراق غير مبررة والعدد يزداد بعد أن كان قبل فترة وجيزة لا يتجاوز نصف الرقم!
لا قدرة لأحد على استشراف المستقبل، ولا أحد يدري أيضا إذا كان العراق سينهض من كبوته قريبا أم أن قدره سيطول به الوقت في يد غير أهله، بيد أنه يتعذر على المرء تجاهل أصابع الصهيونية في كل ما يجري. فبعد أن تعذر على أمريكا ومن ساند حربها الظالمة إثبات وجود أسلحة تدمير شامل في العراق وتأكيد علاقة صدام بتنظيم القاعدة ـ السببان اللذان بررت أمريكا بهما شن الحرب على العراق، تأكد أن الحرب شنت بالوكالة لصالح إسرائيل حسب قول الجنرال الأمريكي "زيني"، والمرشح الثالث في سباق الانتخابات الأمريكية نحو البيت الأبيض رالف نيدر، وآخرين غيرهم من سياسيين وعسكريين ومثقفين أمريكيين!
وإذ ذاك يتضح أن الرابح الأكبر في هذا كله هو إسرائيل. فوجود تأثير صهيوني يحرك بوصلة مجريات الأحداث على ارض العراق من خلف الكواليس ليس إشاعة. والحديث عن قائمة مطالب تعدها الدولة العبرية كتعويضات لليهود العراقيين الذي تركوا العراق خلال النصف الأول من القرن الماضي لا أحد ينكره، ولا تخفي الدولة العبرية في إعلامها الحديث عن بعض من دخل بغداد على أظهر عربات الـ"الهامر" بأنهم رجالها في العراق، كما أن حملة شراء العقارات في بغداد والسماح لها بالاستيلاء على أراض سواء على الحدود مع سوريا أو إيران لإقامة نقاط تجسس ومراقبة تثبت أن الحرب كانت حربا إسرائيلية وان لم تخضها إسرائيل. ومن ينظر إلى تأزم العلاقة بين تركيا والكيان الصهيوني يدرك أن خلفية الخلاف وراءها تضارب المصالح واشتغال إسرائيل على تأجيج النزعات الانفصالية في شمال العراق وهذا تجاوز يمس ثوابت تركية لا مساومة فيها!
ذات يوم من أيام هزيمة حزيران ـ أو النكسة كما يحلو لبعضهم تسميتها تخفيفا لوطئتها على النفس ـ قال الشاعر العراقي مظفر النواب في واحدة من قصائده الحادة كحد السيف يلوم العرب على ضياع القدس ".. أدخلتم القدس في المحراب ووقفتم خلف الأبواب تسترقون السمع لأصوات بكارتها وتنافختم شرفا..". واليوم تجاوز العرب جميعا ـ شعوبا وقبائل ـ ذلك الموقف عن نية وسبق إصرار وقدموا عاصمة الرشيد عربون صداق على أمل نيل الرضا والقبول.
خوفي أن يأتي يوما نتحول فيه إلى قبائل تشبه بعض قبائل سكان أمريكيا الأصليين التي كانت تزف كل سنة أجمل بناتها قربانا لملك الجن الرابض عند منبع النهر.. المتحكم، حسب اعتقادهم، في خصب الأرض وفي جدبها، الذي إذا غضب تدافع الماء بعيدا عن المنبع ففاض النهر من غضبه وإذا نام انخفض منسوب الماء وجفت ضفافه وإذا ابتسم خصب الزرع وامتلأ الضرع وعم الخير البلاد والعباد.
يخطي من يظن أن الأمر سيتوقف عند هذا الحد، وأن الثور الأسود أو الأبيض (لا فرق أي منهما اُكل قبل صاحبه) سيشبع شراهة ملك الغاب، وأن المطالب ستتوقف عند حذف قصيدة "ابو القاسم الشابي" من كتب اللغة العربية في المدارس على امتداد "بلاد العرب أوطاني"، أو قصف سـكان قرية على رأس جبل ـ كانت سعيدة بوحدتها ذات يوم ـ لا لشيء غير أن إمام مسجدها واصل الدعاء على المحتلين رغم الأمر الذي صدر إليه بالتوقف خوفا من اتهام بلاده بايواء إرهابيين.. يخطي من يظن أن الأمر سيتوقف عند ذلك، فما جئت على ذكره لا يشكل شيئا في قائمة إملاءات تزداد طولا كلما حنينا الرقبة، وخوفي أن يأتي يوما لا نستطيع تحريك رؤوسنا ناهيك عن رفعها بعد أن تتخشب الرقاب من طول الانحناء!
ـ
* جريدة الوطن / 30 يونيو 2004