من هنا.. وهنا - جديد ابداعات قلم

    • من هنا.. وهنا - جديد ابداعات قلم


      كادت الدمعة أن تفر من عينيه وتبلل لحيته التي كساها الشيب وهو يقول مصدوما: ما الذي فعلناه في حق أبناء هذا الجيل، كيف فشلنا في زرع أبسط أخلاقيات التعامل فيهم؟ ما الذي أوصلنا إلى هذا الحد من الاستهتار بالأخلاق والقيم؟ تعليقا على موقف حدث معه ذلك الصباح من تطاول موظف بعمر أصغر أبنائه عليه بالكلام، باسم (المطالبة بالحقوق) التي أصبحنا نجيد التشدق بها للأسف الشديد، دون أدنى فهم لماهية الحقوق أصلا، ناسين أو متناسين عمدا بأن كل حق يقابله واجب، والواجب طبعا طمر مع الكثير من القيم تحت أكوام من اللامبالة والتشدق بكلمات كبيرة لا نفقه معناها، كحرية التعبير التي باتت تشمل قائمة من السلوكيات والجرائم البشعة في حق الأبرياء من: قذف المحصنات الغافلات، وتشويه سمعة الأبرياء، والسب والغيبة والنميمة..
      جاءني يعرض علي المساعدة في رفع قضية على المؤسسة التي أعمل فيها، من خلال تعيين محام شاطر سبق له التعامل معه لرد حقي المسلوب من قبل الإدارة، حتى تلك اللحظة لم أكن أعرف بأن لي (حقا) عند الإدارة سلب مني، طبعا الحديث كان حول منصب إداري كنت قد تقدمت له ورأى محدثي بأنني (أحق به من غيري)، على أي أساس حدد أحقيتي أنا به دون غيري من الكوادر العمانية التي تفوقني خبرة ومؤهلا وكفاءة، أو بالأحرى ما الذي يجعلني أقيم نفسي بأنني أفضل الكفاءات الموجودة في سوق العمل أصلا دون أن أعرف المتاح منها، وهل تطلب المسؤولية أو تمنح بتقدير من الإدارة التي تملك وحدها حق اتخاذ القرار في هذا الشان، صدمني أيضا كم بات سهلا علينا أن نقاضي بعضنا بعضا ومرة أخرى باسم (الحقوق المسلوبة) حتى امتلأت أروقة المحاكم بالمتشاكين والمتقاضين من شتى المستويات الثقافية والاجتماعية، وعلى أبسط الأمور، وللأسف الشديد يشجع ذلك فئة من المحامين الذين باتوا (يترزقون) من مصائب الآخرين ومشاكلهم..
      قالت لي: لن تصدقي ما حدث في طريقي إليك، عبر الشارع أمامي أحدهم صدفة وكدت أصدمه لولا رحمة الله بي وبه، وجودة فرامل سيارتي الجديدة، ومبادرتي بالخروج من الشارع تجنبا لدهسه، وعوضا عن شكري لأنني ضحيت بحياتي حتى لا أصدمه انهال علي سبا وقذفا بألفاظ تخدش الحياء أمام الناس!.
      قالت لي: سعدت جدا بالحديث معك، تمنيت لو أنني تعرفت عليك عن قرب قبل اليوم، فقد وجدت تشابها كبيرا في شخصياتنا، وأظن أننا سنصبح صديقات، لكنني تعمدت عدم الاقتراب منك لأني كنت أتصور أنك (مغرورة وشايفة حالك)، سألتها كيف حكمت علي بالغرور ونحن لم يسبق أن التقينا؟! أجابت: أبدا لكني حدثت نفسي بأنك كذا وكذا وكذا وأنا مجرد كذا وكذا وكذا!! سبحان الله كيف هي الأحكام جاهزة لدينا دون أن نكلف أنفسنا عناء اكتشاف الآخر، ترى كم ضيعت أنا على نفسي فرصة الاقتراب من أشخاص كان من الممكن أن يكونوا هم أيضا أصدقاء رائعون في حياتي من تسرعي بالحكم عليهم من المظهر الخارجي والقبيلة والوظيفة وتصرف غير مقصود صدر عنهم في لحظة عجلة أو عدم انتباه؟!.
      تفاجأت بها تفرز أدويتها بحرص في ثلاث حصص بالتساوي إثر عودتها من المستشفى، ظننت أنها تفعل ذلك ليسهل عليها معرفة موعد انتهاء الأدوية، لكنها فأجاتني بالقول وهي تشير إلى كومة الأدوية: هذا لجاري من إحدى الجنسيات العربية فهما أيضا مصابان بارتفاع ضغط الدم والسكر وطلبا مني مشاركتهما الدواء لأنه باهض الثمن ولا يستطيعان شراءه! هممت أن أنصحها بخطورة تصرفها هذا، وتذكيرها بأنها هي أيضا بأمس الحاجة لهذا الدواء، لكن الموقف عقد لساني عن الحديث، واكتفيت بمراقبتها تنهي مهمتها!.
      كنت أتابع ما بات يسمى (غلطة أذان المغرب) لتلفزيون السلطنة التي أشعلت مواقع شبكات التواصل الاجتماعي، ولم يبق أحد لم يصدر حكما، أو يؤلف نكتة على الخطأ الفني البسيط ذاك! تمنيت فقط لو نلحظ الإنجازات ونحتفي بها كما نفعل الأخطاء!
      استذكرت ما قالته احدى صيقاتي الحكيمات يوما محرضة إياي على التواصل أكثر مع الناس والإكثار من الصداقات قائلة: من السهل جدا يا حمدة أن نكون رائعين ونحن محصنين بين جدران بيوتنا، لكن من الصعب هو أن تصمد أخلاقنا وقيمنا في تعاملاتنا مع الآخرين، لهذا قال المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: (الدين المعاملة) لأن التحدي هو أن نحتفظ بسمو أخلاقنا في أصعب المواقف.
      تفاجأت بها ترسل رسالة وداع إثر قرار مفاجئ بمغادرة أرض السلطنة لكون إقامتها لم تجدد، كل هذه المدة كنت أعتقد بأنها عمانية الجنسية لكونها ولدت في هذا البلد ولم تعرف سواه وطنا وهي التي توشك على بلوغ الأربعين من عمرها!.



      المصدر : مدونة ابداعات قلم