"الشّاي" ينأى بنفسه عن غطرسة النبيذ، وغرور القهوة، والبراءة المتكلّفة للكاكاو
تغطية: بدريّة العامرية
تغطية: بدريّة العامرية
"الشاي" كان حديثُ المساء في صالون القراءة مساء الإثنين، حيث اجتمع محبّو الشّاي لذكر مآثرهِ وطقوسه وعاداته بحضور "كتاب الشّاي" للياباني أوكاكورا كاكوزو، بدأت الجلسة بمسحٍ أجراه مقدّم الكتاب أحمد الراشدي الباحث الثقافي بالمنتدى الأدبي، لبعض الكتب التي حملت لفظة" الشّاي" كعنوانٍ لها، كما استعرض مسحه لبعض القصائد التي تناولت الشّاي كمفردة أو ثيمة لها.
بعد التّجوال مع مفردة الشاي ومالها من معانٍ ودلالات، بدأ الراشدي استعراضه لـ" كتاب الشّاي" المتكوّن من سبعة فصول، "كتاب الشّاي" حسبما استعرضه الراشدي هو أسلوب حياة، وقيم ثقافة تغلغل الشّاي فيها إلى أن أصبح مكوّن أساسي من حضارتها، حيث مذهب "الشايية" يُعنى بالبساطة والنّقاء، ويعتدُّ بالجمالِ بكونه طبيعي بسيط.
ينطلق مؤلّف الكتاب أوكاكورا كاكوزو من الشّاي الذي مهّد للكثير من الأخلاق الإنسانيّة ليستعرض الثقافة اليابانيّة المشوّهة في نظر الآخر (الغرب)، مُقارنًا تلك الثقافة التي يعتد بها بثقافة الآخر ( الغرب) الثقافة الماديّة الاستهلاكيّة التي لا تنظر للشئ بقيمته الجمالية بل بمدى استفادتها منه، في الكتاب كما يذكر الرّاشدي ثمّة حرقة ولوعة ولُغة ساخطة تبنّاها المؤلّف، نتجت هذه الحرقة عن الزّيف الذي مارسه الآخر في نظرته للشّرق بعمومه واليابان بخصوصه، تلك النظرة القاصِرة والمجحفة بحق ثقافة روحانيّة بجّلت الطبيعة والإنسان.
امتازت لغة الكتاب الذّي قدّم له وترجمه سامر أبو هواش بجماليّة تناغمت مع موضوعاته، التي مهما ظننا أنها ابتعدت عن الشّاي إلّا أنّها تعود لتؤكّد دوره في بناء تلك الحضارة، في الكتاب كما استعرضه الراشدي ثمة تأكيد أن الشّاي في بدايات ظهوره لم يكُن شرابًا استهلاكيًّا كما هو الآن بل كان له فلسفته وفكره ومذهبه ومزاجه.. الذي جعل منه مشروبًا كونيًّا استطاع أن يتغلغل في الكثير من الثقافات.
الكاتب في كتابه لم يهدف إلى التّعريف بالشّاي، بل من خلال الشّاي هدف للدفاع عن هوية بلاده اليابان وحضارتها، فالشّاي بالنسبة لمؤلّف الكتاب هو قيمة جمالية يستفيض في ذكر طقوسه، وليس أدل من تقديس اليابانيّون للشاي من رفعه إلى مصاف المذاهب الجمالية الراقية؛ التي نشأ على إثرها مذهب "الشايية"، وقد واكب الكاتب ذلك التّقديس للشاي بعنونته للفصل الأول من الكتاب بـ "كوب الإنسانية" الذي يقصد منه كوب الشّاي.
يرى المؤلّف أنّه ليس من دارس للثقافة اليابانية يمكنه تجاهل حضور الشّاي فيها، ومن خلال استعراض فصول الكتاب وثقافة اليابانيّين المرتبطة بالشّاي تتبيّن الكثير من المعلومات التي تحمل من الدهشة والجمال الكثير، حيث يرتبط الشّاي كثيرًا بالمزاج فيُقال للشّخص المتجهّم "ثقيل الدّم" (خلوّ من الشّاي)، وفي النّقيض يُقال للشّخص المرح المتفائِل بالحياة ( مفعمٌ بالشّاي).
يؤكّد أوكاكورا في موضعٍ آخر أنّ احتفاءهم بالشّاي لا يُمكن الاستهانة به إن نظرنا من زاوية نظرهم له، حيث يرون في الشّاي كوبًا للمسرّات البشريّة الآخذة في التضاؤل، ينظر أوكاكورا للشّاي من نظرة مفعمة بالحياةِ والمحبة، ويرى أنّ الشاي استطاع أن يجمع الإنسانيّة على محبّته، وضمن ما استعرضه الرّاشدي عن الكتاب هو تاريخ دخول الشّاي للدول الأوروبيّة التي احتفت به لدرجة عدّه رمزًا يدل على الضيافة الرفيعة، وهدية تهدى للأميرات والنبلاء، وبالمقارنة أيضًا انبرت طائفة منهم لمعارضته لدرجة رأت فيه ما يُفقد الرجال لياقتهم ومكانتهم، ويُفقد النساء جمالهن ورزانتهن.
بوساطة الشّاي يستعرض أوكاكورا مادية الغرب، وفقدانهم للإنسان ولهاثهم وراء الماديّة التي غيّبته واستحوذت على تفكيره، وسرقة راحة باله، ومن خلال الشّاي يُطالبهم بالإنصاف وفهم الآخر قبل أن يروّجوا عنه صورًا لا تعكِسُ إلا نظرة قاصِرة أخذوها عنه.
يرى أوكاكورا في الشّاي عملا فنيًّا يتطلّب يدًا بارعة، فخصّص الفصل الثاني من كتابه لـ " مدارس الشّاي" على غرار الفن، وهو بذلك لا يستعرض فقط طرق إعداد الشّاي أو استخدام الحضارات له فقط، بل يطعّمها بالكثير من المقاربات السياسيّة والحضاريّة والأدبيّة.
يربط المؤلّف في فصله "التّاو والزّن" هذه الطّقوس بالشّاي، حيث يقول أنّ طقس الشاي بما يحمل من دلالات روحيّة وجمالية نشا من طقوس الزّن، ويستطرد في هذا الفصل حديثه عن طقوس الزّن والتّاو التي تعالق بها مذهب "الشايية" من حيث الاهتمام بالأفكار المتعلّقة بالحياة والفن والنّظرة إليهما، يُحاول أوكاكورا في هذا الفصل تسليط حزمة ضوء على الرّوحانية التي امتاز بها الشّرق من خلال استعراض تلك الطقوس بأعلامها وبعض طقوسها وما تهدف إليه من تسامٍ وارتقاء بإحساس الإنسان وذوقه.
وفي فصل" حجرة الشّاي" التي هي بمثابة واحة في قلب الوجود الكئيب يفيء إليها المسافرون المتعبون لكي يعبّوا من النبع العمومي لتقدير الفن، وكعادة أوكاكورا يعرج إلى الفن المعماري من خلال استعراضه لحجرة الشّاي بنشأتها ومكوّناتها وهندستها التي توحي بالتقشّف المهذب، الذي يذهب بعيدًا في تناغمه إلى حدِّ تصميم غلاية الشّاي بطريقة لا تكسر هدوء المكان وهيبته بحيث رتّبت قطع حديد في القاع لتنتج لحنًا غريبًا يسمع المرء فيه أصداء شلال تكتمه الغيوم، وبحر بعيد تتكسّر أمواجه على الصّخور، وعاصفة ماطرة تعبر غابة من القصب، أو أنين أشجار الصّنوبر أو هضبة نائية.
كما أنّ لـ "حجرة الشّاي" معمارها الذي يجعل الضوء فيها خافتًا على الدّوام، وطقوسها الحازمة في النظافة والتنسيق والبساطة، حيث يرى أنّ بساطة حجرة الشاي تحقّق الهدف من إيجادها، حيث يتحرّر الإنسان من الابتذال، ويسكن إليها بصفتها ملاذًا من سموم العالم الخارجي.
وتأصيلا لهدف أوكاكورا من تأليف الكتاب نراه في فصله الخامس يعرج إلى " تقدير الفن"، بوصفه سمو للرّوح، مستشهدًا بآراء معلّمي الشّاي الذين يقدّسون الفن الذي هو لغة كونيّة فقط للكونيين في عواطفهم.
يرى أوكاكورا أنّه ومع تهذيب الرّوح يتّسع حس تقدير الفن لدى المرء، حيث يصبح قادرًا بشكلٍ أكبر على الاستمتاع بالكثير من التعبيرات الفنية عن الجمال، إلا أنه يرى أيضًا في زمانه ازدراء بارد للفن_ قبل قرن_ ويبدو لي أن ما رآه في زمانه أصبح متجذرًا الآن بشكل أكبر.
وفي الفصل قبل الأخير، فصل "الزّهور" يعرّج المؤلّف إلى زاوية أخرى من زوايا الجمال والبساطة والنّقاء، يتحدّث عن الزّهور والتعامل الأناني معها في الغرب، والاستهتار بقيمتها الجماليّة، والإسراف في التزيين الظاهري بها، حيث تُقطف بالمئات لتزيين حفلة مسائيّة وصباحًا يُرمى بها في المزابل، يعمد المؤلّف إلى إظهار الجمالية التي يتعامل معها معلّمو الشّاي والمذهب الشايي مع الزّهور، ومدى تقديرهم لهذه النبتة الحاملة لمعاني المحبّة والجمال، حيث لا تقدّم بمنأى عن أوراقها مفصولة عمّا نبت معها كما هو الحال في الغرب، بل يربطون أوراقها معها كاعترافٍ بجمالها في كلّ حوالها وبشكلها الطبيعي البسيط، في هذا الفصل يستعرض أوكاكورا مدارس تنسيق وتزين الزهور، وكيفية التعامل معه.
يرى "معلّمو الشاي" في الفصل الأخير أنه لا يستطيع تقدير الفن تقديرًا حقيقيًّا إلا أولئك الذين يصنعون منه حضورًا حيًّا، وبذلك سعوا إلى تنظيم حياتهم اليومية وفقًا لأعلى معايير النقاء والبساطة التي استنبطت في حجرات الشّاي، وقد كان لمعلمي الشاي تأثير عظيم في مجال الفن والحياة بشكلٍ عام، مركّزين على البساطة والتواضع، والجمال الذي يسمو بالإنسان.
ولعلّه من الجدير أن نذكُر أنّ ما ميّز جلسة" كتاب الشّاي" في صالون القراءة الذي تنظّمه مباردة القراءة نور وبصيرة، هو مشاركة أغلب من حضر الجلسة، لكأنّ الحضور كان محصورًا في عشّاق الشّاي، حيث أدلى أغلب الحاضرين بما يعرفون عن طقوس الشاي في الدّول التي زاروها، ففي المغرِب كما ذُكر ثمّة طقوس لسكب الشّاي لا يُجيدها إلا المتمرّس عليها، وفي إيران لا يُضاف السّكر للشّاي بل يوضع تحت اللِّسان، و في العراق ثمّة طقوس أيضُا تُنبئ عن احترام الثقافات للشّاي وتقديرها لطقوسه، كما شارك المُترجم بدر الجهوري بمقالٍ مُترجم للكاتب جورج أورويل تحدّث فيه عن إحدى عشر نقطة جدلية في إعداد وتناول الشّاي.
للشّاي في جلسة الصّالون حضورًا باذِخًا، هو مدخلٌ لعبادة الصّفاء والنقاء.. لكأنّه كما ذكره أوكاكورا "ينطوي على سحرٍ خفي يجعله لا يقاوم، ويمنحه القدرة على إسباغ الإحساس بالمثالية، فالشاي ينأى بنفسه عن غطرسة النبيذ، وعن غرور القهوة، وعن البراءة المتكلّفة في نبتة الكاكاو"، أو هو كما ذكره الشاعر الصيني لو تونغ: "الكوب الأول يرطّب شفتي وحلقي، والكوب الثاني يكسر وحدتي، والثالث يجوس داخلي المجدب فلا يجد هناك سوى نحو خمسة آلاف مجلّد من النقوش الغريبة. الكوب الرابع يتسبّب بتعرّق بسيط تخرج معه من مسامي جميع مساوئ العيش، وحسن أصل إلى الكوب الخامس اكون قد تطهّرت؛ والكوب السادس يناديني إلى جنّات الخلد. أما الكوب السّابع..آه، لا أستطيع تناول المزيد!
لا أحس سوى بهبوب النسيم العليل في أكمامي، أين أنت يا هورايسان؟ دعوني أمتطي الخيل في هذا النسيم العذب وأرتحل إلى هناك"
المصدر : مدونة بدرية العامري