رائحة التراب الجاف تملأ المكان، يتسلل من كوة الكوخ خيط ضوء قمري كث كشعر الخراف لما اختلط به من ذرات الغبار التي تسقط الآن متحدة مع التراب، ترى على الأرض المتربة ثقوبا حفرتها رأس عصا العتم المدببة المحاطة بحلقة نحاسية ثبّتها مسمار بدا رأسه بارزاً بنقاط صدئة، لو مددت رأسك قليلا لرأيت ما فوق الرأس المدببة النحيف يغلظ شيئا فشيئا، دعك من الحلقات التي تحيط بالعصا، فلن تعرف عمرها على أية حال ما لم أخبرك به، هل تفكّر بقصها حقاً لتعدها حلقة حلقة كما يفعل علماء الأحافير؟ انتظر قليلا ولتمعن النظر في الأعلى. أعلى.. أعلى.. أعلى.. الآن قف هنا. ألم تلاحظ اختلاف لون هذا الجزء من القطعة الخشبية عما رأيته تحتها؟ بالطبع هذا ليس لونها، بل لون الجلدة البنية المتكيسة التي تخفي تحتها عروقًا متخثرة الدم وعضلات يابسة وهيكلا عظميا شديد الهشاشة.
انظر إلى تلك القبضة التي تحكم مسك رأس القطعة الخشبية المكوّر، سترى فوقها بقليل شعرًا كثّا لا يختلف عن خيط الضوء الذي يمر عبر الكوة، في طريقه إلى البياض النهائي لولا خيوط سوداء أفسدت ذلك الطريق، تلك لحيته الطويلة كفصول الشتاء الممتدة في بلاد نائية، اللحية التي تتحد مع الوجه وتغطّي تجاعيده التي رأيتها في تلك اليد المتكيّسة، إنها تمضي حيث لا فم يحدها ولا أذنين، حتى الأنف تخرج منها شعيرات بيض تحاول الاتحاد مع شعر اللحية كأيادي الغرقى التي تحاول التشبث بأيادي الناجين من هول العاصفة. فوق الأنف سترى الجحوظ بعينيه يشرئب ليغادر الزمن المديد الذي لا ينتهي، وعلى الجبين بإمكانك أن تعد ثلاثة خطوط متوازية تذكرك حتما بأستاذ الرياضيات.
فاتتك رؤية الأذنين لأن ذؤابة من القماش الأبيض تغطيهما وتلتف على الرقبة التي تتعلق بها تفاحة آدم وهي تعلو وتهبط كمصعد زجاجي مكشوف في قلب مركز تجاري يعج بالناس، غير أن ما يحرك هذه التفاحة محاولات بائسة لإنزال الروح إن فكرت بالصعود عبر الحلقوم.
انتظر قليلا فأنت لم تر المشهد الحقيقي، سيبسط الآن رجله العرجاء التي نهشتها أفعى سامة ذات يوم، ويهوي برأس العتم على مكان العرج، لا تستغرب ما تراه، يفعل ذلك كي يجبرها على الشفاء، تلك الرجل العنيدة التي لا تستجيب لكل الضرب العنيف بل تفرز الصديد باستمرار مذكرة إياه بسم الأفعى التي نهشتها.
ها هو الجحوظ ينحسر شيئا فشيئا إلى أن تغور العينان في المحجرين، لنهرب من هذا المكان قبل أن يفجر الشخير هدوءه، ويبدأ هذا المتكوم هناك كخيشة شجاره اليومي مع الليل.
أشعلْ ضوءا كي ترى ما أراه: كتل من الشعر الأسود غرست بها قوائم سوداء نحيلة لا تلبث أن تقف عليها حتى يسارع الهزال إلى إسقاطها، فتنبش برؤوسها المدببة أرض الحظيرة ولا تستجيب لأنوفها إلا رائحة البعر المتراص المختلط بعيدان القت اليابس فتعود إلى دس أنوفها في كتل شعرها الكث. هذا الليل البهيمي يطوق الخراف بقتامته كما تطوقها الحيطان الطينية الأربعة للحظيرة. حيث لا أذان ستسمعه هنا وحده الفجر من ينقذ الخراف من هذا الأسر. تثغو حالما تلمح خيط الضوء يتسع شيئا فشيئا.
سنعود إلى بدئنا. دقق في الأذنين وقد سقطت العمامة الملوية من على رأسه تر ارتعاشتهما للصوت اليومي الذي يبدأ به الصباح. سينهي شجاره مع الليل ببصقة يقذفها من الكوة فتندفع مختلطة بذرات الغبار، ثم يجر نفسه جرا ثقيلا متجها إلى الخرس المركون في زاوية بالكوخ يستخرج منه حفنة ماء يغسل بها وجهه المتغضن، سترى مليا كيف ترك بساط الرْسَلْ حزوزا في الوجه، ولو أنك أنزلت عينيك سترى الوزار الملطخ بالتراب والمبقع بالرطوبة وقطرات البول التي نجمت عن شجار الليل قد كشف آثار نهشة الأفعى. ذلك هو الراعي (ود نهشة) وتلك العصا الخشبية التي يتأبطها هي منسأته التي لم تفلح في صد نهشات الأفعى عن رجله اليسرى.
ما تسمعه من صرير ليس إلا دبيب رجليه المتيبستين اللتين تزحفان به على البساط المرقع إلى حذائه الجلدي عند عتبة باب الكوخ. لن يفتح الباب قبل أن يسحب (منسوله) المعلق على وتد مغروس بجدار الكوخ ويعيد لف العمامة على رأسه.
وليد النبهاني
المصدر : مدونة وليد النبهاني